|
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل (Re: خالد الطيب أحمد)
|
سننقل الرواية كــاملة:
الفصل الأول من رواية : بر العجم
حينما عانقت السماء الأفق ، ثبتت عيناي تحدقان في غيوم غير مرئية . ربما كانت سنواتي الثلاث الاولى من طفولتي عند منقطع العمران ، و بين تلال الرمل هي التي صورت لي ما كنت أراه . لم يكن الأفق الضارب في فراغ لا نهائي وهو يسوق السحاب، يملأ العين ، بقدر ما كانت تشدني أسلاك الحدود الشائكة على ميل واحد من كوخنا ، كحدود الموت والحياة . وقد نشرت عليها غربان الأصيل ملاءة سوداء تخفق أطرافها عند معابثة الريح ، بالثقوب والتموجات . أصداء طفولة حائرة ، تلك التي أتذكر منها اليوم سلطانية الحليب محفوفة برغوة نيئة بين يدي طفل ، وصوت أمي من داخل الكــــوخ مستخفــــرا ً بالشكـــــر لـ " دمباي " الذي تقول أمي عنه كان معجبا بفصاحتي الراطنة ، من طفل لا يحكمه الوجود إلا بثلاث سنوات . غير أن مذاق الحليب الذي لا أتخيل طعمه اليوم ، كحلم مقطوع ، هو الذي آذن بانقطاعي عن سنتي الفطام ، ودلف بي إلى أخيلة بدائية لطفل فارق ثدي امه بأعجوبة . أفزعني الفناء خارج الكوخ ، أول مرة ، حين دلق رماله في أرض تناثرت فيها الأكواخ كنجوم في ليل هالك . في الأفق البعيد لم تكـــــن بلــدة " قرورة " بضفتيها عند شرك الحدود بين السودان واريتريا (قرورة السودانية ـ قرورة الأرترية) على شئ يخرج من طين الأرض ، أو مطر يسقط من السماء . كانت جرداء ، كفراغ فـــي هاويـــــة . فبـــين قامات شجـــــر " العلديب " القصير ونباتات الحلفاء ، كانت أكواخ الخشب البدائية هي كل ما يملكه أهل بلدتنا من مأوى . لذلك ما أعرفه أو أذكره اليوم من بين ثقوب الذاكرة يعجز عنه التصور . سنتان من الطفولة في كنف أم تزوجت من رجل آخر لا تكفي لإضاءة ذلك الزمن السحيق من أغوار طفولتي ، سوى ذلك اليوم الذي فزعتُ فيه من صوت المذياع في بيت أبي ، الأمر الذي أضحك أبناء عمي . وتعالى ضحكهم حين انطلقت مندفعاً لحلب شاة بمربط داخل منزل أبي ، فتلك الشاة أول ما عرفته من عالمي الذي خلفته بالبادية . ربما كانت مدينة (برعوت) بأبنيتها المتلاصقة ، وحاراتها الخشبية ، والوجوه المتطفلة ، حركت في نفسي تلك الأفعال . غير أن أبي ـ رحمه الله ـ كان فرحا ً ، فرحة ً لا توصف ، بابنه الوحيد الذي عاد من تخوم الوطن . فطالما سمع اشتباكات فصائل جبهة التحرير الأرترية على الحدود فيما عرف بمعركة " قرّ قر " التي دارت أحزانها بين ضفتي " قرورة " ، تلك الأيام ، كسباق لخيول في ميدان الرماد . تدفقت دماء الأخوة الأعداء دون أن تهرق محجمة من العدو. كسيول انحدرت في غير مصبها . لذلك لم تسعه الفرحة عندما جاء ذات ظهيرة من عمله ليراني في حجر جدتي " أم ادريس " قالت جدتي ـ يا (أبو علي) أمانتك في يدك ، وأنت عمي قبل أن تكون زوج بنتي ... والولد يتربى عندك زي عندنا مافي فرق . ـ الخير فيما اختاره الله يا أم ادريس .
كانت تلك الكلمات القليلة بين أبي وجدتي كافية لتشعل شموعا في قلب أمي الثانية ، التي طالما تحرقت شوقا في الولد . بعد أن دفع أبي الذي أمامه ووراءه من أجلها،هي التي ملأت أيامه ولياليه بسعادة نشر أريجها فضاء الحي ، حتى قال عمدة حينا واصفا ما كان بينها وبين أبي من حسن العشرة :
ـ " دا زواج آخرة مش زواج الدنيا " .
