إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !!

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-24-2024, 02:37 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة ناذر محمد الخليفة(ناذر محمد الخليفة)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-18-2007, 06:43 PM

سيف الدين مصطفى كرار

تاريخ التسجيل: 01-26-2007
مجموع المشاركات: 351

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: ناذر محمد الخليفة)

    طبعا يعض النساء مش سهل,الم يقل اللةكيدهن عظيم.

    يقال ايضا ان امراة قامت بسرقة المستند الحاوى على بروتوكولات ال صهيون

    اذا كانت هذة البروتوكولات فعلا لليهود!!!!

    سوف اقوم بعرض هذة البروتوكولات مع راى الخاص على سودانبز اون لاين
    انشاء اللة.

                  

02-17-2007, 05:30 PM

ناذر محمد الخليفة
<aناذر محمد الخليفة
تاريخ التسجيل: 01-28-2005
مجموع المشاركات: 29251

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: ناذر محمد الخليفة)

    لننتقل الأن إلى قصة أخرى من قصص الجاسوسية التي أبطالها من النساء أو أستغلت فيها النساء من اجل خدمة العدو الصهيوني بواسطة الجنس ... وفي حلقة واحدة سنحكي لكم قصة الجاسوسة المصرية هبة سليم او عبلة كامل وكنيتها (ملكة الجاسوسية المتوجة) ..

    منذ أن كتب الأستاذ صالح مرسي قصة "عبلة كامل" في فيلم "الصعود الى الهاوية" وصورة هذه الخائنة مرتسمة بخيالنا. . وحفظنا تفاصيل تجنيدها وخيانتها حتى سقطت في قبضة المخابرات المصرية هي وخطيبها.

    والجديد هنا في قصة عبلة كامل. . أو "هبة سليم" الحقيقية. . معلومات جديدة تماماً أعلن عنها مؤخراً .. وكانت خافية حتى بضع سنوات خلت . . كشفت النقاب عن شريكها الضابط العسكري المقدم فاروق الفقي.

    إنها قصة مثيرة وعجيبة. . قصة أول جاسوسة عربية استُغلت أديولوجياً. . وعملت لصالح الموساد ليس لأجل المال أو الجاه أو أي شيء سوى الوهم. . الوهم فقط. .

    فكانت بذلك اول حالة شاذة لم تماثلها حالة أخرى من قبل . . أو بعد. . !!

    حقائق ثابتة
    لم تدخر المخابرات الاسرائيلية وسيلة عند تجنيدها للجواسيس إلا وجربتها. وأيضاً – لم تعتمد على فئة معينة من الخونة . . بل جندت كل من صادفها منهم واستسهل بيع الوطن بثمن بخس وبأموال .. حرام، وأشهر هؤلاء على الإطلاق – هبة عبد الرحمن سليم عامر – وخطيبها المقدم فاروق عبدالحميد الفقي.

    إنها إحدى أشرس المعارك بين المخابرات الحربية المصرية والمخابرات الإسرائيلية. معركة أديرت بذكاء شديد وبسرية مطلقة، انتصرت فيها المخابرات المصرية في النهاية. وأفقدت العدو توازنه، وبرهنت على يقظة هؤلاء الأبطال الذين يحاربون في الخفاء من اجل الحفاظ على أمن الوطن وسلامته.

    لقد بكت جولدا مائير حزناً على مصير هبة التي وصفتها بأنها "قدمت لإسرائيل أكثر مما قدم زعماء إسرائيل" وعندما جاء هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي ليرجو السادات تخفيف الحكم عليها. . كانت هبة تقبع في زنزانة انفرادية لا تعلم أن نهايتها قد حانت بزيارة الوزير الامريكي.

    لقد تنبه السادات فجأة الى أنها قد تصبح عقبة كبيرة في طريق السلام، فأمر بإعدامها فوراً، ليسدل الستار على قصة الجاسوسة التي باعت مصر ليس من أجل المال أو الجنس أو العقيدة. . إنما لأج الوهم الذي سيطر على عقلها وصور لها بأن إسرائيل دولة عظمى لن يقهرها العرب. وجيشها من المستحيل زحزحته عن شبر واحد من سيناء، وذلك لأن العرب أمة متكاسلة أدمنت الذل والفشل، فتفرقت صفوفهم ووهنت قوتهم . .الى الأبد.

                  

02-17-2007, 07:27 PM

شهاب الفاتح عثمان
<aشهاب الفاتح عثمان
تاريخ التسجيل: 08-28-2006
مجموع المشاركات: 11937

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: ناذر محمد الخليفة)

    شكرا ناذر على البوست الكثيف التشويق
    ارسلتنا دنيوات من الغموض و الترقب


    وواصل ياملك
                  

02-18-2007, 02:45 PM

ناذر محمد الخليفة
<aناذر محمد الخليفة
تاريخ التسجيل: 01-28-2005
مجموع المشاركات: 29251

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: شهاب الفاتح عثمان)

    دكتور شهاب ..

    شرفت البورد والله .. وينك غايب من زمن .؟!


    واصل المتابعة عشان في قصة جديدة ..
                  

02-19-2007, 06:27 AM

ناذر محمد الخليفة
<aناذر محمد الخليفة
تاريخ التسجيل: 01-28-2005
مجموع المشاركات: 29251

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: ناذر محمد الخليفة)

    سيف كرار ...

    Quote: سوف اقوم بعرض هذة البروتوكولات مع راى الخاص على سودانبز اون لاين


    مرحب بيك تاني ومنتظرين البروتوكولات ..
                  

02-21-2007, 01:38 PM

ناذر محمد الخليفة
<aناذر محمد الخليفة
تاريخ التسجيل: 01-28-2005
مجموع المشاركات: 29251

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: ناذر محمد الخليفة)

    هبة سليم . .ملكة الجاسوسية المتوجة. . !!


    منذ أن كتب الأستاذ صالح مرسي قصة "عبلة كامل" في فيلم "الصعود الى الهاوية" وصورة هذه الخائنة مرتسمة بخيالنا. . وحفظنا تفاصيل تجنيدها وخيانتها حتى سقطت في قبضة المخابرات المصرية هي وخطيبها.

    والجديد هنا في قصة عبلة كامل. . أو "هبة سليم" الحقيقية. . معلومات جديدة تماماً أعلن عنها مؤخراً .. وكانت خافية حتى بضع سنوات خلت . . كشفت النقاب عن شريكها الضابط العسكري المقدم فاروق الفقي.

    إنها قصة مثيرة وعجيبة. . قصة أول جاسوسة عربية استُغلت أديولوجياً. . وعملت لصالح الموساد ليس لأجل المال أو الجاه أو أي شيء سوى الوهم. . الوهم فقط. .

    فكانت بذلك اول حالة شاذة لم تماثلها حالة أخرى من قبل . . أو بعد. . !!

    حقائق ثابتة

    لم تدخر المخابرات الاسرائيلية وسيلة عند تجنيدها للجواسيس إلا وجربتها. وأيضاً – لم تعتمد على فئة معينة من الخونة . . بل جندت كل من صادفها منهم واستسهل بيع الوطن بثمن بخس وبأموال .. حرام، وأشهر هؤلاء على الإطلاق – هبة عبد الرحمن سليم عامر – وخطيبها المقدم فاروق عبدالحميد الفقي.

    إنها إحدى أشرس المعارك بين المخابرات الحربية المصرية والمخابرات الإسرائيلية. معركة أديرت بذكاء شديد وبسرية مطلقة، انتصرت فيها المخابرات المصرية في النهاية. وأفقدت العدو توازنه، وبرهنت على يقظة هؤلاء الأبطال الذين يحاربون في الخفاء من اجل الحفاظ على أمن الوطن وسلامته.

    لقد بكت جولدا مائير حزناً على مصير هبة التي وصفتها بأنها "قدمت لإسرائيل أكثر مما قدم زعماء إسرائيل" وعندما جاء هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي ليرجو السادات تخفيف الحكم عليها. . كانت هبة تقبع في زنزانة انفرادية لا تعلم أن نهايتها قد حانت بزيارة الوزير الامريكي.

    لقد تنبه السادات فجأة الى أنها قد تصبح عقبة كبيرة في طريق السلام، فأمر بإعدامها فوراً، ليسدل الستار على قصة الجاسوسة التي باعت مصر ليس من أجل المال أو الجنس أو العقيدة. . إنما لأج الوهم الذي سيطر على عقلها وصور لها بأن إسرائيل دولة عظمى لن يقهرها العرب. وجيشها من المستحيل زحزحته عن شبر واحد من سيناء، وذلك لأن العرب أمة متكاسلة أدمنت الذل والفشل، فتفرقت صفوفهم ووهنت قوتهم . .الى الأبد.

    آمنت هبة بكل هذه الخرافات، ولم يستطع والدها – وكيل الوزارة بالتربية والتعليم – أن يمحو أوهامها أو يصحح لها خطأ هذه المفاهيم.

    ولأنها تعيش في حي المهندسين الراقي وتحمل كارنيه عضوية في نادي "الجزيرة" – أشهر نوادي القاهرة – فقد اندمجت في وسط شبابي لا تثقل عقله سوى أحاديث الموضة والمغامرات، وبرغم هزيمة 1967 الفادحة والمؤلمة للجميع. . إلا أن هبة انخرطت في "جروب" من شلة أولاد الذوات تسعى خلف أخبار الهيبز، وملابس الكاوبوي وأغاني ألفيس بريسلي.

    وعندما حصلت على الثانوية العامة ألحت على والدها للسفر الى باريس لإكمال تعليمها الجامعي، فالغالبية العظمى من شباب النادي أبناء الهاي لايف، لا يدخلون الجامعات المصرية ويفضلون جامعات أوروبا المتحضرة .

    وأمام ضغوط الفتاة الجميلة وحبات لؤلؤ مترقرقة سقطت على خديها، وافق الأب وهو يلعن هذا الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه ولا بد من مسايرة عاداته وتقاليده.

    وفي باريس لم تنبهر الفتاة كثيراً، فالحرية المطلقة التي اعتادتها في مصر كانت مقدمة ممتازة للحياة والتحرر في عاصمة النور.

    ولأنها درست الفرنسية منذ طفولتها فقد كان من السهل عليها أيضاً أن تتأقلم بسرعة مع هذا الخليط العجيب من البشر. ففي الجامعة كانت تختلف كل الصور عما ترسب بمخيلتها. . إنها الحرية بمعناها الحقيقي، الحرية في القول والتعبير . . وفي اختيار المواد الدراسية. . بل وفي مواعيد الامتحان أيضاً، فضلاً عن حرية العلاقة بين الجنسين التي عادة لا تقتصر على الحياة الجامعية فحسب. . بل تمتد خارجها في شمولية ممتزجة باندفاع الشباب والاحتفاء بالحياة.

    جمعتها مدرجات الجامعة بفتاة يهودية من أصول بولندية دعتها ذات يوم لسهرة بمنزلها، وهناك التقت بلفيف من الشباب اليهود الذي تعجب لكونها مصرية جريئة لا تلتفت الى الخلف، وتنطلق في شراهة تمتص رحيق الحرية. . ولا تهتم بحالة الحرب التي تخيم على بلدها، وتهيمن على الحياة بها.

    لقد أعلنت صراحة في شقة البولندية أنها تكره الحرب، وتتمنى لو أن السلام عم المنطقة. وفي زيارة أخرى أطلعتها زميلتها على فيلم يصور الحياة الاجتماعية في إسرائيل، وأسلوب الحياة في "الكيبوتز" وأخذت تصف لها كيف أنهم ليسوا وحوشاً آدمية كما يصورهم الإعلام العربي، بل هم أناس على درجة عالية من التحضر والديموقراطية.

    وعلى مدار لقاءات طويلة مع الشباب اليهودي والامتزاج بهم بدعوى الحرية التي تشمل الفكر والسلوك. . استطاعت هبة أن تستخلص عدة نتائج تشكلت لديها كحقائق ثابتة لا تقبل السخرية. أهم هذه النتائج أن إسرائيل قوية جداً وأقوى من كل العرب. وأن أمريكا لن تسمح بهزيمة إسرائيل في يوم من الأيام بالسلاح الشرقي.. ففي ذلك هزيمة لها.

    آمنت هبة أيضاً بأن العرب يتكلمون أكثر مما يعملون. وقادتها هذه النتائج الى حقد دفين على العرب الذين لا يريدون استغلال فرصة وجود إسرائيل بينهم ليتعلموا كيفية اختزال الشعارات الى فعل حقيقي. وأول ما يبدأون به نبذ نظم الحكم التي تقوم على ديموقراطية كاذبة وعبادة للحاكم.

    وثقت هبة أيضاً في أحاديث ضابط الموساد الذي التقت به في شقة صديقتها. . وأوهمها باستحالة أن ينتصر العرب على إسرائيل وهم على خلاف دائم وتمزق خطير، في حين تلقى إسرائيل الدعم اللازم في جميع المجالات من أوروبا وأمريكا.

    هكذا تجمعت لديها رؤية أيديولوجية باهتة، تشكلت بمقتضاها اعتقاداتها الخاطئة، التي قذفت بها الى الهاوية.

    الشك المجنون
    كانت هذه الأفكار والمعتقدات التي اقتنعت بها الفتاة سبباً رئيسياً لتجنيدها للعمل لصالح الموساد .. دون إغراءات مادية أو عاطفية أثرت فيها، مع ثقة أكيدة في قدرة إسرائيل على حماية "أصدقائها" وإنقاذهم من أي خطر يتعرضون له في أي مكان في العالم.

    هكذا عاشت الفتاة أحلام الوهم والبطولة، وأرادت أن تقدم خدماتها لإسرائيل طواعية ولكن.. كيف؟ الحياة في أوروبا أنستها هواء الوطن. .وأغاني عبد الحليم حافظ الوطنية. .وبرج القاهرة الذي بناه عبد الناصر من أموال المخابرات الأمريكية التي سخرتها لاغتياله.

    فقط تذكرت فجأة المقدم فاروق الفقي الذي كان يطاردها في نادي الجزيرة، ولا يكف عن تحين الفرصة للانفراد بها. .وإظهار إعجابه الشديد ورغبته الملحة في الارتباط بها. لقد ملت كثيراً مطارداته لها من قبل في النادي وخارج النادي، وكادت يوماً ما أن تنفجر فيه غيظاً في التليفون. . وذلك عندما تلاحقت أنفاسه اضطراباً وهو يرجوها أن تحس به. مئات المرات قال لها: "أعبدك .. أحبك .. أهواك يا صغيرتي". ولكنها كانت قاسية عنيفة في صده.

    تذكرت هبة هذا الضابط الولهان، وتذكرت وظيفته الهامة في مكان حساس في القوات المسلحة المصرية، وعندما أخبرت ضابط الموساد عنه. .كاد أن يطير بها فرحاً، ورسم لها خطة اصطياده.

    وفي أول أجازة لها بمصر. . كانت مهمتها الأساسية تنحصر في تجنيده.. وبأي ثمن، وكان الثمن خطبتها له. وفرح الضابط العاشق بعروسه الرائعة التي فاز بها أخيراً، وبدأت تدريجياً تسأله عن بعض المعلومات والأسرار الحربية. . وبالذات مواقع الصواريخ الجديدة التي وصلت من روسيا. . فكان يتباهى أمامها بأهميته ويتكلم في أدق الأسرار العسكرية، ويجيء بها بالخرائط زيادة في شرح التفاصيل.

    أرسلت هبة سليم على الفور بعدة خطابات الى باريس بما لديها من معلومات ولما تبينت إسرائيل خطورة وصحة ما تبلغه هذه الفتاة لهم.. اهتموا بها اهتماماً فوق الوصف. وبدأوا في توجيهها الى الأهم في تسليح ومواقع القوات المسلحة. . وبالذات قواعد الصواريخ والخطط المستقبلية لإقامتها، والمواقع التبادلية المقترحة.

    وسافرت هبة الى باريس مرة ثانية تحمل بحقيبتها عدة صفحات. . دونت بها معلومات غاية في السرية والأهمية للدرجة التي حيرت المخابرات الاسرائيلية. فماذا سيقدمون مكافأة للفتاة الصديقة؟

    سؤال كانت إجابته عشرة آلاف فرنك فرنسي حملها ضابط الموساد الى الفتاة .. مع وعد بمبالغ أكبر وهدايا ثمينة وحياة رغدة في باريس. رفضت هبة النقود بشدة وقبلت فقط السفر الى القاهرة على نفقة الموساد بعد ثلاثة أشهر من إقامتها بباريس. كانت الوعود الراقة تنتظرها في حالة ما إذا جندت خطيبها ليمدهم بالأسرار العسكرية التي تمكنهم من اكتشاف نوايا المصريين تجاههم.

    لم يكن المقدم فاروق الفقي بحاجة الى التفكير في التراجع، إذ أن الحبيبة الرائعة هبة كانت تعشش بقلبه وتستحوذ على عقله.. ولم يعد يملك عقلاً ليفكر، بل يملك طاعة عمياء سخرها لخدمة إرادة حبيبته. وعندما أخذها في سيارته الفيات 124 الى صحراء الهرم.. كان خجولاً لفرط جرأتها معه، وأدعت بين ذراعيه أنها لم تصادف رجلاً قبله أبداً. وأبدت رغبتها في قضاء يوم كامل معه في شقته. ولم يصدق أذنيه. فهو قد ألح عليها كثيراً من قبل لكنها كانت ترفض بشدة. الآن تعرض عليه ذلك بحجة سفرها، وفي شقته بالدقي تركت لعابه يسيل، وجعلته يلهث ضعفاً وتذللاً..

    ولما ضمها الى صدره في نهم ورغبة واقتربت شفتاه منها.. صدته في تمنع كاذب. . فاندفع اليها بشوق أكثر، ولملم جرأته كلها وأطبق على شفتيها يروي ظمأ ملهوفاً تلسعه موجات من صهد أنوثتها. فأذاقته قبلة طويلة غمست بلذائذ من النشوة، وحمم من الرغبات، فطار عقله وبدا كطفل نشبث بأمه في لحظة الجوع، لكنها.. هيهات أن تمنحه كل ما يريد. فقد حجبت عنه رعشة الوطر وأحكمت قيدها حول رقبته فمشى يتبعها أينما سارت. . وسقط ضابط الجيش المصري في بئر الشهوة ووقّع وثيقة خيانته عارياً على صدرها، ليصير في النهاية عميلاً للموساد تمكن من تسريب وثائق وخرائط عسكرية.. موضحاً عليها منصات الصواريخ "سام 6" المضادة للطائرات. . التي كانت القوات المسلحة تسعى ليلى نهار لنصبها لحماية مصر من غارات العمق الاسرائيلية.

    لقد تلاحظ للقيادة العامة للقوات المسلحة ولجهازي المخابرات العامة والحربية، أن مواقع الصواريخ الجديد تدمر أولاً بأول بواسطة الطيران الإسرائيلي. حتى قبل أن يجف الأسمنت المسلح بها، وحودث خسائر جسيمة في الأرواح، وتعطيل في تقدم العمل وإنجاز الخطة التي وضعت لإقامة حائط الصواريخ المضادة للطائرات.

    تزامنت الأحداث مع وصول معلومات لرجال المخابرات المصرية. . بوجود عميل "عسكري" قام بتسريب معلومات سرية جداً الى إسرائيل. وبدأ شك مجنون في كل شخص ذي أهمية في القوات المسلحة، وفي مثل هذه الحالات لا يستثنى أحد بالمرة بدءاً من وزير الدفاع.

    يقول السفير عيسى سراج الدين سفير مصر في كوبنهاجي، ووكيل وزارة الخارجية بعد ذلك:

    "اتسعت دائرة الرقابة التليفزيونية والبريدية لتشمل دولاً كثيرة أخرى، مع رفع نسبة المراجعة والرقابة الى مائة في المائة من الخطابات وغيرها، كل ذلك لمحاولة كشف الكليفية التي تصل بها هذه المعلومات الى الخارج. كما بدأت رقابة قوية وصارمة على حياة وتصرفات كل من تتداول أيديهم هذه المعلومات من القادة، وكانت رقابة لصيقة وكاملة. وقد تبينت طهارتهم ونقاءهم.

    ثم أدخل موظفو مكاتبهم في دائرة الرقابة. . ومساعدوهم ومديرو مكاتبهم .. وكل من يحيط بهم مهما صغرت أو كبرت رتبته".

    وفي تلك الأثناء كانت هبة سليم تعيش حياتها بالطول وبالعرض في باريس. وعرفت الخمر والتدخين وعاشت الحياة الاوروبية بكل تفاصيلها. وكانت تشعر في قرارة نفسها بأنها خلقت لتعيش في أوروبا، وتكره مجرد مرور خاطرة سريعة تذكرها بمصريتها.

    لقد نزفت عروبتها نزفاً من شرايين حياتها، وتهللت بشراً عندما عرض عليها ضابط الموساد زيارة إسرائيل، فلم تكن لتصدق أبداً أنها مهمة الى هذه الدرجة، ووصفت هي بنفسها تلك الرحلة قائلة: "طائرتان حربيتان رافقتا طائرتي كحارس شرف وتحية لي. وهذه إجراءات تكريمية لا تقدم أبداً إلا لرؤساء وملوك الدول الزائرين، حيث تقوم الطائرات المقاتلة بمرافقة طائرة الضيف حتى مطار الوصول.

    وفي مطار تل أبيب كان ينتظرني عدد من الضباط اصطفوا بجوار سيارة ليموزين سوداء تقف أسفل جناح الطائرة، وعندما أدوا التحية العسكرية لي تملكني شعور قوي بالزهو. واستقبلني بمكتبه مائير عاميت رئيس جهاز الموساد ، وأقام لي حفل استقبال ضخماً ضم نخبة من كبار ضباط الموساد على رأسهم مايك هراري الأسطورة (2)، وعندما عرضوا تلبية كل "أوامري". . طلبت مقابلة جولدا مائير رئيسة الوزراء التي هزمت العرب ومرغت كرامتهم، ووجدت على مدخل مكتبها صفاً من عشرة جنرالات إسرائيليين أدوا لي التحية العسكرية. . وقابلتني مسز مائير ببشاشة ورقة وقدمتني اليهم قائلة: "إن هذه الآنسة قدمت لإسرائيل خدمات أكثر مما قدمتم لها جميعاً مجتمعين".

    وبعد عدة أيام عدت الى باريس. . وكنت لا أصدق أن هذه الجنة "إسرائيل" يتربص بها العرب ليدمروها!!

    سفر بلا عودة

    وفي القاهرة . . كان البحث لا يزال جارياً على أوسع نطاق، والشكوك تحوم حول الجميع، الى أن اكتشف أحد مراقبي الخطابات الأذكياء "من المخابرات المصرية" خطاباً عادياً مرسلاً الى فتاة مصرية في باريس سطوره تفيض بالعواطف من حبيبها. لكن الذي لفت انتباه المراقب الذكي عبارة كتبها مرسل الخطاب تقولن أنه قام بتركيب إيريال الراديو الذي عنده، ذلك أن عصر إيريال الراديو قد انتهى. إذن .. فالإيريال يخص جهازاً لاسلكياً للإرسال والاستقبال.

    وانقلبت الدنيا في جهازي المخابرات الحربية والمخابرات العامة وعند ضباط البوليس الحربي، وتشكلت عدة لجان من أمهر رجال المخابرات، ومع كل لجنة وكيل نيابة ليصدر الأمر القانوني بفتح أي مسكن وتفتيشه. وكانت الأعصاب مشدودة حتى أعلى المستويات في انتظار نتائج اللجان، حتى عثروا على جهاز الإيريال فوق إحدى العمارات.. واتصل الضباط في الحال باللواء فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية وأبلغوه باسم صاحب الشقة. . فقام بإبلاغ الفريق أول أحمد اسماعيل وزير الدفاع "قبل أن يصبح مشيراً" الذي قام بدوره بإبلاغ الرئيس السادات.

    حيث تبين أنالشقة تخص المقدم فاروق الفقي، وكان يعمل وقتها مديراً لمكتب أحد القيادات الهامة في الجيش، وكان بحكم موقعه مطلعاً على أدق الأسرار العسكرية، فضلاً عن دوره الحيوي في منظمة سيناء

    وكان الضابط الجاسوس أثناء ذلك في مهمة عسكرية بعيداً عن القاهرة.

    وعندما اجتمع اللواء فؤاد نصار بقائدالضابط الخائن. . "قيل بعد ذلك أنه ضابط كبير له دور معروف في حرب أكتوبر واشتهر بخلافه مع الرئيس السادات حول الثغرة". . رفض القائد أن يتصور حدوث خيانة بين أحد ضباط مكتبه. خاصة وأن المقدم فاروق يعمل معه منذ تسع سنوات، بل وقرر أن يستقيل من منصبه إذا ما ظهر أن رئيس مكتبه جاسوس للموساد.

    وعندما دخل الخائن الى مكتبه.. كان اللواء حسن عبد الغني نائب مدير المخابرات الحربية ينتظره جالساً خلف مكتبه بوجه صارم وعينين قاسيتين فارتجف رعباً وقد جحظت عيناه وقال في الحال "هو أنت عرفتوا؟؟".

    وعندما ألقى القبض عليه استقال قائده على الفور، ولزم بيته حزيناً على خيانة فاروق والمعلومات الثمينة التي قدمها للعدو.

    وفي التحقيق اعترف الضابط الخائن تفصيلياً بأن خطيبته جندته بعد قضاء ليلة حمراء معها .. وأنه رغم إطلاعه على أسرار عسكرية كثيرة إلا أنه لم يكن يعلم أنها ستفيد العدو.

    وعند تفتيش شقته أمكن العثور على جهاز اللاسلكي المتطور الذي يبث من خلاله رسائله، وكذا جهاز الراديو ونوتة الشفرة، والحبر السري الذي كان بزجاجة دواء للسعال. ضبطت أيضاً عدة صفحات تشكل مسودة بمعلومات هامة جداً معدة للبث، ووجدت خرائط عسكرية بالغة السرية لأحشاء الجيش المصري وشرايينه، تضم مواقع القواعد الجوية والممرات والرادارات والصواريخ ومرابص الدفاعات الهامة.

    وفي سرية تامة . . قدم سريعاً للمحاكمة العسكرية التي أدانته بالإعدام رمياً بالرصاص.. واستولى عليه ندم شديد عندما أخبروه بأنه تسبب في مقتل العديد من العسكريين من زملائه من جراء الغارات الاسرائيلية. وأخذوه في جولة ليرى بعينه نتائج تجسسه. فأبدى استعداده مرات عديدة لأن يقوم بأي عمل يأمرونه به.

    ووجدوا – بعد دراسة الأمر بعناية – أن يستفيدوا من المركز الكبير والثقة الكاملة التي يضعها الاسرائيليون في هذا الثنائي. وذلك بأن يستمر في نشاطه كالمعتاد خاصة والفتاة لم تعلم بعد بأمر القبض عليه والحكم بإعدامه.

    وفي خطة بارعة من مخابراتنا الحربية، أخذوه الى فيلا محاطة بحراسة مشددة، وبداخلها نخبة من أذكى وألمع رجال المخابرات المصرية تتولى "إدارة" الجاسوس وتوجيهه، وإرسال الرسائل بواسطة جهاز اللاسلكي الذي أحضرته له الفتاة ودربته عليه. وكانت المعلومات التي ترسل هي بالطبع من صنع المخابرات الحربية، وتم توظيفها بدقة متناهية في تحقيق المخطط للخداع، حيث كانت حرب أكتوبر قد اقتربت، وهذه هي إحدى العمليات الرئيسية للخداع التي ستترتب عليها أمور استراتيجية مهمة بعد ذلك.

    لقد كان من الضروري الإبقاء على هبة في باريس والتعامل معها بواسطة الضابط العاشق، واستمر الاتصال معها بعد القبض عليه لمدة شهرين، ولما استشعرت القيادة العامة أن الأمر أخذ كفايته.. وأن القيادة الإسرائيلية قد وثقت بخطة الخداع المصرية وابتلعت الطعم، تقرر استدراج الفتاة الى القاهرة بهدوء.. لكي لا تهرب الى إسرائيل إذا ما اكتشف أمر خطيبها المعتقل.

    وفي اجتماع موسع.. وضعت خطة القبض على هبة. . وعهد الى اللواء حسن عبد الغني ومعه ضابط آخر بالتوجه الى ليبيا لمقابلة والدها في طرابلس حيث كان يشغل وظيفة كبيرة هناك. وعرفاه على شخصيتهما وشرحا له أن ابنته هبة التي تدرس في باريس تورطت في عملية اختطاف طائرة مع منظمة فلسطينية، وأن الشرطة الفرنسية على وشك القبض عليها . . وما يهم هو ضرورة هروبها من فرنسا لعدم توريطها، ولمنع الزج باسم مصر في مثل هذه العمليات الارهابية. وطلبا منه أن يساعدهما بأن يطلبها للحضور لرؤيته حيث أنه مصاب بذبحة صدرية.

    أرسل الوالد برقية عاجلة لابنته. . فجاء ردها سريعاً ببرقية تطلب منه أن يغادر طرابلس الى باريس. . حيث إنها حجزت له في أكبر المستشفيات هناك وأنها ستنتظره بسيارة إسعاف في المطار. . وأن جميع الترتيبات للمحافظة على صحته قد تم اتخاذها.

    ولكي لا تترك المخابرات المصرية ثغرة واحدة قد تكشف الخطة بأكملها. . فقد تم إبلاغ السلطات الليبية بالقصة الحقيقية، فتعاونت بإخلاص مع الضابطين من أجل اعتقال الجاسوسة المصرية. وتم حجز غرفة في مستشفى طرابلس وإفهام الأطباء المسؤولين مهمتهم وما سيقومون به بالضبط.

    وبعدما أرسل والدها رداً بعدم استطاعته السفر الى باريس لصعوبة حالته. . صح ما توقعه الضابطان، إذ حضر شخصان من باريس للتأكد من صحة البرقية وخطورة المرض، وسارت الخطة كما هو مرسوم لها، وذهب الاسرائيليان الى المستشفى وتأكدا من الخبر، فاتصلا في الحال بالفتاة التي ركبت الطائرة الليبية في اليوم التالي الى طرابلس. وعلى سلم الطائرة عندما نزلت هبة عدة درجات كان الضابطان المصريان في انتظارها، وصحباها الى حيث تقف الطائرة المصرية على بعد عدة أمتار من الطائرة الليبية. . فسألتهما:
    إحنا رايحين فين؟

    فرد أحدهما:

    المقدم فاروق عايز يشوفك.

    فقالت:
    هو فين؟.

    فقال لها:
    في القاهرة.

    صمتت برهة ثم سألت:
    أمال إنتم مين؟

    فقال اللواء حسن عبد الغني:
    إحنا المخابرات المصرية.

    وعندما أوشكت أن تسقط على الأرض.. أمسكا بها وحملاها حملاً الى الطائرة التي أقلعت في الحال، بعد أن تأخرت ساعة عن موعد إقلاعها في انتظار الطائرة القادمة من باريس بالهدية الغالية.

    لقد تعاونت شرطة المطار الليببي في تأمين انتقال الفتاة لعدة أمتار حيث تقف الطائرة المصرية. .وذلك تحسباً من وجود مراقب أو أكثر صاحب الفتاة في رحلتها بالطائرة من باريس.. قد يقدم على قتل الفتاة قبل أن تكشف أسرار علاقتها بالموساد.

    وبلا شك. . فاعتقال الفتاة بهذا الأسلوب الماهر جعلها تتساءل عن القيمة الحقيقية للوهم الذي عاشته مع الإسرائيليين. فقد تأكدت أنهم غير قادرين على حمايتها أو إنقاذها من حبل المشنقة. وهذا ما جعلها تعترف بكل شيء بسهولة بالتفصيل. . منذ أن بدأ التحقيق معها في الطائرة بعد إقلاعها مباشرة. وبعد أيام قليلة من اعتقالها تبين لها وللجميع عجز الإسرائيليين عن حماية إسرائيل نفسها وعدم قدرتهم على إنقاذها.

    فقد جاءت حرب أكتوبر وتدمير خط بارليف بمثابة الصدمة التي أذهلت أمريكا قبل إسرائيل. فالخداع المصري كان على أعلى مستوى من الدقة والذكاء. وكانت الضربة صائبة غذ أربكت العدو أشلته. . لولا المدد العسكري الأمريكي.. والأسلحة المتطورة.. والصواريخ السرية. . والمعونات. . وإرسال الطيارين والفنيين الأمريكان كمتطوعين .

    لقد خسرت إسرائيل في ذلك الوقت من المعركة حوالي مائتي طائرة حربية. ولم تكن تلك الخسارة تهم القيادة الاسرائيلية بقدر ما خسرته من طيارين ذوي كفاءة عالية قتلوا في طائراتهم، أو انهارت أعصاب بعضهم ولم يعودوا صالحين للقتال. ولقد سبب سقوط الطائرات الاسرائيلية بالعشرات حالة من الرعب بعد عدة أيام من بدء المعركة. . الى أن وصلت المعونات الامريكية لإسرائيل في شكل طيارين وفنيين ووسائل إعاقة وتشويش حديثة.

    لا أحد يعرف
    تبخرت أوهام الجاسوسة هبة سليم. . وأيقنت أنها كانت ضحية الوهم الذي سيطر على فكرها وسرى بشرايينها لمدة طويلة للدرجة التي ظنت أنها تعيش الواقع من خلاله. . لكن.. ها هي الحقائق تتضح بلا رتوش أو أكاذيب.

