زهد الكلمات

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-15-2024, 01:20 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-31-2007, 04:17 PM

عادل عبدالرحمن
<aعادل عبدالرحمن
تاريخ التسجيل: 08-31-2005
مجموع المشاركات: 634

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
sssss
Re: زهد الكلمات (Re: عادل عبدالرحمن)

    الأعزاء المتداخلون ،
    والقراء الأعز !

    لقد حاولت أن أقتطع أجزاء من هذه الدراسة التالية ، إلا أنني عجزت عن حمل مبضعي ..
    ولعلمي بأنكم ستعذروني - عن اطالتها بعد القراءة - فها هي لكم :






    دراسة

    القلة والكثرة

    أوكتافيو باث
    ترجمة: ممدوح عدوان


    كل حديث عن الشعر يجب أن يبدأ، أو ينتهي، بسؤال: كم من الناس مازالوا يقرؤون كتب القصائد؟ ومن هم هؤلاء؟
    ولقد استخدمت متعمدا كلمة "قصائد"، بدلا من كلمة "الشعر"، لأن الإنسان يستطيع أن يجادل إلى ما لا نهاية حول: ما هو الشعر؟ لكنه ليس من الصعب التفاهم حول معنى كلمة "قصيدة". فهي شيء مصنوع من كلمات بغرض احتواء مادة ما وإخفائها في الوقت ذاته. وهي مادة غير محسوسة وعصية على التحديد واسمها الشعر. وللسؤال قسمان وحدّان قائمان أولا على الإحصاء -كم؟- وثانيا على علم الاجتماع (السوسيولوجيا): أي نوع من الرجال والنساء يقرؤون القصائد؟ وقد أجاب خوان رامون جيمينيز حين وجه بسؤال كهذا بالإهداء الذي وضعه لأحد كتبه: "إلى الأقلية الهائلة". فكلمة "أقلية" تقلل عدد القراء إلى ما أسماه ستاندال "القلة السعيدة". ولكن كلمة "هائلة" تزيد العدد فورا: فهؤلاء القلة كُثُر – كثر إلى درجة أنهم لا يحصون، مثلهم مثل كل شيء هائل. وإن جيمينيز يضع الأكثرية التي يمكن إحصاؤها مقابل الأقلية التي لا تحصى. وهنا استحالة منطقية؛ لأن الأقلية، إن كانت لا تحصى، فهي ليست أقلية؛ وإن كانت قابلة للإحصاء لا تكون هائلة. بل إن هناك ما هو أكثر من ذلك: فإن كانت الأقلية لا تحصى فالأكثرية بدورها يجب أن تكون غير قابلة للإحصاء. هائلان، ولا محدودان؟ هذا كثير جدا عينا. فلا محدود واحد يكفي للهيمنة وللقضاء علينا.
    ولكن قد يكون للجملة معنى آخر: إن قراء القصائد، الذين يظلون قلة رغم كثرتهم، يشتركون، إفراديا وجماعيا، في ما هو هائل. ولكن ما هو الهائل؟ إنه ذلك الذي لا قياس له، أو هو ما يستحيل قياسه. الكثرة/القلة التي تقرأ القصائد تشق طريقها عبر وقائع غير قابلة للقياس، وفي مرايا الكلمات يكتشفون لا نهائيتهم ولا محدوديتهم. إن قراءة قصيدة توصل القارئ إلى عالم غير شخصي (يتجاوز الشخصي) ولذا فإنه، وبالمعنى الدقيق للكلمة، هائل. والاتصال، دائما تقريبا، قصير. ويتلخص أحيانا في الكلمات التالية: "أسمع حمامة من طوفانات أخرى"(1).
    ولكن سواء كان قراء الشعر كثرة أم قلة فإنهم لم يشكلوا أبدا أكثرية في المجتمع، باستثناء، ربما في فجر التاريخ أو في المجتمعات التي نسميها بدائية. فبعض علماء الأقوام يفيدون أنه حتى إلى ما قبل بضع سنين كان الرجال والنساء في أدغال أمريكا الاستوائية يتجمعون مع حلول الظلام حول نار المخيم ليستمعوا، بتأثر شديد، إلى قصص آلهة القبيلة وأسلافها. ومن خلال الأساطير، التي هي قوام تلك الحكايات، كان كل شخص في الجماعة يحس أنه جزء من مجموع هو، في الوقت ذاته، طبيعي وفوق –طبيعي. لأن الأسلاف الميتين كانوا أيضا جزءا من القبيلة. وكان استظهار قصائد تحكي عن أصل العالم والأقوام، على ضوء النار، يجعل العلاقة بين الطرفين تحيا، وتصبح، بالمعنى الدقيق للكلمة، حقيقية. كانت القبيلة، لساعة أو ساعتين، تتحول إلى جماعة شعرية تحتوي على الأحياء والموتى.
    ولكن منذ بدء التاريخ –أي منذ أن راكم البرش قراهم النيوليتيكية (العصر الحجري) وصاروا يعيشون في مدن –تبعثرت الجماعة الأصل: انقسمت طبقات ومهن وتجمعات –إلى عمال مياومين وحرفيين وجنود وكهنة وسادة وسلاطين. وحتى المعتقدات الدينية انقسمت. فاعتقاد الخزاف لم يعد مثل اعتقاد اللاهوتي، واعتقاد الخطاط ليس كاعتقاد العبد. صار انقسام المجتمع شبيها بما يوجد اليوم من فنون وعلم وتقنية. ففي عصور ما قبل التاريخ كان الشعر والدين والعلم والسحر والغناء والرقص أمرا واحدا شاملا. وحين استقل كل فن بنفسه وانفصل كل فرع من فروع المعرفة وحده تفرقت الجماعات والتقاليد والجمهور. وليست تعددية الثقافات الجزئية في ثقافة واحدة إلا دليلا على تعايش أقليات مختلفة، بعضها يحب الشعر وغيرها يحب الموسيقى وآخرون يحبون الفَلك. وهذه الأقليات مترابطة ومتنوعة. وأعني بذلك أن إحداها يمكن أن تتحول إلى أكثرية ولو لفترة قصيرة. وفي هذا المجال تكون الإحصائيات، كما في مجالات أخرى، وهمية ومضللة. فالأكثرية والأقلية مفهومان لا حدود ثابتة لأي منهما.
