هنا فداسي-2

زيارة أهلي في القريقريب (2)

قصدت أولاً منزل أخي وصديقي العزيز الحاج عبد الباقي الذي كنت في غاية الشوق للقائه، طرقت الباب وأذن لي بالدخول، رحبت بي زوجته الفضلى الحاجة صفية ترحيباً حارا، إذ كان الأخ الحاج نائما، رجوتها ألا توقظه وتفسد عليه قيلولته، إلا أنها أصرت وقالت كيف لا أوقظه وهو الآخر في غاية الشوق إليك. أقبل علي الأخ الحاج بلهفة وشوق، فتعانقنا وترقرقت عيوننا بالدمع وأطلنا العناق الذي أفرغنا خلاله شحنة من الشوق والحنين والذكريات. جلسنا تحت ظل شجرة خضراء ظليلة في فناء الدار، ومن ثم جيء لنا بالعصير ومن بعد العصير الشاي. روعة الجلسة والجو الخريفي الرائع والنسمات الباردة والأنس الجميل زاتنا بهجة وسرور. أخذ الأخ حاج يحكي ويستعيد الذكريات بسعادة وحبور.

إكتسى فناء الدار حلة خضراء تبهج العين وتسر الناظرين، وبالقرب من شجرة الجوافة ، إمتد عرق بطيخ وانتشر في مساحة كبيرة وقد أتى أكله بطيخاً طيبا ، جملت جلستنا وطاب الأنس واحلوت "الونسة"، وبدأت الذكريات الجميلة تتداعى كشريط سينمائي: تذكرنا تلك الأيام الرائعة التي مضيناها سوياً والتي من خلالها تعرفت على الأخ الحاج عن قرب من خلال معايشة لصيقة إمتدت لأكثر من خمسة عشر عاما، فاكتشفت أصالة معدنه ونبل طباعه ،هدوءه ووقاره، والصمت الجميل الذي يميزه والوقار الذي يزينه والكرم الأصيل الذي هو شيمة فيه، والشهامة والمروءة اللتان من كريم صفاته، ووجدت عنده المعرفة المتعمقة والثقافة الواسعة، فلا غرابة إن أحب جميع زملاء العمل على اختلاف جنسياتهم وأعمارهم الأخ الحاج، وكيف كان زميلنا جون الإيرلندي ينادي الأخ الحاج بـ Gentleman ، وفعلاً الأخ الحاج يستحق هذا اللقب أو الصفة لأنه حقيقة رجل "مالي مركزه ومعبيء هدومو".

أذن لصلاة الظهر وذهبنا للمسجد الملاصق لداره، صلينا في المسجد الجديد الذي هو آية من الجمال، والمفروش بجميل السجاد والمزود بالمراوح والمكيفات. في المسجد إلتقيت بكثير من الإخوان الذين كان من بينهم رمز من رموز القريقريب الخالدين وهو محمد ود عتمان "جربا" الرجل الصالح الذي لو أقسم على الله لأبره، وجدته كما هو في ملابسه البسيطة "عراقي وسروال وطاقية" والبسمة التي تميزه مازالت مرسومة على شفاهه. ومن حسن الصدف أن إلتقيت أخي وصديقي بابكر " تقي"، وهو من عباد الله الذين يمشون على الأرض هونا، ومثال للكفاح ومغالبة مصاعب الحياة، ومازال بنفس الهمة التي عهدتها فيه، يحمل قدح "المونة" على كتفه ليطعم أولاده طعاماً حلالا. مثل هؤلاء الأخوان الأصفياء الأنقياء هم الذين ينبغي أن نوثق لهم ونعرف الأجيال بهم، لأن مثلهم قليل في هذا الزمان المادي الذي إختلت فيه الموازين وتبدلت فيه القيم والذي أصبح الإنسان فيه لايقيم إلا إذا كان ثرياً تفيض جيوبه بالدراهم والدنانير، وهذا لعمري مقياس مختل وغير صحيح، فكم من فقير عند الله أعظم من غني.

عدنا بعد الصلاة إلى المنزل وواصلنا أنسنا إلى أن نودي لصلاة العصر، فذهبنا مرة أخرى إلى المسجد، صلينا العصر ثم عدنا لنجد الغداء جاهزاً، فطعمنا طعاماً شهيا حتى شبعنا، وكلما هممت بمغادرة طاولة الطعام، كانت كلمة "حرّم" تعيدني إليها، وهي كلمة محببة لأهلنا في القريقريب ، وتشهد على كرمهم المعهود وجودهم المشهود. بعد الغداء شربنا الشاي، ثم إستأذنت أخي الحاج بالإنصراف لزيارة باقي أهلي، فسمح لي وودعته شاكرً له حرارة الإستقبال وحسن الضيافة على أمل زيارته مرة أخرى.

