الدين والسياسة .. زراعة الإحَن وحصاد المحن /د. منصور خالد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-18-2024, 12:10 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-12-2004, 01:21 AM

ahmed haneen
<aahmed haneen
تاريخ التسجيل: 11-20-2003
مجموع المشاركات: 7982

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الدين والسياسة .. زراعة الإحَن وحصاد المحن /د. منصور خالد

    بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات- المقال

    المقال السابع (1-2)

    د. منصور خالد

    الدين والسياسة .. زراعة الإحَن وحصاد المحن

    احتل موضوع الدين والسياسة، أو الدين والدولة، حيزاً كبيراً في الجدل السياسي منذ الستينيات. وفي جانب منه، كان امتداداً لجدل أوسع على نطاق الأمة الإسلامية كلها حول الحفاظ على الهوية في سياق عالم تعددي. إلا أن دعاوى الحفاظ على الهوية تحولت عند البعض إلى ذريعة للالتفاف على قيم ومعايير تراضت عليها الإنسانية لضبط سلوك الأنظمة والمجموعات البشرية. ونفصل في السودان بين ثلاث حقب اختلفت فيها طبيعة الجدل ومحتواه ومناهجه التي تراوحت بين الخطاب التهييجي والقمع. الحقبة الأولى هي تلك التي شملت كل الفترة من الستينيات حتى السبعينيات، والثانية هي فترة الحكم المايوي، أما الثالثة فهي التي أعقبت ذلك الحكم وإلى نهاية القرن. هذا التحقيب لا يُسقِط دور المفاعل الخارجي في تغذية الجدل والصراع على امتداد تلك الحقب، إذ تداخلت الصراعات المحلية مع الصراع الإقليمي (فترة النهوض القومي)، والأممي (فترة الحرب الباردة) وتقاطعت المصالح للحد الذي لم يعد واضحاً فيه مَن يستغل مَن. وعلنا في هذا المقال نتناول سبل الإقبال على قضية الدين والدولة في السودان طوال هذا الحقب، وما قادت إليه من ضغائن وإحن انتهت إلى كروب ومحن. وهذا حصاد مر لا تستريح له نفس ولا يستطيبه ذوق.

