|
مقتطفات من كتاب امدرمانيات - حكايات عن امدرمان زمان وقصص قصيرة اخري
|
حلاقون ومزينون من منا لم يسلم رأسه طائعا مختارا للحلاق ليفعل فيه ما يشاء بناء علي طلبه ؟ فالحلاق هو الشخص الوحيد الذي تنحني له أعناق الرجال ورؤوسهم من كبيرهم وصغيرهم وشريفهم ووضيعهم وذلك عن رضي تام وموافقة راضية . وفي اللغة يعني حلق الرأس إزالة شعر الرأس كلية , وزين الشيء معناه حسنه وزخرفه , ويدعي الشخص الذي يقوم بهذا العمل الحلاق أو المزين وان غلب الآن الاسم الأول علي الثاني , وكان في امدرمان حلاقون في المحطة الوسطي من عائلات احترفت الحلاقة أبا عن جد , وكانوا يتعاطون الي جانب الحلاقة طهارة الأولاد (الختان) , والحجامة , وخضعنا أنا واخوتي للختان علي يد واحد منهم . كان الحلاقون فئتين , الأولى هي أصحاب دكاكين الحلاقة في السوق وهم الحلاقون , والفئة الثانية هي الذين يمارسون مهنتهم تحت ظل الأشجار أو يتجمعون تحت ظل شجرة كبيرة وهؤلاء يطلق عليهم اسم المزينون وكلهم من النيجريين الذين تعارفنا علي تسميتهم بالفلاتة وهؤلاء الي جانب الحلاقة يزاولون الحجامة وتمتد معرفتهم الي وصفات أخرى يستعملون فيها العروق , وتحوي أدوات عمل الواحد منهم كرسي خشبي قديم وترابيزة خشبية متواضعة عليها ماكينة حلاقة واحدة وموسى كبيرة ومسّن جلدي للموسى وعلبة بها ماء وصابونه ومحجم وفوطة من الدبلان أو الدمورية , ومراية صغيرة يمسك بها الزبون عند الحلاقة , وهؤلاء لا يحسنون سوي نوع واحد من الحلاقة وهو إزالة الشعر كله (جبنة) أو (صلعة) , وزبائنهم من فئة الكادحين من العربجية والعتالة والحمارة والعمال وانضم إليهم في عهد الإنقاذ الموظفون وأرباب المعاشات . وبما ان الأشجار انعدمت أو أعدمت في امدرمان فقد رأيت فئة المزينين قد انتقلت الي زقاق غرب مبني بوستة امدرمان , وتطورت أدواتهم نوعا ما فصار الواحد منهم يضع مراية مستطيلة علي الترابيزة المرتفعة ومسنودة الي الحائط , كما وضع علي الكرسي مخدة , وعلي الترابيزة ماكينتان أو ثلاث وفرشة ومشط , والمزينون مصطفون بطول الحائط . وهناك الحلاقون أصحاب الدكاكين وهؤلاء هم الاصلاء ومعظمهم من القدامى وهؤلاء لهم زبائنهم الدائمون , وتجدهم يزينون حوائط الدكان بصور لاعبي الكرة المشهورين والفنانين وبعض الزعماء وشيوخ الطرق الصوفية , ولكن تدهورت حالتهم وقدمت أثاثاتهم و أدواتهم تبعا للتدهور العام وللفقر الذي عم الجميع فصار الناس لا يحلقون شعورهم سوي مرة كل شهرين واما الشباب فانهم استغنوا عن الحلاقين بإطالة شعورهم أو بالحلاقة لبعضهم البعض مستعملين المقص وماكينة الحلاقة وهناك من حلقوا رؤوسهم (جبنة) مثل لاعبي كرة القدم الدوليين أو بعض ممثلي السينما , وبذلك كسدت سوق الحلاقة , وكانت أنواع الحلاقة لا تخرج عن ثلاثة وهي (الكري) وهي تخفيف الشعر قليلا وقصه علي هيئة معينة وهذا النوع للشباب والنوع الثاني ترك طبقة رقيقة جدا من الشعر علي الرأس وهذه للكبار والنوع الثالث حلق الرأس بالموسى (جبنة) وهذا يفعله المتدينون والعوام , وكانت عطية المزين لحلاقي الدكاكين تتراوح من عشرين قرشا للكبار وريال أو خمسة قروش للصغار وهذه الأسعار للحلاقين أصحاب الدكاكين , واما حلاقو الشارع فكانت أجرتهم تبدأ من قرشين الي خمسة قروش ثم تطورت قصات الحلاقة الي أنواع مختلفة تماشي موضة قص الشعر العالمية للشباب في صالونات الحلاقة وارتفعت عطية المزين الي آلاف الجنيهات وان لم تتعد الخمسمائة جنيها عند حلاق الشارع . وقد ظهرت هناك أنواع حديثة من صالونات الحلاقة ذات