|
مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان )
|
( باو ) على الهضبة الشرقية - جبال الأنقسنا . شتاء يناير من العام 82 .
1- البتول ____
الحلكة .. هي كل ما استبنته " وفقاً لحواسي العاملة " ثمّة شخيرٍ واهن ، و زفيرٌ كثير . طويلاً و عميقا تنفست ، زكمتني رائحة الروث ، و عَفْرَةٍ مُتربةٍ ربما . قلتُ فلأستعد بعضي و أثوب ، لَِكم من الزمان لبثتُ ألملمه هذا البعضي مستلقٍ على تراب زريبةٍ للماشية ، و الليلُ الشتويُ متين القَرْس ، ظلمةٌ كالحةٌ و بعض ريحٍ تهب خفيفاً على بقايا علف الماشية ، فتافيت قصبٍ ذهبي و عشبٍ يابس و روثٍ مهروس ، ترفعه الريح عن سطح الأرض قليلاً ، لتلقيه دواماتها الصغيرات ملتفٌ عليّ و أنا ممددٌ بلا حول . عدا ذلك .. صمتٌ لا تهسهس فيه اليعاسيب . غابة شجيرات الموز تقف حارسةً بيني و الحدود الأمهرية ( في وقفته الديمومة تلك ، شهد الموز مواسم الجبال كلها ، مدونٌ على صفحة وريقاته زاهية الخضرة صور الفاتحين و الغزاة و التابعين .. و أهل المسكنة ) . عقربا ساعتي الرومر العتيقة هما الضوء الوحيد تلك الأمسية ، عقربان متوهجان طويلان كصواري ميدان المولد في الليلة الكبيرة . حال الكهرمان ثلاثٌ و ثلاثون حبة في مسبحة أمي , هي الأخرى حالٌ بوهجٍ مباركٍ في أكاحل الليل ، حيث لا ضوء إلاها وحدها .. و تسبيح امي , و بعض مجموعات الثريا اللماعة في قبة السماء شمالاً ) . الثانية و سبع عشرة دقيقة بعد منتصف الليل ، فأنا هنا منذ أكثر من ست ساعات !! منخراي تخرجان بوخاً سحابياً كلما استنثرت ، أنفي بطرفٍ ( صاقطٍ زي نخرة الكلب ) ، بالكاد تنثني مفاصلي ، و ألمٌ عظيمٌ يضغط على صدغيّ ، يغيب ليعود .
زووم أول : عليم الله هذا نهارٌ بدأ فلْتاناً ( هو ليس من النهار في شيء ، فالغيمات هنا سيدة السماء بجندٍ من الريح ، و كتائب من زمهرير لا ترضَ مستقراً لها إلا العظم ) ، أيقنتُ به منتهٍ بشيء مشاتر ، هذا النهار الأنقسني . هو النهار في أوله .. تنحدر إلى السوق الدروب ، معها تهبط صفوفها قبائل الشجر من أصناف غير صويحباتنا تلك التي نعرف : النيم و التمر هندي و دقن الباشا و اللبخ و الجميز و .. و .. ذاك شجرنا نحن ساكني جحور الأسمنت ، مسحوب الخضرة يا شجرنا المدجّن بالتعريف . هذا الذي هنا شجرٌ شجرْ ، شجر كامل العنصر ، بجمالٍ وحشيٍ أبْلَج ، و يقوم على أرض أغمق وحشةً و أشد حسناً . الدروب معشبة الحواف في غنج . إن ترقبها من أعلى التلة في ركن البلدة ، لقيتها شرايين ملتوياتٍ برتقالية تميل إلى الحُمرة ، ناعمةٌ تنزلقُ من هوادج سلاسل التلال ، و تصبُ منتهيةً إلى غابة شجر السوق ( تذكرك يا عاصي بشرايين مرسومة على ظاهر يد تلك التي تشتهي ) . مررتُ من بين الشجرات أتلكأ هابطاً من أعلى التلة حيث " الميز " ، صفحة وجهي للهواء البارد يلفعه مختلطاً بأصوات غابة السوق في آخر المنحدر . فانحدرتُ بطيئاً هنيئا . خرجت من جُبّة الرسّام منذ طمثنا بتولة هذة الجنة .. كنتُ فقط أبِلُ ريق كتلة الإسفنجٍ الجوعى يا ربي للإمتصاص . أصحو من قبل تثاؤب الريح الصباحية . أزدرد فتة العدس بالعيش القرقوش بقايا موائد سفرة الإس تي إس ، تخزن طول العام في جوالات حصينة ثم تُشحَن معنا , طلابٌ منتشرون في أصقاع البلد كل عام , نسجل روح الخالق في بهي حسنها ألواناً , و نكنز للناس حالهم المسوَد على ورقٍ أبيض . أبحث بعدها عن تبّةٍ بين الأحراش المحيطة بالميز ، ألوذ بها و أدخن مغازلاً الدنيا في بكورة أمنها : جبالٌ و سموات و شجرٌ حيثما حلّ منك بصر ، فكأنما تستقبل المرئيات من خلف عدسة كلوروفيلية خضراء . يخرمج " بركات " بالعود صباحٍ صباح منذ حللنا ، يفعل ذلك في نفس التوقيت ( ذات الشيء مارسته - أتذكر - بزُمبارة القصب في زمان قديم ، خرمجتُ بها لصباحاتٍ كثيرة ، جلدني جارنا على قتلي له كل يوم بنغمات : " إنتي كلك زينه و عايمه كالوزينه " ، فقاطعه أبي حتى وفاته ) . في الدرب إلى غابة السوق مررت بالرفاق يرسمون ، بعضهم ترافقه الزميلات ( يتجنبنني كُنّ لأن بي " شي ما ياهو " , أو كما يقلن ) , بطول اليوم يرسم الرفاق و يلونون هذا اللاندسكيب الإلهي , تجدهم فوق و تحت البلدة , عن يمينها و اليسار . تشكشك الغيمات فيتخذون بورداتهم سقوفاً و يهرعون إلى كهوف الشجر مأوى السابلة . سهوت لوهلة أرقب " أسامه " بعيداً يضرب في صبر شجرة الباباي القصيرة طامعا . بغتةً جاءوا , تماماً قُبيل