هاهي الآن تشعر أن واجبها يتجدد في صورة أخرى وأمنيتها تتحقق . فأبي الذي طالما تمنت أن تهديه ولدا يملأ عليهما الوجود . لا يهم الآن ، المهم أن يكون ولده هو فحسب ، فتبددت غيوم حسرتها من انقطاع الولد. كان أبي ، الذي هو أيضا عم جدتي وابن عم أبيها، بنسب آخر، يحظى بتقدير كبير عند أخوالي ، لما يحفظه من الشعر الذي يتغنى ببطولاتهم ، وتفاصيل أيام حروبهم التي خلدتها الأشعار. مع حفظ أنسابهم وبيوتاتهم المعروفة في أقصى الشرق . فهم أيضا أخواله. وكثيرا ما طربوا لذلك التدفق الذي ينسخ بعضه بعضا من الحكايا المختلطة بالأشعار في ليال مطروبة ، عندما كان يأتي إليهم في عطلاته السنوية . البادية كانت تجدد في أبي انثيالا مسحورا ً بالرغبة في إعادة الحكايا . فمسرح الحكايا عندما يكون شاخصا يغري بالمزيد . فغير بعيد من مجالسهم كانت (شنـْـقـَيْرَه) و( تــَـقـَبْ) و( قـَحَتْ ) وغيرها من الأماكن التي شهدت معاركهم وخلدت أشعارهم . هذا التقدير كان كافيا لقبول جدتي بالعيش في كنف أبي . لم أكن أعرف الكثير عن أخوالي ، ولطالما روت لي أمي الثانية كلاما دافئا ً ، ورسمت لي عنهم ما علقـني بهم كثيرا من وراء الغيب . فهم أصحاب صلاح ، وأمانة وبأس معجون بالنجدة والكرم . حتى أمي ، روت لي عنها الكثير. عندما حملت بي . ولكونها أمية لا تقرأ أو تكتب ، فقد كانت تعد أيام نفاسها وتخطها على جدار الكوخ خوفا من أن يضيع منها يوم تعجز عن قضائه في صلاتها . بحيث تخلّط عليّ كل ذلك مع ما ترويه ليلا عن السلطان (حسن أبو الريحان) وحكاياته مع القطط في " سواكن " التي تتحول في الليل إلى بشر. ومجانينها الذين لا يؤذون أحدا باتفاق أهل سواكن ، إلا إذا تعرض لهم من يؤذيهم حتى عندما كنت أذهب معها لزيارة مقام " تاج السر أبو زينب " في أيام الجـُمَعْ من كل شهر، تنساح في أحلامي ، ليلة الزيارة ، عوالم مجهولة : قطط بأقدام بشرية ، وبشر يمشون بحوافر ، وحكايات فرج الله الذي يقطع البحر ماشيا ، مرددا عبارته الشهيرة بين أهل سواكن : " الله يعرف فرج الله ، وفرج الله يعرف الله " لم يكن يتعرض له أحد من أهل المدينة بأذى ، وتقضى حوائجه دون أن ينطق بها . ذات يوم قذفه طفل ببصلة في السوق . توقف كل من كان ماشيا ، حبس الناس أنفاسهم . جرى فرج الله من مكانه عدوا نحو الطفل ملوِّحا ً بيده من بعيد ، ثم وقف أمامه على بعد خطوات . رفع يده بسرعة وحركها في الهواء ببطء شديد نحو الطفل ليلمسه لمسة حانية . كان الناس يعرفون أن مجانين سواكن لا يؤذون أحدا . بعد ذلك نسج أهل سواكن حكاياتهم حول ضريح فرج الله ، الذي يرقد اليوم شاهدا تحت أقدام البحر، على صخرات تنقطع عندها أنفاس الموج ، و صفير الريح . البعض يقول أنه قطع البحر راجلا إلى الحجاز ، وآخرون يزعمون أن فرج الله موجود، ولا يظهر إلا في ساعات الغروب ، حين تتكسر أِشعة الشمس الهالكة على صفحة البحر . تلك الساعة التي تخرج فيها جنيات البحر إلى المكان الذي تحدرن منه ذات ليلة قديمة ، شهدت الجنس بين الجن والأنس ، على ساحل سواكن، أيام سيدنا سليمان ، يوم وطئت بر سواكن سفن من اليمن حبس فيها الجن . ومنذ مجيئهم طار عنها اسمها الأول " سواجن " . أسرار فرج الله التي ملأت علـّي منامي ، كانت هي أيضا سماء خيال لطفل يستظل بها منذ بداية صعوده على " البورمل " في سوق " ديم سواكن " ، مستغرقا في خياله ، حتى يستيقظ منها تحت مظلة بوابة مدينة سواكن ذات الطابع المعماري العتيق ، لمدن البحر الأحمر ، بفسيفساء باهتة ، أكلت منها الأيام ما أبقاه التاريخ . وعلى خطوات منها يرقد الباشا التركي (الشناوي) بين جدران قصره المهيب ، مرددا ً أصداء ليال تنوعت فيها أسرار الأنس بعدد أيام السنة . لذلك لا عجب عندما ردد الناس مع فنان سواكن " ادريس الأمير" :
" الشناوي قصرو العظيم يبقى عظمة للناظرين في سواكن " .
