|
خرطوم بالليل (الريكمندوما الغطسّـت حجر التومه)- مصطفي بشـار
|
الخرطوم بعد العاشرة
سيناريو متخم بأحداث غريبة وشاذّة ولا يتخذ وضعاً مُرَتَّباً أو منطقياً في ترتيب أحداثه. البداية كاميرا في وضع أفقي تمسح شارع القصر من بداية شارع "بيويو كوان"، وحتي بوابة القصر حيث المنحوتة البارزة التي توضح رجلاً وإمرأة، يحملان مناجل مسجية على أعناق السنابل. أرتال من الناس والمارَّة في ذاك المساء يهرولون في اتجاهات مختلفة، مبتعدون عن مركز السوق العربي، يظهر مارة متطلعون يحملون كتباً وحقائباً معلقة على أكتافهم، منهكون ويحاولون أن يكونوا في حُلَّة رسمية، قميصاً وبنطلوناً وأحذية مهترئة يعوزها مسح الورنيش. موكب من المارة، كل شخص في اتجاه المواصلات التي ستأخذه إلى جوار سكنه، لم نقل منزله لأنَّ منزل كلمة أشمل وتحوي أسرّةً دافئة ومياهاً نقية، وجوّاً صحياً، ولا مظاهر لوجود براغيث أو بعوض، وإضاءة موزونة وغذاء متكاملاً وصحياً. الظلمة تعم المكان إضاءات تم تركيبها حديثاً، تحاول أن تبث الضوء بحكم جدتها إلى أبعد مدى بلون أصفر ساطع، تحوّلت وجوه المارّة إلى "مانيكان" متجولة، القيمة تصر أن تكون موجودة في الشوارع الجانبية، وأعلى أدوار المباني والعمارات غير المكتملة الإنشاء، وحركة مريبة تدور داخل أروقتها، وداخل مجاري الصرف الصحي، تستضيف سكاناً جدداً كل يوم، نزاعات مختلفة ومتفاوتة في شدتها بين صبية وشبان أكبر سناً منهم. يتنازعون حول أنبوب "سلسيون"، تتدلّى من خصورهم، أسمال بالية، وعيون شاخصة تلحظها حتى في دهمة ذاك الليل، وصيحات، ومراهقة تحمل طفلاً حديث الولادة، تسكن ذلك النفق والده غير معروف، الهيمنة للأقوى في هذا السباق المظلم والقاتم، الخرطوم السفلى، العالم السفلي موجود في كل مدينة وعاصمة في العالم. طواحين هواء ضخمة تجذب آلاف المارة، والناس إلى جوفها، بمختلف ألوانهم ولهجاتهم وأجناسهم لا فيصل بينهم لا شيء يجمع بينهم إلا العوز هو اشتراط المرور عبر هذه الطاحونة. في الليل عادة ما تهدأ الخواطر، وتحن الروح إلى شياطينها، تلهو معهم، تتبادل معهم كل ما يمكن أن تمنعه الإضاءة، بات معروفاً في أي اتجاه تمضي أشياء الناس العامة منهم والمتنفذون. أشباح متباعدة هنا وهناك، أشخاص واقفون يتربصون بشئ ما، أم هي حالة الدوار التي تعتريهم؟ في النهار بوصف الناس كلهم بأنهم جيدون، وأخلاقيون ويتعاظم إحساسهم بالناس والدين، هم يكادون أن يكونوا موسيقى تجري في جداول تلاصق المباني الفارهة بعيدة عن المياه الآسنة، والمجاري التي يسكن فيها أنصاف مشوهين ومعوزين ومدمني "السلسيون". نساء يتضاحكن في ثياب وغير ثياب، وفي بنطلونات طويلة الأرجل والأجل من قماش "الجينز"، وبلوزات وأقمصة زاهية، ينمو هذا النوع من النسوة جوار "الأستوب" وعلامات المرور، تتطاول الشعور، وتتقافز الأثداء تطل من وراء زجاج عربات فارهة، وضحكات تم حبك رنينها بمهارة. تبقَّى القليل من رواد "سينما كوليزيوم" من عَبَدة الطرقات، يتناومون حول الحدائق من الخارج، ينتظرون خروج الروّاد. الخرطوم عاصمة إفريقية مثل "جوهانسبيرج"، الناس لهم أجواء خاصة، خصوصاً المتنفذين هم في النهار جنس خلاق وطاهر، وفي الليل جنس يتحرَّى مواطن الانحلال، والتباري سمة بارزة في إقامة الطقوس واستطالة أطوارها وأدوارها. أحضان وهياج ونغم وظلمة لا شيء يقف أمام دوافع الناس والمارة إلا نقصان ما تمدهم به جيوبهم من نقود، النقود تصنع الدفء بالأجساد والرؤوس المغضنة بالتعب. الشوارع تأتي من خلفها آخر ما تبقى من حلقات الرهان، ومجموعات النصب شارع الحوادث جوار مستشفى الخرطوم، شارع ممتلئ بقامات مختلفة وثياب متعددة، وعربات وسيارات وأناس وإسعاف، ونساء جميلات، ورجال متخمون في حالة فحص مستديم، هاجس المرض يلازم المصابون بالتخمة ونوع من الـ"Human comfort". جانب آخر من هذا الشارع، أناس مُعَمَّمون يدفعون أمامهم نقالة عليها جسد مسجّى خارج من المستشفى لمقابلة الأخصائي، الذي طلب استضافتهم بالمستشفى، يتقدم أحدهم منك مقدماً لك روشتات مطبَّقة ومهترئة الأطراف، لفرط ما تسوَّل بها. شارع له رائحة خاصة وزوَّار خاصُّون به، من الأرياف في عنابر الولادة والأطفال، وحضريون في عنبر الصدر والقلب، التخمة ظاهرة حتى في المرض. المبنى الخاص بالمستشفى متسع وعريض ومضاء بأنوار باهرة، وعليه أسوار عالية ومحروس بكثافة، والتخطي فيه ممنوع لبعض البوابات، والرحمة غائبة، الرحمة في السماء فقط! الرحمة غائبة! يتواصل استعراض غير خفي للملابس الزاهية بين مرافقات المرضى والمرافقين في العنابر. وفي فناء المستشفى، فهم الشخص السوداني عادة أن السوق قدح النبي. يمكن أن تبدأ خطوبة فتاة من المستشفى، وتنتهي بمنزلها، المستشفى أحد الأسواق التي تعقد فيها صفقات مختلفة.
|
|
|
|
|
|
|
|
|