الذكرى الأولى لرحيل أخينا الشاب بكري مصطفى يوسف حاج إدريس
وأقبل رمضان، وإذ نستقبله والقلوب يستكنها فرح بالغ‘ إلا أن ما طوته الضلوع حزن عميق برحيل زين الشباب بكري، الهاديء الوديع، الزين "العديل" الرزين ، مازال الحزن نلمحه على وجه المكلومة أم بكري، ولم نزل نستشف الحزن النبيل على وجه أبي نبيل ،ولم يزل المكلوم نبيل يتسربل بثوب الحداد حتى بعد مولد بكري الإبن الذي نسال الله أن يجعله كبكري العم.

اللهم يامن تؤجر على الرزايا المصائب أجرنا في مصيبتنا وتغمد فقيدنا بواسع رحمتك التي إحتفظت منها بتسع وتسعين جزءا وأبقيت جزءاً واحداً لعبادك ومخلوقاتك يتراحمون به فيما بينهم، واسكنه يا الله ومن إفتقدنا من أعزاء جناتك جنات النعيم.

Quote: بسم الله الرحمن الرحيم ((وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)) صدق الله العظيم أبناء فداسي بالمملكة العربية السعودية ينعون ابنهم أبا بكر مصطفى يوسف حاج إدريس ينقلك من قمة السعادة إلى منتهى الحزن خبر أليم .. فبعض الناس تعظم بفقدهم المصائب وتجدد برحيلهم المواجع .. تصم الآذان وتدمى المدامع .. تتثاقل الألفاظ وتتلعثم العبارات وتستعصي المراثي .. فيأتي البكاء مراً والحزن عاصفاً. ومضى أبوبكر ولم يلف ساعة الإفطار التي كان بينها وبين موعد لقاء ربه سوى دقائق معدودة... ولقد استوفت نفس بكري أجلها ورزقها ولم يعد في الإمكان تناول تلك التمرات التي كانت بيده التي أعطاها إياه صاحب البقالة الذي أصر على أبي بكر أن يفطر معه وقد أزف وقت الأذان، إلا أن إصرار أبي بكر على الإفطار مع أسرته مرده إلى القلق الذي سيصيبها إن هو تأخر عن الإفطار معها.. ولم يكن أبوبكر يدري أن بينه وبين الموت مسافة أكل تلك التمرات التي بيده. لم تمض دقائق وإذا بصاحب البقالة يرى سيارة أبي بكر تحيد عن الطريق وتنقلب وتعاود الانقلاب مرات ومرات .. لم تصدق عيناه ما رأت فانطلق بسرعة صوب السيارة ليجد صديقه الذي لم يكن بينه وبين لقائه سوى دقائق قليلة جثة هامدة والتمرات ملقيات بجانبه كخير شاهد على حسن الخاتمة ولتشهد وتشفع له عند مليك مقتدر يوم يقوم الناس لرب العالمين. إنها النهاية المحزنة المفرحة.. الحزن مصدره المصيبة التي حلت بأبي بكر وأهله وهو ما زال في ريعان الشباب وما أفجعه موت الشباب.. ومصدر الفرح حسن الختام الذي نحسبه والتمرات خير شاهد له، وقد لبى أبوبكر نداء ربه وهو صائم وفي ليلة الجمعة المباركة كأول ليلة من ليالي العشر الأواخر من الشهر المبارك وعند ساعة الإفطار المباركة التي يستجاب فيها الدعاء فالإفطار موعده الجنة بإذن الله تعالى . أدى صلاة الجنازة عليه خلق كثير في جامع كبير بمدينة بريده بعد صلاة الجمعة التي فيها ساعة مباركة ، وشيعه عدد كبير من الناس وهم صائمون وحملوا نعشه على الأكتاف لا بسيارة الإسعاف، وكان الجو جد لطيف ولم يرهق الصيام المشيعين. كل هذه الدلالات الطيبات خففت عنا من وقع الفاجعة وجعلت الكثيرين يسالون الله حسن خاتمة كهذه. ولقد مضيت يا أبا بكر إلى جوار ربك راضياً مرضيا، وهاهم أهلك جاءوا من كل حدب وصوب ليشيعوك إلى مثواك في دار البرزخ التي لك فيها إن شاء الله نعم المستقر ونعم القرار ، فنم هانيء العين تحفك رحمة رب وسعت كل شيء ويحرسك صوم شهر فضيل لا جزاء له إلا الجنة. وقد ابيضت أعيننا من الحزن وفي حلوقنا غصة وفي القلوب نار الفراق، إلا أن كل ذلك لم ينسينا الإنابة والرجوع والابتهال والتضرع لله العلي القدير أن يتقبلك قبولاً حسناً وأن يعوضك عن شبابك الغض جنة عرضها السماوات والأرض وأن ينزل على قلب والديك الطمأنينة والسكينة. اللهم بقضائك وقدرك راضين فاكتبنا عندك من المؤمنين الموحدين. لا يفوتني أن أحيي وأشكر جميع الإخوان الذين أتوا معزين ومشيعين وأخص بالشكر أفراد الجالية السودانية بمنطقة القصيم بمدن بريدة وعنيزة والرس والمذنب والبكيرية وكثر الله من أمثال الأخ الشهم عبد المنعم " ود لميض" وأسأل الله أن يجزي الجميع عنا كل خير وألا يريهم مكروه في عزيز لديهم. إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا أبا بكر لمحزونون. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