    لقد حكم عليها بالإعدام شنقاً بعد محاكمة منصفة اعترفت صراحة أمامها بجريمتها.. وأبدت ندماً كبيراً على خيانتها. وتقدمت بالتماس لرئيس الجمهورية لتخفيف العقوبة ولكن التماسها رفض.

    وكانت تعيش أحلك أيامها بالسجن تنتظر تنفيذ الحكم. . عندما وصل هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي – اليهودي الديانة – لمقابلة الرئيس السادات في أسوان في أول زيارة له الى مصر بعد حرب أكتوبر.. وحملته جولدا مائير رسالة الى السادات ترجوه تخفيف الحكم على الفتاة. ومن المؤكد أن كيسنجر كان على استعداد لوضع ثقله كله وثقل دولته خلف هذا الطلب. وتنبه الرئيس السادات الذي يعلم بتفاصيل التحقيقات مع الفتاة وصدور الحكم بإعدامها.. الى أنها ستصبح مشكلة كبيرة في طريق السلام. فنظر الى كيسنجر قائلاً: "تخفيف حكم؟ .. ولكنها أعدمت.. !!".

    دهش كيسنجر وسأل الرئيس: "متى.. ؟"

    ودون أن ينظر لمدير المخابرات الحربية قال السادات كلمة واحدة: "النهاردة".

    وفعلاً .. تم تنفيذ حكم الإعدام شنقاً في هبة سليم في اليوم نفسه في أحد سجون القاهرة.

    أما الضابط العاشق – المقدم فاروق عبد الحميد الفقي – فقد استقال قائده من منصبه لأنه اعتبر نفسه مسؤولاً عنه بالكامل.

    وعندما طلبت منه القيادة العامة سحب استقالته، رفض بشدة وأمام إصرار القيادة على ضرورة سحب استقالته.. خاصة والحرب وشيكة. .اشترط القائد للموافقة على ذلك أن يقوم هو بتنفيذ حكم الإعدام في الضابط الخائن. ولما كان هذا الشرط لا يتفق والتقاليد العسكرية. .وما يتبع في مثل هذه الأحوال. . فقد رفع طلبه الى وزير الدفاع "الحربية" الذي عرض الأمر على الرئيس السادات "القائد الأعلى للقوات المسلحة" فوافق فوراً ودون تردد.

    وعندما جاء وقت تنفيذ حكم الإعدام رمياً بالرصاص في الضابط الخائن. . لا أحد يعرف ماذا كان شعور قائده وهو يتقدم ببطء. . يسترجع في شريط سريع تسع سنوات مرت عليهما في مكتب واحد. . تسع سنوات كان بعضها في سواد الليل. . وبعضها تتلألأ خلاله ومضات الأمل قادمة من بعيد. . الأمل في الانتصار على اليهود الخنازير القتلة السفاحين.. وبينما كان يخطط لحرب أكتوبر كان بمكتبه هذا الخائن الذي باع الوطن والأمن وقتل بخيانته أبرياء..

    لا أحد يعرف ماذا قال القائد له. . وماذا كان رد الضابط عليه. . لا أحد يعرف.

    هل طلب منه أن ينطق بالشهادتين، وأن يطلب المغفرة من الله؟. . . لا أحد يعرف.

    لكن المؤكد أنه أخرج مسدسه من جرابه. . وصوبه على رأس الضابط وأطلق طلقتني عليه كما تقضي التعليمات العسكرية في حالة إعدام
                  

02-22-2007, 03:41 PM

ناذر محمد الخليفة
<aناذر محمد الخليفة
تاريخ التسجيل: 01-28-2005
مجموع المشاركات: 29251

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: ناذر محمد الخليفة)

    فؤاد حمودة - جاسوس الإسكندرية الأكبر

    عبارة طالما ترددت على الألسنة وعلى الأوراق باهتة المقصد، وإن كانت تعني أن الحب يدفع بالمحبين الى صنع ما لم يخطر ببالهم ليعيش الحب قوياً .. لا ترهبه ضربات الزمن أو عضات الوهن . .

    لكن . . هل يدفع الحب بالمحبين أيضاً الى طريق ضائع. . مظلم وأكثر رعباً من الرعب نفسه؟

    وهل يقود الحب – أحياناً – والفقر . .الى مصيدة الجاسوسية؟ ..

    هذا ما سنراه في مذكرات جاسوس الإسكندرية (فؤاد حسن علي حمودة) الموظف بشركة المضارب . . والذي دخل النفق المظلم – نفق المخابرات والجاسوسية – بسبب حب "نوسة" . . وقاده الحب المدمر الى النهاية الطبيعية لكل جاسوس خائن . . !!

    ضحية عشق نوسة
    أفاق على صوت مزلاج باب زنزانته الحديدي فارتعد جسده النحيل، ونظر باتجاه الباب في رعب لتصطدم عيناه بوجه الشاويش حمدون يطل عليه بملامحه الجامدة وشاربه الكث، وكأنه تمثال قُد من صخر.

    دفع "جراية" الطعام بعيداً وغاص في خوفه وهو يتأمل بزته الحمراء فانتفض بدنه في رجفة لا إرادية .. ثم انكفأ بوجهه بين ركبتيه يحيطهم بيديه المرتعشتين وأجهش في بكاء مرير، وارتفع نشيجه يشق سكون الزنزانة الضيقة المعتمة، إنه يموت كل يوم آلاف المرات كلما سمع وقع أقدام تتحرك أو صوت مزلاج يفتح.

    كان أمله الأخير ألا يصدق رئيس الجمهورية على حكم المحكمة ولكن خاب أمله وضاع. فلماذا إذن لا ينفذون حكم الإعدام سريعاً؟ ولم هذا الموت البطيء؟ أيكون الانتظار عقاباً نفسياً قبل الشنق؟

    هكذا تساءل فؤاد حمودة وهو حبيس الزنزانة الانفرادية في سجن مزرعة طرة .. وتحسس رقبته للمرة المليون وصرخ بأعلى صوته . . لا . . لا. . لست جاسوساً لإسرائيل . . أنا ضحية .. أنا ضحية الفقر . . وأخذ يضرب الأرض الباردة وهو يردد في وهن: وضحية حب نوسة . .

    وسكنت حركته بعدما استسلم لواقعه ولمصيره . . وتمدد على "البرش" ثم تقلب وتكور متوسداً إحدى يديه ضاغطاً بالأخرى على أذنه . . فيسمع صوتاً يشبه هدير موج يتعاقب، وضربات قلبه اللاهثة تدق في اضطراب تعلن عن مدى الخوف الذي سكن بأعماقه .. والرعب الذي يخترق أفكاره ويشتتها.

    ارتد الى الوراء يتذكر بدايته وتسلسل حياته الى أن صار جاسوساً لإسرائيل. مدفوعاً بحب نوسة العجيب . . حب دفع بالحبيب الى حبل المشنقة.

    وبعد إعدامه عثروا في زنزانته على لفافة من الأوراق سجل بها قصة حياته بإيجاز أحياناً. . وبتفصيل مطول أحياناً أخرى.

    إنها قصته مع الحياة . . ومع الحب . . ومع الجاسوسية. يقول فؤاد في مذكراته التي خلفها وراءه:

    . . . كان والدي موظف بسيط في الحكومة وأمي لا تعمل . . وكانت الأسرة كبيرة العدد قليلة الدخل والأفواه لا تكف عن المضغ والطلبات ترهق الأب . . فتحيل نهاره الى سعي وشقاء وليله الى نوم متقطع وسعال.

    كنت الإبن الثالث ومن بعدي ثلاثة آخرون. أنهيت تعليمي المتوسط وجلست أنتظر فرصة للعمل. ولم يخطر ببالي أنني كنت أنتظر نقطة البداية التي سأنطلق من خلالها الى خط النهاية بسرعة البرق. مدفوعاً بقوة لا أستطيع مقاومتها. . ذلك أنني رفعت سماعة التليفون ذات مساء ممل . . فجاء صوتها كالنسيم رقيقاً حنوناً بعث الدفء بأعماقي . . ودار بيننا حديث طويل امتد لقرب الصباح.

    كان اسمها نوسة طالبة في الدبلوم. تسكن في سبورتنج. . تكرر أحاديثنا التليفونية لعدة أيام متصلة. . فالتهبت حرارة الأسلاك وهي تحمل جرعات الرغبات المتزايدة التي ترسلها نوسة بصوتها الأنثوي المسكر . . وكأنه خمر ينصب رقراقاً خلال سماعة التليفون. ونسيت مع مكالماتها وحدتي برغم الزحام والضجيج في شقتنا. . واتجهت لكتابة الشعر . . تبدلت حياتي كلها .. إذ أصبحت نوسة هي شاغلي ومشاغلي . . أنام على صوتها وأصحو .. وأحس معها بالمرارة التي تغلفها أحياناً رغم أنها وحيدة أبويها .. وتقوم أمها على خدمتها وتعاملها كملكة على عرش قلبها.

    كانت فتاة مرفهة الى درجة الجنون رقيقة لا تتصنع. . مثيرة لا تتركني أهدأ . . أو تخمد نيران رغباتي تجاهها برغم سنها الصغير وقلة خبرتها بالحياة.

    لكنها برغم ذلك استطاعت أن تحكم قيدها حول حواسي . . فأدور في فلكها كالمنوم. . حتى وهي تحاول أن تستدرجني لأحاديث الجنس كنت أبدو كالأبله . . فأنا لا أعلم شيئاً عنه. إلا أنها تمادت في استدراجي فتجاوبت معها عبر الأسلاك يشجعني صوتها الذي يحرك الجبل وهتفت في نفسي لأرفض وهي تضغط. أرفض وهي تقتل قوتي وتحصد مقاومتي ورفضي بتأوهات يفور لها جسدي كبوتقة تغلي . . ولما فشلت معها أرقتني الرغبة المحبوسة فتأثرت لحالي. . وفوجئت بها تعرض علي أن أزورها بمنزلها بعد منتصف الليل . ثم تحول العرض الى دعوة ملحة . . وضايقها ترددي وخوفي. لقد كان عمها المحامي يسكن في الشقة العلوية وهذا الأمر أخافني. . إلا أنها دبرت كل شيء في جرأة مدهشة. . فذهبت اليها بعد منتصف الليل في إحدى الليالي الباردة مدفوعاً برغبتي العنيفة . . وكان هذا أول تدريب لي على عمل الجاسوسية.

    وعندما جلست بجوارها على حافة السرير – على بعد خمسة أمتار من حجرة والدها – سألت نفسي: هل حبيبتي مومس تخدعني أم هي مراهقة تحب؟ وغادرت شقتها لا أصدق أنني نجوت بحياتي من مصير مجهول. وأعترف أنه برغم سعادتي برجولتي . . إلا أنني فقدت أشياء لذيذة كنت لا أريد مسها . . وأهمها أنني فقدت بعض ثقتي بها . . ولكن صديقي حاتم أكد لي أن الحب أعمى . . وأن الفتاة تسلم كل شيء لحبيبها عن قناعة ورضا لأنها تحب.

    وبعد عدة أيام دعوتها الى شقة أختي المسافرة الى الخارج مع زوجها فجاءت نوسة بسهولة .. وبسهولة أكثر جعلتني أخلع عنها ملابسها دون أن تصدني ولو كذباً وكأنما هي اعتادت ذلك من قبل . . لكن الذي أذهلني بحق هو أنني فوجئت بها ليست بكراً . .

    صفعتني المفاجأة وتحطمت ثقتي بها وفي كل بنات جنسها وأغمضت عيني عن هذا الخطأ مؤقتاً. لقد كنت أحبها ولذلك تعمدت ألا أذكر هذا الأمر ثانية . . لكنها هاجمتني بعنف واتهمتني بأني ضيعتها. أخذتها الى أشهر دكتور في الإسكندرية فلم يصارحني بالحقيقة. . ونسينا الأمر برمته، وكنت لا أستطيع فراقها أو ابتعادها عني. فلقد صارت في دمي . . !!

    إفعلْ شيئاً لأجلي
    وتصف لنا مذكرات جاسوس الإسكندرية أدق خلجاته وإحساساته. كتبها في لحظات صدق مع نفسه قبل أن يلتف حبل المشنقة حول رقبته. وكان قد تقدم بالتماس الى الرئيس أنور السادات يطلب تخفيف حكم الإعدام ولم يصل الرد بعد على التماسه الذي كان هو الأمل الأخير له في إنقاذه.

    ولأنه عاش كثيراً يحلم بتحقيق هذا الأمل. . فقد اتسمت مذكراته بالسرد الدقيق والوصف الرائع لكل جوانب حياته. صفحات بلغت أكثر من مائتي صفحة تحمل مشاعر جاسوس خائن . . اعتقد أن الحب كان السبب الرئيسي في وقوعه في جبّ الجاسوسية العميق المظلم. يقول الجاسوس:

    في زنزانتي الرطبة الضيقة .. أنام يقظاً مع انسحاب الشمس وأصحو مع أول خيوطها. وما بين النوم واليقظة ترتعش حواليّ كل الصور .. وترهبني خطوات السجانين طوال الليل. . فأظل أنصت مرعوباً وهي تقترب فأحس باقتراب الموت .. وتبتعد فأتنهد. . ثم يتملكني الهلع. وهكذا كنت لا أنام ولا أهدأ . . أتخيل وجه نوسة الرائع وهي بين أحضاني . .أرتشف من أنوثتها لذاذات جميلة .. وأحسو شراباً مسكراً ومعتقاً .. وأعيش معها أجمل لحظات عمري نخوض معاً بحور المتعة .. ونجوب نبحث عن مشتقات أخرى للنشوة تغتال فينا الملل والكآبة ..

    ولم تكد تمر عدة أشهر . . إلا وخطبت نوسة فجأة وانشغل تليفونها عني في المساء، فجن جنوني وأقسمت أن أفوز بها ولا أتركها لغيري بعدما أدمنتها. . لكنها كانت تتهرب من لقائي وجنوني. . وتملكني الشعور القاتم بالهزيمة وأنا أضرب رأسي بيدي وأرتجف غضباً وأردد: "أيتها المومس الحقيرة .. أحبك . . أحبك بوجهك الطفولي البريء وصوتك الساحر . . أحبك وأنت تصعدين ورائي الى الطابق الخامس في شارع "الجلاء" ترتدين زي المدرسة وتحملين حقيبتك .. وتنشدين ما يكفيك من النشوة لعدة أيام قادمة .. أحبك يا عاهرة كاذبة . . ولن أنسى يوم خطبتك لهذا المغفل الذي نزف عليك مئات الجنيهات كما نزفت أنا معك رجولتي".

    يومها . . طلبت مني والدتي أن أقرأ عليها عدة صفحات من رواية عاطفية . . فجلست أقرأ لا أدري أي سطور قرأت وقد اختنق صوتي وتلجلج لساني . . وبكيت بكاء الضائع الذي فقد الطريق والأمان.

    ثلاثة أشهر وعادت نوسة ذليلة يغشاها انكسار الهزيمة بعدما فشلت خطبتها .. ولم تمهلني الوقت لأفكر فاستردتني سريعاً واحتوتني من جديد فقلت لها:

    أنا لم أكرهك يوماً. . أحبك وإن كنت عاهرة تستأجر.
    فؤاد – يا فؤادي . . يا حياتي . . اشترني ولا تبخس الثمن.
    اشتريتك.
    سافر وكافح من أجلي . . سافر الى أي مكان في الدنيا وعد بالثمن.

    قلت لها:
    لقد عينت في شركة مضارب الإسكندرية بسبعة عشر جنيهاً.

    قالت في يأس:
    لن نتزوج إذن قبل عشر سنوات.
    أهلك يبالغون في المهر.
    سافر لعام واحد وسأنتظرك . . سافر .. إنه الحل الوحيد لنا.
    لا أملك مصاريف السفر . . أنت تعرفين كل الظروف.
    ألم تخبرني أن شقيقتك ستعود عما قريب؟
    نعم .. أرسلت لنا بأخبار عودتها بعد شهر ونصف.
    اقترض منها مبلغاً وخذ مني هذه الإسورة.

    وأضافت وأنفاسها تلهب وجهي: إفعلْ شيئاً لأجلي. وسأظل أنتظرك وأنسج ثوب عرسي كما كانت تفعل "بنيلوبي" قديماً.

    في جوتـــن نخــــت
    ومنذ تلك اللحظة . . قررت أن أسعى للسفر خارج مصر. كانت الأبواب مغلقة في وجهي . . وحرب الاستنزاف على أشدها بين مصر وإسرائيل . . وهناك مفاوضات من أجل الهدنة والأمور سيئة وتزداد سوءاً.

    عادت شقيقتي من الخارج وعندما طلبت منها قرضاً أحالتني الى زوجها الذي تهكم وسخر مني .. وعندما علم والدي عنفني بشدة .. وأشفقت والدتي على حالي فأعطتني آخر ما تملكه من حلي فلما قبلت يد شقيقتي مرة أخرى وقلت لها أنقذيني من جنوني منحتني سبعة وعشرين جنيهاً. . ولم تمر عدة أيام إلا وكنت أجمل في جيبي تذكرة طائرة الى بون. . وسافرت الى ألمانيا الغربية يملؤني إحساس بالمرارة والظلم والضعف.

    كانت معي رسالة الى أحد المعارف في مدينة دوسلدروف شمال بون. . وعندما التقيت به نظر إليّ كمن ينظر الى كلب أجرب. . حتى صديقته الألمانية كانت تسخر مني وتضحك كأنها ترى بلياتشو برغم أنني لا أعرف كيف أكون مضحكاً فأُضحك الناس. وكنت قد مررت في طريقي بمدينة ساحرة إسمها كولون. .فعقدت العزم على العودة إليها وأغامر علني أوفق بمفردي ورجعت جنوباً حتى كولون الواقعة على نهر الراين الخلاب .. فسحرتني المدينة الأنيقة واستولت على عقلي ..

    عثرت على بنسيون رخيص اسمه "فارسبورجر" تديره سيدة بشوش اسمها بيرجيت كلاين كانت تعاملني بلطف . . وبإنجليزية ركيكة شرحت لها ظروفي ورغبتي في العثور على عمل فتأثرت لحالي.. وبعد يومين ذهبت الى مصنع بويات يمتلكه زوج ابنتها بيتر راينهارد يقع على أطراف المدينة . . وبعد عمل متصل ليل نهار لعدة شهور استطعت أن أجمع خمسة آلاف مارك . . فأرسلت خطابي العاشر الى نوسة أطمئنها. وبرغم إلحاحي في الرد على رسائلي لم يصلني منها خطاب واحد. . فانتابني قلق شديدة ولم أتمكن من مكالمتها تليفونياً فكتبت الى صديقي حاتم أطلب منه موافاتي بأخبارها. . وكان الانتظار يقلقني بل ويفتك بأعصابي. .

    كانت نوسة رغم الجميلات من حولي هي الأجمل والأرق والأروع ولا تفارق خيالي للحظة وأحلم باليوم الذي يجمعنا .. لذلك . . كنت أعمل بجد وردية ونصفاً وأفرتش ورق الكرتون وأنام .. يرفرف خيالها حولي وذكرها يمدني بالقوة ويمنحني الصبر . . وتعلمت كيف أحرم نفسي من أبسط الأشياء لأدخر وأعود إليها مرفوع الرأس . . ولما جاءني الخطاب المنتظر من حاتم ارتعش قلبي لرؤيته. . فما بين سطوره يحدد لي مصيري واتجاهات حياتي .. وملأني شعور غامض بالخوف وأنا أفتح الورقة المطوية .. وزلزلتني المفاجأة التي لم أتوقعها قط: نوسة تزوجت منذ شهرين وانتقلت للإقامة في "الكنج مريوط".

    لطمتني العبارة بعنف فأصابني دوار وأطبقت الجدران على أنفاسي . . وأيقنت أنها ضاعت مني الى الأبد. وأيقنت أيضاً أنها طراز غريب من النساء من الصعب نسيانه. . وعلى امتداد البصر في الخيال والواقع لا أرى سوى وجهها الطفولي البريء ويتجسم أمامي جسدها الأنثوي فأتحسسه:

    كان الجليد يتساقط كأنه ندف من القطن الأبيض الناصع في شهر فبراير 1970 والباص يقلني الى شارع "كلنجهاوس" مشيت وسط الزحام لا أنوي على شيء ودون قصد اتجهت الى شارع "فينشا".. حيث أضواء الكباريهات تتلألأ متراقصة . . والداعرات يقفن على النواصي يساومن المارة. وما إن عبرت الى الناصية الأخرى من الشارع متجهاً الى كباريه "جوتن نخت" الشهير . . قذفت واحدة منهن بنفسها في طريقي فأزحتها بيدي . . ودلفت الى داخل الكباريه لأول مرة في حياتي. . شربت ورقصت وسكرت .. وبدلاً من الذهاب الى حجرتي في المصنع، ذهبت الى بنسيون فارسبورجر.

    دهشت السيدة كلاين وطلبت منها ألا تسألني عن أي شيء فسحبتني الى إحدى الحجرات . .ومنذ ذلك اليوم لم أعد أقيم للأمور وزناً. .

    تساوت عندي كل المتناقضات وأحاطتني قتامة من اليأس والاهتزاز . . وتفاعلت بداخلي ثورات من الشك والحزن والكآبة . . وصرت زبوناً دائماً في جوتن نخت، أمر على محل هورست للملابس فأصحب "كريستينا" للعشاء ثم نسهر ونشرب حتى الثمالة .. هي الأخرى وحيدة مثلي هجرت أسرتها في دار مشتات هرباً من ذكرى حبيب غدر بها. وتركت البنسيون وأقمت معها في غرفتها نتعاطى الجنس كالطعام لننسى أننا خدعنا.

    وعندما أنفقت آخر مارك كان معي تأففت كريستينا وتملكها الضجر .. فذهبت الى المصنع مرة أخرى فلم أجد عملاً هناك حاولت أن أجد فرصة عمل بمكان آخر لكن الظروف كانت كلها ضدي. . فعجزت عن الإنفاق على نفسي. . وطردتني كريستينا من شقتها . . ونبهتني السيدة بيرجيت كلاين صاحبة البنسيون لكثرة ديوني ولما عضني الجوع ذهبت الى الكباريه أطلب عملاً. . أي عمل.

    ولأنني زبون معروف لديهم صعد بي أحدهم الى الطابق العلوي حيث مكتب المدير الفخم . . استقبلني الرجل بحفاوة بعدما اكتشف أنني مصري . . وأخبرني أنه زار مصر منذ عدة سنوات وسألني عنها فقلت له بقرف "زي الزفت". . لقد كنت في حالة نفسية سيئة والجوع ينهش معدتي . . ويطاردني شبح ترحيلي الى مصر خاوي الوفاض تنوء حقائبي بيأسي وفشلي . . وسألني الرجل مرة ثانية.

    لماذا جئت الى هنا؟ "يقصد ألمانيا".

    قلت في أسى:
    الفقر والحب. .

    وبعد أن سردت عليه قصة حياتي بإيجاز .. أسف لحالي . . وبصوت به رنة الواثق قال:
    بإمكانك أن تصبح مليونيراً .. المهم أن تكون أكثر ديناميكية وتعاوناً. .

    ضحكت في تعجب وسألته:
    مليونيراً؟ كيف وفي جيبي أحد عشر ماركاً ونصف ولا أنطق بالدوتش وإنجليزيتي مهترئة .. كيف؟

    ترك جوتل هاوزن مقعده خلف المكتب وجلس قبالتي يفرك يديه وقال:
    نشأت مغامراً شجاعاً أكره الخوف والجبناء .. سنوات قليلة وكنت شريكاً في هذا النادي ثم امتلكته لأنني دست على أشياء كثيرة لكي أحقق طموحاتي .. وأعرف أن الرجل الشرقي عاطفي يخشى المغامرة ومقيد بتقاليد وأعراف.

    سيد هاوزن أنا مستعد لأية مغامرة تنتشلني من الفقر والضياع.
    إذن . . إنس أنك مصري . . مسلم .. وتذكر فقط أنك هنا . . في ألمانيا الغربية . . في أوروبا.
    سأنسى .. لا أريد أن أتذكر هذا الماضي اللعين .. أريد أن أكون إنساناً آخر.

    ضغط الرجل على زر فجاءت فتاة رائعة مثيرة والتفت الي قائلاً:

    هذه سيلفيا . . من الآن سترافقها في سفرها الى ألمانيا الشرقية لبعض الأعمال التجارية.

    ابتسمت سيلفيا ونظرت إليهما في بلاهة .. وعندما أوشكت على سؤاله عن عملي الجديد أصدر أوامره الى سيلفيا بأن تدفع حساب البنسيون وتصحبني الى شقتها. .

    وقام الى مكتبه وعد بعض النقود وناولها لي قائلاً:
    هذه لك .. وللعمل حساب آخر.

    وبينما كان يسلم نقوداً أخرى لسيلفيا أدركت أن المبلغ ألف مارك .. فدارت الأسئلة في خيالي وتساءلت بيني وبين نفسي:
    "ماذا سأعمل بالضبط؟"

    وقررت أن أغامر وألا أستسلم أبداً مهما كانت المصاعب . . وأفقت على يد سيلفيا تجذبني فمشيت وراءها. . وبدأ منذ ذلك الحين أولى خطواتي على الطريق المجهول . . والذي في نهايته كانت تنتظرني المشنقة.

    عيون لا ترى الشمس
    وفي شقة سيلفيا الرائعة التي تطل على نهر الراين .. حيث البانوراما تخلب الألباب وتدير الرؤوس .. تذوقت أنوثتها العجيبة التي أنستني نوسة ولهيب حبها .. وبينما كنا عاريين نستريح سألتها:

    سيلفيا ماذا سأعمل معك؟

    أشعلت سيجارة وجذبت نفثاً عميقاً وقالت:
    التهريب .. !!

    قلت مستفسراً وقد تملكني القلق:

    تهريب. . ؟ تهريب ماذا؟

    وهي تنفث دخانها في وجهي:
    نحن ندخل الخمور والسجارئر والساعات الى ألمانيا الشرقية مهربة على الحدود.

    قمت مسرعاً وارتديت ملابسي وأنا حانق . . واتجهتْ مباشرة الى جوتن نخت وصعدت الى مكتب المدير وتعجب الرجل لرؤيتي وتساءل وهو يهز رأسه:
    ماذا بك؟

    كان صوتي عالياً في استنكار وأنا أقول:
    تهريب الخمور والسجائر يا سيدي لن يبني لي مجداً أو يرفع من شأني . . إنه عمل تافه.
    تريد أن نزرع بك الجرأة ثم نوكل إليك الأهم والأكبر.

    لو لم أكن جريئاً ومثابراً ما جئت الى هنا لا أملك مالاً أو لغة .. أنا لست سوى فدائي مغامر.

    في لهجة مليئة بالتحدي:
    أتريد أن تثبت لنفسك أنك مغامر. .

    فقلت في اندفاع الواثق:
    سيد هاوزن أريد أن أؤكد . . نعم أؤكد لكم أنني جريء لحد المغامرة .. وأريد أن أعمل وأكسب لا أن أخبئ بعض علب السجائر والعصير وأعبر بها كاللص الى الناحية الأخرى من ألمانيا.

    قلت لك يا فؤاد أن تهريب السلع تمرين لك لا أكثر.

    تمرين على ماذا؟

    لمعت عيناه كعيني ثعلب ماكر وبصوت هامس قال:
    مهمة سرية جريئة ستكسب من ورائها نصف مليون مارك على الأقل .. إنه مبلغ خيالي قد تشتري به حياً بأكمله في الإسكندرية هه .. ماذا تقول؟

    جف حلقومي فجأة وانحبس صوتي وأنا أقول:
    اعتبرني قد تمرنت وأنا الآن جاهز للمهمة الكبرى . . أريد هذا النصف مليون ولو كلفني ذلك أغلى ما أملك .. وكل ما أملك.

    ابتسم هاوزن وأردف:
    أنت لا تملك شيئاً ولكننا نريدك أن تملك.

    أنا طوع أمرك يا سيدي.

    تناول الرجل كارتاً صغيراً وسلمه لي وهو يقول:
    إذهب غداً الى هذا العنوان.

    وقرأت: السفارة الإسرائيلية بون شارع .. فرمقته بنظرة غليظة وقد سرت بأوصالي رعشة .. وقلت بصوت أجش:
    وما دخل إسرائيل في تهريب السلع الى ألمانيا الأخرى؟

    في بون ستعرف كل شيء .. وسيدفعون لك بسخاء إذا تعاونت معهم.

    كان الخوف قد بدأ يساورني وقلت في تلعثم:
    تريدونني جاسوساً إذن؟

    أجابني بسرعة وكأن رده كان جاهزاً:
    إسرائيل ليست بحاجة إليك لتعمل جاسوساً .. فأنت لا تملك هذه الموهبة ولست بالشخص المهم الذي تستخلص منه معلومات سرية.

    قبل مغادرتي مصر بوقت قريب قرأت في الصحف عن جاسوس مصري عاطل لا يعمل بالحكومة ولم يؤد الخدمة العسكرية فلماذا اختير جاسوساً وما الفائدة منه؟

    اسمع . . طالما نحن في حالة حرب مع العرب – فسوف ينظر الى نياتنا بالريبة والشك ..

    تشققت شرايين عقلي عندما نطقها صريحة .. وأحسست بأنني أترنح وأرتجف .. لكني استجمعت قواي الخائرة في صعوبة وسألته:
    أنت إسرائيلي إذن سيد هاوزن؟

    أنا يهودي ألماني أحب إسرائيل والعرب وأحلم دائماً بالوفاق بينهما.

    ودخلت سيلفيا مضطربة. نظرت الى وجهينا تستخلص نتائج اللقاء . . ويبدو أنها فهمت جيداً أن شيئاً ما قد حدث. فهتفت سريعاً:
    أوه . . أيها المصري المراوغ . .

    وأخرجت منديلها تمسح قطرات العرق على جبهتي. . وكنت لحظتئذ كتائه يبحث عن ملاذ . . يملؤني إحساس غريب أحسه لأول مرة. إنه مزيج من الخوف والطيش واللامبالاة . .

    لملمت إرادتي ونزلت معها الى الصالة فشربنا ورقصنا .. واستيقظت في الصباح لأجدها عارية بجواري . . وجسدها الأفروديتي ينفث حرارة تلسع رجولتي .. لكنني كنت قد فقدت الرغبة تجاهها وسافرت بخيالي الى بعيد، الى الإسكندرية، وهجم طوفان من الذكريات والمشاهد واستسلمت هرباً من توتري واضطرابي. فطفت كالطائر فوق كازينو الشاطئ على الكورنيش وتجولت بداخله. . واتجهت الى الركن الذي شهد أروع لقاءاتي مع نوسة . . فتحسست الموائد والمقاعد علني أتنسم عطرها. وعندما اتجهت طائراً الى قلعة قايتباي . . مدت سيلفيا يدها تداعب شعري ولكن هيهات .. لم تخرجني من رحلتي لمسجد سيدي بشر الذي يطل على البحر من مرتفع . . فلكم جلست على أسواره أتفكر في مستقبلي المجهول وحياتي الخاوية .. وكثيراً ما عرجت خلف المسجد حيث تقع المقابر فأنشد بعض الرضى والصبر.

    ياه . . هاهي أشجار التين البرشومي على ساحل العجمي تتناثر على مرتفعات التلال وصبيان يرعيان الماعز ويلعبان "السيجا". طفت أتذكر مراتع طفولتي وصباي. . برائحته الآزوتية يلفح وجهي نسيم البحر رطباً . . ويطير خيالي الى محرم بك حيث بيتنا الجميل وضوضاء الباعة الجائلين .. وتوقفت عند يوم سفري حيث وجه والدتي النوراني والدموع تشق أخدودين على خديها . . وبحنان كبير تقبلني وتضمني الى صدرها بحرارة . . وها هو يقف محزوناً . . لم أر والدي من قبل يبكي . . أشعره العجز عن تحقيق آمالنا بحسرة تنطق بها نبرات صوتها الحزينة. وها هي هدير – صغرى شقيقاتي – تخلصت من أحضانها بمعجزة. . كانت تحس بمعاناتي أكثر من شقيقتي الكبرى التي وقفت تقول: دعوه يسافر .. فالسفر يحوله الى رجل.

    ودون وعي . . أزحب يد سيلفيا عن صدري ونظرت اليها في "زهق" فانتبهت .. ورفعت رأسها قليلاً لتلمح حبات دموع تعرف طريقها جيداً على وجهي . . وانتابتني رجفة خفيفة فضمتني الى صدرها وقالت:

    علام القلق يا فؤاد؟ أنت لن تذهب الى جهنم حتى تضطرب هكذا.

    أجبتها بصوت مبحوح مختنق:
    سيلفيا . . أنا فقط تذكرت أهلي في مصر.

    وهي تضغطني بشدة:
    عما قريب ستعود اليهم ومعك آلاف الماركات.

    ماذا يريدون مني مقابل هذه الثروة.

    أنا لا أفهم في السياسة. لكنهم بلا شك يعملون من أجل السلام وأمن إسرائيل.

    أنا أيضاً لا أحب السياسة ولا أفهمها. وما أذكره أن إسرائيل احتلت سيناء والضفة والجولان . . ولا أعرف بالضبط ما هي الضفة أو الجولان؟

    أعتقد أنك مصري مقامر . . لديك عزيمة المغامر وإصرار العنيد.

