|
مصطفى سيداحمد .. المسبار الغائص فى مفاهيم الثورة الجمالية
|
لم ينتزع مصطفى سيداحمد عواصف التصفيق بمجرد ظهوره الامر الذى حدث لمجايليه وسرعان ما انطفأت جذوة ابداعهم ، او تحولوا لكائنات فنية تسترزق بالفن من دون ان تحرك البركة الخامدة او تشرع فى تطوير فعلى للأغنية السودانية ، كثيرون من النقاد كتبوا واصفين تجربته بأنها سابقة لزمانها ولا منتمية لمكان مؤطر برغم "سودانيتها" الخالصة شعرا ولحنا واداء ، الا انها استظلت بشجرة الانسانية وخاطبت الوعى والضمير الانسانى اينما وجد ، مصطفى حالة اشبه بالحالات الصوفية التى تسبب جذبا تجاه الصوفى وما يقوله ، معجونة تواشيحه بالخبز العارى والحناء ، وبرغم وفاته المبكرة التى شكلت بحد ذاتها صدمة فاجعة لعشاق فنه ، الا ان تجربته لا زالت تتمدد تدريجيا كما اراد لها ، فهو لم يستعجل حصد النجاح ولا ابتغاه من الاساس بقدرما طمح الى تكوين حالة وعى خاصة من خلال الفن ، وذهب فى ذلك بعيدا ، ليترجم احاسيسه وصدقيته الابداعية انغام تتأرجح بين حد الموت وحد الدهشة ، ولا غرابة فى ان تفيض اغنياته بشعائر الجنازات والموت ، وكأنها اشارة عميقة يؤثث بها نقده لموات مجتمع ما ، وانتظاره لبعث جديد يتأسس على تغييرات عميقة ومرتبطة بالجذور فى آن ، والحقيقة انه اكثر من غنى للحلم ، والحلم عنده ، كان غامضا مبهما يحوى كل الاشياء كرموز الصوفية ، لكنه يمس الوطن مسا مباشرا ، وبرأى لم يفلح واحد من الذين تعاقبوا على السودان منذ استقلاله سياسة وثقافة وقيادة فى سوق السودانيين لأحلام كبيرة ارفع قدرا من الهم اليومى وحصادات البؤس سوى مصطفى سيداحمد ، وهو بذلك ترك مؤشرات تفترض نشوء مدرسة جديدة فى الثقافة السودانية منحازة للانسانية ونافضة الغبار عن تراكمات تاريخية ،كان هو مثل كل الشاهقين الذين اخترقوا العواصف العاتية ليكتشفوا طعم اليابسة من جديد ، مصطفى كان ثائرا هادئا حوّر مفاهيم الثورة من الدم والغثيان الى الثورة "الجمالية" ليستنهض ذاكرة الجمال ويطرز سوسنات من الاغانى "الدساتير" ، فلكل اغنية حلق يرشح التآلف ويجرح السكون ، وتريات تطرد النعاس والوسن ، وتطيّر فراشاتها فوق حقول اللارنج المرتمية على الضفاف النيلية ، رسم حلما لشخصية سودانية ممتلئة بالحياة ، ينقش فوق جلدها الحزن المتسلل الى المسام ليفتحها ويصهر خلاياها فى منجم للرقة والاسى ، ويحفر على خدودها تقويما جديدا وبضعة " شلوخ " باقية لتذّكر بالنسيج المتلاحم ، كان اغترابه الاول نحو ذاته ، عائدا من غربة النفس الى هجعة الطيور الآيبة ، واعشاش عصافير تدمن النيل ، اعاد اكتشاف خارطته الجينية ، ورسمها محاذية للنيل ممتزجة بمائه متوشحة بذرات دقيقة لغبار يسكن الطرقات ويثار كلما غازلته دابة تحمل القرويين الى بساتين النخل ، رسمها ، كما يشتهى ان تكون : انثى لا نهائية الملامح ، انثى كالقدر ، انثى تتمسح بتراب الوطن وتلهو على ضفائره ، رسمها جبلا اشما جهة الغرب ، ونافورة للضوء الآتى من مزامير الانقسنا وقراهم المسكونة بالسحر الطبيعى ، رسمها ابنوسة جنوبية يحلو فيها الغزل ، رسمها نخلة ، وكان اغترابه الثانى ممضا فى وجعه ، ونزفا متواصلا اوحى له بالدوزنات وكيمياء الاغنية الصعبة : " بعيد انت وشقانى سفر" ، وكجميع الذين اهدوا الوطن قلوبهم الموجوعة ، لم يملك جواز سفر غير خضرة كانت تنمو على اطراف اصابعه لتمتد غاباتها فى مفاصله ، هل كان ينعى وطنا ، ثم يؤلب الاجيال ضد الانكسار ليصنعوا وطنا بحجم احلامهم ؟ "القضية" لم تكن تعنى عنده المزايدات الفارغة والشعارات الجوفاء ، كانت قضية وجود وقضية انتماء : ان تنتمى فتهب وطنك كل احلامك وتتوحد فيه .... وهل كان صوفيا؟ اغنياته : طباشير يدرّس "الشفع" وممسحات تمحو آثام الذين سرقوا الاحلام واستنهضوا الفقر ، ودروب تعشق الشمس وتشعل قناديل للمحبة ، اغنياته : حرارة السلام ودفء المشاعر النقية التى تختلج فى قلوب عذراوات لم يعرفن " ثقافة الاستهلاك" ولا " كريم تبييض الوجه" لأن سمرتهن صادقة ، حارقة كالقهوة التى يحتسيها "الهدندوة " تحت اشجار اللبخ فى كسلا الجميلة ، اغنياته : شحنة غضب يستعر فى صدر " ود عجبنا" الذى خرج ذات ليلة ليكرم اضيافا حلوا على حين غرة فأصطادته "دورية الطوارىء" فقتلته ولم تقتل مروءة ارادها مصطفى ان تبقى ، اغنياته : حمحمات النائحين على ضوء الفوانيس العتيقة يؤازرون " الحكّامة" ويعرضون وسط الدارة "صقرية" ، اغنياته فضحت زمان الصمت ، وصمت هو حين اضحى الزمن فضيحة ، حين حاصروه ، حمل كمانته ورحل ، ليعود من كل الثقوب والصنابير ، يهطل مع المطر ، وينمو مع الزرع ، ويتدفق كالفيضان . اغنياته جرح يسكن كل الصفحات البيضاء التى لم يسوّدها الشعراء فى انتظار قريحة قد تأتى ليلا مع الفجيعة الكاملة ، جعل من الفن اداة تموسق الضمير على لحن الكبرياء ، وتغسل الاصباغ عن الوجوه الزائفة ، مصطفى لم يكن حدثا عابرا ، كان انفجارا ضخما من الالوان القزحية ، وغواية المطر . كان احترافه لعشق السمراء كأنه خلق له ، ومزج بطينته ، وكجميع الصوفية ، لم يبح بنذوره وكشوفاته كلها ، استبقى بعضها لتستثير العقل وتدفعه للتفاعل مع المفردة واللحن والاداء العميق ، ليخلق حالة تواصل دائمة بين انسان متحضر وفن التزم اقصى درجات الانسانية وشكّل مناخات تعايشية لكى يدرك انسان الارض معنى انتمائه لها ، رحل مصطفى فى 18 يناير 1996م ليؤرخ موته الى جوار الاستقلال فى بلد لم يع معناه ، تمشّى فى شرفات الموت جاعلا للموت طعما آخرا ، واحساسا مغايرا به ، وتاركا شلالات من الاغنيات الخلاسية تنثال كما ضفائر السمراوات معربدة فى الليل الافريقى الفاحم ، وبعدما اعاد تشكيل الجغرافية الوطنية بدماء الاغنيات .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
مصطفى سيداحمد .. المسبار الغائص فى مفاهيم الثورة الجمالية | خالد عويس | 03-14-02, 01:37 PM |
Re: مصطفى سيداحمد .. المسبار الغائص فى مفاهيم الثورة الجمالية | ودحبيب | 03-14-02, 01:50 PM |
Re: مصطفى سيداحمد .. المسبار الغائص فى مفاهيم الثورة الجمالية | خالد عويس | 03-14-02, 03:59 PM |
Re: مصطفى سيداحمد .. المسبار الغائص فى مفاهيم الثورة الجمالية | alsara | 03-14-02, 04:08 PM |
مصطفى سيد أحمد | seventy | 03-14-02, 04:45 PM |
Re: مصطفى سيداحمد .. المسبار الغائص فى مفاهيم الثورة الجمالية | banadieha | 03-14-02, 05:05 PM |
حبابك خالد | wadazza | 03-14-02, 05:14 PM |
مصطفي سيد احمد...المسبار الغائص في مفاهيم الثورة الجمالية | Abulbasha | 03-15-02, 09:14 AM |
جرح نازف | REEL | 03-15-02, 11:19 AM |
Re: جرح نازف | خالد عويس | 03-16-02, 08:38 AM |
Re: جرح نازف | بكرى ابوبكر | 04-17-02, 03:22 AM |
النبض يعلو في هنيهة من الزمن والقلوب ترقص طربا ولو انا نملك في الحياة نعيمها | sunrisess123 | 04-17-02, 08:49 AM |
النبض يعلو في هنيهة من الزمن والقلوب ترقص طربا ولو انا نملك في الحياة نعيمها | sunrisess123 | 04-17-02, 08:49 AM |
فى حضرة مصطفى | Tariiq | 04-22-02, 02:45 PM |
|
|
|