    وتعايش الأقليات المختلفة لا ينفي –بل على العكس من ذلك يشتمل على التواصل بينها-. وتشكل شبكة العلاقات بين الجماعات المختلفة نسيجا غير محسوس لكنه حقيقي: إنه ثقافة(1) الشعب. ففوق كل ثقافة فرعية –وتحتها أيضا- هناك الأفكار والمعتقدات والعادات المشتركة بين أفراد المجتمع كلهم. إنها الأساس –الروحي والعقلي والعاطفي- للشعب. وهي أيضا المرتكز الأساس للفنون، وخاصة الشعر. النبع الذي لا ينضب. ويرى الناس أنفسهم في الأعمال الفنية لأنها تقدم صورا عن الكلية غير المرئية. وحتى حين تعبر عن التشتت وعن أتمتة المجتمع والأفراد، كما نرى في الشعر الحديث والروايات الجديدة، فهي تتحدث في الواقع عن الحس الجماعي الضائع. ولذا لا يعود مهما أن كتابا ما لم يقرأه في البدء إلا القلة. فالحفاظ على الذاكرة الجمعية من قبل جماعة ما، ولتكن صغيرة، هو سجل خلاص حقيقي للمجتمع بأسره. فبمعونة هذه السجلات تعبر الثقافات والتقاليد بحار الزمن.
    وبالإضافة إلى هذه المجموعة من المعتقدات والصور –تلك التي تسمى عادة "روح الشعب"- هناك موضوعات وأحداث وشخصيات تستطيع، على مستوى أكثر سطحية، أن تحرك الجموع وتستحوذ على المخيلة الجمعية. تلك هي "الشؤون العامة": الأفكار الدينية والسياسية، النزاع على المعتقدات والمؤسسات، وتحركات الرأي في هذا الاتجاه أو ذاك. والشؤون العامة هي أيضا أحداث وأنباء وأسماء: حفلات تتويج واحتفالات دينية أو دنيوية، سقوط أسر حاكمة وثورات وانتفاضات وزيجات ملكية وقتل ملوك وميتات زعماء وما إلى ذلك. وقد يصبح الحادث الشخصي حدثا عاما: مثل قصة حب ممثلة، أو انتحار رجل مصارف، أو حادثة، أو جريمة قتل، أو غنى مفاجئ أو إفلاس مفاجئ لهذا الشخص أو ذاك، أو شجاعة بطل، أو، أخيرا، كل التقلبات الاستثنائية والمفاجئة لدولاب الحظ. لم يستطع أي كاتب، ولا حتى كاتب البست سيلر(1)، أن يحقق شهرة مثل نابليون أو أتيلا، ولا شعبية مثل جاك ديمبسي أو مارلين مونرو. ولكننا لا ننسى أنه كانت هناك حالات مثل حالة لوبي دو فيغا في القرن السابع عشر، وفولتير في القرن الثامن عشر، وفيكتور هيغو في القرن التاسع عشر، وبيكاسو في عصرنا، وعدد قليل غيرهم. ولكن على الرغم من كونهم قلة إلا أن هذه الاستثناءات تؤكد القاعدة.
    وهذا أمر طبيعي. فالأهمية الفائقة التي يعطيها الخيال الشعبي للزعماء والملوك والرؤساء ونجوم السينما والشخصيات التلفزيونية والأسماء اللامعة في عالم الرياضة يجب أن لا تفاجئنا. الغريب هو أن البشر منذ فجر التاريخ ينظمون القصائد، ويرسمون الصور، وينحتون منحوتات حجرية، أو يقدمونها بالبرونز، أو يصنعونها من الطين، ويخترعون القصص من الكلمات. وليس أقل غرابة أن هذه الأعمال تبقى وتنتقل من جيل إلى جيل. إن التكنولوجيا تغير وتتغير-فالطباعة تحل محل المخطوطات؛ والتلفزيون قد يلغي الكتب (أنا أشك في هذا شخصيا)-ولكن الفنون تبقى مهما كانت حالة التكنولوجيا أو حالة المجتمع. الشؤون العامة وشخصياتها ذوات الأهمية تزول. ولكن القصائد واللوحات والسمفونيات لا تزول. وأهمية الفنون –والأمر ذاته ينطبق على العلوم والفلسفة- كانت دائما من صنع أقلية. والنتيجة التي أريد أن أتوصل إليها هي ما يلي: إن السؤال الرقمي: كم؟ أي: هل هم قلة أم كثرة؟ -هو سؤال لا معنى له.
    ولكي يكتسب معناه يجب وضعه في سياق يشتمل على مصطلحين. وهذان المصطلحان هما التقسيم في الفراغ، أي جمع العامة والجمهور، والاستمرار في الزمن، أي التتالي غير المنقطع لأجيال من القراء والمستمعين. فالتنوع والاستمرار ليسا مجرد مفهومين رقميين (عددين).
