|
كمال الجزولي...في حوار صحفي
|
اشكال والوان، في حضرة من أهوى، يكتبها : عمر العمر
على هامش الاحتفاء بالمبدعين الذين كرمتهم مؤسسة العويس الأسبوع الفائت، أتاح لنا القائمون على تنظيم المناسبة ـ لهم الثناء ـ
فرصة لقاء نادر مع صديق حميم قديم بعد فُرقة ربع قرن من الزمان، ذلك هو الحقوقي السوداني المصادم والشاعر المهموم بالحفر في حقل الشعر ولغته كمال الجُزولي.
كما توقعت، ترك ربع القرن شيئاً من لمسته على الفتى الذي ألفته فابيضت شعرات من لحيته المرسومة بعناية وعمد إلى التخلص مما علا الفودين وما بينهما من الخلف بحلاقة استقاها صديقي من جنوحه المميّز للتفرد، لكنه لم يستطع مغالبة هالة الزمن تحت حدقتيه.
رغم احتفاظه بحيويته المعهودة في الكلام لاحظت نزوع الجزولي إلى التأني في إطلاق أحكام تأخذ حيثياتها في الاعتبار جانب الطرف الآخر أكثر من نظرة القاضي. هذه سمة جديدة اكتسبها الصديق الحميم فطغت على حدة انفعاله أيام الشباب. أدركت عمق الهجمة التي خاضها الحقوقي المشاكس في وجه نظام لاحقه في كِسرة الخبز اليومية وغيّبه وراء بيوت الأشباح. الرزانة التي أصبح يتحلى بها الشاعر المُرهف لم تنل من قامته الصامدة في وجه الريح. فلا يزال عوده صلباً أمام الترهيب والترغيب.
في اللقاء الحميم المتقطع نبشنا معاً الكثير من الأوراق واستدعينا العديد من الأسماء، غير أن اسماً بعينه ظل يفرضُ حضوره ذلك هو الدبلوماسي والناقد الأدبي الراحل عبدالهادي الصديق الذي زاد رحيله المباغت والمبكر في حدة الفاجعة التي ذبحت سودانيين يُدركون الآمال التي أهدرها الموت الفجائي الذي غيّب ذلك السوداني المُبدع.
لا زلت أذكر الطريقة التي تلقيت بها النبأ العظيم، إذ جاء عبر مخابرة هاتفية عارضة وبعد أيام على رحيله. كان ذلك في حد ذاته سمة عارضة لمرض عُضال، كتبت يومها إلى صديق مكلوم مثلي «إنه ما كان لفرسان الخطابة على منابر الحديث والكتابة في معسكري النظام والمعارضة أن يتدثروا صمتاً مُخزياً إزاء رحيل مُبدع برصانة عبدالهادي. فأولئك الفرسان يُدركون حتماً كم هو صادٌق عبدالهادي وعميقٌ في سودانيته، وكم هو مُشبع حد التخمة بحب الشعب والوطن. وهم كذلك يُدركون ملياً حضوره الأنيق والذكي عبر أقنية الإعلام، المرئية منها والمسموعة والمقروءة وإنه يحتكر فيها مكانة عصيّة على العديد من الأقلام والألسن التي تحرث في أرض يباب فتُراكِم أحزاناً على حزننا العام».
كان عبدالهادي الصديق قبل إبداعه البارع في حقل الثقافة سودانياً صميماً.
وكان الهادي رجلاً سمحاً يلقاكَ دائماً هاشاً باشاً جزلاً مرحاً وكانَ سودانياً قُحاً حتى النِخاع شجاعاً كريماً مضيافاً أبيضَ القلب سليمَ الطوية عفيفَ اليدِ واللسان وكان فناناً على الفطرية والسَجِية يجيدُ صِناعة الفرح في عَفوية ويحذْقُ اختيار الأصدقاء كان يسبح بين النجوم في حياته اليومية على مدارات متباينة كان عبدالهادي الصديق صدوقاً يمشي ملكاً بين أصدقائه ومعارفه وأترابه يُداوي ما بينهم ولا يُثير ضغينة أحد على آخر كل السودانيين المُبدعين يعرفون عبدالهادي الصديق.