    ربما أكون كذلك وإلا ما جئت الى هنا.

    قلت لي أنك جئت مديوناً .. أليس كذلك؟

    بلى .. جئت مديوناً. . وكنت أتسول مصاريف السفر ذليلاً. حتى والدي . . كان يعتقد بأنني سأخذله . . ولم يكن يثق فيّ للحظة.

    زوج شقيقتك قلت لي أيضاً أنه آلمك كثيراً وسخر منك.
    كفى . . كفى سيلفيا . . أريد ألا أتذكره. لقد رفض وداعي في المطار وقال باستخفاف سأذهب لاستقباله بعد عدة أيام قادماً بفشله.

    هجمت علي مشاهد الإذلال التي عشتها في الإسكندرية وأنا أبحث عمن يمد لي يده بجنيهات قليلة تعينني في سفري . . فامتلأ قلبي غيظاً وغضباً .. وسمعت سيلفيا تقول:

    فؤاد لا تحرق أعصابك فأنت مقبل على عمل هام يجب أن تستعد له بذهن صاف.

    نعم . . صدقت أيتها الملعونة . . وضممتها مداعباً خصلات شعرها الذهبي الناعم وقبلتها قبلة نارية طويلة وقلت:
    متى سنلتقي بهم في بون؟

    لم ترد علي فقد استغرقت قبلتها المجنونة وقتاً طويلاً .. ثم انتصبت جالسة فجأة وأخذت تضرب صدري بيديها وتصيح:
    من أي أرض أنت أيها الوحش؟

    كانت حرارتها قد ازدادت اشتعالاً .. وتعمدت أن تغرقني في مستنقع الجنس ولا أفيق من خمره أبداً .. أنوثتها أسبغت عليها الخبرة أنوثة أقوى . . وبعد أن استرحنا قليلاً أدارت قرص التليفون وتحدثت مع هاوزن. . فلم أستطع فهم حوارهما حتى انتبهت اليها تقول:

    ميعادنا الثامنة مساء اليوم في بون؟

    نظرت في ساعة يدي وقلت:
    75 كيلو متراً يقطعه الباص في ساعة تقريباً حتى بون يجب أن نصل مبكراً. أريد شراء ملابس جيدة من محلات جونتر الشهيرة .

    استسلمت لمصيري . . وأغمضت عيني عن المخاطر التي تحدق بي .. فقد كنت كالتائه في الصحراء أكاد أموت عطشاً لو لم أنبش الأرض بأظافري لأشرب. وأخذت سيلفيا تسقيني جرعة زائدة من الثقة في نفسي. . وتؤكد على أنني حر ولا سلطان لأحد علي إلا المال الذي سوف يتدفق من حيث لا أدري. وتمادت في إيهامي بأنني شخصية مرموقة ومهمة حتى خيل إلي أنني رئيس الجمهورية العربية المتحدة. وبيدي حل أزمة الصراع العربي الإسرائيلي في الشرق الأوسط.

    وكـــــــــر الحيـــــــة
    عندما ركبنا الباص في بون كان نهر الراين عن يساري ينساب رقراقاً متهادياً تغطيه أحياناً أسراب من الطيور البيضاء .. وكانت الخضرة متمد يميناً ويساراً الى مساحات شاسعة .. فتبدو كبساط رائع تتخلله ألوان الزهور الزاهية في الربيع .. وتظهر البيوت الريفية وسط الحقول بشكلها الجميل يبعث شعوراً بالبهجة والهدوء. .

    تذكرت النيل وأرض الدلتا تزهو به وترفل في أثواب بديعة من ألوان شتى. وتذكرت الريف الفقير في بلدي وقلت في نفسي إن الفارق الكبير بينه وبين الريف الألماني الذي لا يقارن يعود في الأصل – كما قال هازون – الى حالة الحرب التي سيطرت على مصر. ولولا الحروب لكانت أجمل بقاع الأرض.

    هذا الأمر جعلني لا أنبذ فكرة الاتصال باليهود أو التعاون معهم. . إذ صور لي خيالي أنني قد أساهم في خلق مجتمع أفضل في وطني. اعتقدت أيضاً أنني صاحب رسالة يجب أن أؤديها. ولم أقنع عقلي أنني بالتعاون مع الإسرائيليين صرت جاسوساً لهم على أهلي ووطني. ولكن . . تغيرت المفاهيم تماماً بعد زيارتي لسفارة إسرائيل!!

    في غرفة رائعة بفندق ماجستيك . . استبدلت ملابسي وتهيأت للقاء المرتقب. . وعند الباب الرئيسي كانت تقف بانتظارنا سيارة أوبل حديثة وقف بجانبها شاب مهذب فتح الباب الخلفي فركبت بجوار سيلفيا وساقاي ترتعشان في قلق لا إرادي . . واخترقت السيارة شوارع بون تحملني الى المجهول. وعندما وقفت أمام مبنى سفارة إسرائيل يعلوها العلم الأبيض ذو النجمة السداسية الزرقاء – نجمة داود – تسمرت قدماي واقشعر بدني كله. . فجذبتني سيلفيا الى الدخل وهي تصيح في دلال:
    هه .. حبيبي . . ماذا جرى لك؟

    فمشيت وراءها كالمنوم. . وفي الطابق الثاني من السفارة . . استقبلتنا فتاة بشوش أزالت ابتسامتها بعض الرعب الذي جثم على صدري . . وقادتنا الى غرفة تقع في نهاية ممر طويل.

    كانت غرفة مكتب لا أحد بها .. وعلى الجدار كانت هناك صورة لسيدة عجوز وأخرى لرجل لم يعجبني منظره. لقد كانت العجوز تبتسم في خبث بينما هو يزم شفتيه في تحد وشماتة.

    خرجت الفتاة ووضعت سيلفيا ساقاً فوق ساق فأظهرت ثلثي فخذيها وقالت بعدما أشعلت سيجارتها:
    فؤاد . . الأمر ليس سيئاً الى هذا الحد . . تبدو كأنك تغرق.

    أنا؟ . .

    نطقتها وكنت في الحقيقة أرتجف بشدة وتصطك أسناني في اضطراب .. ويبدو أن سيلفيا أرادت تهدئتي فقالت بصوت محبب مريح:
    بإمكانك أن تنصرف الآن .. لن يمنعك أحد.
    تفضل . . مستر فؤاد.

    هكذا نطقت باسمي الفتاة التي استقبلتنا وقد دخلت وبين يديها صينية تحمل أطباق الحلوى وأكواب الشاي .. وفي أثرها دخل رجل أسمر شرقي الملامح وبعربية فصيحة صاح كأنه يعرفني منذ أمد:
    أهلاً أهلاً يا فؤاد .. كيف حالك؟

    صافحني بحرارة وهو يقول:
    أنا مصري مثلك .. إسكندراني .. وإسمي إبراهيم يعقوب . . أرجو أن تعتبر نفسك في بيتك هنا.

    تمتمت ببضع كلمات غير مفهومة فابتسم ورمق سيلفيا بنظرة سريعة فقامت على الفور وقالت لي:
    سأعود حالاً.

    وبينما كان يعد ويرتب بعض أوراقه كنت أطرقع أصابعي وبدأ التوتر جلياً على وجهي. ولم يتركني إبراهيم كثيراً إذ التفت إلي كلية وقال:
    حدثني عنك هاوزن كثيراً. أما سيلفيا فقالت عنك قصائداً.

    ثم أضاف:
    ماذا كنت تعمل في كولون؟

    في مصنع راينهارد للبويات.

    كم كان راتبك تقريباً؟

    كنت أوفر ألف مارك من بقية راتبي.

    أتريد أن نلف وندور أم نتحدث صراحة حتى نختصر المسافة والوقت؟

    أنا لا أفهم شيئاً.

    فؤاد . . أنت شاب ذكي وتعرف كيف تستغل المواقف لصالحك. وأنا أعرف أنك تمر بظروف سيئة في مصر وهنا أيضاً. هاوزن قال لي صراحة أنك مغامر عنيد .. رفضت العمل معه في تهريب السلع الى ألمانيا الشرقية لأنك أردت عملاً أهم وأكبر. . وبالتالي عائداً مادياً يتناسب وأحلامك وطموحاتك . أليست هذه حقيقة؟

    بلى .

    إذن. . عليك أن تعلم جيداً أنه برغم التوتر في الشرق الأوسط والصراع المرير ما بين إسرائيل والدول العربية. . فليس معنى وجودك هنا أننا نريدك جاسوساً. . لا . . نحن لا نريدك أن تخون بلدك .. فأن شخصياً لا أريد أن أتعامل مع الخونة. . ويبدو أن هاوزن كذب عليك كثيراً عندما أكد على أنك قد تكسب نصف مليون مارك بتعاملك معنا . . نعم . . كذب هاوزن فهذا مبلغ تافه . . ولأنك مغامر تبحث عن المال والمجد .. فقد تكسب مليون مارك في لحظة خاطفة. . إن النقود ليست بذات قيمة عندنا . . نحن فقط نحب المجتهدين. . ونعطي بسخاء وبدون حساب إذا م اتأكد لدينا أنك مخلص في تعاونك معنا.

    قلت له وأنا أتلعثم ولا أستطيع جمع شتات فكري:
    أنا مستعد للتعاون معكم على ألا أصاب بضرر أو ..

    لا . . لا . . لن يؤدي ذلك الى إلحاق أي ضرر بك .. مطلقاً .. نحن نريدك صديقاً ونسعى وبشدة للمحافظة على أصدقائنا في أي موقع وفي أي مكان.

    قلت وقد تجرأت لفتح مجالات حوار مختلفة:
    ماذا إذن تريدون مني؟

    نريد أن نتعرف عليك أكثر.

    ولعدة ساعات سألني ابراهيم عشرات الأسئلة عن أهلي وأقاربي وأصدقائي .. وعن الإسكندرية والحي الذي أسكن به. وسلمني ملفاً به عدة ورقات طلب مني أن أكتب سجل حياتي وأجيب عن الأسئلة المكتوبة باللغة العربية. وجاءني بخريطة كبيرة للإسكندرية علقها على الحائط وطلب مني أن أحدد موقع منزلي. . ثم علق خريطة أخرى لميناء الإسكندرية وطلب مني أن أحدد له بعض المواقع ففعلت.

    هذه القصة من كتاب للكاتب المصري عماد الفالوجي اسمه: جواسيس الموساد العرب قصة سقوط أشهر 25 جاسوساً عربياً للموساد يمكنكم الحصول على نسخة من الكتاب من مكتبة مدبولي بالقاهرة او من محلات بيع الكتب .




    عبارة طالما ترددت على الألسنة وعلى الأوراق باهتة المقصد، وإن كانت تعني أن الحب يدفع بالمحبين الى صنع ما لم يخطر ببالهم ليعيش الحب قوياً .. لا ترهبه ضربات الزمن أو عضات الوهن . .

    لكن . . هل يدفع الحب بالمحبين أيضاً الى طريق ضائع. . مظلم وأكثر رعباً من الرعب نفسه؟

    وهل يقود الحب – أحياناً – والفقر . .الى مصيدة الجاسوسية؟ ..

    هذا ما سنراه في مذكرات جاسوس الإسكندرية (فؤاد حسن علي حمودة) الموظف بشركة المضارب . . والذي دخل النفق المظلم – نفق المخابرات والجاسوسية – بسبب حب "نوسة" . . وقاده الحب المدمر الى النهاية الطبيعية لكل جاسوس خائن . . !!

    ضحية عشق نوسة
    أفاق على صوت مزلاج باب زنزانته الحديدي فارتعد جسده النحيل، ونظر باتجاه الباب في رعب لتصطدم عيناه بوجه الشاويش حمدون يطل عليه بملامحه الجامدة وشاربه الكث، وكأنه تمثال قُد من صخر.

    دفع "جراية" الطعام بعيداً وغاص في خوفه وهو يتأمل بزته الحمراء فانتفض بدنه في رجفة لا إرادية .. ثم انكفأ بوجهه بين ركبتيه يحيطهم بيديه المرتعشتين وأجهش في بكاء مرير، وارتفع نشيجه يشق سكون الزنزانة الضيقة المعتمة، إنه يموت كل يوم آلاف المرات كلما سمع وقع أقدام تتحرك أو صوت مزلاج يفتح.

    كان أمله الأخير ألا يصدق رئيس الجمهورية على حكم المحكمة ولكن خاب أمله وضاع. فلماذا إذن لا ينفذون حكم الإعدام سريعاً؟ ولم هذا الموت البطيء؟ أيكون الانتظار عقاباً نفسياً قبل الشنق؟

    هكذا تساءل فؤاد حمودة وهو حبيس الزنزانة الانفرادية في سجن مزرعة طرة .. وتحسس رقبته للمرة المليون وصرخ بأعلى صوته . . لا . . لا. . لست جاسوساً لإسرائيل . . أنا ضحية .. أنا ضحية الفقر . . وأخذ يضرب الأرض الباردة وهو يردد في وهن: وضحية حب نوسة . .

    وسكنت حركته بعدما استسلم لواقعه ولمصيره . . وتمدد على "البرش" ثم تقلب وتكور متوسداً إحدى يديه ضاغطاً بالأخرى على أذنه . . فيسمع صوتاً يشبه هدير موج يتعاقب، وضربات قلبه اللاهثة تدق في اضطراب تعلن عن مدى الخوف الذي سكن بأعماقه .. والرعب الذي يخترق أفكاره ويشتتها.

    ارتد الى الوراء يتذكر بدايته وتسلسل حياته الى أن صار جاسوساً لإسرائيل. مدفوعاً بحب نوسة العجيب . . حب دفع بالحبيب الى حبل المشنقة.

    وبعد إعدامه عثروا في زنزانته على لفافة من الأوراق سجل بها قصة حياته بإيجاز أحياناً. . وبتفصيل مطول أحياناً أخرى.

    إنها قصته مع الحياة . . ومع الحب . . ومع الجاسوسية. يقول فؤاد في مذكراته التي خلفها وراءه:

    . . . كان والدي موظف بسيط في الحكومة وأمي لا تعمل . . وكانت الأسرة كبيرة العدد قليلة الدخل والأفواه لا تكف عن المضغ والطلبات ترهق الأب . . فتحيل نهاره الى سعي وشقاء وليله الى نوم متقطع وسعال.

    كنت الإبن الثالث ومن بعدي ثلاثة آخرون. أنهيت تعليمي المتوسط وجلست أنتظر فرصة للعمل. ولم يخطر ببالي أنني كنت أنتظر نقطة البداية التي سأنطلق من خلالها الى خط النهاية بسرعة البرق. مدفوعاً بقوة لا أستطيع مقاومتها. . ذلك أنني رفعت سماعة التليفون ذات مساء ممل . . فجاء صوتها كالنسيم رقيقاً حنوناً بعث الدفء بأعماقي . . ودار بيننا حديث طويل امتد لقرب الصباح.

    كان اسمها نوسة طالبة في الدبلوم. تسكن في سبورتنج. . تكرر أحاديثنا التليفونية لعدة أيام متصلة. . فالتهبت حرارة الأسلاك وهي تحمل جرعات الرغبات المتزايدة التي ترسلها نوسة بصوتها الأنثوي المسكر . . وكأنه خمر ينصب رقراقاً خلال سماعة التليفون. ونسيت مع مكالماتها وحدتي برغم الزحام والضجيج في شقتنا. . واتجهت لكتابة الشعر . . تبدلت حياتي كلها .. إذ أصبحت نوسة هي شاغلي ومشاغلي . . أنام على صوتها وأصحو .. وأحس معها بالمرارة التي تغلفها أحياناً رغم أنها وحيدة أبويها .. وتقوم أمها على خدمتها وتعاملها كملكة على عرش قلبها.

    كانت فتاة مرفهة الى درجة الجنون رقيقة لا تتصنع. . مثيرة لا تتركني أهدأ . . أو تخمد نيران رغباتي تجاهها برغم سنها الصغير وقلة خبرتها بالحياة.

    لكنها برغم ذلك استطاعت أن تحكم قيدها حول حواسي . . فأدور في فلكها كالمنوم. . حتى وهي تحاول أن تستدرجني لأحاديث الجنس كنت أبدو كالأبله . . فأنا لا أعلم شيئاً عنه. إلا أنها تمادت في استدراجي فتجاوبت معها عبر الأسلاك يشجعني صوتها الذي يحرك الجبل وهتفت في نفسي لأرفض وهي تضغط. أرفض وهي تقتل قوتي وتحصد مقاومتي ورفضي بتأوهات يفور لها جسدي كبوتقة تغلي . . ولما فشلت معها أرقتني الرغبة المحبوسة فتأثرت لحالي. . وفوجئت بها تعرض علي أن أزورها بمنزلها بعد منتصف الليل . ثم تحول العرض الى دعوة ملحة . . وضايقها ترددي وخوفي. لقد كان عمها المحامي يسكن في الشقة العلوية وهذا الأمر أخافني. . إلا أنها دبرت كل شيء في جرأة مدهشة. . فذهبت اليها بعد منتصف الليل في إحدى الليالي الباردة مدفوعاً برغبتي العنيفة . . وكان هذا أول تدريب لي على عمل الجاسوسية.

    وعندما جلست بجوارها على حافة السرير – على بعد خمسة أمتار من حجرة والدها – سألت نفسي: هل حبيبتي مومس تخدعني أم هي مراهقة تحب؟ وغادرت شقتها لا أصدق أنني نجوت بحياتي من مصير مجهول. وأعترف أنه برغم سعادتي برجولتي . . إلا أنني فقدت أشياء لذيذة كنت لا أريد مسها . . وأهمها أنني فقدت بعض ثقتي بها . . ولكن صديقي حاتم أكد لي أن الحب أعمى . . وأن الفتاة تسلم كل شيء لحبيبها عن قناعة ورضا لأنها تحب.

    وبعد عدة أيام دعوتها الى شقة أختي المسافرة الى الخارج مع زوجها فجاءت نوسة بسهولة .. وبسهولة أكثر جعلتني أخلع عنها ملابسها دون أن تصدني ولو كذباً وكأنما هي اعتادت ذلك من قبل . . لكن الذي أذهلني بحق هو أنني فوجئت بها ليست بكراً . .

    صفعتني المفاجأة وتحطمت ثقتي بها وفي كل بنات جنسها وأغمضت عيني عن هذا الخطأ مؤقتاً. لقد كنت أحبها ولذلك تعمدت ألا أذكر هذا الأمر ثانية . . لكنها هاجمتني بعنف واتهمتني بأني ضيعتها. أخذتها الى أشهر دكتور في الإسكندرية فلم يصارحني بالحقيقة. . ونسينا الأمر برمته، وكنت لا أستطيع فراقها أو ابتعادها عني. فلقد صارت في دمي . . !!

    إفعلْ شيئاً لأجلي
    وتصف لنا مذكرات جاسوس الإسكندرية أدق خلجاته وإحساساته. كتبها في لحظات صدق مع نفسه قبل أن يلتف حبل المشنقة حول رقبته. وكان قد تقدم بالتماس الى الرئيس أنور السادات يطلب تخفيف حكم الإعدام ولم يصل الرد بعد على التماسه الذي كان هو الأمل الأخير له في إنقاذه.

    ولأنه عاش كثيراً يحلم بتحقيق هذا الأمل. . فقد اتسمت مذكراته بالسرد الدقيق والوصف الرائع لكل جوانب حياته. صفحات بلغت أكثر من مائتي صفحة تحمل مشاعر جاسوس خائن . . اعتقد أن الحب كان السبب الرئيسي في وقوعه في جبّ الجاسوسية العميق المظلم. يقول الجاسوس:

    في زنزانتي الرطبة الضيقة .. أنام يقظاً مع انسحاب الشمس وأصحو مع أول خيوطها. وما بين النوم واليقظة ترتعش حواليّ كل الصور .. وترهبني خطوات السجانين طوال الليل. . فأظل أنصت مرعوباً وهي تقترب فأحس باقتراب الموت .. وتبتعد فأتنهد. . ثم يتملكني الهلع. وهكذا كنت لا أنام ولا أهدأ . . أتخيل وجه نوسة الرائع وهي بين أحضاني . .أرتشف من أنوثتها لذاذات جميلة .. وأحسو شراباً مسكراً ومعتقاً .. وأعيش معها أجمل لحظات عمري نخوض معاً بحور المتعة .. ونجوب نبحث عن مشتقات أخرى للنشوة تغتال فينا الملل والكآبة ..

    ولم تكد تمر عدة أشهر . . إلا وخطبت نوسة فجأة وانشغل تليفونها عني في المساء، فجن جنوني وأقسمت أن أفوز بها ولا أتركها لغيري بعدما أدمنتها. . لكنها كانت تتهرب من لقائي وجنوني. . وتملكني الشعور القاتم بالهزيمة وأنا أضرب رأسي بيدي وأرتجف غضباً وأردد: "أيتها المومس الحقيرة .. أحبك . . أحبك بوجهك الطفولي البريء وصوتك الساحر . . أحبك وأنت تصعدين ورائي الى الطابق الخامس في شارع "الجلاء" ترتدين زي المدرسة وتحملين حقيبتك .. وتنشدين ما يكفيك من النشوة لعدة أيام قادمة .. أحبك يا عاهرة كاذبة . . ولن أنسى يوم خطبتك لهذا المغفل الذي نزف عليك مئات الجنيهات كما نزفت أنا معك رجولتي".

    يومها . . طلبت مني والدتي أن أقرأ عليها عدة صفحات من رواية عاطفية . . فجلست أقرأ لا أدري أي سطور قرأت وقد اختنق صوتي وتلجلج لساني . . وبكيت بكاء الضائع الذي فقد الطريق والأمان.

    ثلاثة أشهر وعادت نوسة ذليلة يغشاها انكسار الهزيمة بعدما فشلت خطبتها .. ولم تمهلني الوقت لأفكر فاستردتني سريعاً واحتوتني من جديد فقلت لها:

    أنا لم أكرهك يوماً. . أحبك وإن كنت عاهرة تستأجر.
    فؤاد – يا فؤادي . . يا حياتي . . اشترني ولا تبخس الثمن.
    اشتريتك.
    سافر وكافح من أجلي . . سافر الى أي مكان في الدنيا وعد بالثمن.

    قلت لها:
    لقد عينت في شركة مضارب الإسكندرية بسبعة عشر جنيهاً.

    قالت في يأس:
    لن نتزوج إذن قبل عشر سنوات.
    أهلك يبالغون في المهر.
    سافر لعام واحد وسأنتظرك . . سافر .. إنه الحل الوحيد لنا.
    لا أملك مصاريف السفر . . أنت تعرفين كل الظروف.
    ألم تخبرني أن شقيقتك ستعود عما قريب؟
    نعم .. أرسلت لنا بأخبار عودتها بعد شهر ونصف.
    اقترض منها مبلغاً وخذ مني هذه الإسورة.

    وأضافت وأنفاسها تلهب وجهي: إفعلْ شيئاً لأجلي. وسأظل أنتظرك وأنسج ثوب عرسي كما كانت تفعل "بنيلوبي" قديماً.

    في جوتـــن نخــــت
    ومنذ تلك اللحظة . . قررت أن أسعى للسفر خارج مصر. كانت الأبواب مغلقة في وجهي . . وحرب الاستنزاف على أشدها بين مصر وإسرائيل . . وهناك مفاوضات من أجل الهدنة والأمور سيئة وتزداد سوءاً.

    عادت شقيقتي من الخارج وعندما طلبت منها قرضاً أحالتني الى زوجها الذي تهكم وسخر مني .. وعندما علم والدي عنفني بشدة .. وأشفقت والدتي على حالي فأعطتني آخر ما تملكه من حلي فلما قبلت يد شقيقتي مرة أخرى وقلت لها أنقذيني من جنوني منحتني سبعة وعشرين جنيهاً. . ولم تمر عدة أيام إلا وكنت أجمل في جيبي تذكرة طائرة الى بون. . وسافرت الى ألمانيا الغربية يملؤني إحساس بالمرارة والظلم والضعف.

    كانت معي رسالة الى أحد المعارف في مدينة دوسلدروف شمال بون. . وعندما التقيت به نظر إليّ كمن ينظر الى كلب أجرب. . حتى صديقته الألمانية كانت تسخر مني وتضحك كأنها ترى بلياتشو برغم أنني لا أعرف كيف أكون مضحكاً فأُضحك الناس. وكنت قد مررت في طريقي بمدينة ساحرة إسمها كولون. .فعقدت العزم على العودة إليها وأغامر علني أوفق بمفردي ورجعت جنوباً حتى كولون الواقعة على نهر الراين الخلاب .. فسحرتني المدينة الأنيقة واستولت على عقلي ..

    عثرت على بنسيون رخيص اسمه "فارسبورجر" تديره سيدة بشوش اسمها بيرجيت كلاين كانت تعاملني بلطف . . وبإنجليزية ركيكة شرحت لها ظروفي ورغبتي في العثور على عمل فتأثرت لحالي.. وبعد يومين ذهبت الى مصنع بويات يمتلكه زوج ابنتها بيتر راينهارد يقع على أطراف المدينة . . وبعد عمل متصل ليل نهار لعدة شهور استطعت أن أجمع خمسة آلاف مارك . . فأرسلت خطابي العاشر الى نوسة أطمئنها. وبرغم إلحاحي في الرد على رسائلي لم يصلني منها خطاب واحد. . فانتابني قلق شديدة ولم أتمكن من مكالمتها تليفونياً فكتبت الى صديقي حاتم أطلب منه موافاتي بأخبارها. . وكان الانتظار يقلقني بل ويفتك بأعصابي. .

    كانت نوسة رغم الجميلات من حولي هي الأجمل والأرق والأروع ولا تفارق خيالي للحظة وأحلم باليوم الذي يجمعنا .. لذلك . . كنت أعمل بجد وردية ونصفاً وأفرتش ورق الكرتون وأنام .. يرفرف خيالها حولي وذكرها يمدني بالقوة ويمنحني الصبر . . وتعلمت كيف أحرم نفسي من أبسط الأشياء لأدخر وأعود إليها مرفوع الرأس . . ولما جاءني الخطاب المنتظر من حاتم ارتعش قلبي لرؤيته. . فما بين سطوره يحدد لي مصيري واتجاهات حياتي .. وملأني شعور غامض بالخوف وأنا أفتح الورقة المطوية .. وزلزلتني المفاجأة التي لم أتوقعها قط: نوسة تزوجت منذ شهرين وانتقلت للإقامة في "الكنج مريوط".

    لطمتني العبارة بعنف فأصابني دوار وأطبقت الجدران على أنفاسي . . وأيقنت أنها ضاعت مني الى الأبد. وأيقنت أيضاً أنها طراز غريب من النساء من الصعب نسيانه. . وعلى امتداد البصر في الخيال والواقع لا أرى سوى وجهها الطفولي البريء ويتجسم أمامي جسدها الأنثوي فأتحسسه:

    كان الجليد يتساقط كأنه ندف من القطن الأبيض الناصع في شهر فبراير 1970 والباص يقلني الى شارع "كلنجهاوس" مشيت وسط الزحام لا أنوي على شيء ودون قصد اتجهت الى شارع "فينشا".. حيث أضواء الكباريهات تتلألأ متراقصة . . والداعرات يقفن على النواصي يساومن المارة. وما إن عبرت الى الناصية الأخرى من الشارع متجهاً الى كباريه "جوتن نخت" الشهير . . قذفت واحدة منهن بنفسها في طريقي فأزحتها بيدي . . ودلفت الى داخل الكباريه لأول مرة في حياتي. . شربت ورقصت وسكرت .. وبدلاً من الذهاب الى حجرتي في المصنع، ذهبت الى بنسيون فارسبورجر.

    دهشت السيدة كلاين وطلبت منها ألا تسألني عن أي شيء فسحبتني الى إحدى الحجرات . .ومنذ ذلك اليوم لم أعد أقيم للأمور وزناً. .

    تساوت عندي كل المتناقضات وأحاطتني قتامة من اليأس والاهتزاز . . وتفاعلت بداخلي ثورات من الشك والحزن والكآبة . . وصرت زبوناً دائماً في جوتن نخت، أمر على محل هورست للملابس فأصحب "كريستينا" للعشاء ثم نسهر ونشرب حتى الثمالة .. هي الأخرى وحيدة مثلي هجرت أسرتها في دار مشتات هرباً من ذكرى حبيب غدر بها. وتركت البنسيون وأقمت معها في غرفتها نتعاطى الجنس كالطعام لننسى أننا خدعنا.

    وعندما أنفقت آخر مارك كان معي تأففت كريستينا وتملكها الضجر .. فذهبت الى المصنع مرة أخرى فلم أجد عملاً هناك حاولت أن أجد فرصة عمل بمكان آخر لكن الظروف كانت كلها ضدي. . فعجزت عن الإنفاق على نفسي. . وطردتني كريستينا من شقتها . . ونبهتني السيدة بيرجيت كلاين صاحبة البنسيون لكثرة ديوني ولما عضني الجوع ذهبت الى الكباريه أطلب عملاً. . أي عمل.

    ولأنني زبون معروف لديهم صعد بي أحدهم الى الطابق العلوي حيث مكتب المدير الفخم . . استقبلني الرجل بحفاوة بعدما اكتشف أنني مصري . . وأخبرني أنه زار مصر منذ عدة سنوات وسألني عنها فقلت له بقرف "زي الزفت". . لقد كنت في حالة نفسية سيئة والجوع ينهش معدتي . . ويطاردني شبح ترحيلي الى مصر خاوي الوفاض تنوء حقائبي بيأسي وفشلي . . وسألني الرجل مرة ثانية.

    لماذا جئت الى هنا؟ "يقصد ألمانيا".

    قلت في أسى:
    الفقر والحب. .

    وبعد أن سردت عليه قصة حياتي بإيجاز .. أسف لحالي . . وبصوت به رنة الواثق قال:
    بإمكانك أن تصبح مليونيراً .. المهم أن تكون أكثر ديناميكية وتعاوناً. .

    ضحكت في تعجب وسألته:
    مليونيراً؟ كيف وفي جيبي أحد عشر ماركاً ونصف ولا أنطق بالدوتش وإنجليزيتي مهترئة .. كيف؟

    ترك جوتل هاوزن مقعده خلف المكتب وجلس قبالتي يفرك يديه وقال:
    نشأت مغامراً شجاعاً أكره الخوف والجبناء .. سنوات قليلة وكنت شريكاً في هذا النادي ثم امتلكته لأنني دست على أشياء كثيرة لكي أحقق طموحاتي .. وأعرف أن الرجل الشرقي عاطفي يخشى المغامرة ومقيد بتقاليد وأعراف.

    سيد هاوزن أنا مستعد لأية مغامرة تنتشلني من الفقر والضياع.
    إذن . . إنس أنك مصري . . مسلم .. وتذكر فقط أنك هنا . . في ألمانيا الغربية . . في أوروبا.
    سأنسى .. لا أريد أن أتذكر هذا الماضي اللعين .. أريد أن أكون إنساناً آخر.

    ضغط الرجل على زر فجاءت فتاة رائعة مثيرة والتفت الي قائلاً:

    هذه سيلفيا . . من الآن سترافقها في سفرها الى ألمانيا الشرقية لبعض الأعمال التجارية.

    ابتسمت سيلفيا ونظرت إليهما في بلاهة .. وعندما أوشكت على سؤاله عن عملي الجديد أصدر أوامره الى سيلفيا بأن تدفع حساب البنسيون وتصحبني الى شقتها. .

    وقام الى مكتبه وعد بعض النقود وناولها لي قائلاً:
    هذه لك .. وللعمل حساب آخر.

    وبينما كان يسلم نقوداً أخرى لسيلفيا أدركت أن المبلغ ألف مارك .. فدارت الأسئلة في خيالي وتساءلت بيني وبين نفسي:
    "ماذا سأعمل بالضبط؟"

    وقررت أن أغامر وألا أستسلم أبداً مهما كانت المصاعب . . وأفقت على يد سيلفيا تجذبني فمشيت وراءها. . وبدأ منذ ذلك الحين أولى خطواتي على الطريق المجهول . . والذي في نهايته كانت تنتظرني المشنقة.

    عيون لا ترى الشمس
    وفي شقة سيلفيا الرائعة التي تطل على نهر الراين .. حيث البانوراما تخلب الألباب وتدير الرؤوس .. تذوقت أنوثتها العجيبة التي أنستني نوسة ولهيب حبها .. وبينما كنا عاريين نستريح سألتها:

    سيلفيا ماذا سأعمل معك؟

    أشعلت سيجارة وجذبت نفثاً عميقاً وقالت:
    التهريب .. !!

    قلت مستفسراً وقد تملكني القلق:

    تهريب. . ؟ تهريب ماذا؟

    وهي تنفث دخانها في وجهي:
    نحن ندخل الخمور والسجارئر والساعات الى ألمانيا الشرقية مهربة على الحدود.

    قمت مسرعاً وارتديت ملابسي وأنا حانق . . واتجهتْ مباشرة الى جوتن نخت وصعدت الى مكتب المدير وتعجب الرجل لرؤيتي وتساءل وهو يهز رأسه:
    ماذا بك؟

    كان صوتي عالياً في استنكار وأنا أقول:
    تهريب الخمور والسجائر يا سيدي لن يبني لي مجداً أو يرفع من شأني . . إنه عمل تافه.
    تريد أن نزرع بك الجرأة ثم نوكل إليك الأهم والأكبر.

    لو لم أكن جريئاً ومثابراً ما جئت الى هنا لا أملك مالاً أو لغة .. أنا لست سوى فدائي مغامر.

