|
نحلة ... بين مملكتين
|
إلى إبنتي الصغيرة ( هند ) .. حكيت لها عن السودان الذي كان .. و الكائن اليوم .. فألهمتْني هذه القصة .. أهديها لكل أطفال السودان ..
****
أفاقت النحلة من غيبوبة طويلة ،، فتحتْ عينيها ببطء و كسل ،، بهرها ضوء الشمس. عرفتْ أنها ترقد على ظهرها ،، حاولت أن تنقلب لتقف على أرجلها ،، أحست بأنها لا زالت ضعيفة و لا تقوى على الحركة ، و بعد محاولات مضنية نجحتْ في مسعاها ،، و اهتزتْ أرجلها تحت ثقل جسدها الضامر بفعل رقدتها الطويلة دون طعام أو شراب. تحاملتْ على نفسها و وقفتْ ،، و بدأتْ في تجربة تحريك أجنحتها ،، حاولت تحريك الميمنة ،، فلم تحرك ساكنا ،، و لم تكن الميسرة أكثر حظا ،، ثم عاودت الكَرّة مرات و مرات ، و نجحت في تحريك كل أجنحتها ،، و إنطلقت و هي شبه ذاهلة عما حولها تجوب المكان لتعرف أين هي. لا تذكر من هم أهلها ،، و إلى أي خلية تنتمي ،، و ما هي طبيعة عملها. آخر شيء تذكره كان إنطلاق دخان ذو رائحة نفاذة ملأ المكان ،، ثم صياح و طنين و صوت خفقات أجنحة ،، ثم الدخول في الظلام و الغيبوبة الطويلة ، فقدتْ بعدها كل ذاكرتها. طارت و الهلع يملؤها و الحيرة تكتنفها و الخوف يتملكها و هي تقول : من أنا و من أكون ؟ على البعد رأت خلية كبيرة معلقة على جذع شجرة ضخمة تتأرجح ببطء ،، و النحل يدخل و يمرق ،، فرحتْ فرحا عظيما و إنطلقت صوب الخلية و شعور داهم بالطمأنينة يملأ جوانبها و يزيد من قوة أجنحتها. و ما أن إقتربتْ من مدخل الخلية ،، حتى فاجأها ( النحل الحارس للخلية ) بصيحات متتالية ملأتها رعبا و خوفا و أحاطوها من كل جانب. قال كبير الحراس : من أنت ؟ أنا منكم ،، ألا ترى ذلك ؟ أنا نحلة ... قال كبير الحراس : لست من خليتنا. من الذي أرسلك ؟ تكلمي ،، هل هي خلية عدوة قامت بإرسالك لكى يعرفوا مكاننا ليستولوا على مدخراتنا .؟ أم أنك جاسوسة لجهة ما ؟ هيا تكلمي. قالت النحلة و هي مذهولة : أنا لا أعرف من أنا ،، كنت غائبة عن الوعى ،، و عندما أفقت لم أعد أتذكر شيئا عن الماضي. أرجوكم أقبلوني بينكم حتى أستدل على خليتي و أهلي. و ذرفتْ دمعا غزيرا لم تجعل كبير الحراس يشفق عليها أو يصدقها. تكلمتْ نحلة عجوز و قالت بكل هدوء و روية : أدخلوها على ملكتنا لتقرر بنفسها مصير هذه التعيسة. فأحاطوها إحاطة السوار بالمعصم ، و رافقوها بشكل لصيق حتى دخلوا على الملكة ،، و التي كانت ترقد على قطعة كبيرة من الشمع الملكي تحيط بها الوصيفات و الشغالات و يقف الحرس عند كل ركن مدججين بالإبر المسننة الحادة ، و هي ترشف في تراخ و كسل كمية من غذاء الملكات الشهي. حدجتها الملكة بنظرة فاحصة أدخلتْ الرعب في نفس النحلة الضالة ،، ثم أشارت لها الملكة بقرن إستشعارها دلالة على رغبتها في أن تتقدم منها و تقترب. فتقدمت النحلة الضعيفة و قالت بصوت متهدج ضعيف : طاب يومك أيتها المبجلة. قالت الملكة بصوت مهيب : لا يبدو عليك أنك كنت من مجموعة الشغالات ،، فآثار النعمة تبدو عليك واضحة و جلية. من أي خلية أنت ؟ لا أعرف يا سيدتي ، فقد أفقت من غيبوبة و وجدت نفسي بلا ذاكرة. ألا تعرفين طريق خليتك ؟ لا يا سيدتي المحترمة. أتعرفين كيفية عمل الشغالات العاملات على جمع الرحيق و إفراغه في الخلية ؟ لا يا سيدتي. حسنا ،، ستقوم كبيرة الشغالات بمهمة تعليمك من جديد. كل ما هو عليك هو إحترام قوانيننا و أنظمتنا. سأقرر فيما بعد مصيرك. و إستلمتها كبيرة الشغالات العجوز ، و لكزتها في ظهرها قائلة : كسولة أخرى تنضم لمجموعتي... هيا كانت تقوم في الصباح الباكر ،، فتنظف أطراف الخلية من بقايا إنتاج اليوم السابق ،، ثم تنطلق مع المنطلقات لجلب رحيق الزهور ،، ثم العودة للخلية و تفريغ الحمولة ، و هكذا إلى مغيب الشمس ،، فترقد هامدة مضعضعة الجسم. و إستمر الحال بها وسط تندر بقية النحل ( أنظروا لهذه النحلة التي لا تعرف العمل و لا أهل لها و لا خلية ). فتنزوي في ركن قصي تتشاغل بتنظيف أرجلها و لعقها من بقايا العسل و الرحيق و هي حزينة منكسرة القلب و الخاطر. و لكنها لتثبتْ للملكة أنها جديرة بالإنتماء لهذه الخلية ،، فقد صارت أكثر النحلات نشاطا ،، فلاحظت الملكة ذلك ،، و وسط حضور ( نحلي حاشد ) قلدتها نوط ( الرحيق ) من الطبقة الثانية ،، و وشاح ( الإنتماء ) من الدرجة الثالثة لحين إشعار آخر. رضيتْ النحلة الضالة بهذا التكريم و إعتبرته نصرا مؤزرا و خطوة في طريق ( المليون ميل ) .. و تغيرتْ نظرة الخلية لها ،، و تضاعفتْ درجة الإحترام و التقدير من الكل و لكنه شعور مشوب بالغيرة و الحسد. حتى كبيرة الشغالات ،، صارت تثق بها و توكل إليها بعض المهام القيادية. ذات صباح ربيعي ،، إنطلقت كعادتها نحو حقول الزهور لتجلب الزاد اليومي ،، و حطتْ على زهرة مفعمة بالرحيق و بدأتْ في إمتصاص الرحيق بهمة و نشاط ،، فجأة أحست بأن أعين كثيرة تراقبها عن كثب من بين أوراق الأشجار و الفروع. تلفتتْ وجِلة خائفة ،، فوجدت عدة نحلات من خلية غير خليتها الحالية تنظر إليها مندهشة ،، و تقدمت واحدة و قالت لها : يا إلهي ،، ملكتنا الغائبة ترتشف الرحيق و تعمل كشغالة ؟ أين كنت طوال هذه المدة أيتها الموقرة ؟ تلفتت النحلة الضالة حولها ، فكررت النحلة الأخرى نفس الكلام و أضافت : أنت إحدى ملكاتنا ..فقدناك الربيع الفائت بعد غارة لأخذ العسل المدخر ،، حمداً لله . فأصابها نوع من الدوار بعد سماع هذا الكلام و أحست بالعرق يبلل أجنحتها و ينساب حتى أرجلها. و تحدثت نحلة أخرى و أخبرتها بأنه بعد مهاجمة الخلية ،، تشتت المجموعة ،، ثم إجتمعتْ مرة أخرى ،، و أنهم نصَبوا أخرى مكانها ،، و لكن بديلتها أذاقتهم المر و الهوان إنتقاما لحبهم لها و كراهيتهم لها هذه الجديدة. و ذكروها بأسماء أعضاء الخلية و نائباتها و الشغالات و الحراس. رويدا رويدا إستعادت ذاكرتها و أطلقتْ زفرة طويلة فاندلق كل الرحيق الذي إرتشفته من الزهرة. و روتْ لهم ما صار لها منذ إفاقتها إلى أن إلتقوها. جاءت كبيرة الشغالات التي تحسبها للآن شغالة عادية ،، و إنتهرتها قائلة : ألم أقل لك ألا تخالطي بقية نحل الخلايا الأخرى ؟ هيا تحركي و لا تجعليني أغير رأيي فيك . ضحكت النحلات و قالن لها : هذه ملكة أيتها المحترمة ،، و قد فقدت الذاكرة و أتت إليكم ، فشكرا لكم على إستضافتها. هيا أيتها الملكة. فقالت كبيرة الشغالات : أبهذه البساطة ؟ لن تأخذوها منا بعد أن دربناها و صارت واحدة من أفراد خليتنا و عرفتْ أسرارنا ،، و إلا فالحرب و القتال بيننا. دقت طبول الحرب ،، و تنادت الخليتان ،، و إجتمعت جحافل النحل و أسرابه ،، و إصطف الحراس و الجنود ،، و جلست كل ملكة على صيوان كبير مرتفع لتقود مجريات المعركة القادمة ،، و إنطلقت النحلات في طنين ( حماسي ) ،، و تم عمل منجنيق في شكل كرات من بقايا الشمع لطخوه ببعض الرحيق و العسل ،، و إستعد الرماة بإبر منزوعة من النحل الميت ليستعملوه كرماح و سهام ،، و أجنحة النحل النافق خلعوها و دهنوها بالعسل فصارت دروعا شفافة قوية ،، و أجساد النحل الميت قاموا بإفراغها من الداخل ليستعملوها للوقاية من السهام و اللسعات التي إستعد لها فريق اللسع السام من من كلا الفريقين. و إستعد الجميع و هم يعرفون أن المئات منهم سيموت ،، و أن الموت سيخيم على هذا الوادي و ستمتد يد البشر لحصد مجهودهم الذي قاموا به خلال فصل الربيع كله. و وقفت النحلة الضالة حائرة بين الفريقين ،، و صارت تصرخ : إن لم توقفوا هذا الإستعداد فسأقتل نفسي منتحرة. إسمعوني أرجوكم. لم يسمعها أحد ،، فالكل يركز على مجريات الإستعداد للحرب و ضاع صوتها وسط الزحام و فورة الغضب. هنا تقدمت نحلة عجوز ،، و وقفت في منتصف المكان بين الجمعين و قالت بصوت مهزوز ضعيف و لكنه صوت له وقع قوي و مؤثر : يا معشر النحل الواهب الغذاء و الدواء للبشر بإذن الله .. من المستفيد من تحاربكم و إقتتالكم ؟ من المستفيد من الموت هنا و هناك ؟ أليس فيكم عاقل ؟ إن كانت النحلة الضالة قد عاشت معنا و دربناها و علمناها و أويناها فمعنى ذلك بأنها ستحفظ لنا الجميل بعد أن عرفنا الآن أنها ملكة مبجلة عند قومها ،، فلنستثمر هذه العلاقة الحميمة معها و ننشيء أكبر خلية متعاونة ،، و لو وافقتني الملكتان ،، فليتم تزاوج ملكي بين الأسرتين حتى تكتمل العلاقة بنسب مبارك و نكون أسرة واحدة ننحدر من خليتين كريمتين. إسمعوا كلامي قبل أن أموت و تستعملوا إبرتي و أجنحتي و جسدي في المجهود الحربي. سرتْ همهمة و طنطنة بين الجمعين ،، فتقدمت الملكة التي كانت نحلة ضالة و قالت : يالك من نحلة حكيمة ،، أنا موافقة. فصاحت الملكة الأخرى : و أنا كذلك . فرمى النحل أسلحته الهجومية و الدفاعية ،، و تعانق في سيمفونية سلام لا مثيل لها ، و أطلقوا على هذا الإندماج ( خلية النحل المتحدة ) ، و صارت من أقوى الخلايا في تلك الأحراش يهابها الكل و يحترمها ، بل و كانت تمول الخلايا الضعيفة حولها بالعسل و الرحيق إن عرفوا أن قحطا أصاب منطقتها المنكوبة و أن أزهارها ماتت و ذبلتْ ، و صارت تدافع عن الخلايا الضعيفة المستجيرة بها من تغول الظالمين و الطامعين ، و مدت يدها لكل الخلايا التي كانت تناصبها العداء و صارت مركز ثقل للتوازن في قلب تلكم البقعة.