بل أكاد أجزم أن مكانة كل منهم على خارطة الإبداع السودانية يحددها موقع أي منهم في قلب ذلك الدارس الناقد الحصيف. وكان هو نفسه شديد الوفاء لكل سوداني مُبدع حتى أنه ليبادر إلى معرفته ويوثق علاقته به على الصعيد الشخصي.
كان طرازاً نادراً من البشر، وكان دار آل صليح في الملازمين على أيام الهادي الجميلة شبيهاً بما كان في دار فوز على أيام خليل فرح في الجانب البهي الوطني واحة تجمع مُبدعين من كل حدب ثقافي.
هناك التقيت بكوكبة من أكثر نجوم السودان بريقاً شعراء بقامة محمد المهدي المجذوب، ونقاداً من أمثال عبدالقدوس الخاتم، وإذاعيين بموهبة حمدي بولاد، ومسرحيين على شاكلة صالح الأمين، وباحثين مجتهدين على نمط الطيب محمد الطيب، ومطربين من طراز الكابلي وأبوعركي، وشباناً واعدين من بذرة كامل الطيب.
في صحبته عرفت نجوماً آخرين بتميز الشاعر صلاح أحمد إبراهيم وصنوه الكاتب والقاص علي المك والمذيعة النادرة ليلى المغربي عطّرَ الله ثراهم جميعاً.
معه عرفت الناصر قريب الله، جمال محمد أحمد، الطيب صالح وأحمد الزين صغيرون على نحو أكثر عمقاً وإنسانية.
لم يكن رحيل عبدالهادي الصديق مجرد وفاة دبلوماسي وناقد يحذق تفكيك النصوص وإعادة تركيبها بحس فنان مُرهف وبصيرة نافذة متقدة ومتقدمة على عصرها ولم تكن وفاته تشكل كذلك موت شاهد فقط على حقبة سودانية بذاتها وإنما تؤشر لنهاية مرحلة متكاملة في التاريخ السوداني. ذلك ملفٌ يمكن فتحه في مساحة تالية.
لا أعرف كيف ومتى التقيت عبدالهادي الصديق، لكني أعرف أن علاقتنا توثقت أثناء تواجدنا معاً في جامعة الخرطوم ونسجنا معاً صداقة حميمة وعميقة، فمن أبرز سمات الراحل العزيز انه رجلٌ يألف ويُؤلف سريعاً.
ولم تكن صداقتنا حصراً على الزمالة الطلابية أو وقفاً على اهتمام مشترك في الفكر والثقافة والهوى ومرح الشباب، وإنما كانت تشابكاً بين ذلك كله نتحاور، نختلف أو نتفق ولكن كل حوار كان يتوغل بنا في الود والمحبة.
كان عبدالهادي الصديق طفلاً مشاغباً في نضجه الفكري له جرأة على طرح أسئلة معقدة وصعبة على الإجابة، وكان ساخراً ولاذعاً كالنحلة، وكان صاحب بديهة حاضرة يفيض مرحاً، ويمتلك حاسة مغنطيسية لالتقاط الأشياء الجميلة.
في كل مرة كنا نتعانق نتواعد على لقاء أصبح مستحيلاً.
قال لي كمال الجزولي: لا أعرف كيف قطعت الطريق من المكتب إلى بيت عبدالهادي عندما تلقيت الخبر الفاجعة ذات ظهيرة، ووجدته في كامل وقاره وهدوئه وعلى وجهه ابتسامته الملوكية في نومته الأخيرة.
رغم مرور نحو عامين أكاد لا أصدق أن أهبط خرطوماً ليس فيها عبدالهادي الصديق.
|
|
|
|
|
|
|
|
|