    في لهجة مليئة بالتحدي:
    أتريد أن تثبت لنفسك أنك مغامر. .

    فقلت في اندفاع الواثق:
    سيد هاوزن أريد أن أؤكد . . نعم أؤكد لكم أنني جريء لحد المغامرة .. وأريد أن أعمل وأكسب لا أن أخبئ بعض علب السجائر والعصير وأعبر بها كاللص الى الناحية الأخرى من ألمانيا.

    قلت لك يا فؤاد أن تهريب السلع تمرين لك لا أكثر.

    تمرين على ماذا؟

    لمعت عيناه كعيني ثعلب ماكر وبصوت هامس قال:
    مهمة سرية جريئة ستكسب من ورائها نصف مليون مارك على الأقل .. إنه مبلغ خيالي قد تشتري به حياً بأكمله في الإسكندرية هه .. ماذا تقول؟

    جف حلقومي فجأة وانحبس صوتي وأنا أقول:
    اعتبرني قد تمرنت وأنا الآن جاهز للمهمة الكبرى . . أريد هذا النصف مليون ولو كلفني ذلك أغلى ما أملك .. وكل ما أملك.

    ابتسم هاوزن وأردف:
    أنت لا تملك شيئاً ولكننا نريدك أن تملك.

    أنا طوع أمرك يا سيدي.

    تناول الرجل كارتاً صغيراً وسلمه لي وهو يقول:
    إذهب غداً الى هذا العنوان.

    وقرأت: السفارة الإسرائيلية بون شارع .. فرمقته بنظرة غليظة وقد سرت بأوصالي رعشة .. وقلت بصوت أجش:
    وما دخل إسرائيل في تهريب السلع الى ألمانيا الأخرى؟

    في بون ستعرف كل شيء .. وسيدفعون لك بسخاء إذا تعاونت معهم.

    كان الخوف قد بدأ يساورني وقلت في تلعثم:
    تريدونني جاسوساً إذن؟

    أجابني بسرعة وكأن رده كان جاهزاً:
    إسرائيل ليست بحاجة إليك لتعمل جاسوساً .. فأنت لا تملك هذه الموهبة ولست بالشخص المهم الذي تستخلص منه معلومات سرية.

    قبل مغادرتي مصر بوقت قريب قرأت في الصحف عن جاسوس مصري عاطل لا يعمل بالحكومة ولم يؤد الخدمة العسكرية فلماذا اختير جاسوساً وما الفائدة منه؟

    اسمع . . طالما نحن في حالة حرب مع العرب – فسوف ينظر الى نياتنا بالريبة والشك ..

    تشققت شرايين عقلي عندما نطقها صريحة .. وأحسست بأنني أترنح وأرتجف .. لكني استجمعت قواي الخائرة في صعوبة وسألته:
    أنت إسرائيلي إذن سيد هاوزن؟

    أنا يهودي ألماني أحب إسرائيل والعرب وأحلم دائماً بالوفاق بينهما.

    ودخلت سيلفيا مضطربة. نظرت الى وجهينا تستخلص نتائج اللقاء . . ويبدو أنها فهمت جيداً أن شيئاً ما قد حدث. فهتفت سريعاً:
    أوه . . أيها المصري المراوغ . .

    وأخرجت منديلها تمسح قطرات العرق على جبهتي. . وكنت لحظتئذ كتائه يبحث عن ملاذ . . يملؤني إحساس غريب أحسه لأول مرة. إنه مزيج من الخوف والطيش واللامبالاة . .

    لملمت إرادتي ونزلت معها الى الصالة فشربنا ورقصنا .. واستيقظت في الصباح لأجدها عارية بجواري . . وجسدها الأفروديتي ينفث حرارة تلسع رجولتي .. لكنني كنت قد فقدت الرغبة تجاهها وسافرت بخيالي الى بعيد، الى الإسكندرية، وهجم طوفان من الذكريات والمشاهد واستسلمت هرباً من توتري واضطرابي. فطفت كالطائر فوق كازينو الشاطئ على الكورنيش وتجولت بداخله. . واتجهت الى الركن الذي شهد أروع لقاءاتي مع نوسة . . فتحسست الموائد والمقاعد علني أتنسم عطرها. وعندما اتجهت طائراً الى قلعة قايتباي . . مدت سيلفيا يدها تداعب شعري ولكن هيهات .. لم تخرجني من رحلتي لمسجد سيدي بشر الذي يطل على البحر من مرتفع . . فلكم جلست على أسواره أتفكر في مستقبلي المجهول وحياتي الخاوية .. وكثيراً ما عرجت خلف المسجد حيث تقع المقابر فأنشد بعض الرضى والصبر.

    ياه . . هاهي أشجار التين البرشومي على ساحل العجمي تتناثر على مرتفعات التلال وصبيان يرعيان الماعز ويلعبان "السيجا". طفت أتذكر مراتع طفولتي وصباي. . برائحته الآزوتية يلفح وجهي نسيم البحر رطباً . . ويطير خيالي الى محرم بك حيث بيتنا الجميل وضوضاء الباعة الجائلين .. وتوقفت عند يوم سفري حيث وجه والدتي النوراني والدموع تشق أخدودين على خديها . . وبحنان كبير تقبلني وتضمني الى صدرها بحرارة . . وها هو يقف محزوناً . . لم أر والدي من قبل يبكي . . أشعره العجز عن تحقيق آمالنا بحسرة تنطق بها نبرات صوتها الحزينة. وها هي هدير – صغرى شقيقاتي – تخلصت من أحضانها بمعجزة. . كانت تحس بمعاناتي أكثر من شقيقتي الكبرى التي وقفت تقول: دعوه يسافر .. فالسفر يحوله الى رجل.

    ودون وعي . . أزحب يد سيلفيا عن صدري ونظرت اليها في "زهق" فانتبهت .. ورفعت رأسها قليلاً لتلمح حبات دموع تعرف طريقها جيداً على وجهي . . وانتابتني رجفة خفيفة فضمتني الى صدرها وقالت:

    علام القلق يا فؤاد؟ أنت لن تذهب الى جهنم حتى تضطرب هكذا.

    أجبتها بصوت مبحوح مختنق:
    سيلفيا . . أنا فقط تذكرت أهلي في مصر.

    وهي تضغطني بشدة:
    عما قريب ستعود اليهم ومعك آلاف الماركات.

    ماذا يريدون مني مقابل هذه الثروة.

    أنا لا أفهم في السياسة. لكنهم بلا شك يعملون من أجل السلام وأمن إسرائيل.

    أنا أيضاً لا أحب السياسة ولا أفهمها. وما أذكره أن إسرائيل احتلت سيناء والضفة والجولان . . ولا أعرف بالضبط ما هي الضفة أو الجولان؟

    أعتقد أنك مصري مقامر . . لديك عزيمة المغامر وإصرار العنيد.

    ربما أكون كذلك وإلا ما جئت الى هنا.

    قلت لي أنك جئت مديوناً .. أليس كذلك؟

    بلى .. جئت مديوناً. . وكنت أتسول مصاريف السفر ذليلاً. حتى والدي . . كان يعتقد بأنني سأخذله . . ولم يكن يثق فيّ للحظة.

    زوج شقيقتك قلت لي أيضاً أنه آلمك كثيراً وسخر منك.
    كفى . . كفى سيلفيا . . أريد ألا أتذكره. لقد رفض وداعي في المطار وقال باستخفاف سأذهب لاستقباله بعد عدة أيام قادماً بفشله.

    هجمت علي مشاهد الإذلال التي عشتها في الإسكندرية وأنا أبحث عمن يمد لي يده بجنيهات قليلة تعينني في سفري . . فامتلأ قلبي غيظاً وغضباً .. وسمعت سيلفيا تقول:

    فؤاد لا تحرق أعصابك فأنت مقبل على عمل هام يجب أن تستعد له بذهن صاف.

    نعم . . صدقت أيتها الملعونة . . وضممتها مداعباً خصلات شعرها الذهبي الناعم وقبلتها قبلة نارية طويلة وقلت:
    متى سنلتقي بهم في بون؟

    لم ترد علي فقد استغرقت قبلتها المجنونة وقتاً طويلاً .. ثم انتصبت جالسة فجأة وأخذت تضرب صدري بيديها وتصيح:
    من أي أرض أنت أيها الوحش؟

    كانت حرارتها قد ازدادت اشتعالاً .. وتعمدت أن تغرقني في مستنقع الجنس ولا أفيق من خمره أبداً .. أنوثتها أسبغت عليها الخبرة أنوثة أقوى . . وبعد أن استرحنا قليلاً أدارت قرص التليفون وتحدثت مع هاوزن. . فلم أستطع فهم حوارهما حتى انتبهت اليها تقول:

    ميعادنا الثامنة مساء اليوم في بون؟

    نظرت في ساعة يدي وقلت:
    75 كيلو متراً يقطعه الباص في ساعة تقريباً حتى بون يجب أن نصل مبكراً. أريد شراء ملابس جيدة من محلات جونتر الشهيرة .

    استسلمت لمصيري . . وأغمضت عيني عن المخاطر التي تحدق بي .. فقد كنت كالتائه في الصحراء أكاد أموت عطشاً لو لم أنبش الأرض بأظافري لأشرب. وأخذت سيلفيا تسقيني جرعة زائدة من الثقة في نفسي. . وتؤكد على أنني حر ولا سلطان لأحد علي إلا المال الذي سوف يتدفق من حيث لا أدري. وتمادت في إيهامي بأنني شخصية مرموقة ومهمة حتى خيل إلي أنني رئيس الجمهورية العربية المتحدة. وبيدي حل أزمة الصراع العربي الإسرائيلي في الشرق الأوسط.

    وكـــــــــر الحيـــــــة
    عندما ركبنا الباص في بون كان نهر الراين عن يساري ينساب رقراقاً متهادياً تغطيه أحياناً أسراب من الطيور البيضاء .. وكانت الخضرة متمد يميناً ويساراً الى مساحات شاسعة .. فتبدو كبساط رائع تتخلله ألوان الزهور الزاهية في الربيع .. وتظهر البيوت الريفية وسط الحقول بشكلها الجميل يبعث شعوراً بالبهجة والهدوء. .

    تذكرت النيل وأرض الدلتا تزهو به وترفل في أثواب بديعة من ألوان شتى. وتذكرت الريف الفقير في بلدي وقلت في نفسي إن الفارق الكبير بينه وبين الريف الألماني الذي لا يقارن يعود في الأصل – كما قال هازون – الى حالة الحرب التي سيطرت على مصر. ولولا الحروب لكانت أجمل بقاع الأرض.

    هذا الأمر جعلني لا أنبذ فكرة الاتصال باليهود أو التعاون معهم. . إذ صور لي خيالي أنني قد أساهم في خلق مجتمع أفضل في وطني. اعتقدت أيضاً أنني صاحب رسالة يجب أن أؤديها. ولم أقنع عقلي أنني بالتعاون مع الإسرائيليين صرت جاسوساً لهم على أهلي ووطني. ولكن . . تغيرت المفاهيم تماماً بعد زيارتي لسفارة إسرائيل!!

    في غرفة رائعة بفندق ماجستيك . . استبدلت ملابسي وتهيأت للقاء المرتقب. . وعند الباب الرئيسي كانت تقف بانتظارنا سيارة أوبل حديثة وقف بجانبها شاب مهذب فتح الباب الخلفي فركبت بجوار سيلفيا وساقاي ترتعشان في قلق لا إرادي . . واخترقت السيارة شوارع بون تحملني الى المجهول. وعندما وقفت أمام مبنى سفارة إسرائيل يعلوها العلم الأبيض ذو النجمة السداسية الزرقاء – نجمة داود – تسمرت قدماي واقشعر بدني كله. . فجذبتني سيلفيا الى الدخل وهي تصيح في دلال:
    هه .. حبيبي . . ماذا جرى لك؟

    فمشيت وراءها كالمنوم. . وفي الطابق الثاني من السفارة . . استقبلتنا فتاة بشوش أزالت ابتسامتها بعض الرعب الذي جثم على صدري . . وقادتنا الى غرفة تقع في نهاية ممر طويل.

    كانت غرفة مكتب لا أحد بها .. وعلى الجدار كانت هناك صورة لسيدة عجوز وأخرى لرجل لم يعجبني منظره. لقد كانت العجوز تبتسم في خبث بينما هو يزم شفتيه في تحد وشماتة.

    خرجت الفتاة ووضعت سيلفيا ساقاً فوق ساق فأظهرت ثلثي فخذيها وقالت بعدما أشعلت سيجارتها:
    فؤاد . . الأمر ليس سيئاً الى هذا الحد . . تبدو كأنك تغرق.

    أنا؟ . .

    نطقتها وكنت في الحقيقة أرتجف بشدة وتصطك أسناني في اضطراب .. ويبدو أن سيلفيا أرادت تهدئتي فقالت بصوت محبب مريح:
    بإمكانك أن تنصرف الآن .. لن يمنعك أحد.
    تفضل . . مستر فؤاد.

    هكذا نطقت باسمي الفتاة التي استقبلتنا وقد دخلت وبين يديها صينية تحمل أطباق الحلوى وأكواب الشاي .. وفي أثرها دخل رجل أسمر شرقي الملامح وبعربية فصيحة صاح كأنه يعرفني منذ أمد:
    أهلاً أهلاً يا فؤاد .. كيف حالك؟

    صافحني بحرارة وهو يقول:
    أنا مصري مثلك .. إسكندراني .. وإسمي إبراهيم يعقوب . . أرجو أن تعتبر نفسك في بيتك هنا.

    تمتمت ببضع كلمات غير مفهومة فابتسم ورمق سيلفيا بنظرة سريعة فقامت على الفور وقالت لي:
    سأعود حالاً.

    وبينما كان يعد ويرتب بعض أوراقه كنت أطرقع أصابعي وبدأ التوتر جلياً على وجهي. ولم يتركني إبراهيم كثيراً إذ التفت إلي كلية وقال:
    حدثني عنك هاوزن كثيراً. أما سيلفيا فقالت عنك قصائداً.

    ثم أضاف:
    ماذا كنت تعمل في كولون؟

    في مصنع راينهارد للبويات.

    كم كان راتبك تقريباً؟

    كنت أوفر ألف مارك من بقية راتبي.

    أتريد أن نلف وندور أم نتحدث صراحة حتى نختصر المسافة والوقت؟

    أنا لا أفهم شيئاً.

    فؤاد . . أنت شاب ذكي وتعرف كيف تستغل المواقف لصالحك. وأنا أعرف أنك تمر بظروف سيئة في مصر وهنا أيضاً. هاوزن قال لي صراحة أنك مغامر عنيد .. رفضت العمل معه في تهريب السلع الى ألمانيا الشرقية لأنك أردت عملاً أهم وأكبر. . وبالتالي عائداً مادياً يتناسب وأحلامك وطموحاتك . أليست هذه حقيقة؟

    بلى .

    إذن. . عليك أن تعلم جيداً أنه برغم التوتر في الشرق الأوسط والصراع المرير ما بين إسرائيل والدول العربية. . فليس معنى وجودك هنا أننا نريدك جاسوساً. . لا . . نحن لا نريدك أن تخون بلدك .. فأن شخصياً لا أريد أن أتعامل مع الخونة. . ويبدو أن هاوزن كذب عليك كثيراً عندما أكد على أنك قد تكسب نصف مليون مارك بتعاملك معنا . . نعم . . كذب هاوزن فهذا مبلغ تافه . . ولأنك مغامر تبحث عن المال والمجد .. فقد تكسب مليون مارك في لحظة خاطفة. . إن النقود ليست بذات قيمة عندنا . . نحن فقط نحب المجتهدين. . ونعطي بسخاء وبدون حساب إذا م اتأكد لدينا أنك مخلص في تعاونك معنا.

    قلت له وأنا أتلعثم ولا أستطيع جمع شتات فكري:
    أنا مستعد للتعاون معكم على ألا أصاب بضرر أو ..

    لا . . لا . . لن يؤدي ذلك الى إلحاق أي ضرر بك .. مطلقاً .. نحن نريدك صديقاً ونسعى وبشدة للمحافظة على أصدقائنا في أي موقع وفي أي مكان.

    قلت وقد تجرأت لفتح مجالات حوار مختلفة:
    ماذا إذن تريدون مني؟

    نريد أن نتعرف عليك أكثر.

    ولعدة ساعات سألني ابراهيم عشرات الأسئلة عن أهلي وأقاربي وأصدقائي .. وعن الإسكندرية والحي الذي أسكن به. وسلمني ملفاً به عدة ورقات طلب مني أن أكتب سجل حياتي وأجيب عن الأسئلة المكتوبة باللغة العربية. وجاءني بخريطة كبيرة للإسكندرية علقها على الحائط وطلب مني أن أحدد موقع منزلي. . ثم علق خريطة أخرى لميناء الإسكندرية وطلب مني أن أحدد له بعض المواقع ففعلت.


    جس النبض

    الاحد ٢٠ تموز (يوليو) ٢٠٠٣


    بقلم فريد الفالوجي

    خرجت من السفارة الإسرائيلية منهك القوى وكأنني كنت أحارب في معركة شرسة. كنت أبحث عن سريري لأرتمي عليه. وتوقعت أن أجد سيلفيا تنتظرني بالحجرة لكنها لم تكن موجودة. فاستغرقت في نوم طويل وأفقت في الصباح أنتظر اتصالاً من سيلفيا أو إبراهيم فلم يحدث.

    لقد طلب مني إبراهيم أن أظل بالفندق ولا أغادر بون حتى يتصل بي. . ومرت علي خمسة أيام طويلة دون أن يتصل بي أحد. وكلما طلبت هاوزن في كولون لا أجده. وفجأة طرق الباب أحد موظفي الفندق وأخبرني أنه موظف بالحسابات. . وبدماثة خلق أخبرني أنني مدين للفندق بمبلغ 1600 مارك ويجب الإسراع في السداد.

    ارتديت ملابسي وربكت سيارة الى السفارة الإسرائيلية. . ولكن موظفة الاستعلامات أتت من الداخل وبيده امظروف بداخله مائتا مارك وقالت إن إبراهيم في مهمة وسيعود خلال أيام.

    وعدت الى الفندق لأحصي المبلغ كله الذي أملكه فوجدته يقل عن الخمسمائة مارك.. وقلت في نفسي . . لا بد أن أتصرف وأسدد الفندق وإلا فستقبض علي الشرطة. وتعجبت. . ذلك أن سيلفيا أكدت لي أنني لن أدفع حساب الفندق. فماذا حدث إذن؟ وأين سيلفيا هي الأخرى؟

    استلقيت على سريري أفكر في هذا المأزق وفي آلاف الماركات والدولارات التي وعدت بها. . واضطربت لسوء موقفي بسبب قلة النقود معي. . لكني لازمت الفندق ولم أغادره انتظاراً لاتصال إبراهيم أو سيلفيا. وبعدما فقدت الأمل فيهما جاءتني مكالمة من السفارة الإسرائيلية تطلب مني أن أذهب إليها حالاً.

    وهناك تعرفت على أبو علمون الذي اعتذر لسفر إبراهيم المفاجئ. . واصطحبني الى غرفة بها صفوف من المقاعد . . ولما أطفأ الأنوار وأدار آلة عرض شاهدت أنواعاً مختلفة من الدبابات والمدرعات والسيارات المجنزرة. وشرع أبو علمون في تلقيني كيفية التمييز بينها وعندما سألته لماذا؟ أجابني بأن هذا هو صميم عملي الذي سيكون في ميناء الاسكندرية وسألني بحزم:

    ألست مغامراً يبحث عن النقود ؟

    أجبت في ذعر:
    بلى .. ولكن . .

    قاطعني بحسم:
    نحن نريد أن نمنع الحرب بين مصر وإسرائيل. والشرق الأوسط الآن منطقة ملغومة وسوف ندفع لك مليون مارك – فوراً – إذا عرفنا بواسطتك أن مصر ستحارب.

    وكيف سأعرف؟

    من السهل جداً أن تعرف ذلك . . فإن تدفق الأسلحة من الاتحاد السوفياتي الى مصر لدليل قوي على نية الحرب عند المصريين، كذلك حركة تنقلات وحدات الجيش المصري .. وما عليك إلا أن تكون عيناً لنا وأذناً. عيناً على ميناء الاسكندرية الذي يستقبل السفن المحملة بالأسلحة والمعدات .. وأذناً لنا نسمع بها ما يدور سراً في الجيش المصري. .

    كان جسدي يرتعش وحل اضطراب شديد بأعضائي. . الآن .. الآن فقط عرفت مهمتي بالضبط.

    استغرق أبو علمون في الحديث الذي كان "يطعمه" بالإغراءات المادية. . وبالخير الذي سينصب فوق رأسي بتعاوني معهم . . ويتعمد أن يذكرني كل لحظة بظروفي المعيشية الصعبة .. وبأنني لست في محطة باص ولكن في سفارة إسرائيل.

    . . كانت نبرة التهديد واضحة ومخيفة تحمل خلفها الموت والدمار. . وتعقبها نبرة مغلفة بالوعود البراقة .. فحوصرت .. ورفعت الراية البيضاء في النهاية. . دون أن أحسب حساباً لمصير أسود ينتظرني . .فقد ملئت ثقة بأنني في مأمن كامل معهم.

    العملاق الذي مات
    أعاد أبو علمون تشغيل آلة العرض الـ 16 مليمتراً .. وأخذ يشرح لي الكثير عن الأسلحة المختلفة والمعدات العسكرية. . وبقيت طوال اليوم في السفارة الإسرائيلية أتدرب على تحديد أنواع المعدات وموديلاتها.

    وعندما عدت الى الفندق – قامت "كاتيا" التي رافقتني من السفارة، بدفع المتأخرات وصعدت معي الى غرفتي وقالت لي أنها ستصاحبني الى سهرة خاصة ستعجبني.

    أبدلت ملابسي وخرجت معها تقود سيارتها وهي تغني أغنية لأم كلثوم فصرخت بها:
    أنت فلسطينية؟

    نظرت إلي ثم استمرت تردد مقاطع الأغنية وتخترق شوارع بون. . حتى وصلنا الى شارع تصطف على رصيفيه أشجار البونسيانا التي تغطيها الزهور الوردية البديعة وقالت كاتيا:
    أنا مغربية من كازا بلانكا.

    وأضافت قبلما نغادر السيارة:
    ستقضي هنا سهرة العمر. .

    دلفنا الى فيلا من طابقين بلا حراسة .. وعندما اجتزنا الحديقة سمعت ضحكات نسائية تدور وانفتح الباب عن رجال ونساء لا أعرفهم ولا يعرفونني .. لكن بعضهم أومأ تحية لكاتيا . . وبعد دقائق جاءتني زجاجات الخمور أنتقي منها ما أريد . . ودارت عجلة المجون وصاح البعض في اندهاش وهم يرون فتاة صغيرة شقراء .. لا تتعدى التاسعة عشرة .. ترقص وتخلع ملابسها قطعة . . وراء قطعة وكلما تخلصت من واحدة تزداد أصوات الهمهمات . . وظلت لدقائق عارية الصدر ترقص بورقة التوت الصغيرة ثم تخلصت منها أيضاً والآهات تعلو. وظهر شاب على البيست احتضن الفتاة العارية وأخذا يرقصان في خلاعة .. وتخلص الشاب أيضاً من ملابسه ومارس الجنس بحرية أمام الحضور.

    عدت الى حجرتي لأستعد للقاء المرتقب مع إبراهيم فأخبرتني كاتيا أنني سأنتقل الى إحدى الشقق لاستكمال الدورة المكثفة، وفي الشقة الجديدة على أطراف المدينة جاء إبراهيم. . وبدأ امتحانه لي بأن أطلعني على صور لبعض المعدات وطلب مني التمييز بينها. . ودربني على ذلك كثيراً، ثم أفاض في شرح كيفية اصطياد المعلومات العسكرية.

    وفي شبه معسكر مغلق أقمت في الشقة مع كاتيا. معظم النهار في دورات تدريبية مكثفة. . أما الليل فهو ملك كاتيا نمضيه معاً في شرب الخمر وتعاطي الجنس وننام آخر الليل سكارى.

    وبعد أسبوعين تقريباً كنت قد تعلمت الكثير، ودربت على كيفية الحصول على ما أريد من معلومات من العسكريين. وتعلمت الكتابة على الورق المشبع بالمواد الكيماوية وذلك بكتابة خطاب عادي. . ثم أستخدم الكربون المعد للكتابة السرية لأكتب الرسالة المطلوبة بين السطور . . ثم أمرر الرسالة على بخار براد الشاي لثلاث دقائق. . فتتلاشى آثار الضغط ويصبح شكلها كالرسالة العادية بعد وضعها بين صفحات كتاب كبيرة لعدة دقائق.

    كانت هذه هي طريقة الكتابة السرية التي دربت عليها وأجدتها عدة مرات. وهكذا أصبحت جاسوساً لإسرائيل دون أن أقاوم. . أو أسعى في محاولة لأن أقاوم. ولم أستطع أن أتراجع. فلقد أغرقوني بالنقود والخمر والنساء الفاتنات. . وأحاطوني بكل الإغراءات فسقطت ولم أفق.

    لكن بعد عدة أيام . . وفي أواخر سبتمبر 1970 . . حدثت كارثة زلزلتني . . إذ شاهدت في التليفزيون مشاهد عن مصر. وعندما دققت كثيراً – عرفت أن جمال عبدالناصر قد مات ..

    صرخت دون وعي . . وجاءت كاتيا مسرعة من الحمام وأغلقت التليفزيون وعندما قفزتُ لأفتحه وأنا ألعنها حاولت منعي. فلم أشعر إلا ويدي تنهال ضرباً على وجهها. . وظللت أضربها وهي تصرخ . . ولما اشتد ضربي لها فتحت باب الشقة وخرجت هاربة من جنوني. . وبعد نصف الساعة فوجئت بإبراهيم أمامي . . يصوب مسدسه نحوي ومن خلفه كان هناك اثنان لا أعرفهما . . يحملان رشاشات "عوزي" الأوتوماتيكية. وكان الغضب يطفح على وجههم جميعاً . . وأدركت أنها لحظة النهاية .. !!

    كيف يصنع الجواسيس. . ؟
    كنت منكفئاً على وجهي أبكي بصوت مرتفع . . تحاصرني انفعالات شتى وأنا أتخيل مدى حقارتي ووضاعتي . . وامتدت نحوي يد إبراهيم – ضابط المخابرات الإسرائيلي – في محاولة لتهدئتي . . فصرخت في وجهه أن يدعني وشأني. وانفجرت باكياً كأنما أبكي أبي. وملأني شعور غريب. . شعور بالضعف والانكسار والوحدة. واجتاحني إحساس بالضياع. وقال إبراهيم:
    نحن نقدر أحزانك .. لقد كان ناصر عظيماً. .

    وأردف بفخر:
    هناك اتصالات دولية لإرسال وفد إسرائيلي للتعزية. . إنه زعيم عربي لن تنجب مصر مثله .. لقد استشهد وهو يكافح لاحتواء أزمة الفلسطينيين في الأردن..

    علا بكائي ولم أستطع كتمان موجات الشجن وسمعت إبراهيم يقول في التليفون:
    أرسلوا "هيمبل" حالاً ومعه أدواته
    . . . . . . . .
    يفضل ذلك. وعلى وجه السرعة. إنها ستساعدنا كثيراً.

    دقائق وجاء الدكتور هيمبل. . نظر في وجهي سريعاً وهو يضع حقيبته على السرير. . وفتحها باهتمام وأخرج سماعته الطبية . .ولما اقترب مني دفعته بقوة فسقط على الأرض وحاولت الهرب من الحجرة. . لكن إبراهيم وحارسيه كانوا قد تمكنوا مني.. وأسرع هيمبل وملأ السرنجة بسائل أصفر .. وبينما كنت أصرخ وأحاول الإفلات كانوا يشلون حركتي .. وحقنني هيمبل في الوريد ورأيت بعدها خيالات أشباح تلف حولي . وعندما أفقت لمحت وجهها الجميل يبتسم. ويدها الرقيقة تداعب شعيرات صدري فلم أكن أتصور أنها هي بلحمها وشحمها وعندما نطقت باسمها صاحت وهي تحتضنني:

    حبيبي . . حبيبي . . !!

    نظرت حولي فلم أجد سواها .. ورمقتها بنظرة عتاب فقبلتني قبلة سريعة ملأى بالحنان وقالت:
    جئت لأجلك حالاً من إسرائيل . . ولن أتركك وحدك أبداً. .

    احتوتني سيلفيا بحنانها . . ومهدت الطريق لأبو علمون الذي جاءني منتفخ الأوداج يبدو كديك شركسي. . وبعد أن جلس قليلاً ربت على كتفي وقال:
    فؤاد . . بوفاة ناصر سنكون أكثر احتياجاً إليك. . فالأمور في مصر غير واضحة الآن. لقد كنا نعرف قدرات ناصر جيداً ولكن بمجيء آخر. . ستكون هناك شكوك في نياته . . وعلى ذلك فاحتمالات الحرب مع مصر قائمة. وعلينا أن نتعاون معاً لنحبط الصدام المسلح ونعمل على إفشاله.

    وبعد انصراف أبو علمون جاء إبراهيم بخطوة الواثق وقال لي:
    إنها فرصة العمر بالنسبة إليك .. ويجب أن تنتهزها وإلا ضاعت منك الى الأبد . . إنها لحظة رائعة يا فؤاد عندما نخبرك أنك حصلت على مليون مارك ألماني . . لا بد أن تتحرك فهناك من ينتظر هذه الفرصة التي منحناها لك.

    وقبل أن ينصرف ناولني مظروفاً بداخله ألفا مارك.

    كانت سيلفيا – عملية الموساد – لا تكف عن ترديد حكايات عجيبة عن المخابرات الاسرائيلية تكاد تكون أساطير من نسج الخيال. وكيف تحمي الموساد رجالها وعملاءها في كل أرجاء المعمورة.

    ولم تمر سوى أربعة أيام وعاد إبراهيم ليكمل الدورة التدريبية.. وجرى تدريبي على استعمال الشفرة بالراديو . . وكان علي أن أستقبل إشارات معينة على إحدى الموجات فأقوم بمطابقتها على كتاب الشفرة. وسملني أيضاً جهاز راديو خاص وقمت بحل التمارين عدة مرات. . حتى تأكد نجاحي تماماً في استقبال الرسائل وترجمتها.

    بعد ذلك دربني على استعمال الميكروفيلم في تلقي المعلومات أو إرسالها. فضابط المخابرات يكتب أوامره على صفحة فولسكاب. . ثم يقوم بتصغيرها عدة مرات حتى تصل الى حجم رأس الدبوس. وعندما أتسلمها فوراً أقوم بتكبيرها الى حجمها الأصلي وقراءة الأوامر . . وإرسال المعلومات الى مكاتب وفروع الموساد في العواصم الاوروبية بذات الأسلوب.

    وبعد عدة أيام لازمني خلالها إبراهيم معظم ساعات النهار استطاع أن يشرح لي أساليب التخفي والتمويه والهرب من المراقبة وإخفاء أدوات التجسس . . وكذلك طرق "جلب" المعلومات من المصادر العسكرية. . وتتبع حركة تنقلات وحدات الجيش. . وكان الأهم. . خاصة بعدما حصلت على دورة سابقة في التمييز بين أنواع الأسلحة والمعدات.

    وبعد هذا النجاح المثير أعاد إبراهيم حكاية المليون مارك .. ثم وعدني بـ 50 ألف دولار أمريكي إذا أفشيت سر أي عميل للمخابرات المصرية داخل إسرائيل ويقبض عليه فعلاً. وعندما استفسرت عن هذا الأمر وقلت لإبراهيم:
    كيف لي أن أعرف جواسيس مصر في إسرائيل؟

    أجابني بثقة زائدة:
    من خلال معارفك الذين لهم علاقات بأفراد من القوات المسلحة. . أو من ضباط الجيش أنفسهم . . فالمصري دائماً يتباهى بأنه يحمل معلومات خطيرة مما يعطي انطباعاً بأهميته.

    فقلت له على الفور:

    مستحيل أن تصل الدردشة العادية لدرجة البوح بأسرار كهذه.
    سأقوم بتعليمك كيفية إدارة الحوار مع أشخاص مهمين . . وعليك أن تسعى لخلق صداقات جديدة مع أشخاص في مواقع حساسة للحصول منهم على معلومات. أية معلومات لا بد أن تكتبها لنا. وعليك أن تفهم جيداً أن هؤلاء الذين يشغلون مناصب مهمة لديهم اتصالات بآخرين في مواقع أهم. وأثناء جلسات اللهو والمرح. . "يفضفض" كل واحد بما لديه من معلومات وأسرار. . .وتصبح أدق المعلومات العسكرية مادة سهلة التداول، وعليك حينئذ أن تدير الحوار ببراعة .. كما سأعلمك استخلاص ما هو أكثر مما قيل.

    وفي دورة أخيرة لإدارة حوار مع شخصية مهمة .. أخذ ابراهيم يعلمني كيف أثير الطرف الآخر وأجعله ينطق ويبوح بكل ما هو سر لديه.. وذلك بعدة طرق منها أن أذكر له معلومات خاطئة فيصححها لي . . وإذا كان ضابطاً في الجيش . . أتعمد تذكيره بهزيمة الجيش أمام حفنة من جنود إسرائيل .. فيندفع ثائراً ويقول ما عنده من أسرار الاستحكامات والتدريبات. . والأسلحة الحديثة التي وصلت ويتدربون عليها. . وأيضاً دور الخبراء السوفييت في إدارة بعض النواحي الفنية في الجيش المصري.