    وإنني أخشى أن لا تكون حجتي مقنعة للكثيرين. فبالنسبة للعقلية الحديثة لا شيء له أهمية مثل الرقم. علماء الاجتماع والأكاديميون والصحفيون والناشرون يبلغوننا أنهم مسلحون بإحصائيات لا يرقى إليها الشك. ومن خلال استشهادهم بهذه الإحصائيات يقولون لنا إن الشعر فن صائر إلى الزوال؛ أو لعله يبقى إحدى الغرائب في متحف الأثريات. بشجاعة صاغوا نوعا من القانون حول الانحدار المستمر في قيمة الشعر: فقراء القصائد اليوم أقل مما كانوا عليه قبل ثلاثين عاما. وقبل ثلاثين عاما كانوا أقل مما كانوا عليه قبل سبعين عاما. وهكذا دواليك رجوعا عبر الزمن. ولكن في هذا المجال، كما في غيره، ليس المعيار العددي وحده كافيا. فهل هذه النتيجة صحيحة؟ دعنا نتفحص الأمر لنرى. قبل عدة أيام اشتريت كتابا صغيرا من إحدى مكتبات نيويورك وهو بعنوان "أفضل الشعر الأمريكي، 1989". والكتاب مختارات لأفضل القصائد التي كتبت في الولايات المتحدة الأمريكية خلال عام 1988. وناشر الكتاب هو الشاعر والناقد دونالد هول. وفي المقدمة لامس هول الموضوع الذي أعالجه وقدم وقائع وأرقاما. وسأورد بعض إحصائياته بعد قليل. وعلى الرغم من أنها تتحدث بوضوح عن نفسها إلا أنني سأورد بعض التعليقات.
    يبدأ هول بالإشارة إلى أن من إحدى علامات حيوية الشعر تجدد عادة قراءة الشعراء لشعرهم علنا أمام جمهور كبير. وقد بدأت المسألة (يقصد في أمريكا) عام 1950 ولكنها استمرت خلال العقد اللاحق وازدادت شعبيتها منذ ذلك الحين. ولتفهم أهمية هذه المسألة علي أن أذكر مسألة، على الرغم من أنها شائعة ومعروفة، إلا أنها تبدو وكأنها شبه منسية. وهي أنه في بدء حضارتنا، (وكذلك الأمر في الشرق الأقصى) كانت القصائد تلقى وتغنى. وكان AOIDOS هو الشاعر الملحمي لليونان القديمة. والكلمة مشتقة من فعل AEIDEIN: أن تغني. وكانت القطعة الملقاة قصيدة أو قسما من قصيدة ملحمية. وكان المؤدي مغنيا جوالا يلقي الأغاني الملحمية، وبشكل خاص أغاني هوميروس. وكان الشعر الغنائي يلقى أيضا بمرافقة آلات موسيقية لدى الرومان واليونان. وكانت هذه عادة شائعة جدا لدى كافة المجتمعات، في الشرق كما هو الحال في أمريكا –ما قبل الكولومبية(1). وقد استمرت هذه العادة في أوروبا ما يزيد على خمسة عشر قرنا. ولعله ليس من الضروري أن نعيد إلى الأذهان المغنين الجوالين، أو الشعراء الجوالين، أو الشعراء الغزليين، أو الإلقاء بصوت مرتفع للقصائد في بيوت الأشراف أمام نخبة مختارة من أفراد العائلة أو الأصدقاء المقربين أو أفراد الحاشية من ذوي المكانة. وفي القرن التاسع عشر حلت القراءة الشخصية الصامتة محل الإلقاء العلني للشعر (وهذا من دلائل انتصار الكتاب والكتابة). وفي الثلث الأول من القرن العشرين اختفت عادة إلقاء الشعر أمام الجمهور اختفاء شبه تام.
    ويلاحظ هول أنه ما بين 1920 و1950 –وهي إحدى الفترات العظيمة في تاريخ الشعر الحديث في الولايات المتحدة- لم تكن القراءة العلنية للشعر أمام الناس نادرة فقط؛ بل نادرا أيضا ما كان كبار الشعراء –من أمثال فروست وإليوت وباوند- يشاركون فيها. ولكن عند نهاية الخمسينات، ومع الظهور المفاجئ للجيل الغاضب Beat Génération، تغير الأمر وصار إلقاء الشعر أمام الجمهور إحدى السمات المميزة للحياة الأدبية في الولايات المتحدة. والقراءات الشعرية اليوم إحدى اليوميات الثقافية مثلها مثل المعارض الفنية والحفلات الموسيقية والعروض الراقصة. وتكرار المناسبات الأدبية التي من هذا النوع أمر مثير للدهشة سواء في المدن الكبرى أو في الجامعات. ويتكون الجمهور في العادة من الشباب، الأمر الذي يعني أنها ليست بالعادة التي تموت –كما يؤكد المتنبئون بموت الشعر- بل تقليد يحيا. تقليد يستعاد ويتم تجديده. ويقول لي بعضهم إنه لا في أمريكا اللاتينية ولا في أوربا، باستثناء إنكلترا، تتكرر القراءات الشعرية بالكثرة التي تتكرر بها في الولايات المتحدة أو تجتذب الجمهور بتلك الكثرة. وهذا صحيح. وصحيح أيضا أن القراءات الشعرية في روسيا أكثر شعبية مما هي عليه في الولايات المتحدة.
