|
أخيرا الحكومة السودانية تقبل القوات الدولية بلا قيد او شرط: د.على حمد ابراهيم
|
خبر كبير ولكنه غير مثير. وغير مستغرب ، اذا استدعينا التاريخ القريب لمواقف الحكومة السودانية ، التى اشتهرت بالتحدث بنبرة عالية وشديدة العداء للولايات المتحدة والامم المتحدة ثم لا تلبث الاخبار ان تتحدث عن صفقات مشتركة بينها وبين الولايات المتحدة ، خصوصا فى مجال التعاون المشترك فى مجال الاستخبارات، تذيب كل شئ. الموقف السودانى الاخير القابل لدخول القوات الاممية بدون قيد أو شرط كان متوقعا من قبل الكثيرين من المحللين والمراقبين والمختصين الدوليين. على رأس هؤلاء مسئولون امريكيون كانوا قد تولوا ادارة الملف السودانى فى الماضى القريب ، منهم على سبيل المثال سفير الولايات المتحدة السابق فى الأمم المتحدة، المستر جون بولتون ، الذى سبق له أن قال فى تصريحات منشورة انهم متعودون على رفض وممانعات الحكومة السودانية وتشددها فى بادئ الأمر فى رفض ما يقدم لها من مقترحات ثم قبولها بالكامل لنفس المقترحات التى رفضتها فى البدئ. ومنهم كذلك المستر روبرت زوليك ، نائب وزيرة الخارجية السابق الذى تولى ملف دار فور لفترة قصيرة ،وقد ردد هو الآخر أقوالا مماثلة لأقوال المستر بولتون ،تعبر عن المواقف السودانية غير المستقرة فيما يخص مسألة دخول قوات اممية الى دار فور أو تسليم مطلوبين سودانيين للعدالة الدولية لإتهامهم بارتكاب فظائع ضد مواطنين عزل فى دار فور. أقوال المستر بولتون والمستر زوليك تطعن كثيرا فى صدقية نظام الحكم السودانى ، وفى مواقفه المعلنة ، ولكنها لا تخالف الحقيقة كثيرا. فقد عايش السودانيون هذه المواقف كثيرا من قبل حكومتهم ، والتى بلغت فى تشددها ورفضها درجة اعلان التعبئة العامة وتسيير المظاهرات والمواكب التى تصفها الحكومة نفسها بالمليونية ، ويلقى فيها مسئولون حكوميون الخطب النارية الحاضة على الجهاد ضد " قوى الاستكبار العالمى" ، تلك اللغة المشابهة للغة ملالى ايران. التهجم الحكومى السودانى لم يقتصر على الولايات المتحدة والغرب والامم المتحدة فقط ، انما شمل التهجم الحاد ايضا كل القوى السياسية السودانية التى نصحت الحكومة بالتعامل العقلانى مع موضوع القوات الاممية ، ومع موضوع المطلوبين للعدالة الدولية. التى رأت فيها القوى السياسية السودانية من خارج معسكر الحكومة المخرجين الوحيدين منة أزمة دارفور ، وهما مخرجان يتعذر الحصول عليهما فى ظل استمرار اعتداءات القوات الحكومية والمليشيات القبلية المتحالفة معها على اهل دارفور.وبدلا من الاستماع لرأى هذه القوى باعتبارها قوى شريكة فى الوطن ، وباعتبارها القوى السياسية الاكبر والأهم تاريخيا الى أن يثبت العكس، بدلا من هذا كله ، اعتبرت الحكومة هذه القوى "طابورا خامسا" عميلا لامريكا واوروبا والامم المتحدة. وهددت العناصر المتطرفة من اتباع الحكومة باهدار دم قيادات هذى القوى السياسية التى تعلن تأييدها لدخول القوات الأممية الى دارفور او قبولها بتسليم المطلوبين للعدالة الدولية .