    ولكن قبل تفصيل الحقب نبسط بضع حقائق قد تعين القارئ على إدراك الأسباب التي أحالت الجدل بشأن الدين والسياسة من خلاف فكري إلى فتن. أولاً كانت صراعات الستينيات جزءاً من الصراعات النخبوية (طلاب الجامعات، النقابات المهنية) في إطار الإيديولوجيات السائدة: الأممية (الشيوعية)، القومية (بمدارسها العروبية المختلفة)، (الإسلامية). وكان الجدل حول الدين والسياسة وسط تلك الجماعات يدور بمعزل عن ذلك الذي يدور في مدارس الإسلام الشعبي، المُسَيس منه (الأحزاب ذات القاعدة الدينية) وغير المُسَيس (الطرق الصوفية). بل ربما اتخذت تلك النخب موقفاً غير ودي من تلك المدارس، وإن تصالحت معها لم تكُ تفعل ذلك إلا اغتناماً لفرصة دنت. لهذا يقال أن الإسلام السياسي في السودان لم يتسم بتسامح إسلام أهل السودان.
    هذه الأيديولوجيات المتصارعة ـ شأن كل الأفكار الجزمية ـ كانت تعاني من خصيصتين عاطبتين. الأولى هي قصورها الذاتي عن التشكك في صدقية دعاواها، بل ظنها الواثق أن دعاواها هي الحق المحض. والثانية هي جنوح أرباب العقائد، على المستوى العملياتي، إلى اختزال الحل لكل المشاكل الإنسانية في فكرة واحدة، وفي أغلب الأحيان في مصطلح واحد يسهل الارتكان إليه مثل ''الإسلام هو الحل'' أو ''وحدة الأمة هي الحل'' أو ''إنتصار الطبقة العاملة'' هو الحل. هذه النظرة أدت إلى ترخص كبير في الإقبال على معالجة أخطر القضايا. ثانياً، ولربما بسبب من اليقين الكامل بصدق أطروحاتها إن لم يكن تنزيه الاطروحات عن كل نقص، أصبحت هذه الجماعات النخبوية شمولية التوجه، وأخذت، على تباين توجهاتها، تستسلف من بعضها التجارب، خاصة فيما يتعلق بالتنظيم. وبسبب من نظرتها الشمولية أيضاً صار إيمانها بالديمقراطية ملتبساً، هي مع الديمقراطية متى ما وفرت لها مساحة للتنفس والحركة، وهي ضدها متى ما تمكنت من السلطان المطلق. وحينذاك ''لا صوت يعلو على صوت المعركة''، ''ولا حرية لأعداء الحرية''، و ''من تحزب خان''، ولا حزب إلا حزب الله ''ألا أن حزب الله هم المفلحون''.
    في كل هذه الصراعات غاب أمران: الغائب الأول هو السودان: مشاكله الوجودية، تركيبته التعددية، قضاياه المعقدة بتعقيد تركيبته. الغياب هنا معنوي، فلاشك في أن أهل العقائد هؤلاء كانوا من أكثر أبناء جيلهم اهتماماً بقضايا وطنهم، وانهماكاً فيها، وتضحية من أجلها، كما كانوا على ثقة تامة بقدرتهم التامة على المعالجة الناجعة لها. ولكن، من طبائع الأشياء أن الطبيب الذي يَدوي من نزل به الداء، ظاهراً أو باطناً، يبدأ بتشخيص الداء ليميزه مما سواه. بهذا وحده يمكن للطبيب أن يتعهد المريض بما يشفيه. أرباب العقائد السياسية بما فيها الدين المُسَيس كان لهم دواء واحد لا يعرفون غيره، وليس في اعتقادهم غيره في الوجود دواء. ولتعارض الأدوية وتضاربها ـ رغم أن الداء واحد ـ تحول المريض الذي هو السودان خنزيراً غينياً لاغُرم على ما لحق به من جراح. وكما يقول الفقهاء ''جُرح العجماء جُبار''، أي هَدَر.
    الغائب الثاني هو التواضع المعرفي، والذي هو سمة المجتهد الذي يحترم مرجعيات المعرفة، لا سيما إن كان المجتهد ينتمي إلى دين يقول فقهاؤه: ''من قال لا أعلم فقد أفتى''. المجتهد الصادق تَحَتكُ الأمور في صدره لهذا يظل وقافاً عند الشك، أما أرباب العقائد في السودان، وعلى اختلاف مدارسهم، فلم يكن عندهم موقع للآخر المخالف لهم إلا بين قطبين: الخيانة في حالة، والكفر في الحالة الثانية، تهم الانتهازية والعمالة في حالة، والأبلسة في الحالة الأخرى. الغائب الثالث هو انسداد الأفق الإنساني نتيجة التعامل غير المعافى مع الآخر المخالف، مرة بالعنف ومرة بالإكراه، وأخرى بالاغتيال المعنوي. هذه ممارسات تلغي الحرية، وإلغاء الحرية إلغاء للإنسانية. كما هي ممارسات تفقد الأديان والنظريات البشرية الطامحة للرقي بالإنسان من أي مضمون قيمي. هذه مقدمة إدراكها ضروري حتى لا تختلط الأمور، وحتى ننأى بالدين عن الخطايا التي اجترحت باسمه، كما ننأى بالأفكار الطامحة عن الجنايات التي لحقت بها.