    ويقول هول إنه في عام 1950 لم يكن عدد النسخ لطبعة من ديوان شاعر ليس معروفا منذ مدة طويلة –كأن يكون ديوانه الثاني أو الثالث- يزيد عن عدة مئات؛ أما اليوم فتصل نسخه إلى أربعة أو خمسة آلاف نسخة. ودواوين الشعراء الكبار أو الشعراء ذوي الشهرة الكبيرة تبيع، وبسهولة، عشرة آلاف نسخة. وقد وصلت مبيعات العديد منهم إلى خمسين ألف نسخة. وقبل بضع سنوات نشرت Publishers Weekly قائمة بالكتب الأكثر مبيعا (بست سيلرز) ضمت سيرا شخصية وكتبا حول أحداث راهنة وروايات وكتب ورحلات وكتب طبخ وكتبا تعالج موضوعات جنسية (سيكسولوجي) وأجناسا عديدة أخرى –لكنها لم تشتمل على دواوين شعرية. وعلى رأس القائمة كتاب "متعة الجنس" الذي كانت مبيعاته بالملايين. وفي آخر القائمة الكتب التي كانت مبيعاتها 250 ألف نسخة. وفي العام ذاته باع الشاعر لورنس فيرلينغيتي مليون نسخة من كتابه "جزيرة كوني(1) في العقل". وقريبا من ذلك الحين وصلت مبيعات "عويل" لآلين جينسبيغ، وبسهولة شديدة أيضا، إلى المليون نسخة. ولكن المجلة المذكورة لم تدرجهما في قائمتها. ألأنهما كتابان شعريان؟
    لابد أن أطمأنكم إلى أن هاتين الحالتين غير عاديتين. ولكن كثيرا من الشعراء المعاصرين، وعلى الرغم من أن مبيعاتهم لا تصل إلى المليون، إلا أن قراءهم يصلون إلى ثلاثين ألفا وأكثر. وبين هذه الكتب عدد ما كتب أصلا بلغات أخرى ومن قبل شعراء من أمثال غارسيا لوركا وريلكه ونيرودا. وسأوفر على القارئ الأرقام الأخرى التي أوردها هول دون إهمال النتيجة التي يصل إليها: إن عدد قراء القصائد قد تضاعف عشر مرات خلال السنوات الثلاثين الماضية. وهذا يعني أن هناك الآن عشرة أضعاف عدد قراء القصائد الذين كانوا موجودين أيام تألق الشعراء الكبار من أمثال إليوت وباوند ويليامز وستيفينس، وهي مرحلة جليلة في تاريخ شعر القرن العشرين.
    هذا أمر مثير.
    إن إحصائيات هول تقتصر على الشعراء الأحياء في الولايات المتحدة. فهل لهؤلاء أقران وأنداد في البلدان الأخرى؟ أنا لا أعرف. ولكنه لن يكون تكهنا يلقى إلى الريح أن أقول إن عدد قراء القصائد في الاتحاد السوفياتي قد تزايد بوتيرة أعلى مما هو عليه الأمر في الولايات المتحدة. والأمر ذاته يمكن قوله عن اليابان، الأمة التي لديها تراث شعري عظيم. ومن المؤكد بالمقدار ذاته أن عدد قراء القصائد في أوروبا قد تزايد أيضا (في بريطانيا على الأقل) وكذلك في البلدان الأسكندينافية وبولونيا والمجر. وفي المكسيك أيضا، وعلى الرغم من أننا بلد القلة من القراء؛ فقبل خمسين عاما كانت طبعات شعرائنا –بيليسير وغوروستيزا وفيلروروشيا- لا تزيد عن خمسمائة نسخة.
    ولكن ماذا عن النوعية؟ في اللغات كلها، وفي مراحل التاريخ كلها، كانت دواوين الشعر ذات الأهمية قليلة. ألا ينطبق هذا على الأجناس الأخرى، والرواية بشكل خاص؟ في كل عام يقذف الناشرون بعد الآلاف من الروايات التي تزين أغلفتها الملونة واجهات المكتبات. وخلال أسابيع قليلة تختفي دون أن تخلف أثرا. هذه ليست طيورا. بل هي كتب عابرة. ودور النشر الجامعية والأكاديمية، التي تقف على الطرف النقيض من دور النشر التجارية، تساهم بدورها في ما لا يمكن تسميته إلا بالازدحام الأدبي. والتوسع الحديث في الصناعة النقدية في الجامعات قد حول تلال المخلفات البسيطة المتبقية من الأدب إلى هملايا حقيقية من النفايات.
    إن أرقام هول مشجعة ومواسية. لكنها تفقد أهميتها حين يلاحظ المرء أن الزيادة في القراءة ظاهرة تشمل الأجناس كلها. إن الناس يقرؤون الآن أكثر من أي وقت مضى. نعم. ولكن هل يقرؤون بشكل أفضل؟ أشك في ذلك. فالتسلية هي حالتنا الاعتيادية. وهي ليست تسلية الشخص الذي ينسحب من العالم لكي ينغلق على نفسه في أرض خيالاته السرية والمتغيرة باستمرار؛ بل هي تسلية الشخص الذي يظل خارج نفسه دائما ويظل تائها في الاضطراب التافه واللاعقلاني للحياة اليومية. إن آلاف الأشياء تشد انتباهنا في وقت واحد. ولكن ما من شيء بينها يشد اهتمامنا. وهكذا تتحول الحياة بين أصابعنا إلى رمال والساعات في أدمغتنا إلى دخان. ولو أوتينا الشجاعة الكافية لإجراء فحص يومي لأعمالنا وأفكارنا لاعترفنا بأننا مذنبون ليس بجرائم لا تغتفر بل بما لا يحصى من الرغبات والشهوات الآنية التي تبعتها تعففات مؤقتة أو خيانات لأنفسنا وللآخرين. ولكن هل نحن قادرون على تذكر ما فعلناه أمس؟ خاصة وأن خطايانا تندرج في إطار التسلية وعقوباتنا تندرج في إطار النسيان. القراءة عكس التسلية. إنها عملية تركيز أخلاقي وعقلاني تقودنا إلى عوالم مجهولة. عوالم تكشف عن نفسها بالتدريج لنتبين أنها الوطن الأكثر قدما وحقيقة: لقد جنا منها. القراءة هي اكتشاف السبل المؤكدة التي تقودنا إلى نفوسنا. وفي عصر الإعلان والاتصالات السريعة كم يبلغ عدد من يستطيعون أن يقرؤوا بهذه الطريقة؟ قلة صغيرة. ولكن استمرار حضارتنا كامن في هذه القلة وليس في جداول المسح الإحصائي.