عظمة الشناوي المتحدرة من عروق الترك ، تنفست فيها مباهاة الملك ، بجنون الخلد . وغطست أسرارها تحت حجارة فارق بعضها بعضا كفلول مهزومة . أحيانا شعرت بأن الشناوي قبر تاريخه خلف الغرف التي سكتت حكاياتها دون أن تستهلكها . كان الناس في سواكن يتكلمون عن القصر ، والسور ، وسجادات العجم ، والمشربيات الطالعة كخوافي نورس أبيض كبير دون أن تخدش ألسنتهم أسرار الغرف ، وبهو الحريم وما يجري ليلا في حجرات بعدد أيام السنة . كان قلب المدينة المشدود بضريح تاج السر أبو زينب " ساكن سواكن " محفولا بزورة الغرباء من مريدي البركة في مطاف غمر فناء البنايات المجاورة للضريح وأزقته الملغومة بالمريدين ، كجراد منتشر في نهارات الجمع . الأناشيد ترتم هسيسها بتموجات تخطف معاني لثغتها عبارات راطنة خلطت الشعر بالبكاء ، وورثت في الحاضرين اهتزازات روحية من أثر "البرّاق "(1). ربما كانت زورة الجمعة في سواكن تراويح لطفل سكنت أحزانه مغارات مجهولة ، تنفست أصداؤها مع الهمهمات التي كانت تتـقطع في نفسه حزنا على حزن . لقد كانت أناشيد " البرّاق " أشبه بأغنيات موت ريفي تستوحي منه النفس نشيجها الخاص . كان ضريح تاج السر الممدد على عتبات شكلتها مشربيات الخشب المنحوت والمغطـّس تحت ملاءات خضراء سكنت متونها خطوط كوفية مطرزة ، يوحي لي دائما برهبة مأتاها غامض يوشك أن يتكشف فيها السر، دون أن تشفه خيالات طفل ترهقه الأسرار . كان إحساسي براقد الضريح مفارقا لمظاهر البكاء والدعاء والتعاويذ ، وكشف الحال من جملة المريدين . لم يكن يهزني شيء تنفعل له نفسي برغبة في البكاء ، أو تقبيل العتبات من الخشب والرمل الذي تكورت ُصرَره بأطراف ثياب النساء كفقاعات ملونة . ربما كان السبب بذلك الشعور صلة خاصة بيني وراقد الضريح ، علاقة ما مبهمة كشفتُ سرها عندما سمعت فخر أخوالي بها ، يوم أن جاء راقد الضريح إلى باديتنا وتزوج جدتي التي لم تحفل به في زمن غابر ، لبداوة استوحشت زواجها خارج إهاب القبيلة . بيد أن عزاءها ، بعد طلاقها منه، كان في توأميها المقبورين بمنقطع من العمران يحفله أهل البادية ، ممن أناخت نياقهم عن بلوغ راقد الضريح بسواكن . لهذا كنت أغادر الضريح معطوفا في ثوب أمي دون أن أحفل بضراعات خلط فيها الجهل نيات الدين ، وعلق فيها الناس أمنيات على القدر بستار لا تزيحه ضراعات تقطعت أصداؤها، دون أن ترجع بالمأمول .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 10:37 AM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 10:38 AM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 10:58 AM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 11:47 AM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | tmbis | 10-01-07, 11:54 AM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 12:03 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | ombadda | 10-01-07, 12:05 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 12:11 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 12:18 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 12:21 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 12:27 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | فيصل نوبي | 10-01-07, 12:34 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 12:39 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 12:44 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 12:52 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 12:59 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 01:01 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 01:07 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 01:13 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 01:19 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 01:42 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 01:57 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 02:03 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 02:11 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 02:17 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 02:25 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 02:39 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 03:13 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 03:40 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 03:51 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 04:00 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 05:25 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-01-07, 07:47 PM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-02-07, 07:47 AM |
Re: عــاجل: 1000 SMS لزميلنا الأديب محمد جميل | خالد الطيب أحمد | 10-02-07, 10:14 AM |
|
|
|