الديكور الجميل والكراسي الجلدية الدوارة والمرايا بعرض الحائط وزجاجات الكولونيا وعلب الكريمات والفوط النظيفة الأنيقة , والحلاقون أنفسهم شبان انيقون , وصارت هناك أنواع جديدة من (موضات) الحلاقة , وتجد قائمة معلقة بأسعار الحلاقة المختلفة , كما ان هناك كراسي مريحة للجلوس ومنضدة بها مجلات وصحف , وهناك مكيف للهواء ومراوح للسقف , وهذا النوع من الصوالين الحديثة يرتاده أبناء الأثرياء الجدد . وهناك أيضا صوالين القمة للحلاقة وهذه نجدها في الهيلتون والمريديان وفنادق الخمس نجوم . ويغلب القول عن ثرثرة الحلاقين وحقيقة ان الحلاق شخص يحاول ان يسر الزبون ويجعل العلاقة حميمة بينه وبين الزبون ليكسبه , ولهذا تجد الواحد منهم يتحدث في أي شئ وأي موضوع بكل جراءة وأستاذية , ويحلو لهم التحدث في الكورة وفي الفن خاصة , وكان هناك صالون في سوق امدرمان أسماه صاحبه (صالون الفن) وكان صاحبه ضابط إيقاع (ضارب دربكة) , وكان صالونه ملتقى لأشبال الغناء المبتدئين , أو البكاسي كما اسماهم المطرب المرحوم أبو داؤد , وكان حلاقي المفضل يعمل في هذا الصالون وهو اخرس واصم وغلب عليه اسم الأطرش ولكنه حاذق في مهنته , وكان يستقبلني بابتسامة ويودعني بابتسامة عندما يفرغ من الحلاقة , وكفاني بذلك شر الثرثرة ! وحزنت بشدة عندما علمت ان سيارة صدمته و أعاقته عن العمل . وهناك مقولة وهي (عطية مزين) , وهي انك تعطي الحلاق أي مبلغ ويتناوله ويدسه في الدرج دون ان ينظر إليه , وهذا يدل علي سماحة أنفسهم وكرمهم , ولكن تبدل الحال غير الحال و أصبحت هناك قائمة بالأسعار معلقة علي جدار الصالون في الصوالين الحديثة . وهناك حلاقون مشهورون لا لحذقهم ومهارتهم ولكن لطرافتهم وظرفهم , ومنهم حمودة حلاق جامعة الخرطوم والذي يحدثون عنه عديد الطرائف فقد كان الرجل مولعا بالتحدث باللغة العربية الفصحى ولكن يخطئ وضع الكلام في موضعه ومعناه , وقد كان يحلق مرة لمدير الجامعة البروفسر النذير دفع الله وكانت قمة رأسه صلعة كبيرة , فقال له حمودة : والله سعادتك خالي ذهن , وطبعا يقصد انه اصلع . أما حلاق بخت الرضا فقد يخيل الي الواحد انه ضل طريقه من التمثيل الي الحلاقة ! فقد كان يقوم بحركات مسرحية فيرجع الي الوراء ماسكا بالمقص ثم يندفع للأمام الي رأس الزبون ليقص بعض شعيرات , ولا ينفك فمه من الحديث , ففي مرة قال انه كان راجعا من بخت الرضا الي الدويم في ليلة ظلماء ممطرة , وفجأة وقف الحمار وأبى ان يتحرك , وقال انه رأي أمام الحمار ثعبانا , وسأله الزبون عن كيفية رؤيته للثعبان مع الظلام الدامس والمطر النازل ورفع المقص عاليا و أجاب بسرعة : ظهر برق . أما حلاق التونج في الجنوب , فقد خشيته لأنه كان يضع علي وجهه كمامة كالتي يضعها الجراح عند إجرائه عملية , وقيل ان يده ترتجف ولذلك يستعمل ماكينة حلاقة ذقن بدلا من الموسى الكبيرة , ولذلك لم احلق لديه طيلة بقائي هناك , واكتفيت بان تهذب زوجتي شعري بالمقص . وهناك حلاق نيالا وكنت قد ذهبت إليه في المرة الأولى مع صديق و أراد الرجل ان يستعرض ثقافته معي , فقال لي يا أستاذ التصحر الصحراوي زحف الي رأسك , وكان وسط رأسي قد خف شعره وبانت فيه صلعة صغيرة ولا انهي هذه المقالة دون ان أورد قصة الولدين فقد قال أحدهما للآخر ان أبي الحاكم يحني رؤوسهم له الأكابر والأشراف , فقال له الثاني : وماذا في ذلك ؟ فان أباك يحني رأسه لأبي . وغضب الولد الأول وسأله : ومن يكون أبوك ؟ فاجابه الثاني : ان أبي هو الحلاق الذي يحلق لأبيك .
[email protected]
|
|

|
|
|
|