    إن الوقائع والأرقام لا تجيب على سؤالنا؛ لكنها تساعد على تحديده بدقة. ومن المفيد أن نقارن إحصائيات هول، الخاصة ببلده وبالعصر الراهن، بإحصائيات من بلدان وعصور أخرى.
    يعالج الشاعر والناقد بير جيمفيرير هذا الموضوع في مقالة ذكية ومليئة بالمعلومات بعنوان "الشعر والنشر"(1). ويرى جيمفيرير أن إحدى السمات البارزة في الشعر الحديث هي إصراره على أن يظل فن الأقلية. وفي النصف الأول من القرن الماضي بذل الرومانسيون الأوربيون العظام أقصى جهودهم لكسب جمهور كبير من القراء المخلصين. ونجح بعضهم، من أمثال بايرون وهيغو ولامارتين، في تحقيق ذلك. وبعد أن هدأت الفورة الرومانتيكية الكبرى اختفى الشعراء عن أنظار العامة. ومنذ مجيء الرمزيين الكبار صار الشعر فعل تمرد فردي (معتزل)، صار تدميرا سريا للغة أو للتاريخ. ولم يحاول أي من الشعراء المبشرين بالحداثة أن يسعى لنيل رضا الجمهور. بل على العكس من ذلك كانوا يسعون متعمدين إلى الكتابة بطريقة "تتنافى وذوق الجمهور. ويمثل رامبو وورثته في النصف الأول من القرن العشرين مظهرا من مظاهر هذا الاتجاه. ويمثل المظهر الآخر، الأكثر سعيا إلى التعبير الجمالي الصرف، ملارميه وأتباعه.
    ومن الصعوبة بمكان أن لا نتفق مع جيمفيرير. ولكن لابد من الإشارة إلى أن حجته تقوم أساس على تاريخ الشعر الفرنسي. ففي لغات أخرى لا تظهر دائما الرغبة في قطع الصلات مع الذوق العام. فلا تينيسون ولا براوننغ في إنكلترا الفيكتورية كانا يسيران على هدي الفرنسيين في سعيهم الجاد والهدام أو في توجههم إلى العزلة الجمالية. فقد كان تينيسون وبراوننغ مقرونين أكثر بكثير مما كان عليه الرمزيون الفرنسيون. والأمر ذاته ينطبق على ألمانيا وبولونيا والبلدان السلافية الأخرى. أما في البلدان الناطقة بالأسبانية فقد كانت القراءة قليلة –وليس مرد ذلك إلى أن الشعراء كانوا يسخرون من ذوق البورجوازية، بل بسبب الخمول الثقافي الذي هيمن على أسبانيا ومستعمراتها السابقة في أواخر القرن الماضي. ولكن الأمر سيكون مضللا إذا ما قارنا الشعر الفرنسي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر بنظرائه في اللغات الأخرى. فالشعر الفرنسي عاش، بصفته شعرا، في زمن آخر؛ وهو الذي يحدد بداية شعرنا المعاصر. إن مالارميه وتينيسون كانا من جيل واحد. ولكن تينيسون ينتمي إلى القرن التاسع عشر، بينما ينتمي مالارميه إلى القرن العشرين. وصحيح أيضا أن الشعر، الذي هو أصل (جذر) عصرنا هذا،



    كثيرا ما يقدم نفسه بطريقة مختلفة –إن لم تكن متناقضة- لرامبو أو مالارميه. فبدلا من الانسحاب من العالم، لعله كان يسعى إلى التوحد مع رجل الشارع. وأنا أفكر الآن بوالت ويتمان على وجه التحديد.
    وليست إحصائيات جيمفيرير بأقل إدهاشا من إحصائيات هول، على الرغم من أنها تسير في اتجاه معاكس. ففي عام 1886 نشر فيرلين الطبعة الثانية من ديوانه الشهير fêtes galantes. طبعت منها ستمائة نسخة. نحيت منها مئة نسخة للشاعر وللنقاد. وإنها لواقعة ذات دلالة. ففي 1886 كان فيرلين شاعرا مشهورا ليس على مستوى فرنسا وحدها؛ بل كان مقروءا على نطاق واسع في أنحاء أوربا كافة. وكان له احترامه الكبير في بيونس آيريس ومكسيكو سيتي(1). وفي عام 1876 طبع مالارميه طبعة فاخرة من "L'après midi d'un faune" وكانت 195 نسخة. وبعد إحدى عشرة سنة، عام 1887، ظهر كتاب Poésies الذي يحتوي على المختارات التي انتقاها بنفسه. وكانت نسخ الطبعة أربعين نسخة. أما رامبو فقد قام بالدفع من جيبه لنشر الطبعة الأولى من "فصل في الجحيم"، وهو النص الذي كان له، كما نعرف، تأثير هائل على شعر القرن العشرين. وحدد عدد النسخ بخمسمائة نسخة. واحتفظ رامبو بست منها لنفسه. وكان من الممكن للنسخ الأخرى أن تختفي في مخازن الناشر لولا أحد هواة جمع الكتب الذي أنقذها عام 1901، على الرغم من أنه لم يعلن عن اكتشافه إلا عام 1914. وليس مصير العمل العظيم الآخر لرامبو "إشراقات" بأقل غرابة. فقد نشره فيرلين مع مقدمة وجيزة عام 1886 في مجلة La Vogue، ثم في العام ذاته في كتيب صغير. ولم يعرف رامبو، الذي كان في الحبشة في ذلك الحين، أي شيء عن الطبعتين. ولوتيرمان أيضا دفع، هو الآخر، تكاليف نشر كتابه Les Chants de Maldoor. ولم توزع الطبعة أبدا بل ظلت في قبو الناشر إلى أن جاء ليون بلوي وريمي دو غورمونت، بعد عدة سنوات من موت الكاتب، وعملا بحماس على لفت الانتباه إلى هذا العمل الفخم التعيس (2).