    أبنا في المقالات السابقة كيف أخذت الطبقة السياسية السودانية تستظل دوماً (يوم لا ظل إلا ظله) بدستور ستانلي بيكر ''الاستعماري''، وكيف أن ذلك الدستور كان محايداً في موضوع الدين، لكيما لا نقول علمانياً. المرة الأولى التي احتل فيه الدين (ونقصد الإسلام) موقعاً في الدستور كان في مشروع دستور .1968 ومن الواضح أن الذين ذهبوا إلى التنصيص على الإسلام والشريعة في ذلك المشروع كانوا ينطلقون من نظرية سيادة ثقافة أو دين الأغلبية. فما الذي جاء به مشروع الدستور؟ أورد في مادته الأولى: ''السودان جمهورية ديمقراطية اشتراكية تقوم على هدى الإسلام''. وأورد في المادة (113): ''الشريعة هي المصدر الأساسي لقوانين الدولة''. كما جاء في المادة (114): ''يعتبر باطلاً كل نص في أي قانون يصدر بعد إجازة هذا الدستور ويكون مخالفاً لأي حكم من أحكام الكتاب والسنة إلا إذا كانت تلك المخالفة قائمة في جوهرها قبل إجازة الدستور''.
    هذه النصوص الدستورية أوقدت نائرة سجال سياسي / ديني أثبتت التجارب اللاحقة عبثيته، خاصة بعد صدور دستور 1998 ''الإسلامي'' ونصوص بروتوكول ماشاكوس حول الدين والسياسة. ولعل أجواء التوجس والتحرش والتربص التي كانت سائدة عند إعداد مشروع دستور 1968 (تهم الإلحاد) أضفت على الصراع بشأنه أبعاداً افتقدت أدنى حدود العقلانية. فأولاً لم يكن هناك أي وعي، أو رغبة في الوعي، بأن التعدد الديني في السودان يقتضي أن يعالج موضوع الدين والسياسة بصورة تأخذ في الاعتبار ذلك التعدد. هذا الأمر لم يكن في الحسبان إذ ذهب المشرع على التو لنقل تجارب الدول العربية ـ الإسلامية المجاورة، والتي ليس من بينها واحدة بها ما بالسودان من تعدد ديني، بل من تعددات متقاطعة. وتكاد كل دساتير الدول العربية الإسلامية تتضمن نصوصاً حول دين الدولة، وذهب بعضها إلى ما هو أبعد من ذلك. فالدستور المغربي، مثلاً، ينص في المادة 19 ''الملك أمير المؤمنين والممثل الأعلى للأمة ويكفل تطبيق الإسلام''. حتى الدستور التونسي (وتونس دولة كان رئيسها المؤسس، الحبيب بورقيبة يجاهر بعلمانيته) يقول في مادته الأولى: ''تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها''. كما تنص المادة 38 من نفس الدستور: ''رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ودينه الإسلام''. مع ذلك، لو جاءت نصوص مشروع دستور 1968 في إطار نظام للحكم ضمن لغير المسلمين حقوقهم المدنية كما أقر دستور 1998، أو اتفاق ماشاكوس، فلربما لم تكن لهؤلاء ردة فعل عنيفة ضد تلك النصوص، بل ربما لما جاز لهم ذلك. لهذا لم يكن غريباً إن ارتفعت أصوات الجنوبيين عالية، تماماً كأصوات بعض الشماليين، ضد ذلك الدستور. عن الجنوبيين عبر ابيل الير باسمهم جميعاً بكلمات منذرات ليتنا وعيناها يومذاك، فلو فعلنا لما استفحل الأمر. قال أن مشكلة الجنوب لم تتخذ حتى الآن طابعاً دينياً ولكن الإشارات للدين في مشروع الدستور ستنحو بها إلى ذلك الاتجاه. أما الشماليون فقد لخص رأيهم عبد الخالق محجوب بقوله أن اعتراضه على الإشارة للدين في الدستور يقوم على اعتبارين أولهما تهديدها لوحدة البلاد، والثاني الخوف من الفتن التي قد يقود إليها اختلاف المذاهب في تفسير الدين.
    ثم جاء نظام مايو وكان إقباله على قضية الدين والسياسة عند وضع دستور 1973 إقبالاً وسطياً. ويفيد أن نذكر أنه تماماً كما كانت قرارات لجنة ألاثني عشر أساساً لاتفاق الحكم الذاتي الإقليمي لعام 1972، كان مشروع دستور 1968 هو الأساس لدستور .1973 من ذلك الدستور أُزيلت أية إشارة لدين الدولة، رغم أن البعض كان يرغب في إدخالها. ولم يكن الدافع على رفضها جحوداً بالدين وإنما للاقتناع بأن الإشارة لدين الدولة في الدستور إعلان بلا جوهر. ففي رده على المطالبين بإدراج النص قال الراحل جعفر بخيت ''نحن لسنا بملحدين، ولسنا حرباً على الإسلام ولا على دعوته. إن الاقتراح المقدم مظهري إعلامي ليس في جوهره أية دلالات فعلية، فالدولة كائن معنوي يفقد صفة الانتماء الديني القائم أساساً على وجود ضمير فردي يتعبد ويتعامل''. في ذات الوقت أبقى دستور 1973 النص على مصادر التشريع وجاء على النحو التالي: ''الشريعة والعرف مصدران من مصادر التشريع''. هذا النص أقرب إلى الواقع من ذلك الذي اعتبر ''الشريعة ''مصدراً أساسياً'' للتشريع، إذ لو بقى ذلك النص لحق لأي قانوني مبتدئ يُلم بقوانين السودان القول أن الجزء الغالب من تلك القوانين غير دستوري لأنه لم يُستمد من المصدر الأساس.