    وفي النهاية – طمأنني ضابط المخابرات الإسرائيلي أنني أصبحت جاهزاً للعمل في مصر بما لدي من خبرة ودراية كبيرة بعد هذه الدورات التدريبية المكثفة. وأخبرني بأن راتبي الشهري ابتداء من الآن هو 300 دولار أمريكي عدا المبالغ الأخرى التي ستخصص لي بعد كل خطاب أرسله اليهم به معلومات مفيدة. وقال إبراهيم أن بإمكاني الحصول على ألف دولار شهرياً – بخلاف الراتب - .. وهذا يتوقف على أهمية المعلومات التي أرسلها لهم "مع العلم أن مرتب الموظف خريج الجامعة كان لا يزيد عن 18 جنيهاً". وطلب مني الاستعداد للعودة الى مصر.. وإيهام أهلي وأصحابي بأنني كنت أعمل في تجارة السيارات في ألمانيا .. حتى لا تثير النقود الكثيرة التي معي أية شبهة.

    وقبل أن يتركني لقضاء عدة أيام مع سيلفيا قبل سفري الى مصر . . كنحني ألف مارك وأعدت سيلفيا رحلة ممتعة الى الجنوب الألماني حيث بحيرة كونستانس الواقعة على الحدود مع سويسرا والنمسا . . وأمضينا عدة أيام في "فريدر كسهافن" وتجولنا حتى وصلنا الى حيث انتهى نهر الدانوب الشهير ومروراً بمدينة فريبورج في الغابة السوداء.

    وفي شتو تجارت نزلنا بفندق "برات" واشتريت بعض الهدايا .. وركبت الطائرة مودعاً سيلفيا الى روما ومن روما الى القاهرة.

    نوسة . . التي أطلت
    كان أفراد أسرتي في انتظاري والسعادة تملأ وجوههم وهم يرون أعداد الحقائب التي معي محملة بالهدايا.

    وفي الإسكندرية كان أول ما خطر ببالي الاتصال بنوسة . . فذهبت سريعاً الى صديقي حاتم ورجوته أن يطلعني على أخبارها. . وعندما تبين لي أنه لا يعرف أكثر مما ذكره لي في رسالته قررت نسيانها.. والعمل فوراً فيما جئت من أجله.

    بدأت أبحث عن صداقات جديدة وأوطد علاقاتي ببعض الموظفين في ميناء الإسكندرية. . وكنت أسجل المعلومات التي أحصل عليها أولاً بأول وأرسلها في الحال الى العنوان الذي طلبوا مني مكاتبتهم عليه في لندن "مستر طومبسون ص. ب. 329". . وكانت رسائلي لا تحوي معلومات عسكرية فقط. . بل حوت أخباراً اقتصادية عن رسو عدد من السفن العملاقة تحمل بداخلها آلاف الأطنان من الحبوب أو السكر . .

    كانت حركة الميناء من وارد وصادر تقريباً مرسلة إليهم في لندن.. وأصبح العمل بالنسبة لي بعد مرور عدة أشهر من أسهل ما يمكن. فعلاقاتي تعددت وتشعبت. . وتجيئني المعلومات دون جهد يذكر من خلال الأحاديث العادية التي لم تكن تحمل ما يدل على اهتمامي.

    وذات يوم في نوفمبر 1971 جائتني رسالة غريبة بواسطة الراديو . . كانت الرسالة تحمل تحذيراً واضحاً. . ومخيفاً في ذات الوقت:
    "لا تقرأ في الصحف المصرية – مطلقاً – أية أخبار تتعلق بإلقاء القبض على جواسيس لإسرائيل. هذا أمر وعليك تنفيذه".

    انزعجت كثيراً لهذه الرسالة التي لفتت انتباهي وأثارت قلقي . . ودفعتني رغماً عني لقراءة كل الصحف المصرية صباح كل يوم، حتى قرأت خبراً عن سقوط جاسوس مصري يعمل لصالح إسرائيل. . فاضطربت حياتي وامتنعت عن الخروج من المنزل لعدة أيام.

    كانت الرسالة تأتيني عن طريق الراديو – مكررة – حتى بعدما قرأت الخبر – فيحل الرعب بي وتهرب المغامرة .. وكانت أية أصوات أقدام تصعد السلم تصيب أطرافي بالشلل. فكتبت رسالة تحمل ما أشعر به وتترجم معاناتي. . وفوجئت بالرد يصلني سريعاً بالراديو يطلب مني السفر الى لندن في أسرع وقت. وبينما كنت أعد حقيبتي . . دق جرس التليفون وكانت على الطرف الآخر .. نوسة!!

    مرت ساعة واحدة وكنت أجلس في أحد أركان كافيتريا فندق فلسطين.. وكان اللقاء مدهشاً.. وظل كفها الصغير بين كفي لفترة طويلة. وعندما همست باسمي طلبت منها ألا تتكلم.. أردت فقط أن أنظر لوجهها الذي حرمت منه لمدة عامين. . ومن داخلي كنت أرقص طرباً وأجريت مقارنة سريعة بينها وبين سيلفيا وكريستينا وكاتيا وغيرهن. . إنها أجمل منهن جميعاً. . بل تكفي ابتسامتها لتبدل مذاق حياتي وتضفي عليها البهجة. . إن مذاقها لعجيب .. عجيب والجنس معها له طعم ونكهة لا يوجدان في أية امرأة أخرى قط.

    وفي آخر يناير 1972 كنت في لندن. . وكان في استقبالي ضابط المخابرات الإسرائيلية المسؤول عني – إبراهيم يعقوب – وبصحبته ضابط آخر اسمه "بوب" في السفارة الإسرائيلية في لندن. وطلبا مني أن أهدأ وألا أتوتر لهذا الحد. .

    وقالا لي: إذا كانت الصحف المصرية قد نشرت أخباراً عن إلقاء القبض على جاسوس يعمل لصالح الموساد .. فهذا ليس سوى دعاية مضادة.. وأسلوب تخويف لجواسيسهم في مصر . . ومثل هذه الشائعات معروفة لديهم وأسلوب قديم تستخدمه أجهزة المخابرات كل مدة.

    لم أهدأ رغم ما قالاه لي. . فرأى إبراهيم أن يوكل إلي عملاً آخر في لندن. وكان عملي منصباً علي التعرف الى المصريين الموجودين في لندن أو القادمين الجدد .. لعلي أنجح في تجنيد أحدهم وأتقاضى مكافأة ضخمة .. ووجد إبراهيم أنني بحاجة الى تمرين فأخذني الى إحدى الشقق . . وجرى تدريبي على العمل الجديد في اصطياد مصري يصلح جاسوساً لإسرائيل.

    وبعد دورة مكثفة من إبراهيم. . جاء بوب هو الآخر لتدريبي على كيفية العيش في لندن . . وتقصى أماكن تجمع المصريين كالفنادق والمقاهي والمطاعم المختلفة. وكانت لندن حينئذ تستقبل مئات الشباب من مصر بدعوى الدراسة أو السياحة أو العلاج.

    وفشلت في مهمتي.. فظروف النكسة كانت مختلفة وغالبية المصريين الذين يسافرون الى لندن كانوا على درجة من الوعي والثقة في النظام السياسي الجديد. . خاصة بعد تصفية مراكز القوى وانشغال الرأي العام بوعود الرئيس السادات. ولكن في مصر كانت مساحة الوعي السياسي تختلف.

    أدرك بوب بحاسته كضابط مخابرات أنني لم أنجح في لندن. ولأنني أيضاً أدركت ذلك بعد أن فشلت كل محاولاتي في الإيقاع بمصري واحد. . فقد عرضت على بوب أن أسافر الى مصر فالمجال هناك أفضل بالنسبة لي. وبعد عدة أيام وصل إبراهيم من بون ووافق دون تردد على عودتي الى مصر . . وأعطاني راتبي المتراكم بخلاف مكافآتي وكانت 4500 دولار.

    ولكني بعدما عرفت قيمتي لديهم .. وبأن الموساد لا تبخل على جواسيسها. . اعترضت قائلاً إن المكافأة هزيلة جداً. وأن قيمة المعلومات التي قمت بإرسالها تزيد عن هذا المبلغ كثيراً. ووصفني إبراهيم بأنني أصبحت لحوحاً. . فطلبت منه زيادة المبلغ الى 7000 دولار. . وإضافة مبلغ آخر قدره 5000 دولار كمقدم إيجار شقة أستطيع من خلالها أن أمارس عملي في التجسس بحرية . . وقد كان.

    النفس الخامس
    عدت الى الإسكندرية بأكثر من 19000 دولار. . مبلغ كبير لا شك في ذلك. . واستأجرت شقة في شارع خالد بن الوليد في ميامي. وقررت أن أستغل نشاطي التجسسي لجمع أكبر عائد مادي ممكن.

    لقد عشت حياتي السابقة محروماً تلسعني رغبة الاحتياج والعوز. . لذلك. . كنت أضع تقييماً لكل معلومة أرسلها اليهم وأحسب مستحقاتي وأغالي في الثمن، ثمن أعصابي التي تحترق كل لحظة .. وعمري الذي أضعه رهن أتفه معلومة أدونها..

    استمرأت طعم الخيانة شيئاً فشيئاً. . وبعدما بعت أمن وطني وأهلي، لم أجد غضاضة في أن أخون رجلاً آخر لا أعرفه. . لكنه امتلك ما عجزت عن امتلاكه. . فإنني الآن أصبحت قادراً على امتلاك أشياء ليست في حوزتي وأهمها نوسة. . التي جاءتني جرياً تفند لي أسباب زواجها . . فلم أهتم .. (!!) لقد عانقتني في شقة ميامي بمجرد أن فتحت حقيبة هداياها العامرة. وبعد دقائق.. فتحت باب حجرة النوم ونادتني من الداخل . . وعندما دخلت عليها كانت بلا شيء. . أي شيء. . بلا حياء أو خوف أو . . ملابس. . إنها أيضاً تدفع الثمن مثلي تماماً. . لا .. إنها تخون زوجها أما أنا .. فأخون وطني كله. .!!

    تحولت الشقة الى وكر للخيانة. . وللملذات، خمر .. وحشيش. . ونساء ساقطات.. ورجال ربطتني بهم صداقات مفتعلة، وعندما كان ينشط مفعول الخمر والنساء. . لا تدري العقول ماذا تقول؟!!.

    هكذا كانت الأيام تجري سريعاً. . والمعلومات تتدفق في سلاسة.. والثمن أقبضه أنا كما أريد.. وبالسعر الذي أحدده..!!

    في تلك الأثناء.. لم تكن المخابرات المصرية غافلة عما يحدث في شقة ميامي التي ذاع صيتها.. وفاحت منها رائحة الخيانة تعلن عن الجرم صراحة.

    واختارت المخابرات المصرية أحد مرشديها الذي يعمل موظفاً بشركة الملاحة البحرية – واسمه ممدوح – ليقتحم هذا الوكر ويرصد ما به. فكان ينقل مشاهداته الى العميد حسن واصف – المسؤول عن مكتب المخابرات في الإسكندرية – وفي نفس الوقت وضع تليفون فؤاد تحت المراقبة . . وبذلك أصبح الجاسوس تحت سيطرة جهاز المخابرات وتحركاته مرصودة تماماً دون أن يعرف.

    ويكمل الجاسوس سرد قصة الإيقاع به قائلاً:

    جاءتني بطريق الراديو رسالة تطلب مني السفر الى روما لمقابلة دانيال .. وهو ضابط المخابرات الإسرائيلي في السفارة الإسرائيلية هناك. . وبالفعل .. أعددت الكثير من التقارير والمعلومات التي حصلت عليها وسافرت بها الى روما . . وكان اللقاء مثيراً للغاية . . إذ كان الضابط سخياً جداً ومنحني ما طلبته من مقابل بل وزاد عليه ألفاً وخمسمائة دولار. . وعدت الى مصر بالثروة التي حصلت عليها مقابل بضع معلومات استقيها من أفواه "المساطيل" واشتريها أحياناً بالهدايا.

    وبعد عودتي بحوالي أسبوع واحد.. كانت نوسة عندي بالشقة تتسلم هداياها وتسلمين جسدها الرائع، فنمت مرهقاً بعدما سجلت بعض المعلومات التي وصلتني على ورقة وضعتها بجانب السرير ولم أقم بكتابتها بالطريقة السرية التي دربت عليها.

    وعند الفجر .. دق جرس الباب دقات خفيفة فظننتني أحلم. واستيقظت فجأة على يد تهزني فشلني الذعر .. لأجد الحجرة كلها قد زرعت برجال لا أعرفهم.

    تناول أحدهم الورقة المسودة وفتشوا الشقة جيداً. . وعثروا على كل الأدلة والأدوات التي تؤكد أنني جاسوس .. خائن.

    اصطحبوني الى القاهرة وأخضعت لتحقيق مطول لعدة أيام . . واكتشفت أنني كم كنت واهماً. . فتصرفاتي كلها كانت مكشوفة. . وحركاتي مرصودة. . وخطاباتي مقروءة. . حتى زيارتي الى رومات ولقاءاتي كانت بالصوت والصورة لدى المخابرات المصرية.

    اعترفت في الحال بكل شيء دون إكراه. . فالأدلة كانت كلها ضدي ولا تترك لي المجال لكي أنكر . . ووجهت الى النيابة العسكرية اتهاماتها الآتية:

    السعي لدى دول معادية "إسرائيل" لمعاونتها في عملياتها الحربية.
    الحصول على مقابل مادي بقصد ارتكاب عمل ضار بالمصلحة القومية وهو إفشاء أسرار البلاد.
    الحصول على أسرار الدفاع عن البلاد وتسليمها لدولة أجنبية معادية وهي إسرائيل.

    لقد اعترفت بكل شيء وبرغم الاحتقار الذي أشعر به تجاه نفسي ..إلا أنني أعترف بصراحة بأن حبي لتلك المومس – نوسة – هو الذي دفعني للخيانة .. خيانة وطني!! انتهت مذكرات الجاسوس فؤاد حمودة .. ولكن، ماذا حدث له بعد ذلك؟

    تشكلت محكمة عسكرية عليا لمحاكمته. وبعد عدة جلسات أصدرت حكمها بإعدامه شنقاً . . وصدق رئيس الجمهورية على الحكم وأحيل للتنفيذ في سجن الاستئناف بالقاهرة..

    وفي صباح السابع عشر من يناير 1973 .. كان يوم تنفيذ الحكم .. حيث سيق المتهم الى غرفة الشنق .. يجرجره جنديان . . ويصرخ قائلاً: أنا بريء . . بريء . . ثم يصرخ ثانية: إعدموها معايا .. اعدموا نوسة .. اعدموها.

    "وقف إمام السجن ومأمور التنفيذ وعشماوي في انتظار وصول الخائن من زنزانته. . ولكن محاميه اقتحم المكان فجأة .. وبيده وثيقة رسمية تفيد أن موكله "مجنون" وهو غير مسؤول عن تصرفاته. . ويطالب بوقف تنفيذ الحكم كما ينص القانون. . وبهذه الحيلة . . أفلت الخائن من الإعدام لمدة أسبوعين فقط. . فقد رفضت المحكممة الاستشكال القانوني الذي تقدم به المحامي . . وسيق المتهم مرة ثانية الى غرفة الإعدام حيث أعدت المشنقة لاستقباله، وقام مأمور التنفيذ العميد بدر الدين الماحي بسؤاله عن آخر طلب له في حياته.. فطلب سيجارة . . وأشعلها له المأمور وحبل المشنقة حول عنقه. وبعد أن سحب النفس الخامس . . انفتحت فجأة طاقة جهنم تحت قدميه، وتدلى جسده العفن الذي تبرأ منه أهله . . كما تبرأت منه ديدان الأرض.

                  

03-07-2007, 04:56 PM

ناذر محمد الخليفة
<aناذر محمد الخليفة
تاريخ التسجيل: 01-28-2005
مجموع المشاركات: 29251

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
من ملفات الجاسوية . بهجت حمدان . . الهارب من الإعدام >> (Re: ناذر محمد الخليفة)

    من ملفات الجاسوية . بهجت حمدان . . الهارب من الإعدام

    بعد نكسة يونيو 1967 .. وبينما الطائرات الاسرائيلية كانت تمرح آمنة كيفما تشاء في سماء مصر . . كان بهجت حمدان ينقل الى العدو أولاً بأول خرائط وصور القواعد العسكرية المصرية . . ويشعر بنشوة غامرة لنجاحه في "العمل". . ولثقة الموساد في معلوماته.

    وأمام تدفق الأموال عليه. . كوّن شبكة جاسوسية خطيرة في القاهرة . . لكي يزداد ثراءاً ورونقاً .. وتوحشاً.

    ولحظة سقوطه في قبضة المخابرات المصرية.. صرخ غير مصدق: مستحيل . . مستحيل . . كيف توصلتم إليّ.. ؟

    لقد دربوني جيداً في أوروبا. . بحيث لا أسقط أبداً. . !!!

    لغة الجسد

    أصيبت المخابرات الإسرائيلية بصدمة قاسية عندما انكشف جاسوسها المدرب بهجت حمدان . .وزلزل النبأ كبار ضباطها الذين أعمتهم الثقة وغلفهم الغرور . . ذلك لأن الجاسوس مدرب جيداً في أوروبا بواسطة أمهر الخبراء. . وحصل على دورات تؤهله لكل المهام التجسسية الصعبة. . دون أن يثير شكوك المخابرات المصرية، وظل العميل المدرب "نائما" لسنوات في أوروبا انتظاراً للحظة الانطلاق. .

    لقد أجاد فنون التجسس دراسة. عكس غالبية الخونة الذين يُدفع بهم عقب تجنيدهم مباشرة لممارسة العمل ضد بلادهم . . وكان تجنيده قد تم بواسطة نقطة ضعفه – المال – الذي ظل يلهث وراءه .. الى أن وقع.

    ولد بهجت يوسف حمدان بالاسماعيلية في 24 ديسمبر 1932 لأب ثري يعمل في التجارة اجتهد في عمله لتأمين حياة كريمة لأسرته. مضحياً بكل ما لديه في سبيل تعليم أولاده وتبوئهم مناصب مرموقة في المجتمع.

    وأمضى بهجت طفولته على شاطئ القناة في المدينة الجميلة الساحرة. . ولما حصل على الشهادة الاعدادية كان والده قد قرر الانتقال نهائياً الى القاهرة بعدما توسعت تجارته واشتهر اسمه . . فالتحق بهجت بمدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية . . وتبلورت شخصيته بها وظهر حبه وولعه بالرسم والفنون . . للدرجة التي جعلته يهرب كثيراً من المدرسة ليزور المتاحف والمعارض الفنية. . وكان ينفق مصروفه على شراء الألوان وأدوات الرسم، الأمر الذي استدعى تدخل والده لصرفه عن هوايته التي رآها الأب مضيعة للوقت على حساب مستقبله.

    وفي عام 1950 نال بهجت حمدان شهادة الثانوية العامة بصعوبة. . واتجهت نيته الى الالتحاق بأحد المعاهد الفنية لتنمية موهبته. . لكن الأب عارض بشدة مصراً على تعليمه كأبناء الباشوات. . وأرسل به الى ألمانيا الغربية لدراسة الهندسة المعمارية في جامعاتها.

    وأمام رغبة الأب وإصراره.. حزم الشاب حقائبه وطار الى ميونيخ وفي نفسه غصة لضياع حلمه في أن يكون رساماً.

    وفي ميونيخ تصدع عقل الفتى الأغر .. فقد وجد نفسه فجأة بداخل مجتمع غريب عن طبيعته كشرقي. . مجتمع يفيض تحرراً وانفتاحاً يستطيع الامتزاج به بسهولة .. لذلك انطوى على نفسه في بادئ الأمر. . وفشلت الأسرة الألمانية التي يقيم معها في إخراجه من عزلته.. فطلبت من إدارة الجامعة استبداله بآخر. . وانتقل بهجت بعدها الى سكن بيوت الطلاب. . لدراسة اللغة مبتعداً عن المغريات التي تستهوي الشباب. . وكرس كل جهده ووقته لذلك حتى وقعت له حادثة بدلت طريقه وطباعه.

    فقد دعاه زملاؤه الطلاب لقضاء سهرة الكريسماس بأحد المراقص. . وفي النادي الليلي حيث الخمر والرقص والفتيات الحسناوات والغزل .. تعرف بشاب مغربي قدمه الى إحدى صديقاته. . وعلى "البيست" أخذ يراقصها. . فتناثرت عنه انطوائيته وضاع خجله.. وانقلب من وقتها الى شاب جديد مليء بالثقة في نفسه.. يملك القدرة على إدارة الحوار بشتى أشكاله.

    بعدها . تعددت السهرات مع الفتاة الألمانية .. التي أخذت تحيطه بالاهتمام فأحبها. . ولم يعد بمستطاعه الافتراق عنها يوماً واحداً. . ومن المصروف الذي كان يرسله أبوه . .أخذ ينفق عليها في المطاعم والبارات والمنتزهات .. مضحياً بأوقات الدراسة والاستذكار. . وكانت النتيجة الطبيعية رسوبه في أولى سنواته الجامعية. . ونجاحه يتفوق في تعلم لغة الجسد وتشريح مفاتنه.

    الأبواب الموصدة
    انشغل بهجت حمدان بحياته الأوروبية المتحررة. . واكتشف في نفسه لحولة تغري الفتيات وتسحر النساء. . فلم يعد يقنع بواحدة منهن. . الى أن ساءت سمعته بين الأوساط الطلابية العربية..

    ولما علم أبوه بنبأ رسوبه أصيب بخيبة أمل. . وبرر له الابن أسباب فشله التي أرجعها الى صعوبة اللغة الألمانية واختلاف الطقس وظروف الحياة.. فسكت الأب على مضض. . وحذره من تكرار الرسوب مهدداً بأنه سيضطر الى قطع المصروف عنه.

    لكن الشاب العابث لم يبد رغبة بينه وبين نفسه في تغيير مساره الشائن. . إذ استمر على حاله في المجون. . حتى جاءت الامتحانات. . ورسب للمرة الثانية.. وأخذت الجامعة بتقارير أساتذته التي تصفه بأنه سلبي لا يبذل جهداً يذكر في تحصيل العلوم فتم فصله. . وأرسلت الجامعة بصورة من قرارها الى والده بالقاهرة فصدم .. وكتب في الحال الى ابنه يطلب منه الرجوع ليعاونه في أعماله التجارية. .

    فهل انصاع الابن.. ؟ وهل قبل وداع حياة التحرر هكذا بسهولة .. ؟

    بالطبع كان الأمر شديد الوقع على نفسه، فهو لم يعد يتخيل كيف يرضى بالعيش في مجتمع القاهرة المغلق بعد ذلك. .

    كان مجرد التفكير في ذلك يؤرقه. . ويدفعه لأن يقاوم رغبة والده في العودة .. فقد ألف الحياة الأوروبية بكل صنوفها وأشكالها.. وفي حرمانه منها الظلم والموت البطيء.

    ومنذ تلك اللحظة . . اتخذ قراره بألا يعود الى مصر ومقاومة تهديدات والده بإثبات ذاته من خلال الإنفاق على نفسه. . وساعدته ظروف علاقاته المتشعبة في العمل بإحدى الشركات التجارية. . وهيأ له راتبه حياة مجون لا تقل عما كانت عليه من قبل .. فداوم على البحث عن ملذاته . . وأصبح زبوناً دائماً ومألوفاً بشوارع شتافوس وشتراسة وشوانبخ حيث المومسات متراصات في الفتارين وعلى النواصي يساومن المارة.

    وما إن هل عام 1955 حتى طرأ حادث جديد على حياته.. إذ تعرف بالحسناء "إنجريد شوالم" الألمانية الرقيقة وأحبها.. وبادلته الفتاة الحب بإخلاص وسعت لانتشاله من الفشل الذي يوجهه . . والحياة الرخيصة التي انغمس فيها.. وبعدما تزوجها حرصت إنجريد على تحفيزه لدراسة الهندسة إرضاء لأسرته في مصر. .

    هكذا وقفت زوجته الى جواره لا هم لها سوى الارتقاء به لأجل حياة أفضل. . فقد مرت سنوات قليلة على انتهاء الحرب العالمية الثانية . . التي خرجت منها ألمانيا مهزومة محطمة . . مقسمة .. وكانت بحاجة الى كوادر علمية وفنية لإعمارها من جديد.. والدخول بها الى دائرة التنافس الاقتصادي والصناعي.

    لكن فتانا كان قد توصل الى هدف جند كل حواسه لتحقيقه. . وهو الإثراء بشتى الطرق ليكون من رجال المال والأعمال المشهورين. . ولأنه بلا خبرة . . ولا تدعمه شهادات علمية .. فشل فشلاً ذريعاً في ان يكون إنساناً ناجحاً ومرموقاً.

    وفي عام 1958 حصل بطرق ملتوية على شهادة في الهندسة الانشائية .. قام بتوثيقها في السفارة المصرية وعاد بها الى القاهرة ومعه زوجته. . فأثلج صدر أبيه وغمره بالفرحة ..

    أحبت إنجريد الأسرة الجديدة وعشقت جو القاهرة .. وسرعان ما تأقلمت مع العادات الاجتماعية وأصبحت جزءاً من نسيج الأسرة..

    وأمام ضغوط أبويه وإلحاحهما المستميت. . وافق بهجت على البقاء للعمل والعيش في القاهرة. . وبمساعدة الأب التحق بوزارة الاسكان. . وعمل في مشروع "الخمس سنوات" الذي جندت له الحكومة وقتذاك إمكاناتها الهائلة لإنجاحه.

    كانت ظروف العمل الجديد تتيح لبهجت أن يغش ضميره. . ويفتح يديه لتلقي المال الحرام. . فعاودته من جديد أحلام الثراء التي تكسرت في ألمانيا. . وأراد تحقيقها في بلده.. ذلك لأن راتبه الضئيل لا يمكنه من ارتياد المراقص. . والظهور أمام زوجته بمظهر أعلى يقوف موارده..

    لهذا عرف طريق الرشاوي مستغلاً مركزه الوظيفي. . وتقرب كثيراً من أصحاب الشركات الأجنبية بالقاهرة. . وأطلعهم على أسرار المناقصات والعطاءات التجارية فأغدقوا عليه بالأموال .. حتى فاحت رائحته بين الموظفين، واشتم فيه المسؤولون فساد الذمة ففصل من العمل .. وأغلقت في وجهه أبواب الحياة في مصر. . فغادرها الى لبنان يائساً ومعه انجريد الحزينة..

    وفي لبنان أدركه الفشل في الحصول على عمل مناسب. . فاقترحت عليه زوجته أن يعودا الى ألمانيا حيث فرص العمل متوفرة هناك. لكنه رفض بشدة .. فهي لا تدري شيئاً عن شهاداته الدراسية المزورة التي لا يستطيع إبرازها في ألمانيا.

    ومع احتدام الخلاف بينهما. . حملت أنجريد حقيبتها غاضبة حانقة وسافرت الى ميونيخ وحدها. . بينما طار هو الى باريس يمني نفسه بالمال الوفير. . والباريسيات الفاتنات ذوات القدود المائسة والأنوثة والدلال.

    جاسوس للبيع
    كانت باريس في ذلك الوقت من صيف 1960 تضج بالحياة والحركة والجمال. . حيث يرتادها مشاهير العالم بحثاً عن الجديد في عالم الأزياء. . أو لالتماس الهدوء بين ربوعها. . وتنتشر بشوارعها شتى الوجوه والألوان والغرائب. . فهي عاصمة النور في أوروبا. . ومأوى الفن . . وملاذ الصعاليك. . وهواة تصيد الفرص على مقاهيها. . وايضاً. . وكر آمن لصائدي الجواسيس والخونة لكل أجهزة المخابرات.

    نزل بهجت حمدان بفندق "ستار" بوسط المدينة .. وهو فندق بسيط يرتاده شباب المغتربين – وغالبيتهم أفارقة وآسيويون – لرخص سعره ولقربه من قلب العاصمة حيث المطاعم الرخيصة والمقاهي . . وسهولة المواصلات.

    ومنذ وطئ بهجت فرنسا ضايقته مشكلة اللغة. . فهو يتكلم الألمانية بطلاقة وبعض الانجليزية. . أما الفرنسية فكان يجهل مفرداتها البسيطة التي لا تمكنه من التحرك بثقة وسط أناس يرفضون التعامل بغير لغتهم.

    وفي اليوم التالي فوجئ بموظف الاستقبال يرحب به باهتمام. . وتحدث معه بالعربية السليمة. . واصفاً له السنوات التي قضاها في بورسعيد موظفاً بإحدى شركات الملاحة حتى غادرها إبان أزمة 1956.

    كان الفرنسي اليهودي يعمل مخبراً لرجال الموساد في باريس. . تنحصر مهمته في التعرف على العرب النازحين الباحثين عن عمل. . أو أولئك الذين قدموا للسياحة أو الدراسة . . ويتولى بعد ذلك تقديمهم – كل حسب حالته – الى رجال الموساد . . فلما اطلع على ظروف بهجت أدرك بأنه صيد سهل . . فهو يمر بأزمة مالية ويواجه مشاكل مع زوجته الألمانية بسببها. . فضلاً عن وظيفته السابقة في مصر التي قربته من الكثيرين من رجالاتها في مختلف المواقع.

    لذلك . . رتب له دعوة للعشاء بأحد المطاعم الراقية. . وهنا قدمه الى صديقه "جورج سيمون" ضابط الموساد الذي ظهر بشخصية رجل الأعمال. .

    استشعر بهجت الأمان بعض الشيء. . واطمأن باله وهو يتجاذب بالألمانية أطراف الحديث مع جورج سيمون. . وطال الحديث بينهما في مجالات كثيرة تخص أحوال مصر اقتصادياً وتجارياً. . حتى تطرقا الى مشروع "الخمس سنوات" وفوجئ سيمون بمحدثه يخبره بأنه يمتلك ملفات كاملة عن المشروع يحتفظ بها في القاهرة. . وكذا تقارير اقتصادية خطيرة تدرسها الحكومة المصرية خاصة بوزارة الاسكان.

    وبعد عدة لقاءات وسهرات في النوادي الليلية – بأموال الموساد بالطبع – قام جورج سيمون أثناءها بعملية "تشريح" متكاملة لفريسته. . من حيث ميوله ورغباته ونقاط ضعفه. . فتبين له أن الشاب المصري المفلس "يعبد القرش" .. ولديه أسباب قوية لأن يطرق كل السبل من أج الحصول على المال.

    لذلك لم يكن من الصعب استقطابه .. وإحاطته بشعاعات من أمل في العمل والثراء. . وجاء الرد حاسماً من تل أبيب:

    "مطلوب تجنيده وبأي ثمن".

    وكان الثمن زهيداً جداً عندما سلمه عميل الموساد ألفاً وخمسمائة فرنك فرنسي .. على وعد بإيجاد عمل محترم له إذا ما كتب تقريراً وافياً عن مشروع "الخمس سنوات". . والخطوات التي تمت بشأنه. . والمعوقات التي تواجه مصر في تنفيذ سياساتها الاقتصادية. . وكانت هذه الخطة أولى محاولات تجنيد بهجت حمدان.

    إن عملية تجنيد جاسوس جديد تعد من أكثر النشاطات المخابراتية صعوبة وخطورة. . ومنذ اللحظة الأولى في هذه العملية يجد صائد الجواسيس نفسه في موقف صعب. . فالشخص الذي اختاره لتجنيده ربما يفطن الى الحيلة . . وبذلك فقد كشف عن شخصيته له قبلما يتأكد من استجابته.

    لذلك. . فالمهارة هنا لها الدور الأساسي في عملية تجنيد الجواسيس الجدد.. بمعنى أن العميل يجب أن يكون واثقاً من تقديره للموقف. . وأن يكون حذراً للغاية حتى يتمكن من التقهقر في الوقت المناسب إذا ما حالفه الفشل..

    ولكي يضمن جورج سيمون إحكام حلقته حول بهجت حمدان . . رتب له لقاءً حاراً في "مصيدة العسل" مع سكرتيرته المتفجرة الأنوثة. . وهذا الأسلوب تميزت به الموساد عن سائر أجهزة المخابرات للسيطرة على المطلوب تجنيدهم .. وتفننت في استخدامه بتوسع . .حيث يتم تصوير هؤلاء في أوضاع شاذة .. وتسجيل حوارات سياسية تدينهم . . فتنهار أعصابهم حين مواجهتهم ولا يستطيعون الخلاص أو الفكاك.

    وما إن ووجه بهجت بالأفلام العارية التي تحوي مشاهد مؤسفة .. وأحاديث مليئة بالسباب للعرب وقادتهم. . حتى بهت الصياد وتفصد عرقاً . . نعم .. بهت لأنه فوجئ بما لم يتوقعه أن يحدث له من قبل.

    لقد صرخ بهجت حمدان في وجهه .

    الصفقة الناجحة
    كان اللعب قد أصبح مكشوفاً بين الصياد والفريسة. . وكانت الخطة تقتضي اولاً أن يسافر بهجت الى فرانكفورت حيث الانطلاقة من هناك . . بعد ذلك يتم عمل "ساتر" يختفي وراءه.