    ويقدم جيمفيرير عددا من الأمثلة المشابهة عن دواوين الشعر بالأسبانية. والأكثر إثارة بينها ديوان نيرودا Veinte Poemas de amor y una cancion desesperade. هذا الكتاب الصغير الذي طبع في سانتياغو، تشيلي، عام 1924 كان مجهولا تمام في أسبانيا؛ على الرغم من أن نيرودا عام 1936 كان شاعرا متميزا في كافة أنحاء العالم الناطق بالأسبانية. ثم قرر ألتو لاغير أن يصدر طبعة أخرى من الديوان تحت عنوان آخر: (قصائد الحب الأولى) Primeros poemas de amor. وكانت الطبعة عبارة عن خمسمئة نسخة،. وأستطيع أن أضيف مثالين، ليسا بأقل أهمية وإثارة للحزن من مثالي رامبو ولوتيرمان: لقد مات كل من غوتيريز ناجيرا وسيلفا دون أن تسنح لأي منهما الفرصة لرؤية قصائده ضمن دفتي كتاب (ديوان). وكم نسخة طبعت في الطبعتين الأولى والثانية من (آزول)؟ أو من (لاسكاس) لدياز ميرون والت يظهرت في جالابا من خلال الطباعة الرمسية في فاراكروز؟ أو (الرسل السود) وتريلسي؟ والمثال الآخر عن شاعر إيطالي: الطبعة الأولى من الديوان، الذي سيصبح أحد أهم ملامح الشعر الإيطالي في هذا القرنن وهو ديوان L'allergia (1915) لأونغاريتي، كانت عبارة عن ثمانين نسخة. ويمكن للقائمة أن تمتد إلى ما لا نهاية، وبالقدر الذي نريد. وستشتمل على أسماء أفضل شعرائنا وأكثرهم رواجا بين القراء.
    وعند هذه النقطة يبرز السؤال: هل القرار في قلة عدد النسخ عائد إلى الشعراء أم إلى لا مبالاة الجمهور؟ والجواب هو: الأمران معا. فلقد كانت للشعر منذ بداياته علاقة غريبة مع الحداثة، كما سبق أن حاولت أن أوضح في كتابات سابقة. ولكن الصراع بين الشاعر والجمهور صار قاسيا عند نهاية القرن السابق وتحول إلى انشقاق خلال مرحلة الطليعة /Avant-gardes/ في الثلث الأول من قرننا هذا. صار الشعر يزدري القيم التقليدية، وبالتدريج راح يسخر منها. لقد بلبل الدلائل والمعاني، واخترع عوالم مسكونة بأغوال لغوية، عوالم فيها برك مضللة في ما يبدو عليها من شفافية تورط الوعي للغوص فيها حتى يغرق. وكانت اللامبالاة الشعبية رد فعل طبقة اجتماعية، هي البورجوازية، والتي كانت تتجسد فيها الحداثة التي كان الشعراء يرغبون فيها ويحتقرونها في آن. رأت هذه الطبقة نفسها مشتومة، في البدء، من قبل الرومانسيين، ثم من قبل الرمزيين، وأخيرا من قبل الحركات الطليعية المختلفة. ولقي رفضها للفن الحديث تشجيعا من قبل النقد الأكاديمي المعادي وضغائن جهلة الصحافيين وكتاب التغطيات النقدية. ولكن انشقاق الشعر لم يكن باتا، كما سنرى. وظل الشعر، كما كان، ضرورة.
    وصلت الطبعة الأولى من "أزهار الشر" عام 1857 إلى ألف ومئة نسخة. ومر وقت لا بأس به قبل أن تنفد. وبعد أربع سنوات لاقت الطبعة الثانية نجاحا كبيرا؛ وذلك بالتأكيد بسبب الأمر الذي وجهته المحكمة إلى الناشر وطلبت منه فيه حذف عدد من القصائد التي اعتبرت لا أخلاقية. ولم يشك بودلير من قلة المدافعين عنه، وكان بينهم هيغو وغيتيه. وإضافة إلى ذلك رحب، بحرارة، اثنان من الشعراء الشبان في مراجعات نقدية بروحه الأدبية الشابة واعتبراه أستاذا/مايسترو/. ولكن هذا التقدير تأخر في المجيء؛ لأن بودلير كان، الآن، يعاني من الشلل النصفي ثم توفي بعد عامين. وبعد موته راحت الطبعات تتتالى، الواحدة بعد الأخرى، دون انقطاع ومعها الترجمات إلى كافة اللغات تقريبا. لقد مات بودلير منذ ما يزيد على القرن ولكنه ما يزال معاصرا لنا. ويتشارك إبداعه في حسن التقدير مع فيرلين ورامبو ومالارميه. فدواوين هؤلاء الشعراء يمكن العثور عليها في كل مكتبة. وهي تقرأ من قبل الآلاف بعد الآلاف من القراء المثقفين. وفي عام 1855 ظهرت الطبعة الأولى من "أوراق العشب" دون أن تحمل اسم المؤلف؛ بل اكتفي بتخطيط/اسكيتش/ لصورة ويتمان عل صفحة الغلاف. وبعد عام ظهرت الطبعة الثانية. ثم تبعتها طبعات أخرى وصلت إلى التسع وفي كل منها قصائد إضافية حتى وفاته عام 1892. وقد اشتملت الطبعة الأولى على 795 نسخة. ولم يدفع ويتمان تكاليف الطباعة فقط؛ بل كان هو نفسه الطابع. وحتى الطبعة الخامسة لم يربح بنسا واحدا. ومن الطبعة الخامسة تلك جنى 25 دولارا. ولكن ويتمان، على عكس الكثيرين من شعراء القرن التاسع عشر، استطاع أن يرى، وخلال أقل من نصف قرن، طبعات متلاحقة من ديوانه تكسب له قراء متحمسين. وكان بينهم كتاب كبار؛ منهم من أبناء بلده إمرسون وثورو، وبعد ذلك سوينبورن وتينيسون من إنكلترا. وقام أوسكار وايلد بزيارة لويتمان عام 1882. وفي عام 1886 رسم توماس إيسكينز لوحة/بورتويه/شخصية له.