كلما عاد هيثم بعد انقطاع أثار كوامن الشجن
لو أنه يجيء بلا موسيقا أو متسللاً أو متخفيا مثل "كونراد" لكان الوقع أرفق وأهون. لكنه تعود بعد الغياب أن تصحبه الموسيقا واللحون، ومثلنا من تستبيح الأنغام ساحته فيسبح في عبابها سبحاً.. سبحاً:

" حملتُ قيثارةَ السلوانِ تصحَبْنُي*** عسى يُفرِّج بعضَ الكربةِ النغمُ
على طوافي بها لم تستكن ُحرَقيِ*** لا ينتهي العزف حتى يرجع الألم " ( م. الواثق)

يعود هيثم يحمل الدن والقيثارة ويسوق الشجو والأشجان، وذكريات مريرة من ذهاب مكسب وليس في الأفق بوادر عودة وقد ضجت القافلة بالرحيل.
قامتِ المنابرُ هنا وهناك تلملم الأطراف، وكأني بها تجمع النوى لإنبات جديد!!
يعود هيثم ، وغيابه كإغلاق متجر قديم عريق ، وكل الحوائج كانت تُقضَّى في دكان ود القاضي ودكان البشير فلن تقضى بعدئذ أبداً.
غاب مكسب وسارت المسارات إلى المجهول.. يعود هيثم فهل نشتم معه عبق المجهول أم أن المآل كحال الحوانيت القديمة المغلقة الأبواب؟! فكيف بالله تتبخر الغايات وتتصرمُ الآمالُ وكيف ُتقضَّى الأغراضُ!!

يعود هيثم وتعود حمى الفراق وخطى الثنائيات:
تجدني أتغني مع أبي بكر سالم بلفقيه:
"يا عيني لا تبكي الدمعه عودة حبيبك لي َربْعَهَ"
وأتذكر الديار الخاوية، أيام :
زمزم ونور الدين ( جاءا من دلوت وفي رحلتهما الأبدية كانا يراوحا داراً واحدة ظلت تحتضن سرهما الزمان الطويل، ولم تكن لهما صلة رحم قريبة مع أحد في البلدة – كما بدأ لي آنذاك- وقد جئت بأخرة لأعلم أنهما من ركابية وصادقاب دلوت فجذبها الدم والحنين لأهلهم بفداسي ، الدماء التي تجتذب الطيور المهاجرة من الأصقاع إلى الأصقاع ولا تعبي بحمى الرحيل وقد يهلكها الطريق.
وكان علي المرين ووالدته بت البقيت يحملان منزل الترحال ما بين العزّازي وفداسي وقد اجتذبهما حنين الدم دهراً من الدهور فسكنا حيث سكن نور الدين ووالدته زمزم. ثم خلت منهم الديار، وقد طواهم زمان التساب والمحل، وأغشيت شخوصهم عن أعين الناظرين كان لم يكن لهم أو للدار من وجود.
يعود هيثم وغداً يعود مكسب ولن ننسى ديار بت البقيت وزمزم.
وغداً تعود الحياة للديار المنسية والحوانيت القديمة، ويترجل المهاجرون، ويعود " السوق القديم" يضج بالحركة والحياة.

و"أنا ما غبت عن داري لحظة ولا الزمان البعيد كان حجاباً"
وأنتِ لم تأتِ من المجهول
أتملاك بفرح جنوني
يا سناء داري ". .......( محمد حسن نوفمبر الحزين 1988م ).

ولك التحية أخي هيثم، وتفطرون على بركة الله، وشكراً على كلماتك العذبة الرقيقة.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين،
وغداً نلتقي بإذن الله

أخوكم
محمد حسن خضر
الرياض
26/9/2007م

(عدل بواسطة محمد حسن خضر on 09-27-2007, 00:53 AM)
(عدل بواسطة محمد حسن خضر on 09-27-2007, 00:53 AM)