    وفي فرانكفورت استقر الجاسوس الجديد بأحد فنادقها. . وأرسل الى زوجته إنجريد فأسرعت اليه سعيدة بقدومه. . وأنبأها بأنه التقى في باريس برجل أعمال كبير وعده بإيجاد عمل له في بورصة الأوراق المالية. . ومكثا معاً عدة أيام في نزهات خلوية صافية . . الى أن زاره "صموئيل بوتا" الخبير في أعمال البورصة والتجارة الدولية.

    بدأ بوتا في تعليم بهجت كل ما يتصل بأعمال البورصة ودراسة السوق المصرفية، وعرفّه بالعديد من رجال الأعمال وهيأ له المناخ الملائم لكي يستوعب هذا النوع من العمل الذي يتطلب قدراً عالياً من الذكاء والمهارة . . وناضل ضابط المخابرات الاسرائيلية من أجل خلق رجل أعمال مصري ناجح .. للدفع به في الوقت المناسب الى مصر . . فيتعرف على علية القوم ورجال الأعمال بها. . مما يتيح له التغلغل بين الأوساط الراقية وذوي المناصب الحساسة.

    إن المخابرات الاسرائيلية لا تصرف الآلاف من نقودها هباءً. . بل تدرك بحق أن المنافع التي ستعود عليها بعد ذلك ستكون رائعة.

    واستمراراً لخطة صنع جاسوس محترف . . انتقل بهجت الى مدينة "بريمن" حيث قدمه بوتا للعديد من أصحاب شركات البترول والتجارة. . وعمل لديهم لبعض الوقت فاكتسب خبرات هائلة. . وصداقات متشعبة بصفته مواطن الماني متزوج من ألمانية.

    وفي عام 1967، تأكد للإسرائيليين أن "الجاسوس النائم" بهجت حمدان أصبح ذا دراسة وعلم كبيرين بأمور التجارة الدولية. . وأعمال البورصة.. تعضده جنسيته الألمانية في اقتحام مجالات التجارة والتصدير في أسواق الشرق الأوسط دون أية شكوك أو صعوبات تعترض طريقه.

    وابتدأ عمله التجسسي بأن أرسل لشركة "مصر للبترول" يعرض عليها استيراد شحنات من البترول المصري بصفته مندوباً لإحدى الشركات الألمانية. . وسافر الى القاهرة ليدرس العرض مع الشركة ..

    كانت نكسة يونيو قد تركت آثارها على شتى النشاطات في مصر .. وحطمت المناخ العام شعبياً وعسكرياً وسياسياً . . وفي القاهرة أخبره والده بأنه مني بخسارة فادحة في تجارته . . فأغدق بهجت على أسرته بالهدايا الثمينة في كل مرة يجيء فيها الى القاهرة للتفاوض مع الشركة.

    وبرغم فشله في عقد صفقة واحدة مع مصر للبترول بسبب طمعه في نسبة عمولة عالية .. اتجه – بتوجيه من بوتا – الى تجارة السلاح . . فدرس هذا المجال باستفاضة . .وأخذ يبحث كيفية تقديم عروض للدول العربية لبيعها صفقات أسلحة . . خاصة .. وظروف المنطقة المشتعلة بالصراع تتطلب ذلك.

    أعجبته الفكرة تماماً. . وابتدأ بالأردن، لكنه فشل في أولى محاولاته لأن الأردن لا يبتاع السلاح عن طريق وسطاء. فعاد الى القاهرة يحدوه الأمل في النجاح هذه المرة. . وتقدم الى المسؤولين بعدة عروض لتوريد بعض المهمات والمعدات اللازمة لقطاعات هامة في الدولة. . وفوجئ بموافقة مبدئية على أحد العروض. . ولكن طلب منه تأكيد جدية العرض باستيفاء بقية الأوراق. . ومنها سابقة الأعمال.

    كان بوتا – وهو الضابط الخبير – قد احترز جيداً في عمل "الساتر" للجاسوس المتحمس. . وقام بتكوين شركة مساهمة تحمل اسم "نورد باو" للأعمال الإنشائية والتوريدات . . مديرها بهجت حمدان ورئيس مجلس إدارتها "ألبرت فيزر" ضابط المخابرات الاسرائيلي الذي يحمل جواز سفر ألماني. . وكان هذا الساتر مأمن لبهجت ونقطة ارتكاز لتثبيت أقدامه. . بعيداً عن شكوك رجال المخابرات المصرية الذين يتشككون في كل شيء. .

    وبناء عليه . . سافر بهجت حمدان الى ألمانيا لإطلاع بوتا على سير الأمور. . وكان على ثقة من نجاح الصفقة التي سيربح من ورائها عشرات الآلاف. . فهنأه بوتا على الصفقة الجديدة وأمده بسابقة أعمال وتوريدات مزورة حملها الى الحكومة المصرية. . واصطحب معه ألبرت فيزر لمناقشة الأسعار المقدمة.

    وفي القاهرة طلب المسؤولون منهما عينات ومبلغ 20 ألف دولار كتأمين . . وتمت الصفقة في نجاح أذهل الاسرائيليين. . ذلك لأن عمليهم المدرب نال ثقة المسؤولين المصريين على اعتبار أنه مصري يسعى لخدمة وطنه.

    بائع الوطن
    لم تضيع الموساد وقتاً. . فظروف عميلها بهجت حمدان في القاهرة تتيح له العمل بأمان ونشاط . . وكان عليها استثماره جيداً ليس بإمدادها بمعلومات فقط. . بل بتكوين شبكة واسعة من أتباعه الذي يلمس ظروفهم عن قرب وينتقيهم بنفسه.

    نظر بهجت حواليه وبدأ ينصب شباكه حول أولى ضحاياه. . وهو المهندس محمد متولي مندور زوج شقيقته. . الذي يعمل بشركة المقاولون العرب بمنطقة القناة، ونظراً لظروفه المادية السيئة فقد كان من السهل اصطياده بدعوى توفير فرصة عمل له في الخارج بواسطة شريكه "فيزر" في حال نجاح مشروعاتهما المرتقبة في مصر.

    لأجل ذلك. . تفانى مندور في خدمة الخائن وشريكه. . ولكي يضمن كسب ودهما أكثر وأكثر استجاب لرغبتهما وأطلعهما على أسرار بعض العمليات الإنشائية السرية التي تتم على الجبهة بواسطة شركة المقاولون العرب.

    طمعت الموساد في الحصول على رسومات هندسية لتصميمات الدشم والقواعد والمطارات العسكرية التي تقوم بها الشركة. ولتنفيذ ذلك – تعمد بهجت الابتعاد قليلاً عن مندور ومماطلته في أمر تشغيله في الخارج. . وأخيراً، صارحه بأن شريكه يريد الاطمئنان على مدى كفاءته وخبرته. وطلب منه بعض الرسومات الهندسية العسكرية للإطلاع عليها لتأكيد مدى تميزه وخبرته في العمل والوقوف على مستواه العملي. . فلم يعترض مندور وسلمه بالفعل الكثير من هذه الرسومات التي تعتبر سراً عسكرياً هاماً لا يجب البوح به. . بل تمادى في شرح الأعمال الإنشائية التي يقومون بها على خط القنال وبمناطق أخرى بالصعيد والوجه البحري. وكان بهجت يسأله بخبرة الجاسوس الخبير ويسجل أقوال صهره أولاً بأول وينقلها الى "فيزر" الذي لا يكف عن طلب المزيد والمزيد من المعلومات والرسومات.

    وفي يوم الجمعة 22 مايو 1969 عاد بهجت من ألمانيا يحمل قائمة طويلة من أسئلة الموساد ومطلوب إجاباتها من خلال المهندس مندور.

    من أجل ذلك. . أخبره بهجت بأنه في سبيل الحصول على موافقة نهائية من الشركة للعمل بها براتب قدره مائتي جنيه مع ان راتبه حينذاك كان لا يتعدى "25" جنيهاً شهرياً.

    . وبالتالي أراد مندور ألا يضيع هذه الفرصة التي ستبدل حالته المتعثرة الى نعيم وازدهار. . فتمادى في إمداده بعشرات اللوحات الهندسية والتصميمات العسكرية السرية جداً، ومعلومات غاية في الدقة سجلها الجاسوس واحتفظ بها لدى شقيقته الأخرى. ليسافر بها الى ألمانيا.

    ولكي يوسع من شبكة الجاسوسية بدأ بهجت يحوم حول جمعة خليفة المحامي صديق العائلة. وبإغراءات تعيينه مستشاراً قانونياً للشركة في مصر وتسفير ابنه لإكمال تعليمه في المانيا – دخل أخيراً وكر الجواسيس. وسافر الى بون لرؤية ابنه الذي يدرس الهندسة بالفعل. وجلس مع فيزر لعدة جلسات يتناقشان في العقبات القانونية التي تقف أمام الشركة في مصر. واكتشف ضابط الموساد أن جمعة تربطه علاقات قوية برجال يشغلون مناصب رفيعة. فكلفه بالبحث عن بعض العسكريين "الكبار" الذين يتركون القوات المسلحة لاستخدامهم كمستشارين فنيين.

    كان الغرض من ذلك تكوين شبكة تجسس قوية من خلال هؤلاء العسكريين. . واستدراجهم في الحديث للإفصاح عن الأسرار العسكرية دون أن يعلموا أن كل كلمة ينطقون بها تصل رأساً الى الموساد.

    هؤلاء القادة العسكريون كانوا حلم الأحلام بالنسبة لبهجت. إنهم سيمنحونه شلالاً متدفقاً من المعلومات الغزيرة التي لا تنتهي . حيث سيمنحهم رواتب ضئيلة قياساً بآلاف الجنيهات التي ستملأ جيوبه.

    في هذه الأثناء كانت إنجريد زوجته الألمانية تعيش حياة رغدة في ألمانيا. . وتسكن شقة فاخرة في شارع راينهارت وتقود بنفسها سيارتها ماركة فورد، وتزخر شقتها بأروع التحف وأجمل السهرات مع صويحباتها. . يملؤها الفخر بزوجها رجل الأعمال الناجح الذي أغدق عليها حباً ومالاً وهدايا ثمينة من كل بقاع الأرض.

    زادت الأموال بين يدي بهجت حمدان فازداد إنفاقه وازداد طمعه. . وسيطرت عليه شهوة المال الحرام فسعى إليه يطالبه ببيع أمنه وطنه وأرض وطنه وأهل وطنه. . دون أن تتحرك لديه نبضة من ندم أو خلجة من شعور.

    بهجت حمدان اصطاد قائده
    كانت إسرائيل في تلك المرحلة وبعد انتصارها في يونيو 1967 تبث دعايتها على أنها ذات جيش لا يقهر . . وكانت طائراتها الحربية تصعد عملياتها الهجومية لتمتد الى طول الجبهة من قناة السويس شمالاً الى خليج السويس جنوباً. في ذات الوقت الذي استخدمت فيه قوات الكوماندوز المحمولة جواً في عمليات جريئة واسعة النطاق في عمل الأراضي المصرية ، فأظهرت أوجه الخلل والعجز في النظام الدفاعي المصري وأصيب عبد الناصر بعدها بأزمة قلبية من فرط الغضب والانفعال.

    ففي الساعات الأولى من ليل 1/11/1968، استخدم العدو طائرات الهليوكوبتر بعيدة المدى من طراز "سيكورسكي"، و "سوبر فريلون"، في اختراق الدفاعات الجوية، والوصول الى منطقة نائية في تجمع حمادي، ودمر أحد الأبراج الرئيسية لكهرباء الضغط العالي بأسلاكه، فانقطع التيار الكهربائي عن القاهرة والوجه البحري شمالاً. وكان الغرض من العملية هو إحداث الشلل في مصادر الطاقة في مصر.

    كان الجاسوس بهجت حمدان يشعر بنشوة غامرة كلما دكت طائرات العدو قواعد الجيش المصري. . الذي لم تقف قيادته عاجزة بشكل كلي عن التعامل مع العدو. بل واجهته لحد كبير بنفس أسلوبه.. وهاجمته في منطقة شرقي الدفرسوار وكبريت وأغارت عليه في مقر داره ودمرت قطعه البحرية في إيلات.

    كل ذلك وكانت آلة الدعاية اليهودية تعمل بكفاءة شديدة وتبث الإحباط في نفوس العرب، من أجل إرهابهم إذا ما أقدموا على عمل حربي موسع ضد إسرائيل.

    وبينما كانت القوات المسلحة تعيد تنظيم صفوفها. . كانت المخابرات العامة المصرية تراقب تحركات بهجت يوسف حمدان .. الذي قدم الى مصر وغادرها اثنتى عشرة مرة الى ألمانيا. ولاحظ رجال المخابرات كثرة لقاءاته بصهره المهندس مندور وجمعة المحامي. . وبعض رجال القوات المسلحة السابقين.

    وبعد مراقبات وتحريات مكثفة . . تبين لرجال المخابرات أن هناك شبكة تجسس يرأسها بهجت. . وعلى الفور جرى اعتقالهم جميعاً يوم 2 يونيو 1969، وفي مبنى المخابرات العامة ، ووجه بهجت بأدلة تجسسه فانهار في خلال عدة ساعات، وأفصح عن دوره الحقيقي ودور كل فرد من أفراد شبكة التجسس.

    ومن مبنى المخابرات أرسل الى فيزر طالباً منه الحضور الى القاهرة على وجه السرعة. . حيث وافقت الحكومة المصرية على العروض المقدمة اليها وأنه بانتظاره للتوقيع على العقود وبدء النشاط، وعندما جاء فيزر كانت المخابرات المصرية بانتظاره على سلم الطائرة..

    وأثناء التحقيق مع أفراد الشبكة بواسطة العميد إسماعيل مكي ظهرت مفاجأة لبهجت. . إذ اكتشف أن ضابط المخابرات الإسرائيلي "بوتا" يهودي مصري عاش بالاسكندرية وغادر مصر بعد عدوان 1956 مباشرة. . وأنه زاول العمل في مصر كسمسار للقطن في بورصة الاسكندرية لعدة سنوات قبل مغادرتها.

    اكتشف أيضاً ان المخابرات الاسرائيلية كانت تثق بنفسها أكثر من اللازم ويتملكها غرور قاتل. فبرغم احترافه لمهنة الجاسوسية بعد تدريبه الطويل في أوروبا.. وعدم تركه لدليل واحد يساعد على كشفه . . إلا أن المخابرات المصرية استطاعت اصطياده وأفراد شبكته بسهولة شديدة وفي وقت قياسي. وهذا بعد دليلاً أكيداً على يقظة رجالها الذين برعوا في إلقاء القبض على عشرات الجواسيس في تلك المرحلة العصيبة.

    وبعد حوالي العام من اعتقال الجواسيس الأربعة. . أصدرت المحكمة العسكرية حكمها بالأشغال الشاقة المؤبدة على الخائن بهجت حمدان "زواجه من إنجريد وحصوله على الجنسية الألمانية أنقذه من الإعدام" وبالسجن لمدة خمس سنوات لكل من ضابط الموساد والمهندس مندور وجمعة المحامي.

    كانت لهذه الحادثة آثارها المرعبة في الموساد، لمعنى اعتقال أحد ضباطها من قبل المصريين، تكشف حقائق أساليب العمل المخابراتي الاسرائيلي في التجسس على البلاد العربية، بما يعني تغيير أنماط العمل المختلفة في النشاط الاستخباراتي.

    كان هناك أيضاً الأثر النفسي الذي أصاب ضباط الموساد والعملاء العاملين خارج إسرائيل، إذ تخوف كل من المتعاملين معهم من الخونة العرب، ومن محاولات اصطيادهم بالخديعة والدهاء كما حدث للضابط الخبير فيزر، الذي وقع في شرك المخابرات المصرية.

    لقد تندرت وسائل الإعلام العالمية بخيبة رجال الموساد، الذين قادتهم الثقة الزائدة الى كشفهم. وكان بهجت حمدان بحق هو أول جاسوس في العالم يصطاد قائده. . بعملية خداعية ذكية مكنت المخابرات المصرية من الحصول على معلومات ثمينة . . جاءت على لسان الضابط الأسير.
                  

03-09-2007, 02:23 AM

ناذر محمد الخليفة
<aناذر محمد الخليفة
تاريخ التسجيل: 01-28-2005
مجموع المشاركات: 29251

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: ناذر محمد الخليفة)

    ++
                  

03-10-2007, 01:59 PM

Sabah Hussein
<aSabah Hussein
تاريخ التسجيل: 09-05-2006
مجموع المشاركات: 2024

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: ناذر محمد الخليفة)

    ناذر سلامات

    بـحـب الموساد اعمل شـنو?
                  

03-14-2007, 06:05 PM

ناذر محمد الخليفة
<aناذر محمد الخليفة
تاريخ التسجيل: 01-28-2005
مجموع المشاركات: 29251

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: ناذر محمد الخليفة)

    صباح ...

    Quote: ناذر سلامات

    بـحـب الموساد اعمل شـنو?



    عضوية الجمعية ديك قفلت ولا شنو ؟!!
                  

03-14-2007, 06:33 PM

ناذر محمد الخليفة
<aناذر محمد الخليفة
تاريخ التسجيل: 01-28-2005
مجموع المشاركات: 29251

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: ناذر محمد الخليفة)

    السيد محمود .. علّم أخوه التجسس . . فاحترف..!!

    عالم المخابرات والجاسوسية عجيب كل العجب. إنه بالفعل يفتقد العواطف. . ولا تصنف أبداً تحت سمائه، حتى وإن بدت المشاعر مشتعلة متأججة – فهي زائفة في مضمونها، ووجودها فقط لخدمة الموقف ثم تنتهي الى أفول.

    لقد كتبنا عن سمير باسيلي أول جاسوس في العالم يجند أباه. وكتبنا عن إبراهيم شاهين ابن سيناء الذي جند زوجته انشراح وأولاده الثلاثة.

    وفي هذا الفصل نكتب عن جاسوس آخر من جواسيس الاسكندرية، استغل شقيقه المجند بالقوات المسلحة، وجنده ليحصل من وراء معلوماته العسكرية على مال وفير.

    كلها قصص تؤكد أن علاقات الدم والرحم ومشاعر الحب – تتوه بين غمام عالم الجاسوسية الغامض . . وتمحي . . في لحظة يغيب فيها العقل .. ويغتال الانتماء.. !! الصدمة الفجائية

    بالرغم من التنسيق الاستخباري الامريكي الصهيوني الذي وصل الى أعلى المستويات . .فقد جاءت حرب أكتوبر 1973 لتثبت عجز المخابرات الاسرائيلية والامريكية وهزيمتها معاً إزاء هذه الحرب المفاجئة. فقد طار زيفي زامير رئيس الموساد (كما طار من قبله مائير عميت قبل حرب يونيو 1967) الى كل من أوروبا وأمريكا بمهمة سرية.. ليحاول التحقق من المعلومات التي وردت اليهم قبل حرب أكتوبر باستعدادات العرب للهجوم على إسرائيل.

    وفي صباح السادس من أكتوبر بعث ببرقية محمومة من نيويورك الى جولدا مائير رئيس وزراء إسرائيل تقول: "إن الحرب ستبدأ اليوم". وكان الأوان قد فات. وكانت مفاجأة الحرب التي منيت بها إسرائيل، نتيجة "الفكرة" الخاطئة التي يتمسك بها القادة الإسرائيليون، والمستندة الى أن الحرب لن تقع بسبب عجز العرب عن القيام باتخاذ قرار الهجوم ضدهم.

    كقد كانت هذه "الفكرة" متأصلة الجذور في أذهان العسكريين الإسرائيليين، حتى أن الجنرال "إلياهو زعيرا" – الذي كان يشغل منصب رئيس الاستخبارات العسكرية – ذهب في ظهر ذلك اليوم الى مؤتمر صحفي في تل أبيب وهو مطمئن الى حقيقة "الفكرة".

    وعندما تكلم بهدوء وثقة الى الصحفيين قائلاً: "لن تقع الحرب". اقتحم المكان ضابط برتبة ميجر ودفع ببرقية الى الجنرال زعيرا في غرفة المؤتمر الصحفي، وعندما قرأها هذا، خرج من الغرفة ولم ينبس ببنت شفة، ولم يعد مرة أخرى. وأدرك الصحفيون الحقيقة على الفور، فقد وقعت الحرب، وفي جمع أرجاء تل أبيب. . أخذت صفارات الإنذار ترسل صيحاتها.

    هذا التقييم الغير صحيح للمعلومات التي تجمعت لدى المخابرات الاسرائيلية، والتي وصلتها قبل الحرب بمدة كافية وتتعلق بالحشود المصرية والسورية، أكد على تقصير المخابرات الاسرائيلية في تحليل النوايا العربية. . والاستعدادات العسكرية التي سارت بخطوات دقيقة وسرية للغاية، وخدعت أجهزة المخابرات الصهيونية والأمريكية، بما يدل على جهل هذه الأجهزة بمؤشرات الحروب والأزمات .. مما أدى الى تفويض نظرية الأمن الإسرائيلي القائمة على قوة جهاز مخابراتها، وعلى عنصر إنجاح الطيران في تنفيذ الضربة الوقائية وإفشال الاستعدادات العربية.

    وبعد توقف الحرب، عمدت الحكومة الاسرائيلية الى التحقيق في كارثة يوم الغفران وشكلت لجنة "إغرانات" لتحديد موضع الخلل والتقصير. . وقد رأت اللجنة أن الاستخبارات العسكرية هي المسؤولة عن تقييم نوايا وقدرات القوات العربية. . وأشارت الى أربعة مسؤولين بها غير مرغوب فيهم ويفضل تسريحهم. . كان على رأسهم بالطبع إلياهو زعيرا رئيس المخابرات العسكرية.

    ولذلك، نشطت أجهزة المخابرات الاسرائيلية المختلفة. . وعملت على تلافي هذا الخطأ المدمر الذي راح ضحية له آلاف الجنود والضباط، وسبب الذعر في كل أرجاء إسرائيل، وقررت ألا تترك معلومة، ولو تافهة صغيرة، إلا وحللتها وتأكدت من صحة ما جاء بها. وذلك من خلال تجنيد طابور طويل من العملاء والجواسيس في كل البلاد العربية. . يمدون إسرائيل بجسر متصل من المعلومات السرية يومياً، فتستطيع بذلك تدارك أية كوارث أخرى قبل وقوعها. وكان لا بد من القيام بعدة انتصارات هامة. . تعيد الثقة الى هذا الجهاز الذي أثبت فشله في التنبؤ بحرب أكتوبر.

    وعلى هذا الأساس .. صعّدت قيادة جديدة لأجهزة المخابرات الإسرائيلية، تتعطش لإثبات جدارتها ومقدرتها، وأخذت على نفسها أمر حماية إسرائيل من الخطر الدائم المحيط بها. ورصدت ملايين الدولارات تحت تصرف هذه الأجهزة. وكان للموساد الإسرائيلي نصيب أكبر منها لتجنيد العملاء والجواسيس، وشراء ضعاف النفوس في كل مكان.

    ولم تعد المخابرات الاسرائيلية تلقى بالاً للعناصر التي تعيش على هامش الحياة، بل سعت لتجنيد البارزين في المجتمع، ومن ذوي المراكز الدقيقة الهامة. إذ لم يعد عمل الجواسيس مقصوراً على الإنصات الى ثرثرات سكير في حفل كوكتيل. . أو تخاويف جاهل بالأمور يدعى المعرفة بكك شيء، وإنما أصبحت مهمة الجاسوس تتعلق الى حد بعيد بالحصول على الوثاقئق السرية وتصويرها . . وإعادتها الى مكانها الذي أخذت منه. . ومن ثم إرسال ما صوره الى مركز اتصاله.

    وأيقنت المخابرات الاسرائيلية أن المعلومات المجموعة .. سواء بالوسائل البشرية أو التكتيكية، لا تكتسب قيمتها الكاملة .. إلا بعد الدراسة والتحليل والتركيب والاستقراء م نقبل خبراء أخصائيين على مستوى عال من العلم والخبرة.

    وبسبب الخوف من "مفاجآت" العرب الغير سارة – أطلقت إسرائيل جواسيسها داخل البلاد العربية، يجمعون لها الأسرار العسكرية والصناعية. . وكل ما يتصل بأ/ور الحياة اليومية بما فيها أرقام هواتف وعناوين المسؤولين.

    وهذا ليس عبثاً من جانب العدو، إنما هو عمل مخابراتي أصيل، وتخريبي يؤدي الى نتائج خطيرة فيما لو أتيح استعمال هذه المعلومات. . فعملاء إسرائيل السريين لا يتورعون عن ارتكاب أية جريمة مهما كانت حقارتها لتحقيق أهدافهم ومهامهم.

    ويبدو أن المخابرات العربية قد تفهمت بحق تغير أسلوب جهاز المخابرات الاسرائيلي. . خاصة بعد تجديد دماء رؤسائه ومديري أقسامه المختلفة .. والحرص على اصطياد الخونة العرب في كل مكان .. ودفعهم الى بلادهم بعد دورات تدريبية ينشطون بها مداركهم. . ويوقظون لديهم الحاسة الأمنية .. ويزرعون بداخلهم الولاء لإسرائيل بإغراءات المال والجنس، وبالتهديد أحياناً كثيرة.

    لذلك .. فقد كان على المخابرات العربية أن تنشط هي الأخرى لتواجه هذا النشاط المضاد. وكان أن أعلن مسؤول كبير في المخابرات المصرية في 10/10/1974 بأن أي مواطن مصري تورط تحت أي ظروف مع جهاز المخابرات الإسرائيلي، فإنه في حالة التبليغ عن ذلك فور وصوله الى البلاد أو لأي سفارة من سفاراة مصر. . فسوف يعفى نهائياً من أية مسؤولية جنائية. . ولا توجد له أي تهمة مهما كانت درجة تورطه.

    وأضاف المسؤول: إن المخابرات المصرية تعلم الأساليب التي تتبعها المخابرات الاسرائيلية .. والظروف التي يقع تحتها المواطن مرغماً، مما يغفر له ما وقع فيه مادام قد قام بالإبلاغ خدمة لوطنه.

    وفي نهاية البيان . . أعلن المسؤول الكبير نبأ القبض على جاسوسين شقيقين يقومان بالتجسس لصالح المخابرات الاسرائيلية .. وأنهما بين أيدي المحققين لاستجوابهما. . وسوف يحالان للمحكمة المختصة فور انتهاء التحقيق.

    فلنفتح ملف القضية ونقرأ ما به.

    دراسة الحالة
    في الثاني عشر من مارس 1929 ولد "السيد محمد محمود محمد" بالاسكندرية لأسرة ثرية يعمل معظم أفرادها في "البحر". وانصرف السيد عن دراسته مبكراً ولم يحصل على الشهادة الاعدادية، فكان شغفه بالبحر أعظم من فصل المدرسة لديه.

    لذا .. فقد أثمر هذا الحب لكل ما هو "بحري" عن خبير بالشؤون البحرية يشهد له الجميع بذلك. وكان عمله في ميناء الاسكندرية قد أتاح له – من خلال عائلته – الارتباط بصداقات عديدة بالعاملين بالميناء، ومعرفة أدق التفاصيل عنه.

    وفي الثانية والعشرين من عمره .. أحب ابنة صديق للأسرة يعمل في الميناء أيضاً. وتزوج من "إخلاص" وعاشت معه في شقة رائعة بمنطقة سيدي جابر.

    ومرت به الأعوام وهو يكبر بين أصحاب المهنة وتتسع علاقاته واتصالاته. وينجح في عمله الى مدى بعيد. فاستثمر هذا النجاح وامتلك 40% من الباخرة التجارية اللبنانية "م. باهي" وترك العمل على الشاطئ لينتقل الى عمق البحر، إذ عمل مساعداً للقبطان. . وبدأ يبتعد كثيراً عن الاسكندرية في رحلاته الى موانئ العالم. . فزداد الماماً بعلوم البحر والطقس .. وامتلأت جيوبه بالمال فاستثمره هذه المرة في الزواج من فتاة صغيرة رائعة الجمال .. كان قد التقى بها في المعمورة ورآها "غادة" حسناء تمرح على الشاطئ كأنها عروس البحر.

    لقد كلفه الزواج منها مبالغ طائلة أرهقت ميزانيته. وتورط بسببها حتى اضطربت أحواله المادية أكثر بعدما احتاجت الباخرة لـ "عمرة" كاملة، كان عليه أن يدفع 40% من تكلفتها، فقد كانت بينهم وبين شركة التأمين مشاكل طائلة أدت الى تعسرهم مالياً.

    وأمام أزمته الطاحنة .. اضطر السيد محمود الى "رهن" نسبة من نصيبه في الباخرة، وكان من تلك الفترة قد دخل بكل قوة الى دائرة الإفلاس التي تضيق حوله وتعتصره.

    كان السيد محمود قد قارب الأربعين من عمره، وسيم أنيق المظهر، خبير بالأمور البحرية. . وأعلى خبرة بشؤون النساء وأنواع الخمور. . وكان لا ييأس إذا ما صدته امرأة أو تجاهلته فتاة جميلة. فهو يملك من وسائل اجتذابها ما يحير العقول، يساعده على ذلك لسان زلف رقيق، وعينان بريقهما عجيب كل العجب يسهل له مسعاه، وكانت علاقاته النسائية متعددة برغم زواجه من اثنتين.. ولا يكف عن إثبات ذاته أمام الفتيات الصغيرات اللاتي ينجذبن سريعاً لطلاوة حديثه وجرأته، ولقدرته الفائقة على احتوائهن.

    كان أيضاً يستغل المال في شراء النساء بالهدايا القيمة التي يجلبها من الخارج كلما عاد محملاً بها. . في وقت كانت الأسواق المحلية تفتقر الى البضائع المستوردة التي تلقى إقبالاً شديداً خاصة حوائج النساء.

    كل ذلك ساعد بطريقة أو بأخرى على تعدد علاقاته النسائية ومفاخرته بذلك أمام أصدقائه الذين طالما حسدوه لحظه الواسع من الجنس اللطيف.

    هذه المغامرات . . خلافاً لليالي الأنس والفرفشة. . التي كان يقيمها في شقة خاصة في سبورتنج .. كانت تستنزف منه أموالاً كثيرة أيضاً، وأدت الى ابتعاده – مؤقتاً – عن هوايته في تصيد النساء .. التي أرهقت مدخراته وإن كانت قد قضت عليها بالفعل.

    وأثناء توقف الباخرة للإصلاح بميناء نابولي الايطالي. . ذهب السيد محمود الى روما. . وبالمصادفة قابله هناك صديق قديم من يهود الاسكندرية اسمه فيتورا . . قال له إنه يعمل ضابطاً إدارياً في شركة السفن التجارية الايطالية.

    وعلى مدار جلسات طويلة بينهما. . استعرضا مراحل حياتيهما الماضية والحاضرة. وشكا له فيتورا شوقه الشديد لزيارة الاسكندرية، فدعاه السيد محمود لزيارته هنا وهو على ثقة بأنه لن يلبي دعوته. . لكن خاب ظنه عندما فوجئ به يزوره بالاسكندرية.

    وخلال هذه الزيارة الغير المتوقعة .. تكشف لفيتورا أمر صاحبه ومدى معاناته. . بسبب أزمته المادية الحرجة التي تنغص عليه حياته، وتتهدد مستقبله كله. خاصة وهو صاحب بيتين وزوجتين . . وحجم المصروفات يزداد كل يوم يمر. وصارحه السيد بمدى يأسه من صلاح حاله والسفينة قد فتحت فاها ولا تريد إغلاقه، وأنه أخيراً باع نصيبه بالديون التي تراكمت عليه وتضخمت. وطلب من صديقه اليهودي راجياً أن يبحث له عن عمل في أي مكان من العالم.

    وبعد تفكير .. أخبره فيتورا أنه سيعمل على تقديمه لصديق إنجليزي يعمل صحفياً على منظمة "حلف شمال الأطلسي" ويقيم في أمستردام بهولندا. وعندما سأله السيد عن نوع العمل الذي قد يقوم به مع صديقه الصحفي، أخبره فيتورا أن مجال الصحافة ليس له حدود. لأنه يتدخل في شتى المجالات وليس قاصراً على معلومات بعينها.

    ولما أكد له أن الصحافة الأجنبية تدفع كثيراً. . تهلل السيد محمود فرحاً. . وطلب بإلحاح من فيتورا أن يسعى عند صديقه الانجليزي، وأنه مستعد للتعامل معه كمراسل صحفي بالشكل الذي يرضاه.

    وفي اليوم التالي ادعى فيتوار أنه اتصل بصديقه في أمستردام وعرض عليه الأمر، فوافق وطلب موافاته بعدة تقارير اقتصادية وتجارية وسياسية. . مع التركيز على ميناء الاسكندرية وكتابة بيانات شاملة عنه وعن الحركة التجارية والملاحية والتسويقية من خلاله.

    فرح السيد محمود كثيراً واستغرق عدة أيام في كتابة التقارير بعدما زار الميناء الحيوي للاستعانة بصداقاته هناك في الحصول على إجابات وافرة على العديد من التساؤلات. . ثم حزم حقيبته وسافر برفقة صديقه الى أمستردام رأساً حيث نزلا بفندق "أمريكا" الفخم.

    وفي الفندق. . زاره الصحفي البريطاني "ميشيل جاي طومسون" – الذي هو في الأصل ضابط مخابرات إسرائيلي – واستغرق وقتاً طويلاً في الحديث معه ومناقشته فيما جاء بتقاريره الهامة. . ووجد السيد محمود نفسه يعيش حياته السابقة من جديد حيث الخمر والنساء الجميلات.. وبخاصة كريستينا الرائعة التي قدمها له طومسون كصحفية تعمل معه. وغاب عن ليومين تاركاً كريستينا معه وتحت أمرته.