    ويمكن اعتبار أن قصة طبعات قصائد بودلير وويتمان مشابهة لقصص الشعراء الحديثين كلهم، وفي كل اللغات. فالطبعة الأولى دائما، تقريبا، يدفع لها المؤلف من جيبه، وتكون موجهة إلى دائرة ضيقة من الأصدقاء المقربين. ومع مرور الأيام، ويكون في العادة مرورا بطيئا ولكنه مرور عنيد، تزداد مطبوعات كتبه وتتسع دائرة جمهوره. فدواوين روبين داريو، وأنطونيو ماتشادو، وفيديريكو غارسيا لوركا تطبع الآن آلاف النسخ، إضافة إلى الظهور المستمر للطبعات الجديدة. والظاهرة تتكرر بغض النظر عن البلد، وسواء كان الشاعر هو أبولينير أو ريلكه، منتالي أو مانديلشتام. إن إعادة طبع ييتس وإليوت أمر متكرر. وتصل نسخ الطبعات الآن إلى مئات الآلاف. وقبل فترة ليست بالبعيدة قال لي الناقد الشاب إدوارد مندلسون، الذي ندين له بالفضل للطبعة الرائعة لقصائد أودن كاملة، إن الطبعة الشعبية لهذا الشاعر تتراوح بين أربعين وخمسين ألف نسخة. وما أرى له قيمة كبيرة في هذه الأمثلة كلها ليس عدد النسخ بل الاستمرارية. إن "البيست سيلر" –الكتاب الأكثر مبيعا-، وسواء كان رواية أو كتابا عن أحداث راهنة، يظهر في الجو مثل النيزك. يندفع الجميع لشرائه. ولكن بعد فترة قصيرة يختفي نهائيا. وكتب البيستسيلر التي تستطيع المحافظة على نجاحها قليلة ومتباعدة. والبيست سيلر ليست أعمالا أدبية؛ بل هي سلع. وما يميز العمل الأدبي عن الكتاب، الذي ليس إلا للتسلية أو للمعلومات، هو أن الثاني مصمم تحديدا لكي يستهلكه القارئ. بينما الثاني –الأدبي- يتميز بتملكه القدرة على العودة إلى الحياة.
    وقد يحدث تغير تاريخي أحيانا –سواء في مجال الذوق أو الأفكار أو القناعات الاجتماعية- يحمل حكما بالإدانة على شاعر كان خلال حياته موضع تقدير. فنيرودا وأراغون وإيلوار يدفعون الآن ثمن خطاياهم السياسية. وأستخدم كلمة "خطايا" لأن الستالينية كانت أكثر من مجرد خطأ أخلاقي. ولكن، وكما كتب أودن عن ييتس، ستعاد قراءة هؤلاء الشعراء بسبب تفوقهم في فنهم:
    الزمن الذي، بعفوه الغريب
    غفر لكيبلينغ وآرائه،
    سيغفر لبول كلوديل،
    سيغفر له لأنه كتب بشكل جيد.
    ولا شك أن هذا التباين بين التلقي الأول لدواوين الشعر وبين حظها فيما بعد أمر يستوجب التعليق. فالانتقال من العداء أو الإهمال إلى التقدير لا يحدث بشكل فوري؛ بل يتطلب الأمر وقتا. وفي هذا الخصوص للوقت معنى: الثقافة. وبالمعنى الأولي للكلمة: يجب أن يصبح القارئ مثقفا. والتثقف [التعهد بالعناية(1)] –من أي نوع- يؤدي إلى التغير والتحول. وكل عمل شعري جديد يحمل تحديا للعقل والذوق السائدين. ولكي يتمكن القارئ من تقويم هذا العمل لابد له من أن يتعلم قاموس العمل ويتمثل بناء الجمل فيه. وهذا يعني نسيان المعروف المألوف وتعلم الجديد. وعملية النسيان/التعلم تتضمن تجددا حميميا، تغيرا في الحساسية والرؤية. وهذه التجربة ليست وقفا على العصر الحديث. فقد كان على رجال البلاط والكنيسة في إنكلترا القرن السابع عشر أن يتعلموا لغة من عُرفوا باسم الشعراء الميتافيزيقيين. كما كان على نظرائهم الأسبان أن يتعلموا لغة Gongora وأتباعه. ويتكرر الأمر في كل زمان وكل مجتمع. كما أن النزاع حول الشكل واللغة الفنية مرتبط بشكل دائم تقريبا بالصراع بين الأجيال: القديم والجديد، العجوز والشاب.