دخول دائرة الظل للشجرة الكبيرة التي تتوسط المباني الطوبية . جاءوا , صفٌ من الرجال شديدي السواد ، قصارٌ و صامتون و رماحٍ طويلات على أكتافهم تتجه أماماً ، خِرَقٌ من قماشٍ على رؤوسهم و على إجسادهم الصغيرة خرقٌ أخرى فوقها خرقْ ، أكياسٌ من قماشٍ ملون مدلاة إلى أجنابهم و يستطلعون المكان بحذر ، إتجهوا إلى الدكاكين فتبعهم فضولي . طلبت علبة برنجي من الرجل صاحب الدكان الطبلية . دكانٌ عجيب ، لا رفوف هنا و لا يحزنون ولا حتى بضاعة . عن قربٍ تأملتهم , كانوا مشلخين ثلاث شلوخ على صفحتي الوجه و .. صامتون . مصطفون دفعوا للرجل بصُرصرٍ مختلفة الأحجام من قماشٍ متسخ و هم يتطلعون إليّ بريبة , خرجت و انتظرت طويلاً , خرجوا هم في صفهم ذاته بذات الصمت , و ركبوا الدرب الغربي الواسع حتى غلفتهم غياهب الشجر و غابوا . كانوا من رجال الـ ( وطاويط ) , وعول الجبال الشرقية . قال الرجل صاحب الدكانة أنهم يأتون إليه بتراب الذهب , يستبدلونه سكراً و شاياً و بهارات و طحين , و أنهم يستخرجون الذهب بغربلة مياه الخيران و غيرها من جداول الجنة التي تندلقُ من الهضبة الأمهرية . فإلى أين يذهبون ؟ قال خلف الجبال , فتبعتهم . مشيت طويلاُ , في رأسي خضرة العشب و حولي , الدرب يتلوى ماهراً كلما صادف عقبة , و العقبات مياه تخرّ و صخور مُلسٍ و جذوع عملاقة , و الرجال من قبيلة الوطاويط بلا أثر لهم , لا صوت لآدميّ هنا و لا نأمة ( أغانيٍ قديمات إلى رأسي تتحين حُسن السكون , فتغشاني ) مشيتُُ مشيتُ حتى انفرج الدرب إلى سهلٍ طويل العشب متموّجه , تحوطه الصخور و الشجر . الحق , أخافني هول الجمال و .. الوحشة , وقفت مشعلاً " البرنجية " كآخر قلاعي المؤنسة , حين تناهت إليّ عبر الهواء المبتل مطالع مزامير الواظا .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Emad Abdulla | 05-18-07, 03:39 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Ishraga Mustafa | 05-18-07, 04:34 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | عصام عبد الحفيظ | 05-18-07, 05:21 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Emad Abdulla | 05-19-07, 08:28 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Emad Abdulla | 05-18-07, 10:53 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | عبدالكريم الامين احمد | 05-19-07, 07:02 AM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | ابو جهينة | 05-19-07, 07:06 AM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Emad Abdulla | 05-19-07, 08:48 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Emad Abdulla | 05-19-07, 08:42 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | DKEEN | 05-19-07, 09:58 AM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Emad Abdulla | 05-19-07, 09:09 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | خضر حسين خليل | 05-19-07, 10:19 AM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Emad Abdulla | 05-19-07, 09:12 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Adil Osman | 05-19-07, 10:31 AM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Bannaga ELias | 05-19-07, 12:44 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Emad Abdulla | 05-19-07, 09:22 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | مامون أحمد إبراهيم | 05-19-07, 09:24 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Emad Abdulla | 05-20-07, 11:59 AM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Emad Abdulla | 05-19-07, 09:18 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Emad Abdulla | 05-19-07, 09:44 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Tagelsir Elmelik | 05-21-07, 04:28 AM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Emad Abdulla | 05-22-07, 11:12 AM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | Salah Abdulla | 05-23-07, 10:53 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | ibrahim kojan | 05-27-07, 07:45 PM |
Re: مزامير الواظا .. ( شهوة الكهرمان ) | بهاء بكري | 05-27-07, 09:46 PM |
|
|
|