    الجاسوس المغيب العقل
    كانت الفتاة اليهودية المثيرة تعلم أنه زوج لاثنتين. وزير نساء خبير بأمورهن، ولذا كان عليها أن تكون مختلفة عن كل النساء اللاتي عرفهن. فأبدعت في إثارته الى درجة الهوس. وفي حجرته بالفندق لم تسكره الخمر بقدر ما أسكره دلالها. . وجسدها الأنثوي الذي تفوح منه رائحة الرغبة. . فكانت تدعوه اليها وتتمنع، وكلما اقترب منها زادته لسعات النشوة ليمتشق سلاح الصبر وما صبر لديه، فيهوى سكراناً بين يديها، يمتص معتق الخمر من نهر الحياة بين نهديها، وترتجف خلجاته نشوانة لفعل اللذة الساحرة، ويقسم بأنه ما ذاق من قبل طعم امرأة، ولا ذهب عقله بلا خمر إلا معها.

    فتضحك العميلة المدربة في نعومة آسرة، وتخبره بأنها تعمل مع طومسون لصالح المخابرات الامريكية. . إضافة الى عملها في "حلف شمال الأطلسي" فلم يندهش العاشق الغارق بين أحضانها أو يحس بمدى الخطر الذي يحيط به. وعندما جاءه طومسون . .أبلغه تحيات فيتورا الذي سافر الى استراليا، "حيث انتهت مهمته الى هنا".

    رجع السيد الى القاهرة ومعه مئات الدولارات. . والعديد من الهدايا التي حرم من حملها لفترة طويلة. وأيضاً – يحمل عدة تكليفات محددة عليه الكتابة عنها بتفصيل. وأغراه ضابط الموساد بمبلغ كبير لكل تقرير مفصل. . يحوي معلومات قيمة لا تتوافر في المادة الصحفية المنشورة في الصحف المصرية.

    وما هي إلا أسابيع حتى سافر الى أمستردام مرة ثانية بحقيبته عدة تقارير غاية في الأهمية. وإحصائيات عن حركة ميناء الاسكندرية اليومية.

    اندهش طومسون لغزارة المعلومات التي جلبها تلميذ الجاسوسية الجديد. واهدى اليه كريستينا لعدة أيام مكافأة له، فغيبت عقله وحركت بداخله كل إرهاصات النشوة وتياراتها المتلاحقة.

    نوع آخر من النساء هي. دربها خبراء الموساد على التعامل مع المطلوب تجنيده بأساليب شتى تجعله يعشق الجنس. . ويدمنه . . فكانت تزرع لديه اعتقادات الفحولة التي لا يتمتع بها سواه. وبنعومة الحية تنسج معه قصة حب ملتهبة مفعمة بالرومانسية الخالصة ثم تمتزج بالجنس فيختلط الأمرين ويقع الضحية فريسة الرغبة الشديدة في الارتواء والتي عادة ما تنطفئ أو تخمد.

    فالعميلة المدربة تملك سلاح تأججها الدائم. والقدرة على السيطرة على الضحية بسلاح الضعف وعدم إيثار اللذات. . هكذا تفعل عميلة الموساد التي تخرجت من أكاديمية الجواسيس في إسرائيل برتبة عسكرية . . وترتقي وظيفياً كلما أجادت استخدام لغة الجسد في "العمل".

    فالجسد الانثوي – مادة خصبة تجتذب ضعاف النفوس . . أمثال السيد محمود الذي نظر في بلاهة الى فتاته العارية وهي تقترب من لحظات الذروة . . حينما تصرخ وتخبره في ضعف أنها إسرائيلية تحبه وتعشقه وتعبده. ويكمل صعود المرتفع وحين يهبط.. تكرر عليه القول فلا يهتم. وتفهم من ذلك أنه سقط. . سقط لآخره في عشقها وحبائلها. . ولأنه مغيب العقل فلا مفر من استسلامه. وبعد عدة أيام – كان في طريقه الى الاسكندرية – عميلاً للموساد الاسرائيلي، فهناك أحاديث سجلت له، وأفلام فاضحة تظهر لحظات ضعفه وشذوذه مع العميلة المدربة، وهناك ما هو أهم – التقارير الخطيرة التي كتبها بخط يده.

    أغمض عينيه ولم يهتم بالنداءات المستمرة التي كانت تصدر عن جهاز المخابرات المصرية. . والتي تعفي أي مصري تورط مع الموساد بشرط الإبلاغ الفوري . . وتجاهل كل تلك النداءات لظنه أن إبلاغهم بالأمر. . معناه حرمانه من آلاف الجنيهات التي يحصل عليها مقابل عدة تقارير لا يبذل في جمعها مجهوداً يذكر . . فالمعلومات متوفرة بكثافة وكل معلومة لها ثمن يحدده هو حسب أهميتها. عليه إذن أن يبحث عن كل ما هو مهم لتزداد مكافآته. ويكبر راتبه الشهري الذي حددوه له بـ 500 دولار .. مبلغ كبير بلا شك من أين له بمثله إذا امتهن أية مهنة؟

    كان يكتب تقاريره التفصيلية وبضمنها كل المعلومات التي تصل إليه. . ويتوقع أرقاماً معينة ثمناً لها.. ويسرع بالسفر الى أمستردام كلما تضخمت لديه المعلومات ليجد في انتظاره كريستينا وطومسون. هي تمنحه جسدها، وتزيل عنه أعباء الخوف الذي يتملكه عندما تنشر الصحف المصرية قصة القبض على جاسوس لإسرائيل. . وطومسون يعمل على إزالة الخوف منه بتدريبه على استخدام الشيفرة في الكتابة بالحبر السري، وعلى استعمال الراديو لاستقبال التعليمات من خلاله بالشيفرة وطريقة حلها وأسلوب تنفيذها. . وتدريبه أيضاً على كيفية تمييز الأسلحة بالنظر. وكان طومسون يؤكد له بصفة مستمرة. . أن التدريب الجيد فيه تأمين له .. وحصانة ضد الخطأ الذي قد يوقع به . . ويحثه دائماً على الالتجاء الى العلم. . والى التزود بالحس الأمني العالي لحماية نفسه.

    المصير الأسود
    ومع جرعة التدريب العالية التي نالها. . عاد السيد لاستئناف نشاطه بشهية مفتوحة ومحفظته متخمة بالأموال . . وحقائبه ملأى بالهدايا. . وعرف أكثر وأكثر قيمة كل معلومة يجمعها. خاصة المعلومات العسكرية.

    ولما كانت مصادر معلوماته العسكرية معدومة.. فكر في تجنيد شقيقه الأصغر "أمين" المجند بالقوات المسلحة. فاستغل حاجته الى النقود فترة تجنيده. . للإنفاق على نفسه على حبيبته التي يستعد للزواج منها، ولعب على هذا الوتر، وكلما أمد شقيقه بالنقود كلما أخضعه له.

    لم يكن الأمر صعباً على أمين هو الآخر، فببعض معلومات عسكرية لا قيمة لها عنده . . يمنحه السيد مقابلاً كبيراً لها .. وعندما سأله أمين ذات مرة ضاحكاً: - هه يا أخي . .هل تعمل جاسوساً؟‍!

    انتفض كالملسوع واكفهر وجهه وقام على الفور وصفعه بشدة قائلاً:
    إياك أن تخبر أحداً بهذا الأمر . . أنا أعطيك مبالغ طائلة مقابل معلوماتك، وكلمة واحدة وتنتهي حياتنا الى الأبد.

    وانخرس أمين ولملم جرأته وانغمس مضطراً بسبب المال الى الاستمرار في إمداد شقيقه بالمعلومات.

    وذات مرة .. عرض عليه السيد أن يجلب له خرائط عسكرية. . ولوحات هندسية لتصميمات بعض المواقع الهامة. وتخوف أمين في البداية، وأمام إغراءات المال استجاب أخيراً ولكنه ساومه على الثمن، وتفاصلا في المبلغ حتى اتفقا.

    وعندما رأى طومسون الصور العسكرية واللوحات البالغة السرية. . احتضن الجاسوس الخائن وقال له "سأكتب حالاً بذلك الى إسرائيل وسأطلب لك مكافأة سخية" وجاء الرد من تل أبيب يفيض كرماً وسخاءً.

    هذه المرة .. لم يهتم السيد كثيراً بعشيقته التي لم تأت لمقابلته، بل انحصر اهتمامه في القيمة المادية التي سيتحصل عليها ثمناً لما أمدهم به، ولم يمكث كثيراً بأوروبا إذ عاد على وجه السرعة. . حيث جاءه مولود جديد من زوجته غادة بعد محاولات فاشلة سابقة، وحيث ينتظره أخوه أمين . .الذي يجهز شقته استعداداً للزواج من حبيبته "توحة".

    كانت حرب أكتوبر قد انتهت. وكثف أمين من نشاطه في تصوير المستندات العسكرية والخرائط قبل خروجه من الجيش الى الحياة المدنية. وحرمانه من المبالغ الخيالية التي يحصل عليها من شقيقه، وهذا ما أوقع بالخائن وبشقيقه في قبضة المخابرات المصرية. .

    فقد حامت شكوك حوله مصادر المال الذي ينفقه أمين بشراهة، ولفت انتباه أحد زملائه اهتمامه بالحجرة التي تحوي تصميمات هندسية سرية لممرات الطائرات في المطارات الحربية. . وقواعد يجري إنشائها في عدة مواقع سرية.

    ووصلت الشكوك الى القائد الذي جمع التحريات عن الجندي أمين . . فاتضح له أنه يغدق بالهدايا على زملائه. .وأقام صداقات قوية للحصول على أجازات من القوات المسلحة يقضيها في اللهو والمجون.

    وبوضعه تحت المراقبة هو وشقيقه السيد، وكانت النتيجة الحتمية سقوطهما في قبضة المخابرات المصرية وهما في غفلة من الزمن لا يتصوران أن أمرهما قد ينكشف في يوم من الأيام.

    هكذا فاجأ فريق من رجال المخابرات العسكرية شقة أمين. . وتم العثور على وثائق عسكرية هامة، تحوي خرائط ولوحات لمواقع استراتيجية، اعترف أمين في الحال أنه جلبها لشقيقه السيد مقابل مائة جنيه. . وبمداهمة شقة السيد وجدوه يخبئ وثائق أخرى بجيب سحري بقاع حقيبته. . فانهار لا يصدق . .وأخذ يلطم خديه ويردد: - الطمع والنسوان ضيعوني . . وأنا أستاهل.

    وضبطت لديه كل أدوات التجسس . . الأحبار السرية. . جهاز الراديو .. جدول الشيفرة .. الكاميرا. . الخ.

    واستمر التحقيق معهما، ابتداء من 28 مارس 1974 حتى ديسمبر 1974 حيث اعترفا خلاله بتهمة التجسس لصالح المخابرات الاسرائيلية..

    وعندما نطق القاضي بالحكم، دوت صرخات عالية في القاعة من ثلاثة نساء، كن إخلاص وغادة وتوحة، واقتيد السيد محمود ليقضي 25 عاماً في أحد سجون الصحراء، وكان منظراً عجيباً في قفص المتهمين بالمحكمة، إذ أمسك أمين بتلابيب شقيقه الأكبر وغرس فيه أظافره وأنيابه وهو يصرخ:
    إنت السبب يا مجرم، أنا ح اقتلك. . ح اقتلك. . ضيعت خمستاشر سنة من عمري أونطة يا . . . . . وباعدوا بينهما واقتيد كل منهما في عربة مصفحة حيث ينتظرهما مصير أسود .. لا ضوء فيه ولا شعاع. .

    فالطريق غامض تحفه المخاطر والأهوال . . !!
                  

03-15-2007, 07:58 AM

ابوبكر يوسف إبراهيم

تاريخ التسجيل: 05-11-2006
مجموع المشاركات: 3337

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: ناذر محمد الخليفة)

    العزيز ناذر

    تحية ومودة

    موضوع تثقيفي وجاد ومثير وشيق .. اليهود يا عزيزي يعتبرون اليهودية التي تقوم بأعمال التجسس لصالح الكيان الصهيوني (قديسة) وما قصة ( استير ) التوراتية ببعيدة عن الأذهان.. مادة جادة وراقية
                  

03-23-2007, 02:35 PM

ناذر محمد الخليفة
<aناذر محمد الخليفة
تاريخ التسجيل: 01-28-2005
مجموع المشاركات: 29251

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: ابوبكر يوسف إبراهيم)

    الأخ أبو بكر يوسف ..

    نعم يعتبرونها قديسة ولا أدل على ذلك من القصة التي ذكرتها أعلاه عندما كانت إحدى عميلات الموساد ببرلين تبيع جسدها مقابل تجنيد الطيار العراقي وكان في الغرفة المجاورة رئيس الموساد عاميت وبعض من رجاله يراقبون المشهد ويسجلونه بكاميراتهم حيث ألقى عليهم عاميت في تلك اللحظة خطبة عصماء قائلا لرجاله أن عميلتهم تقوم بمهمة مقدسة لصالح إسرائيل وأن عليهم التخفيف من بصرهم أو شيئاً من هذا القبيل ..
                  

03-23-2007, 03:18 PM

ناذر محمد الخليفة
<aناذر محمد الخليفة
تاريخ التسجيل: 01-28-2005
مجموع المشاركات: 29251

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: ناذر محمد الخليفة)


    سمير وليم باسيلي ـ أول جاسوس يجند أباه للموساد





    "عندما تخمد نبضات الحب صريعة الكبت .. والمعاناة .. والشجن، وتحترق الأعصاب فيرتجف الجسد رجفة الجوع. . ينهار الجبان ويصير شبحاً بلا معالم.. فيسترخص الثمين بلا ندم ..

    وعندها . . فهو لا يتورع أن يبيع الجذور بدريهمات . ويهون عليه بيع الأهل .. والأبناء .. والوطن . . !!"


    السر العظيم

    عندما ورط ابراهيم شاهين زوجته انشراح وأولاده الثلاثة. . ودفعهم بحماس للتجسس لصالح الموساد.. لم يكن دافعه الانتقام منهم.

    كذلك هبة سليم. . التي جرجرت خطيبها المقدم فاروق الفقي للخيانة العظمى.. بالرغم من علمها أنه يحبها لدرجة الجنون.. لم يكن دافعها الانتقام منه.

    أما جاسوس الاسكندرية. . السيد محمود. . الذي احتال على شقيقه أمين المجند بالقوات المسلحة. . وأغرقه في أموال الموساد. . فهو أيضاً لم يكن يقصد الانتقام منه.

    لكن سمير وليم فريد باسيلي. . كان يختلف كثيراً عن هؤلاء وغيرهم. . إذ دفع بوالده – عن عمد – الى وكر الجاسوسية . . للانتقام منه. . وتشفياً به. . وورطه في عمليات تجسس لحساب إسرائيل . . انتهت بمصير مهلك لكليهما.

    كيف حدث ذلك. . ؟

    علماء النفس تحيروا. . ووقفوا عاجزين أمام أحداث القصة المؤسفة.. وفشلوا تماماً في تحليل شخصية الابن المجرم. . كما فشلوا من قبل مع ابراهيم وانشراح . .الذين قال عنهما أستاذ علم النفس النمساوي "فردريش يوجان":

    "أعتقد أنهما مصابان بمرض "الجنون ذي الوجهين Folie a double forme ".. وهو مجموعة أعراض إكلينيكية قوامها خفض نغمة المزاج الوقتي LOWERING OF MOOD – TONE وصعوبة التفكير الذي يغلفه القلق وتسلط الأفكار . . وتهيج بعض الأحزان والهموم . .

    ولأن حالة سمير باسيلي حالة فريدة من نوعها. . خضعت للعديد من التحليلات النفسية . . وضعته في النهاية في مصاف المرضى .. وصنفه "يوجان" على أنه "الدوني السيكوباتي التكوين CONSTITUTIONAL PSYCHOPATHIC INFERIOR " . . والسيكوباتي هو دائماً في حالة توتر. . لا يستفيد إلا قليلاً جداً بالخبرة أو العقاب. . ولا يدين بأي ولاء حقيقي لأي مبدأ أو جماعة.

    فلنقرأ معاً تفاصيل قصة سقوط سمير باسيلي. . ولا نتعجب لتحورات النفس البشرية وتقلباتها. . فتلك قضية شائكة معقدة .. ذلك لأن النفس البشرية سر لا يعلمه إلا خالقها سبحانه وتعالى.

    على مقهى برنسيس
    حصل سمير على الثانوية العامة بصعوبة شديدة عام 1960 وتوقف عن إكمال دراسته بأحد المعاهد. فالأب . . كان بخيلاً شديد البخل. . شرس الطباع في معاملته لأبنائه. . لا يترك قط مساحة ضئيلة من التفاهم تقربهم منه، وكره سمير في أبيه سلوكه فأدمن الخروج من المنزل والسهر مع أصحابه. . ولم تنطفئ برغم ذلك حرائق الصدام مع والده. لذلك فكر في السفر الى ألمانيا بعدما ضاقت به الحياة وعضه الجوع.

    وعندما عرض الأمر على أبيه لم يسلم من تهكمه وسخريته اللاذعة. . وذكره بالفشل الذي أصبح سمة من سمات شخصيته.. رافضاً بشدة إمداده بنفقات السفر رغم توسط بعض أفراد الأسرة.

    استدان سمير من أصدقائه ووجد نفسه فجأة على مقعده بالطائرة في طريقه الى ألمانيا، يتنفس الصعداء ويلعن الفقر. . ويسب والده الذي حطم كل الآمال لديه فأشعره باحتقاره لنفسه.. ودونيته.. وبث بأعماقه شعوراً مخجلاً بالضعف والحقارة.

    لقد كان يبخل عليه بأبسط بوادر الحنان والأبوة. . وحرمه الحب. . فعاش معه مزوياً بلا هدف أو كيان. وأخذ سمير يجتر ذكرياته المرة مع والده البخيل .. الذي دأب على تسميم بدنه ليل نهار بالسباب والحط من شأنه. . وتحريض أمه على طرده من المنزل كلما عاد متأخراً وحرمانه من العشاء والهدوء. . مما أثار شجن الشاب الممزق.. وكثيراً ما كان يسأل نفسه أهو ابن شرعي لهذا الرجل أم لقيط وجدوه على الرصيف.

    تحركت به الطائرة على الممر.. وقبل أن ترتفع مقدمتها عن أرض المطار. . أخرج سمير منديله وبصق على معاناته وآلامه وحظه، وكأنه يبصق على كل ما يذكره بأيامه الكئيبة. وظل يسرح طوال رحلته في خيال جميل أفاق منه على صراخ عجلات الطائرة وهي تنزلق على أرض مطار ميونيخ. وشرع من فوره في محاولة تحقيق الحلم. . فاتصل بمعارفه هناك لمساعدته.. وسريعاً حصل على وظيفة معقولة بشركة سيمونز الشهيرة فعاش حياة رائعة لم يكن خياله يقوى على وصفها أو يتخيلها.

    مرت الأسابيع والشهور وفتانا منهمك في عمله لا يبغي سوى جمع المال. . وبدأ رويداً رويداً في استطلاع الحياة الجديدة. . التحرر الصاخب الذي يغش المجتمع من حوله. . وساعده المال الذي ادخره على المغامرة. . فانغمس في عالم آخر بعدما ضعف أمام إغراء المدينة الساحرة.. بحر هائج من اللذات لا ينتهي مد موجه أو يخمد.. أفرغ بين ضفتيه حياته السابقة لا يكاد يفيق من نشوته وسكرته إلا ويعود أكثر شراهة وطلباً.

    ضمن له مرتبه الكبير التكيف مع حياته الجديدة. . ولأنه فقد هويته – أراد أن يرسم لنفسه هوية جديدة ابتدعها هو . . وهيأت له الظروف خطوطها لخدمة أحلامه وطموحاته. وتبلورت شخصيته الجديدة على مقهى برنسيس حيث الخمر والرقص والنساء.

    وذات مساء وكان الزحام على أشده جلس بجواره رجل أنيق ودار حديث بينهما وفهم سمير أن نديمه ينتظر صديقته التي جاءت تخطر كظبي رشيق نفر الجمود والوخم .. وصاح "هاتز مولار" ينادي على صديقته "جينفيف يارد" في ترحاب زائد .. وعرفها على سمير باسيلي الذي غاص في الذهول والمفاجأة.

    كانت أنوثتها الطاغية تقتل، وصدرها العاري ترتج لمرآة الخلايا، وسيقانها المرمرية المثيرة تُطيّر العقل.

    وعندما قامت للرقص معه .. حرقته نيران الجسد. . وألهبته أنفاسها وهي ترسل تنهداً تسلل الى عقله فأوقفه ودمر مقاومته.. وكانت يداها كالقيد تطوقان رقبته تماماً كالقيد الذي كبل به مصيره ومشواره المقبل. وعندما صحبها هانز وخرجا لم يستطع سمير صبراً.. فلاحقهما بسيل من الاتصالات التليفونية تعمدا ألا يردا عليها لبعض الوقت. . الى أن أوشك الشاب العاشق على الجنون. . فدعاه "هانز" الى شقته وجاءت "جين" كفتنة تتحرك فتتحرك معها الرغبات وتثور معلنة عن نفسها.

    ترك هانز الشقة إثر مكالمة تليفونية وتمنى سمير لحظتئذ لو منحها كل غال لديه للفوز بقطرة واحدة من شهد أنوثتها.. ولكن عندما أفاضت عليه بكئوس من النشوة خارت إرادته. . وود لو لم يفق من سكرته الى الأبد.

    وكانت خطة السقوط التي رسمتها الموساد أغرب من الغرابة. . فبينما كان عارياً في الفراش المستعر قالت له جين وهي تمرر المنشفة على وجهه:
    أنت مصري رائع، أشعرتني بأن "للحب" مذاقات لذيذة أخرى.

    أجابها في ثقة:
    هذا ما تعلمته منكم.

    سألته في دلال:
    ألم تكن لديك صديقة في مصر؟

    قطب حاجبيه وأجاب بسرعة:
    لا . . لا . . الجنس في مصر يمارس بشكل متحرر في الخيال. . وفي السر فقط. والصداقة بين الجنسين لا تعرف الجنس ولكنها تضج بالكبت وتفوح منها أبخرة الرغبة.

    في نعومة زائدة سألته وهي تفرك أذنه:
    وماذا تقول عني أيها المصري الشقي؟

    قال وهو يقبلها: أفردويت ابنة زيوس وهيرا التي ولدت من زبد الماء في بحر إيجه [1]، وهي الان بأحضاني.

    ردت وهي تحتضنه في تدلل:
    لا تبالغ كثيراً!!.

    ضغطها بين ذراعيه متولهاً وهو يقول:
    أنت أروع فتاة عرفتها. . ولن أتركك أبداً.

    تنهدت في حزن:
    للأسف يا سمير . . سأتركك مضطرة خلال أيام.

    لن أعيش وحيداً
    انتفض منزعجاً وهو يبعد وجهها عن صدره ليتأمله:
    جين ؟ ماذا تقولين؟ عندما عثرت عليك امتلكت الحياة وسأموت بدونك.

    عانقته وهي تقبله في حنان بالغ:
    فضلت أن أصارحك الآن قبل أن أغادر ميونيخ فجأة.

    تشبث بذراعيها فتألمت وقال:
    سأجيء معك حتى آخر الدنيا فلا دنيا لي سواك.
    مستحيل. .

    تنهد في زفرة طويلة وأردف:
    سأثبت لك يا جين أن لا شيء مستحيل. .

    وفي نعومة الحية قالت:
    أرجوك . . أنت لا تعرف شيئاً. . فلا تضغط على أعصابي أكثر من ذلك.

    هزها بين أحضانه وهو يردد:
    أحبك لدرجة الجنون منذ رأيتك في البرنسيس يا أجمل برنسيس في الدنيا.

    أحبك أيها المصري الأسمر "قالتها وهي تداعب شعره في ابتسامة عريضة".

    مرت فترة صمت قبل أن يضيف:
    تركت مصر وعندما رأيتك أحسست أنك وطن آخر. . نعم أنت الآن لي وطن وأهل وحياة . . ولن أتركك ترحلين فأغترب وأحترق.

    تبدلت نبرتها الى نبرة حزن وهي تقول:
    أنا أيضاً أعيش معذبة بعدما مات والدي منذ سنوات. إن الوحدة تقتلني وترهقني معاناة القتامة، لذلك فأنا أموت كل ليلة من التفكير والقلق. وبي حاجة الى صديق وحبيب يؤازرني.

    تساءل:
    أليس هانز صدثقاً؟

    أجابت مفتعلة الصدق والألم:
    لا .. إنه رئيسي في العمل وفي ذات الوقت ملكه. إنني مثل سلعة تافهة يروجونها مجاناً.

    تجهم وجهه وقطب حاجبيه وهو يسألها:
    من ؟ من هؤلاء الذين تقصدين؟

    تلتصق به كالخائف الذي يلوذ بمن يحميه..
    . . . . . . . . . . . . . . . . ؟

    في لهجة جادة يعاود سؤالها:
    أجيبيني من فضلك جين ..

    تزداد جين التصاقاً به ويرتعش جسدها بين يديه وتهمس بصوت متهدج:
    لا أستطيع . . لا أستطيع . . مستحيل أن تثق بي بعد ذلك.

    في إلحاح مشوب بالعطف:
    أرجوك جين .. أنا أحبك ولن أتركك أبداً. . من هؤلاء الذين تعملين معهم؟

    ركزت نظراتها على عينيه موحية له بالأسف:
    الموساد ..

    موساد ؟ !!

    ردد الاسم ويبدو أنه لم يفهم. . إذ اعتقد أنهم جماعة من جماعات الهيبز التي كانت قد بدأت تنتشر في أوروبا وتطوف بالميادين هناك والشوارع.

    نعم الموساد .. ألا تعرف الموساد؟

    نظرت في عينيه بعمق تستقرئ ما طرأ على فكره .. واقتربت بشفتيها منه وأذاقته رحيق قبلة ملتهبة أنهتها فجأة وقالت له:
    إنها المخابرات الاسرائيلية.

    وأكملت مص شفتيه لتستشف من حرارته رد فعله.

    ولما رأت جين أن حرارة تجاوبه لم تفتر بل إن امتزاج الشفاه كان على أشده.. تعمدت ألا تحاول استقراء أفكاره، وهيأت رائعات اللذائذ، وأسبغت عليه أوصاف الفحولة والرجولة فأنسته اسمه ووطنه الذي هجره.. والذي خط بالقلم أول مواثيق خيانته.

    وبعد أن هدأت ثورة التدفق قالت له بخبث:
    هل ستتركني أرحل؟ بيدك أن أظل بجانبك أو أعود الى تل أبيب. أجاب كالمنوم:
    بيدي أنا.. ؟ كيف ؟ لا أفهم شيئاً..

    عانقته في ود مصطنع وبكت في براعة وهي تقول:
    لقد كلفوني بالتعرف على الشباب العربي الوافد الى ميونيخ، خاصة المصريين منهم وكتابة تقارير عما أعرفه من خلال حوارنا في السياسة والاقتصاد .. لكنني فشلت فشلاً ذريعاً بسبب اللغة. فالمصري أولاً ضعيف في الانكليزية لأنه يهتم بالدويتش، وهم أمهلوني لمدة قصيرة وعلى ذلك لا مكان لي هنا.

    وكان الأمر ثانوياً بالنسبة له:
    ماذا بيدي لأقدمه لك؟

    بتوسل شديد يغمسه الحنان قالت:
    تترجم لي بعض التقارير الاقتصادية من الصحف المصرية والعربية وليس هذا بأمر صعب عليك.

    أفاق قليلاً وقال:
    وهل المخابرات الاسرائيلية تجهل ما بصحفنا لكي أقوم بالترجمة لها؟

    أجابت في رقة:
    يا حبيبي أريد فقط أن أؤكد لهم أنني ألتقي بمصريين وأقوم بعملي معهم.. ولا يهمني إن كانوا يترجمون صحفكم أو لا يترجمونها. أريد أن أظل بجانبك هنا في ميونيخ. .

    وطال الحوال بينهما وعندما خافت جين من الفشل في تجنيده.. أجهشت بالبكاء وهي تردد:
    لا حظ لي في الحب. . ويبدو أن صقيع الحياة سيظل يلازمني الى الأبد.

    أخذتها نوبة بكاء هستيرية وهي تنعي حظها في الحب وافتقادها للدفء والحبيب. . فما كان منه إلا أنه جذبها الى صدره بقوة وهو يقول:
    مهما كنت . . لن أتركك ترحلين.

    وأمام رغبته الجامحة وخدعة المشاعر. . أسلم مصيره لها تفعل به ما تشاء. . فجاءته بأوراق وكتب بخطه سيرة حياته. . ومعلومات عن معارفه وأقاربه ووظائفهم وعناوينهم في مصر. وطلبت منه بتدلل أن يمدها بأخبار مصر من خلال المصريين الوافدين الى ميونيخ. فلم يعترض بل كان شرطه الوحيد أن تظل بجانبه.

    هكذا سقط سمير في براثن الموساد. وبعد أن غرق لأذنيه في مهامه التجسسية واستسهل المال الحرام. . تركته جين لتبحث عن غيره. . وانشغل هو باصطياد المصريين والتقاط الأخبار. . وقبع في مطار ميونيخ ينتظر الطائرات القادمة من مصر عارضاً خدماته على الوافدين للمرة الأولى.. الذين يسعدون بوجود مصري مثلهم يرافقهم الى حيث جاءوا . . ويقوم بتسهيل أعمالهم في المدينة.

    أشهر قليلة . . واستطاع أن يقيم شبكة واسعة من العلاقات. . خاصة مع بعض موظفي مصر للطيران وبعض المضيفين والمضيفات. . ويعود الى مسكنه في المساء ليكتب تقريره اليومي المفصل . . الذي يتسلمه منه مندوب من الموساد كل صباح. . ويقبض آلاف الماركات مكافأة له.

    الطماع والمغامر
    وبعد أن استقرت أموره المالية كثيراً عرف أبوه طريقه.. فزاره في ميونيخ عدة مرات زاعماً أن المشاكل الاقتصادية في مصر تضخمت. . وأنه يطلب مساعدته في الإنفاق على أسرته.

    كان سمير يتلذذ كثيراً بتوسلات والده. بل يرسل في طلبه خصيصاً ليستمع الى كلمات الرجاء تتردد على لسانه. . وليرى نظرات التودد تملأ وجهه. وتضخم الإحساس بالشماتة عند الابن تجاه أبيه حتى وصل الى درجة الانتقام.. وكان الانتقام بشعاً ويفوق كثيراً حجم الترسبات التي قبعت برأس الابن تجاه أبيه.

    لقد دبر سمير كميناً محكماً لأبيه أوقعه في شراكه عندما صحبه الى مكتب هانز مولار ضابط المخابرات الإسرائيلية في ميونيخ. . والذي يبدو في ظاهره مكتباً للمقاولات.

    ولأن وليم فريد باسيلي يعشق النقود .. أوضح له هانز أنه سبب الرفاهية التي يعيش فيها ابنه سمير. وأنه على استعداد أيضاً لبدء علاقة عمل بينهما وتأسيس شركة تجارية كبرى في القاهرة تدر عليهما ربحاً وفيراً. .

    عندها . تخيل وليم شركته الجديدة والأموال التي ستغدق عليه. . تخيل أيضاً مقعده الوثير ومكتبه الفخم وسكرتيرته الجميلة وسيارته الحديثة.. وسافر بخياله يجوب شوارع القاهرة يختار موقع المكتب. فأيقظه هانز قائلاً إنه بحاجة الى معلومات اقتصادية عن السوق المصرية. . يستطيع من خلالها أن يحدد خطوطاً عريضة لنشاط الشركة. ولبى وليم الدعوة وجلس عدة ساعات يكتب تقريراً مفصلاً عن احتياجات السوق، وأحوال الاقتصاد في مصر.

    دهش هانز لدقة المعلومات التي سردها وليم ومنحه فوراً 1000 مارك، ووعده بمبلغ أكبر مقابل كل تقرير يرسله من القاهرة.

    نشط الجاسوس الجديد في كتابة التقارير وإرسالها الى ألمانيا وفي الزيارة التالية لميونيخ فوجئ وليم بثورة هانز بسبب سطحية تقاريره المرسلة اليه. وقال له إن المكتب الرئيسي على استعداد لدفع خمسة آلاف مارك للتقارير المهمة وأنه على استعداد لتدريبه على كيفية جمع المعلومات وكتابتها بعد تصنيفها. وعندما سأله وليم عن المكتب الرئيسي أجابه بأنه في تل أبيب، وهو مكتب مختص بالشؤون الاقتصادية في دول العالم الثالث.

    ارتبك وليم فناوله هانز خمسة آلاف مارك في مظروف مغلق قائلاً إنه هدية من إسرائيل من أجل التعاون المخلص. أما التقارير فلها مقابل أيضاً. . وتسلم وليم خمسة آلاف أخرى فانكمش في مقعهده بعدما أدرك حقيقة موقفه ووضعه.