|
|
![URL](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif) ![Edit](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif)
|
|
|
|
|
|
Re: نحلة ... بين مملكتين (Re: سيد محمد احمد سيدنا)
|
أخي أبا جهينة
عطر الله صباحك
فعلاً نحن نعيش في زمانٍ يعج حراكه بما لا يفهم إلا أن يكون يصاغ بلغة كليلة ودمنة أوبلسان الحكيم بيدبا.. سياق منطقي وربما هذه هي الوسيلة الوحيدة التي تبقت لتعليمنا القيم.. لقد أوتيت أخي لباقة في العرض والسياق ولم تَفُتْكَ خفة الروح في التنادر والسخرية فإنك أتيت بالتعبير اللآذع والغمز المثير.. إن أجنحة الخيال والتخيل المؤثر والمتأثر بالظروف التي حولك جعلت أجنحة الخيال اللآذع والمُعاني ترفرف على قلمك وأكثر ما يجري به من تعبير عن شكل وصور من صور وأشكال المعاناة في كبت.. أعترف أنك لا تقتنع بوصف المعاناة وصفاً ساذجاً ولا تنقل المشاعر نقلاً مجرداً بل تضفي بخيالك على هذا وذاك من خيالك عاطفة تتوهج بها التعابير وتتجلى في رسم الصورة بطلاوة وجمال .. كان يمكن إضافة فنتازيا السخرية بتتضخيم الشخوص أياً كانوا من النحل أو الدبابير!!.. نعم إنك نساج ماهر قدمت لنا ثوباًجميلاً من صنع يدك ولكن المشترون دوماً يطلبون من النساج المزيد من التوشية بالمقصب من الحرير .. تعمل شنو مع طمع النفس البشرية فلك مني العتبى حتى ترضى عني!! وتعليقي الأخير ليس من باب الإنتقاص ولكن من باب العشم لأن السخرية من سوء الواقع ما هو إلا قمة النقد الموضوعي .. أشكرك
| |
![Edit](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif)
|
|
|
|
|
|
Re: نحلة ... بين مملكتين (Re: ابو جهينة)
|
عزيزي أبو بكر
تحياتي أيها المتخم أدباً
سعدت بمداخلتك التي تنم دائماً عن بعد النظر و قراءة ما خلف السطور.
Quote: فعلاً نحن نعيش في زمانٍ يعج حراكه بما لا يفهم إلا أن يكون يصاغ بلغة كليلة ودمنة أوبلسان الحكيم بيدبا.. |
تماماً.
لأن إستعمال شخوص إيحائية تجعل القاريء يلج لجة السرد و هو بين التخمين و اليقين .. و بين المقارنة بين حنايا الفعل و القول بين عالم كليلة و دمنة و بين أدوات السرد التقليدي.
شكرا على مرورك الباهي دمتم
| |
![URL](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif) ![Edit](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif)
|
|
|
|
|
|
Re: نحلة ... بين مملكتين (Re: ابو جهينة)
|
ديقي او جهينة
ما يخيفني فيك هذا التخاطر
طيلة الاسبوع الماضي وانا افكر بشكل يومي في ادب الاطفال
وفوجئت بهذا العمل الجميل ( للكبار والصغار)
تسلم يا رائع
| |
![Edit](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif)
|
|
|
|
|
|
Re: نحلة ... بين مملكتين (Re: د.محمد حسن)
|
الريس – أبوجهينة .. تحياتي
فكرة رائعة أن ندرب أذهان أطفالنا على أهمية الوحدة ومتطلباتها بعد أن فشل الكبار ليستبدلوا إمكانية سودان قوي عزيز غني كريم موحد .. بسودان متشظ ضعيف تتكالب عليه قوى السيطرة من كل صوب هواناً به .. فقد أحسنت سبكاً وأنت ترسل المعاني من خلف أجنحة النحل وشوكه السام من أجل السلام والتوحد وإمتصاص الرحيق بدلاً من نصبه شراكاً للآخر .. وأجمل ما في الهوى التضمين.
| |
![Edit](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif)
|
|
|
|
|
|
Re: نحلة ... بين مملكتين (Re: د.محمد حسن)
|
عزيزي د. محمد حسن
تحياتي
Quote: ما يخيفني فيك هذا التخاطر |
دة توارد ناس سلالة أوليا و صالحين .. لا خوف عليك و لا أنت تحزن بحول الله
Quote: طيلة الاسبوع الماضي وانا افكر بشكل يومي في ادب الاطفال
وفوجئت بهذا العمل الجميل ( للكبار والصغار) |
الهم واحد يا دكتور .. شكرا على مرورك الجميل
| |
![URL](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif) ![Edit](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif)
|
|
|
|
|
|
Re: نحلة ... بين مملكتين (Re: ابو جهينة)
|
عزيزي الأستاذ محمد عبدالجليل
Quote: وأجمل ما في الهوى التضمين. |
لا فض فوك .. فالتضمين له قوة الإفصاح في كثير من الأحايين .. و خصوصا في درء المخاطر .. أو توصيل فكرة تنبت الأشواك في مسالكها ..
| |
![URL](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif) ![Edit](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif)
|
|
|
|
|
|
|