    والحالة الراهنة أكثر تعقيدا. فبالإضافة إلى النزاع التقليدي بين القديم والجديد، هناك معارضة أكثر عمقا؛ وهي ذات طبيعة تاريخية وروحية. ولها علاقة، كما قلت سابقا، بالصدع القائم بين الشعر، والتمرد على الحداثة، وبين البورجوازية، التي كانت هي المنتجة للحداثة الأكثر ديناميكية وهي المستهلكة لها. فكيف أمكن لهذا التعارض، الذي بدأ مع الرومانسية واستمر حتى يومنا هذا، أن يتحول إلى فواصل من الانسجام –تتبعها نزاعات جديدة متفجرة؟ تختلف كل فترة عن غيرها، تماما كما تختلف العلاقة بين كل قارئ وكل قصيدة. ومع ذلك ليس من الطيش أن نحاول تقديم تفسير. وسأطرحه بإيجاز شديد. منذ الرومانسية كان الشعراء هم الوليد المتمرد للحداثة. فهم الذين يناكدونها وهم الذين يمجدونها. والقراء، مثل مرآة، يعكسون هذه الازدواجية: إذ يتعرفون على أنفسهم في المناكدة وفي التمجيد؛ وذلك لأنهم، هم أيضا، أبناء الحداثة ومرتبطون بها بالروابط البَنوية المرفوضة ذاتها. والشعر الحديث، بالتحديد لأنه حديث، كان ينتقد الحداثة وما يزال ينتقدها. وقراؤها يرون أنفسهم فيها للسبب ذاته. والحداثة، منذ ولادتها، كانت سجينة الصراع مع نفسها. وهذا مصدر غموضها وغرابتها وسر تحولها وتغيرها الدائمين. فالحداثة تطرح النقد بالطريقة ذاتها التي يطرح بها الأخطبوط الحبر. وهذا النقد لابد أن يتحول ضد نفسه أيضا.


                  

العنوان الكاتب Date
زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-20-07, 12:58 PM
  Re: زهد الكلمات Ishraga Mustafa07-20-07, 01:42 PM
  Re: زهد الكلمات Nasr07-20-07, 04:16 PM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-20-07, 07:17 PM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-20-07, 07:24 PM
    Re: زهد الكلمات عبدالله شمس الدين مصطفى07-21-07, 01:11 PM
  Re: زهد الكلمات أبوذر بابكر07-21-07, 01:24 PM
    Re: زهد الكلمات عبدالله شمس الدين مصطفى07-21-07, 03:00 PM
      Re: زهد الكلمات Osman Musa07-21-07, 09:58 PM
  Re: زهد الكلمات محمد علي ياسين07-21-07, 11:07 PM
    Re: زهد الكلمات طلال عفيفي07-22-07, 04:55 AM
      Re: زهد الكلمات Giwey07-22-07, 03:15 PM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-22-07, 06:29 PM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-22-07, 06:40 PM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-22-07, 06:48 PM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-22-07, 06:54 PM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-22-07, 07:23 PM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-22-07, 07:30 PM
    Re: زهد الكلمات osama elkhawad07-23-07, 02:46 AM
  Re: زهد الكلمات omar altom07-23-07, 03:09 AM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-24-07, 10:01 AM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-24-07, 10:11 AM
    Re: زهد الكلمات omar altom07-24-07, 05:08 PM
      من الثوري الى "الحكيم" osama elkhawad07-24-07, 05:16 PM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-24-07, 07:32 PM
    Re: زهد الكلمات شهاب الفاتح عثمان07-24-07, 08:24 PM
      Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-28-07, 12:31 PM
  Re: زهد الكلمات osama elkhawad07-27-07, 05:13 PM
    Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-28-07, 02:14 PM
  Re: زهد الكلمات سلمى الشيخ سلامة07-28-07, 01:55 PM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-28-07, 02:25 PM
  Re: زهد الكلمات سلمى الشيخ سلامة07-28-07, 02:30 PM
    Re: زهد الكلمات osama elkhawad07-29-07, 04:17 AM
      Re: زهد الكلمات Osman Musa07-29-07, 04:55 AM
        Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-29-07, 07:19 AM
  Re: زهد الكلمات هند محمد07-29-07, 06:14 AM
    Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-29-07, 07:26 AM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-29-07, 06:27 AM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-29-07, 06:45 AM
    Re: زهد الكلمات osama elkhawad07-29-07, 06:54 AM
      Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-29-07, 09:24 AM
        Re: زهد الكلمات Osman Musa07-29-07, 03:27 PM
          Re: زهد الكلمات Osman Musa07-29-07, 04:21 PM
            Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-29-07, 10:29 PM
              Re: زهد الكلمات osama elkhawad07-30-07, 07:07 AM
                Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-30-07, 08:17 AM
  Re: زهد الكلمات السمندل07-30-07, 10:55 AM
  Re: زهد الكلمات Adil Osman07-30-07, 11:24 AM
    Re: زهد الكلمات Osman Musa07-30-07, 03:28 PM
      Re: زهد الكلمات Osman Musa07-31-07, 03:35 AM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-31-07, 08:32 AM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-31-07, 08:43 AM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-31-07, 10:12 AM
    Re: زهد الكلمات Amin Mahmoud Zorba07-31-07, 11:48 AM
      Re: زهد الكلمات Osman Musa07-31-07, 03:19 PM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-31-07, 04:01 PM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن07-31-07, 04:17 PM
    Re: زهد الكلمات Osman Musa08-01-07, 01:36 PM
      Re: زهد الكلمات Osman Musa08-04-07, 03:20 AM
        Re: زهد الكلمات osama elkhawad08-04-07, 06:56 AM
          Re: زهد الكلمات Osman Musa08-05-07, 02:39 PM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن08-05-07, 08:21 PM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن08-05-07, 08:26 PM
  Re: زهد الكلمات Adil Osman08-05-07, 10:46 PM
    Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن08-06-07, 03:15 AM
      Re: زهد الكلمات salma subhi08-06-07, 05:57 AM
        Re: زهد الكلمات osama elkhawad08-06-07, 06:31 AM
  Re: زهد الكلمات عادل عبدالرحمن08-06-07, 12:40 PM
    Re: زهد الكلمات Osman Musa08-08-07, 02:09 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de