    طمأنه هانز بأن علاقتهما لن تكشفها المخابرات المصرية، لأن هذه التقارير ليست مادة سرية فهي موجودة في الصحف القاهرية. وشيئاً فشيئاً. . تطورت العلاقة بين هانز ووليم الى علاقة بين ضابط مخابرات وجاسوس خائن، تحددت بدورات تدريبية خاضها الأب على يد ضباط فنيين، وانتفخت جيوبه بآلاف من الماركات بعدما كثرت تقاريره التي كان يجيد كتابتها بعد تحليلها. . وتعمده مصادقة ضباط القوات المسلحة والعسكريين المسرحين من المحيطين به.

    (1) وفي كل زيارة لميونيخ كان هانز يحذره من قراءة قضايا التجسس في الصحف المصرية حتى لا يرتبك ويقع في قبضة المخابرات المصرية التي لا ترحم الخونة. وطمأنه على أسلوب عملهم الذي لا تستطيع المخابرات العربية كشفه. وحتى وإن حدث. . فهم سيتولون رعاية أبنائه والإنفاق عليهم من بعده "وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن إسرائيل تتنصل من الخونة بعد سقوطهم وأنها تأخذ فقط وتمنح قبل السقوط" [2]

    أما الابن سمير . . فقد اتسعت دائرة نشاطه في التعرف على المصريين الوافدين وتصيد الأخبار منهم من خلال الدردشة العادية.. وهؤلاء الذين فشلوا في الحصول على عمل. . وشرع بالفعل في تجنيد ثلاثة من المصريين. استطاعوا الرجوع الى مصر وأخبروا جهاز المخابرات المصرية بتصرفات سمير .. ودوره في محاولات الإيقاع بهم لصالح المخابرات الإسرائيلية.. بواسطة فتيات جميلات يجدن استعمال لغة الجسد.

    لقد جاءت البلاغات الثلاثة في فترة قصيرة ومن أشخاص لا يعرفون بعضهم، وكانت خطة المخابرات المصرية لاصطياد سمير وابيه محسوبة بدقة بالغة . . وإحكام.

    الحكم العادل
    كان وليم قد افتتح مكتباً كبيراً للمقاولات في القاهرة استطاع من خلاله أن يمارس عمله في التجسس . . وجعل منه مقراً للقاءاته بالأشخاص الذين يستمد منهم معلوماته.. خاصة من العسكريين الذين أنهوا خدمتهم . حيث إنهم في الغالب يتفاخرون دائماً بدورهم وبعملهم السابق بصراحة مطلقة. . أمام الأشخاص الذين يبدون انبهاراً بما يقولونه ويسردونه من أسرار عسكرية وتفاصيل دقيقة.

    وفي أحد الأيام . . فوجئ وليم برجل ثري عائد من الخليج.. يريد الاستفسار عن إمكانية فتح مشاريع استثمارية وعمرانية كبيرة.

    كان الرجل قد أمضى في الخليج سنوات طويلة ويجهل حاجة السوق المصرية للمشروعات. . وتباهى وليم في سرد خبراته مستعيناً بإحصائيات تؤكد صدق حديثه.. واستطاع إقناع المصري الثري بقدرته على اكتشاف حاجات السوق وإدارة المشاريع. وبدا أن الرجل قد استشعر ذلك بالفعل إلا أن حجم ثروته ورغبته في عمل مشاريع عملاقة. . استدعى من وليم الاستعانة بخبرة سمير فكتب له يطلب مجيئه وألح عليه في ذلك. . وجاءه الرد من ابنه يخبره بميعاد قدومه.

    وما هي إلا أيام حتى جاء الابن الى القاهرة.. بصحبته شاب ألماني وصديقته أرادا التعرف على الآثار الفرعونية . . فصحبهما سمير الى الأقصر حيث نزلوا بفندق سافوي الشهير على النيل .. ثم مكثوا يومين في أسوان وعادوا الى القاهرة.

    كان سمير طوال رحلته مع صديقيه يقوم باستعمال كاميرا حديثة ذات عدسة زووم في تصوير المصانع والمنشآت العسكرية طوال رحلة الذهاب والعودة. . وفي محطة باب الحديد حيث الزحام وامتزاج البشر من جميع الجنسيات . . وقف سمير امام كشك الصحف واشترى عدة جرائد. وبعدما هموا بالانصراف. . استوقفه شاب انيق يرتدي نظارة سوداء برفقته أربعة آخرين وطلب منه أن يسير بجانبه في هدوء.

    ارتسمت على وجه سمير علامات الرعب .. وحاول أن يغلفها ببعض علامات الدهشة والاستفهام لكنه كان بالفعل يرتجف.

    اعتذر الرجل الأنيق للضيف الألماني وصديقته. . وودعهما سمير بلطف ومشى باتجاه البوابة الى ميدان رمسيس يجر ساقيه جراً محاولاً أن يتماسك. . لكن هيهات فالموقف صعب وعسير.

    وعندما دلف الى داخل السيارة سأله الرجل الأنيق ذو النظارة:
    أتريد أن تعرف الى أين تذهب؟

    أجاب بصوت مخنوق:
    أعرف !!

    وعندما فكر في مصيره المحتوم . . أجهش بالبكاء. . ثم أغمى عليه بعدما تملكه الرعب وأصابه الهلع. . وحملوه منهاراً الى مبنى المخابرات العامة ليجد والده هناك. . نظراته أكثر هلعاً وصراخه لا يتوقف وهو يردد:
    سمير هو السبب !!

    واكتشف وليم أن الثري القادم من الخليج ما هو الا ضابط مخابرات . . واكتشف أيضاً أن تقاريره التي كان يرسلها الى الخارج تملأ ملفاً كبيراً.

    ولم يستغرق الأمر كثيراً. فالأدلة دامغة والاعتراف صريح. وكان الحكم في مايو 1971 عادلاً لكليهما. الإعدام للإبن و15 عاماً أشغال شاقة للأب. . وعار أبدي للأسرة حتى الجيل المائة .. وكانت النهاية الطبيعية لكل خائن باع النفس والوطن.


    [1] هكذا جاءت في الميثولوجيا الإغريقية قصة ولادة أفروديت ربة الجمال والحب.

    [2] هناك حالات عديدة لخونة تعاونوا مع الموساد.. وبعدما استغنت الموساد عنهم لانكشافهم تعمدت تجاهلهم ونبذهم. أهم هؤلاء الجاسوسة المصرية انشراح موسى. . والسويسري فرانكيشت .. والأردنية أمينة المفتي.



                  

03-29-2007, 04:30 PM

ناذر محمد الخليفة
<aناذر محمد الخليفة
تاريخ التسجيل: 01-28-2005
مجموع المشاركات: 29251

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إستخدام الموساد للنساء لاعمال التجسس والتجنيد (من ملفات المخابرات) !! (Re: ناذر محمد الخليفة)

    عيزرا خزام ـ وهدم المعبد

    توقف ذات نهار بسيارته في إحدى إشارات المرور . . وبينما ينتظر الإشارة الخضراء. . لمح فتاة ساحرة تفوق الآلهة عشتروت جمالاً. . فطاردها بإصرار صياد لا يهمد . . ولو أنه كان يعلم وقتها أن حياته مرهونة بنبضات المشاعر. . لما سمح لقلبه أن يهوى .. أو تخفق جوانحه.

    ذلك أن الصدفة العابرة – أحياناً – قد ترسم مصير إنسان. . فتقوده ربما الى حياة هانئة منعشة. . أو تقذف به الى حالك الظلام والنهاية المفجعة. . !!

    قراءة الأبعاد
    قديماً قالوا "الحب يصنع المعجزات"، وفي هذا القول حقيقة تنطبق على أبطال هذه القصة. ففي حي الكاظمية ببغداد ولد عيزرا خزام عام 1924 لأسرة ثرية تعمل بتجارة الذهب والمشغولات الثمينة. ونشأ منذ طفولته نشأة يهودية تقليدية، منكباً على كتبه الدراسية بعيداً عن مهاترات الشباب وطيشهم، الى أن التحق بكلية الطب في بغداد وتخرج منها عام 1953، ليعمل طبيباً بالمستشفى المركزي، مرتقياً السلم الوظيفي والمهني سريعاً نظراً لمهارته الفائقة في عمله.

    وفي المستشفى تقابل مع إحدى الممرضات اليهوديات وتدعى "جنة" التي تسلمت عملها حديثاً، فانبهر بجمالها الفتان وأنوثتها الفتاكة، وغرق في حبها دون أن يدري. . أو يقاوم. ففي ذلك الوقت، كانت ضغوط أسرته ليتزوج تزداد يوماً بعد يوم. . واختار له والده ابنة تاجر يهودي ثري، رآها عيزرا عدة مرات في المناسبات الدينية والعائلية، لكنها لم تترك لديه أثراً يدعوه ليقترب اليها. فصارح والده بمشاعره تجاه ابنة صديقه، وانشغل بعمله وبحبه لممرضته الحسناء.

    وحدث ذات مرة أن تجرأ وأعلمها بحبه، فاستنكرت ذلك منه للفروق الشاسعة بينهما، فهي ابنة يهودي فقير، يمتهن النحت والنقش على النحاس، ولا قبل لأسرتها به. لكنه تناسى كل الفروق غير عابئ بفقرها، فهي غنية بالجمال الوفير. . وهذا يكفيه.

    استجابت جنة لعواطفه، وانقادت هي الأخرى تجاهه، مانحة إياه مشاعرها وقلبها عن قناعة. لكنه حبه لها كان أضعاف ما تكنه هي من حب. لذلك كان شديد الغيرة، يطاردها في ردهات المستشفى، وفي كل مكان. ولما صارحته بأنها لم تعد تطيق تصرفاته، عرض عليها الزواج في أسرع وقت، فرفضت بإصرار دون أن توضح لذلك سبباً.

    تحير الدكتور عيزرا في أمر حبيبته، وساورته الشكوك والريب، لكنها قطعت عليه الطريق، واعترفت له بأنها قررت ألا تتزوج في بغداد مهما امتد بها العمر، إذ هي تحلم بالحياة في إسرائيل، والزواج هناك بمن يحبها، ويريدها.

    أسقط في يده، ولم يسعفه عقله ليقول أي شيء. فلما طال صمته، همت بالانصراف، لكنه جذبها بشدة وبعينيه شعاعات من تحد، وقال إنه يوافق على زواجها في بغداد ثم يسعيان معاً بعد ذلك للهرب الى إسرائيل. رفضت جنة ما أبداه من رأي .. ذلك لأن أسرته لن توافق على زواجهما، وبالتالي سيخسر الكثير وهو الذي اعتاد الحياة الناعمة بما يغدقه عليه والده من أموال.

    وتمر الأيام وحبيبته في تبدل مستمر تجاهه، فيفطر قلبه، ويسير كطفل رضيع يسعى لحضن امه الدافئ، يتلمس بين أحضانها الأمن والحنان. فكانت ترقب حبه الطاغي لها في تدلل، حريصة على ألا تمنحه ولو جرعة قليلة من أمل في زواجهما ببغداد.

    لقد بدد إصرارها على الهجرة أمنه، وأحال ليله الى كابوس مقيم خوفاً من صدمة اختفائها المفاجئ. لذلك أسرع بتأجير شقة جديدة بشارع السعدون كعيادة، ورجاها أن تقبل العمل معه لتكون بقربه طوال اليوم، فوافقت واثقة من شدة تعلقه بها، وكانت تمضر له أمراً.

    لقد تحينت الوقت المناسب، وصارحته بأنها تعمل لصالح الموساد الاسرائيلي منذ مضي العام، وتنتظر انتهاء المهام المكلفة بها ليتحقق حلمها بالهجرة.

    هزه الأمر وبعثر عقله، واضطربت له قسمات وجهه وحياته كلها، ولأنه يحبها لدرجة الجنون، لم يشأ أن يرفض مسلكها فيخسرها. لحظتئذ.. عانقته في امتنان، وأذاقته قبلة كالبركان أذهبت بإرادته، فكبلته معها بسلاسل من إثارة أنثوية فضحت ضعفه وخضوعه.

    وبعد مرور عدة أيام – كانت أثناءها تختلي به كثيراً لتمنحه المزيد – طلبت منه أن يستقبل رئيسها في "العمل". ومثله . . مغيب العقل والإرادة، لم يستطيع أن يرفض هذا الأمر.

    وفي اللقاء الأول بينهما، شرح له العميل الاسرائيلي الكثير عن معاناة السواد الأعظم من اليهود في العراق، ورغبة الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة في العمل على تهجير أكبر عدد منهم، إشفاقاً لحالهم أولاً، ولحاجة الدولة اليهودية اليهم ثانياً.

    هكذا تم اللقاء بينهما في هدوء. . ولم يغادر "الرئيس" العيادة إلا وأقنع الدكتور عيزرا، بضرورة الانضمام للمنظمة السرية الصهيونية، التي تنتشر فروعها في كل العراق.

    لقد كان للحب أثره العجيب. . إذ رحب الدكتور عيزرا بالعمل مع المنظمة، واتخاذ عيادته مقراً للقاءات السرية، بعيداً عن أعين رجال المخابرات، الذين ينقبون عن الخونة في كل مكان.

    يا الهي . . ماذا فعل العراق بهؤلاء لينتقموا منه هكذا؟ جيوش من الخونة تفتك بأمنه، ويعملون فيه مباضعهم بلا رحمة، كأنهم رضعوا الخيانة متوارثة في جذورهم البعيدة المتوغلة في التاريخ السحيق.

    باع الدكتور عيزرا وطنه بخساً للصهيونية، وكأنه ما ولد وعاش وتعلم على أرضه، وشرب من مائه، وتنسم هواءه. وأخضع لدورة تدريبية على أعمال التجسس، بواسطة ضابط إسرائيلي تسلل خصيصاً عبر شط العرب لتدريبه، ثم سافر الى البصرة للحصول على دورة أخرى في استعمال جهاز اللاسلكي، ورجع الى بغداد يحمل حقيبته الطبية، بداخلها الجهاز الثمين.

    لقد اشتد ايمانه – كيهودي – بمهمته، وتعاظم حبه لإسرائيل متوازياً مع حب جنة، قانعاً بضرورة الهجرة اليهودية لتشتد الدولة، وتقوى أمام الجبروت العربي والجيوش التي تتسلح سراً لتدميرها.

    ثم انقلب اهتمامه بقضية التهجير، الى البحث في خبايا القوة العسكرية العراقية. هذا الأمر شغله تماماً واستحوذ على تفكيره. فقد كان يرى أن لديه قدرات هائلة، للعمل في مجال الأسرار العسكرية، التي تتنامى في الخفاء. أما مسألة التهجير فبإمكان آخرين أقل حرفية منه القيام بها.

    كانت حبيبته وعشيقته جنة توافقه في رأيه، وتؤيده، وتدفعه دفعاً بغريزة الخيانة التي ولد بها اليهود، فأقنعته بضرورة استخدام جسدها معبراً للوصول الى معرفة نوايا العراقيين، وخطط التسليح التي يضعونها للجيش، بالسيطرة على أعصاب عدد من الضباط، يتم الإيقاع بهم في حبائلها.

    إن تعدد الانقلابات العسكرية للوصول الى الحكم، منذ الإطاحة بالملكية عام 1958، جعل من الجيش العراقي لغزاً يصعب التكهن به. فكل رئيس جديد – وهو عسكري بالطبع – له بعده السياسي وقراءته الخاصة لخريطة الجيش وتضاريسها. ولقصر مدد الحكم، أصبح من العسير وضع رؤية محددة تترجم السياسات والنوايا. فالعراق يأتي في المرتبة الثانية بعد سوريا، في عدد مرات الانقلابات التي وقعت منذ استقلاله، حتى وصول صدام حسين الى الحكم.

    من هنا، ولهذه الأسباب، انشغل الدكتور عيزرا بأسرار السياسة والجيش في العراق، بعدما تبين له أن هناك دلائل قوية، تشير الى مساع جادة لتسليح الجيش بأحدث الأسلحة السوفييتية، لمساندة دول المواجهة في صراعها ضد إسرائيل من جهة، وللوقوف ضد اطماع إيران من جهة أخرى.

    فسياسة التخويف التي اتبعها الشاهنشاه محمد رضا بهلوي في المنطقة، كانت سبباً مهماً للبحث عن مصادر السلاح، وتدريب الجيش، ورفع درجة كفاءته واستعداده وتأهبه.

    فكيف طوع الدكتور عيزرا جسد حبيبته لخدمة الجاسوسية؟

    ثور آشور
    البداية كانت بطريق الصدفة البحتة، عندما لاحظت جنة نظرات ذات مغزى تفهمها الأنثى، لأحد المترددين على مكتب المحامي المواجه للعيادة. فلم تعر الأمر انتباهاً في البداية، لكن بعدما شاهدت الشخص نفسه بعد عدة أيام، وهو يرتدي البزة العسكرية برتبة عقيد، رمقته بسهم من لحاظها فأردته قتيلاً، وفوجئت به يدلف الى العيادة كالمنوم التائه، يطلب منها مستأذناً استعمال التليفون. كانت حجة واهية تفضحها نبرات صوته ونظراته العطشى، زادتها ثقة في مواهبها، وطغيان أنوثتها.

    ولأنه صيد ثمين لا يقاوم، تعاملت معه برقة متناهية، مبدية إعجابها بزيه العسكري المهندم. فأذكت غروره، وأيقظت لديه روح المغامرة، والشوق الى العشق واندفاعات الشباب، فداوم على الاتصال بها تليفونياً يسمعها كلمات الإطراء، بينما هي تصده في دلال جاذب ساحر.

    أطلعت عيزرا على ما تنويه للإيقاع بالعقيد عبد الجبار، فوافقها معرباً عن سعادته بإخلاصها للعمل، ورسما معاً خطة اصطياده المحكمة.

    أعدت إحدى حجرات العيادة إعداداً جيداً، حيث زودت بأحدث كاميرات التصوير والأجهزة اللاقطة للصوت، ولما اتصل بها عبد الجبار ذات مساء أنبأته أنها بمفردها بالعيادة لسفر الطبيب. ابتلع الضابط الطعم، وعرض عليها أن يتناولا العشاء سوياً فأجابته باستحالة ذلك لأنها تنتظر مكالمة هامة من الدكتور عيزرا . . حينئذ عرض عليها أن يحمل العشاء الى العيادة ليتناولاه معاً، فرحبت بعد تمنع خبيث، وهكذا ذهب برجليه الى النهاية.

    فبعد العشاء سحبته الى الحجرة "الملغمة"، واكتشفت أن العقيد الفارع الطول، ذو الوجه العسكري الصارم والشارب الكث، يعاني ضعف رجولته، إلا أن العميلة المحنكة، أشعرته بأنه فحل من فحول "نينوى" ، وثور من ثيران "آشور" القديمة. فأقبل عليها نهماً كالجائع المجوع، لا يمل مذاقها أبداً ولا يشبع.

    ولأنه يعرف "قدر" نفسه جيداً، أراد تعويض هشاشة رجولته بالظهور بمظهر الضابط الكفء، لذلك استجاب لتساؤلاتها، متباهياً بأهميته وعلمه بأمور الجيش وأسراره، تندفع منه المعلومات العسكرية كالشلال المحبوس، لا شيء يصده، أو يمنعه، للدرجة التي جعلت عيزرا يستغيث برؤسائه في "عبادان"، أن يبعثوا بمن يتسلم عشرات التقارير الغاية في الأهمية، والتي لا يستطيع اختزالها وبثها لاسلكياً.

    لقد تحول العقيد عبد الجبار لكلب طيع أليف، أوهمته جنة بفحولته فعوضها بأدق الأسرار العسكرية، وحمل اليها خرائط تفصيلية لقواعد الصواريخ، والدفاع الجوي والمطارات، ليستعين بها في شروحه. فكانت تبدو متغابية أمامه ليسترسل أكثر في فضح ما برأسه من خبايا الجيش، وتتضاعف بذلك أشرطة التسجيل والإفلام التي تحمل الى إيران، ثم تنقل فوراً الى إسرائيل.

    اتسعت عضوية شبكة الدكتور عيزرا، بفضل جسد الحبيبة المثير، لتشمل فئات أخرى عديدة في المجتمع الراقي ببغداد.

    خمس سنوات كاملة اكتسب خلالها الطبيب اليهودي خبرات واسعة في فنون التجسس، وكيفية تجنيد العملاء والسيطرة عليهم، ملتزماً بالحس الأمني العالي، والسرية المطلقة لتحركاته. فتعدى نشاطه التجسسي نطاق الجيش، والتسليح، وانشغل بكل ما يخدم مصالح إسرائيل في العراق.

    وبفضل علاقاته وتشعب مهامه، أمكن له تهريب أكثر من مائتي يهودي عبر "الفاو" و "شط العرب" الى ميناء عبادان، وتسريب تقارير اقتصادية وعسكرية لإسرائيل لا تقدر بثمن، فأغدقت عليه مخابراتها بالمال الوفير الذي ينفق منه بسخاء على أعوانه، ويتشري به ذمم الضعفاء في كل موقع يريد اقتحام أسراره.

    هكذا استمر عيزرا يعمل في الخفاء، ملتزماً بمبادئه كيهودي يعمل لصالح وطنه الجديد، مشجعاً لحبيبته في استدراج ضعاف النفوس الى فراشها، حيث تنزف الرجولة وتنسل مع غياب العقل كافة الأسرار سهلة بلا ضوابط.

    لقد سخر نفسه ووقته وحياته للجاسوسية، ونسى في خضم التزاحم أمر الحب والغرام، على العكس من "جنة" التي التصقت به، ولم تنسى للحظة أن هناك اتفاقاً بينهما على الزواج في تل أبيب.

    كانت تحس أحياناً كثيرة بأن آمالها مجرد سراب كاذب. فبعد سنوات في الجاسوسية، لا شيء يتحقق، ولا أحد يحس بمعاناة خوفها. فالعمر يجري وتذبل فيه أوراق الشباب، وتنطفئ رويداً .. رويداً. . أغاريد الجمال وروعة الأنوثة.

    تساءلت كثيراً: ما النهاية. . ؟ ما المصير . . ؟ وهل تحدث معجزة ويتحول الوهم الى واقع؟

    الشهور والسنوات الطويلة في انتظار الأمل أرهقتها، ودمرت بداخلها البهجة، وقطعت حبال الصبر والثقة، وزعزعت إيمانها بالعمل الذي "كان" مقدساً، إذ تملكها إحساس مقيت بأنها مجردة داعرة حقيرة، تخلع ثيابها تلقائياً لكل عابر في سبيل ماذا؟

    إسرائيل؟
    وهل يحس من تعمل لصالحهم بمعاناتها.. ؟ بامتهانها لذاتها. .؟ بجسدها الرخيص المنهك. . ؟ بالقرف الذي يصيبها بالغثيان وهي تشم رائحة الأفواه النتنة، والعرق اللزج المتعفن الذي يزيد التصاق الأجساد العارية كل ليلة؟. .

    أعداد من البشر لا تستطيع حصرها، من كل لون وحجم، هتكوا ستر أنوثتها، وذبحوها ضحية لأمزجتهم الشاذة.

    كل ذلك من أجل من؟ الأمل المنتظر بعيد المنال؟ عيزرا الحبيب ابتعد هو الآخر. لم تعد تشغله أو تثيره كما كانت من قبل. . فقد فترت غيرته ورغبته فيها، ولم تعد تمثل لديه أي شيء. فقط .. تحولت في حياته الى مجرد "معاونة" تساعده في خدمة الموساد، وامرأة تستجيب له بلا تمنع كلما أرادها. . ونادراً ما كان يفكر بذلك طوال الفترة الأخيرة.

    . . قتامة بشعة عششت بأفقها، وطحنتها رحى الفكر بعدما أضحت هشيم امرأة تتعذب، تتشقق ألماً، لكنها آمنت بألا تخسره.

    حساباتها المعقدة أوصلتها الى تلك النتيجة، فتمنت أن يرجع لها الحبيب، العاشق، الغيور، وأن يعاود عرض رغبته بالزواج لو فعلها ونطق. . لوافقت في الحال، لقبلت يديه ورأسه وقدميه فرحة مطمئنة. لكن . . هل ينطقها بعد سنوات من الصمت؟ إذن .. فلتحاول هي، فلا زالت تملك قدراً من جاذبية، وسحر، بل هي تملك ينابيع من حنان. . كان عليها أن تهدأ قليلاً لكي تستعيد توازنها، وتتكلم معه، فتستريح.

    لكن .. يا لسخرية القدر، فعندما تتعارض الرغبات وتتصادم الأماني، فالخسائر عندئذ بالقطع فادحة، والنتائج، قد تكون مهلكة . . !!

    هدم المعبد
    حوادث بسيطة قد تمر بحياتنا، لكن لا أحد يتصور أنها قد تجرفنا الى طريق آخر، ربما نجد فيه سعادتنا، أو ينتهي بنا الى كارثة لا نتوقعها.

    بديهيات فشل الفيلسوف فردريك نيتشه في تعرية مشاعره والتسليم بها، إذ أضاع عمره كله مؤمناً بفلسفة "القوة"، والدعوة لجتمع "السوبر مان"، بمعنى أن تعمل الحكومات على التخلص من الضعفاء والمرضى، وتبقى فقط على الأقوياء الأصحاء لكي ترتقي وتزدهر. فالضعفاء يستهلكون جهد الأقوياء، ووقتهم، وفي هذا استنزاف لثروات المجتمع.

    وعندما كان في زيارة لشمال إيطاليا، رأى حوذياً يضرب حصانه بلا هوادة لأنه عجز عن جر العربة في طريق صاعد. فأشفق نيتشه على الحصان، وأسرع بدفع العربة مع المارة، صاباً جام غضبه على الحوذى غليظ القلب، ثم اكتشف فجأة فداحة خطئه، فندم ندماً شديداً، وتراجع عن فلسفته التي أذهبت بعقله.. وقتلته.

    أما الدكتور عيزرا خزام، فلم يكن يشك للحظة أن "جنة" التي تعشقه لدرجة العبادة قد تسعى لتدميره، وقتله. لذلك .. استعذب تلهفها عليه وتذللها له.. وفي أعماقه كان يغمره انتشاء محبب كلما رآها خاضعة مستسلمة . . خائرة أمام حبها. . وخوفها من ذلك المجهول المتوثب المنذر بالخطر.

    كان طوال خمس سنوات قد مل مذاقها، وأصبح هاجسه الأكبر هو السعي بإخلاص لخدمة إسرائيل. لهذا .. نبذ حبه القديم منذ اقتحم عالم الجاسوسية، وخطا فيه خطوات تفوق ما كان يعتقد في نفسه، وقدراته. إلا أن حادثاً عابراً بدل فجأة كل شيء، وعجل بالنهاية.

    لقد توقف ذات نهار بسيارته في إحدى إشارات المرور ببغداد، وبينما ينتظر الإشارة الخضراء، لمح فتاة ساحرة تعبر الشارع، كانت قسماتها تفوق الآلهة "عشتروت" جمالاً، خطواتها الرشيقة كظبي، يحجل طرباً فيزداد حسناً. فتسمر مكانه يتابعها بنظريه منجذباً، وطاردها من بعدها بإصرار صياد لا يهمد.

    كانت الفتاة قبطية تدعى "زهيرة"، صبية في ريعان شبابها، غضة بضة، تسلب العقل والفؤاد. تقدم الدكتور عيزرا لخطبتها باذلاً أمواله لاسترضاء أهلها، مستعداً للتخلي عن يهوديته فور إعلان الموافقة.

    أحست جنة بنفوره منها، برغم مشاعر الحب الفياضة التي تغدقها عليه، وبحاستها الأنثوية أدركت بأن هناك امرأة. وبدأت رحلة البحث عنها حتى وقفت على الحقيقة المرة، فصعقتها الصدمة، وزلزلت ما بقي عندها من أمل ضعيف. ولما طالبته بأن يقطع علاقته بزهيرة ويتزوجها، سخر منها قائلاً:

    المرأة التي اعتادت كل الرجال يشق عليها أن تكتفي برجل واحد.

    صرخت في حدة:
    عيزرا . . ماذا تقول؟ أنت تعرف بالقطع أنه "عملي". . وليس حباً في الرجال.

    قال فيما يشبه التهكم:
    نعم . . أعرف ذلك. . وأعرف أيضاً أن "عملك" انقلب الى "هوس" ما له من علاج.

    صارخة وقد تحشرج صوتها:
    هوس؟ أتسمي ما يحدث بيننا هوساً.. ؟

    جنة. .

    تقاطعه:
    خمس سنوات وأنا أمنحك نفسي. . أتظنني "مريضة" لا حل لي؟ . . ماذا.

    قال في حدة:
    جنة . . أرجوكي . .

    ألأني أحبك أكثر من نفسي . . وأعمل كل ما يرضيك ويسعدك توصمني بالشذوذ؟

    إذن . . ماذا كنت تظنني أفعل مع طوابير أتباعك وزبائنك؟ أأكون الداعرة المهذبة؟ هم يرونني مهووسة .. فكنت أفتعل ولا أنفعل . . كنت أمنح ولا أُمنح. . أنت بنفسك طلبت مني مرات ومرات أن "أُمثل" جميع الأدوار .. أنسيت ذلك . . ؟ أم أنك زهدت فيّ؟

    أحببتك يوماً ما وطلبتك للزواج فتمنعت.

    "يوماً ما" ؟ أكنت تكرهني طوال السنوات الفائتة؟ لماذا إذن كنت تعاشرني حتى شهر مضى؟

    كفى . . كفى . . جنة . .
    لا . . أريد أن أعرف يا عيزرا .. أرجوك، لا تخجل من مصارحتي .. أرجوك قلها لأستريح.

    لا وقت للحديث الآن .. وراءنا عمل ينتظرنا. .

    عيزرا . . سأنسى كل ما قلته الآن .. لكن، عاهدني أن تكون لي .. ستجدني خادمة لك . . أنا أحبك فلا تذبحني بسكين بارد أكثر من ذلك. .

    جنة . قلت لك كفى الآن . فما عساك تريدين؟

    نعم يا عيزرا . . هذا يكفي، لكن عليك أن تعلم أنني متعبة وبحاجة للراحة بالمنزل، فلا تطالبني بأي عمل الآن على الأقل.

    ومصدومة، محطمة، منكسرة، لملمت بقاياها، وذهبت الى السلطات تطلب السماح لها بالسفر الى إيران للعلاج ، وبعرضها على القومسيون الطبي، تبين أنها سليمة من الأمراض التي تستدعي السفر الى الخارج.

    لزمت جنة بيتها في محاولة "لتجميع" ذاتها المهرئة، الى أن حدثت كارثة يناير 1966، عندما ألقي القبض على "زالة" العميلة اليهودية، أثناء اقتحامها مقر شركة الإنشاءات ليلاً.

    لقد اعترفت "زالة" بحداثتها في عالم الجاسوسية، وبأن شريكها الذي مات بالسكتة القلبية في الشارع لحظة القبض عليه، هو رئيسها المسؤول عنها "ضابط الحالة". وأن التكليفات تجيء من عبادان لباقي أعضاء الشبكة الذين لا تعرفهم.

    ومع إعادة التحقيق معها عدة مرات، أوضحت بأن هناك طبيباً يهودياً لا تعرف اسمه الحقيقي كان يأوي رئيسها الذي مات.

    قامت أجهزة الأمن باعتقال عدد كبير من الأطباء اليهود المشكوك في تصرفاتهم وولائهم، ووضعتهم رهن التحقيق والاستجواب. وكان من بينهم الدكتور عيزرا خزام.

    ولما علمت جنة بأمر اعتقال عيزرا، سيطر عليها الرعب والهلع، وفكرت في نهايتها إذا ما اعترف، وباتت تنتظر كل لحظة طرقات رجال الأمن على بابها. فانضوت هلوعة، ذابلة، زائغة البصر.

    وبينما تقلب الصحف بحثاً عن أخبار تهمها، قرأت تصريحاً لمسؤول كبير تعهد بمكافأة سخية لكل من يدلي بأية معلومات، تؤدي للقبض على جاسوس، وحماية أي عراقي يبلغ عن تورطه في أعمال جاسوسية، مهما كان حجمها.

    قامت جنة على الفور وبدلت ملابسها، ثم غادرت منزلها الى وزارة الداخلية، وطلبت مقابلة المسؤول الكبير لأمر هام فسمح لها . . وأحست بصدق نبرته وهو يعيد تأكيد ما صرح به للصحف، فاعترفت تفصيلياً بأمر الدكتور عيزرا، وقصتها مع الخيانة.

    هكذا كشفت كل الأسرار والخبايا، وهدمت المعبد على من فيه، إذ ألقي القبض على اثنى عشر جاسوساً في شبكة عيزرا وتكشفت حقائق مذهلة عن تورط العديد من اليهود العراقيين، وانخراطهم في عمليات تجسس ليس بنية العمل على تهجير اليهود فحسب، إنما طالت الأسرار العسكرية وكل نواحي الجيش في العراق.

    وكانت وقائع المحاكمة عجيبة. . والأحكام التي صدرت أعجب. . فقد صدر الحكم بإعدام الدكتور عيزرا وعبد الجبار رمياً بالرصاص، والشنق والحبس للباقين الأحد عشر. . أما جنة المصدومة ، فقد حكم عليها رأفة بالسجن خمسة أعوام.

    أما زهيرة، فقد عادت من جديد تجوب شوارع بغداد كغزال شارد، تطاردها الأعين الجائعة، فلا تلتفت أو تنصت، خوفاً من الوقوع في غرام جاسوس. . آخر .. !!
                  


[رد على الموضوع] صفحة 2 „‰ 2:   <<  1 2  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de