وفى هذا الخصوص ، ربما كان القرار الحكومى السودانى بمثابة عزاء خاص للمشتومين والمهانين من السياسيين السودانيين الذين نصحوا الحكومة بانتهاج اسلوب عقلانى فى ادارة خلافها مع الاسرة الدولية فكان نصيبهم من الشتم والاهانة لا يعلوه نصيب .وكان رئيس وزراء السودان السابق ، السيد الصادق المهدى ،صاحب النصيب الأعلى والأوفى من التهديد والوعيد والشتم والأهانة، لأنه كان صاحب الصوت الأعلى المنادى بقبول القوات الاممية فى ظل عجز الحكومة فى حفظ أمن أهل دارفور. وكذلك كان السيد المهدى صاحب الموقف الأقوى والاوضح فى المطالبة بتسليم المطلوبين للعدالة الدولية اقتناعا منه بأن الحل فى دارفور يمر عبر هذين المنفذين فقط. اليوم يتندر السودانيون بكثير من التنكيت والتبكيت بمسألة "اليمين الملغظ" الذى دخل فى قواميسهم السياسية مع دخول أزمة دارفور ، ويجدون متسعا من الوقت والخيال فى توليد الكثير من الحكايات والطرف المسلية . الآن تقول الحكومة السودانية ، وبلهجة هادئة ، أنها قبلت دخول القوات الاممية الى دارفور بلا قيد أوشرط! . أكيد هذا تطور يسعد المهتمين بسلامة أهل دارفور .ولا بد أنهم يتأسفون أن ذلك القرار جاء متأخرا جدا ، وبعد سقوط المزيد من الضحايا ، إلا انهم يدركون ايضا أنه من الخير أن يأتى القرار متاخرا بدلا من أن لا يأتى . نعم القرار أنه فيه عزاء للمشتومين والمهانين ليس من قبيل الشماتة ، ولكن من قبيل أنه لا يصح فى النهاية الا الصحيح . يبقى الحمد أن التهديد باهدار دماء الطابور الخامس لم يتم تنفيذه. اما الشتائم والاهانات التى لحقت بالذين نصحوا بالتعامل العقلانى مع ملفى القوات الأممية والمطلوبين للعدالة الدولية من قادة القوى السياسية السودانية ، فذلك امر لا جديد فيه فى دول العالم الثالث. فالخيانة والعمالة وعدم الوطنية هى صفات مسجلة للخصوم السياسيين فى كل دول ومجتمعات العالم الثالث ، بينما الوطنية والحكمة وفصل الخطاب هى صفات حكر لأهل الحكم فى العالم الثالث الذين لا يأتيهم الباطل من بين ايديهم ولا من خلفهم ابدا . أما عزاء الدبلوماسيين والوزراء والمسئولين السودانيين الذين تشددوا فى رفض القوات الأممية اصطفافا وراء موقف قادتهم المتنفذين وبالغوا فى تشددهم ،عزاؤهم أنهم ساروا خلف موكب قائده لأحد بالتخلف بالتخلف عن موكبه ، وقديما قيل الناس على دين ملوكهم. الآن سيضطر هؤلاء السائرين خلف الموكب القديم ، سيضطرون للبحث عن موقف جديد يقدم نوعا من المواءمة بين موقف ماض رافض للقوات الأممية وموقف جديد قابل لها. والسايقة واصلة كما يقول المثل الشعبى. الأمل أن تصل السايقة الى الهدف الأخير وهو مسح دمعة مازالت تتدلى حرى من عينى أم مجروحة الفؤاد فى فيافى دارفور .واقول لأخوانى وزملائى الدبلوماسيين الذين دافعوا بقوة عن موقف حسبوه موقفا سياديا لا يمكن التنازل عنه ، اقول لهم "معليش " ، فنحن ، بحكم وظيفتنا وتدريبنا ننفذ السياسة الموضوعة ونمثلها ولكننا لا نضعها. ولكن عندما تقع الفاس فى الرأس ،يكون لنا نصيب فى البهدلة العامة . . . وبالمناسبة " تعالوا احبكم اكثر" كما قال جورج جرداق عزاء وتعزية، احبكم اكثر ولا شماتة .
|
|
|
|
|
|