    وأذكر خلال مناقشة دستور 1973، أن نائباً جنوبياً اعترض على تضمين الدستور النص الذي يشير للشريعة كمصدر للتشريع، وكان الرد عليه أن تلك الإشارة تؤكد حقيقة قائمة إذ أن في السودان قوانين عديدة مستمدة من الشريعة، كما أن المحاكم السودانية استلهمت الكثير من أحكامها من الشريعة. وعلى أي، قلنا أن الذي يشرع هو البرلمان، وما الإشارة للشريعة كمصدر، محددة كانت الإشارة أو مطلقة، إلا توجيه للمشرع باستلهام مبادئ الشريعة عند وضع القوانين، وليست أمراً للمحاكم لكيما تطبقها وفق اجتهاد القاضي. لهذا الرأي ذهبت المحكمة الدستورية العليا في مصر (1985) التي يعتبر دستورها (المادة الثانية من دستور 1980) ''مبادئ الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً'' للتشريع. قررت المحكمة في دعوى رفعت لها أن النص ''يستهدف توجيه الشارع إلى استلهام قواعد التشريع من مبادئ الشريعة الغراء بصفة رئيسية لكنه لا يطلب من المحاكم أن تطبق مباشرة مبادئ الشريعة وتغفل ما لا يتفق معها من نصوص تشريعية قائمة''.
    على أن أهم نص أورده دستور 1973 هو المادة 16 والتي أرست، للمرة أولى في دساتير السودان بوجه لا لُبس فيه، مبادئ هامة: الأول الاعتراف بالتعدد الديني في السودان، والثاني تعهد الدولة باحترام كل الأديان وحماية معتنقيها، والثالث تحريم استغلال الدين لإشعال الفتن. تقول المادة:
    أ. في جمهورية السودان الديمقراطية الدينُ الإسلام ويهتدي المجتمع بهدي الإسلام دين الغالبية وتسعى الدولة للتعبير عن قيمه.
    ب. والدين المسيحية في جمهورية السودان الديمقراطية لعدد كبير من المواطنين ويهتدون بهديها وتسعى الدولة للتعبير عن قيمها.
    ج. الأديان السماوية وكريم المعتقدات الروحية ï noble spiritual beliefs لا يجوز الإساءة إليها أو تحقيرها
    د. تعامل الدولة معتنقي الديانات وأصحاب كريم المعتقدات الروحية دونما تمييز بينهم فيما يخص حقوقهم وحرياتهم المكفولة لهم في الدستور كمواطنين، ولا يحق للدولة فرض أية موانع على المواطنين أو على مجموعات منهم على أساس العقيدة الدينية.
    هـ. يحرم الاستخدام المسئ للأديان وكريم المعنقدات الروحية بقصد الاستغلال السياسي وكل فعل يقصد به أو يحتمل أن يؤدي إلى تنمية مشاعر الكراهية أو العداوة أو الشقاق بين المجموعات الدينية يعتبر مخالفاً لهذا الدستور ويعاقب قانوناً.
    أخطر ما وقع بعد ذلك أمران، الأول هو الإلغاء الفعلي لدستور 1973 في العاشر من يوليو 1984 عندما استذرع الدكتور الترابي بالمادة التاسعة من دستور 1973 (الشريعة مصدر التشريع) لإجراء تعديلات عن ذلك الدستور. تلك كانت حيلة قانونية غير بارعة لجأ لها الدكتور، وكان يومها مساعداً لرئيس الجمهورية لأنها أغفلت المواد المتعلقة بكيفية تعديل الدستور وحددت الإجراءات اللازم إتباعها، وما وضعت مثل تلك الإجراءات إلا لحماية الدستور من التغول. والثاني هو إصدار قوانين سبتمبر .1983 الموضوعان تناولناهما بإفاضة في كتاب كامل (الفجر الكاذب: نميري وتحريف الشريعة) لهذا لنا عن العود إليهما فسحة. رغم هذا، ستكون لنا لُبثة عند أمرين مما وقع يومذاك لتعلقهما بهذا المقال. الأمر الأول هو أثر التعديلات الجذرية للدستور على الأوضاع السياسية بوجه عام، وعلى الجنوب بوجه خاص. كان على رأس التعديلات، مثلاً، إلغاء المادة 8 التي تضمنت حماية اتفاقية الحكم الذاتي الإقليمي، واستبدال المادة التاسعة حول الشريعة والعرف كمصدرين رئيسيين للتشريع بنص جعل الشريعة مصدراً أوحداً، وإضافة نص في المادة 14 (المسئوليات العامة للدولة) يجعل للدولة دوراً في رعاية حقوق الأقليات، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يطلق فيها على مجموعة من المواطنين الأصليين وصف الأقليات، كما حُذفت المادة 16 حول الأديان حذفاً تاماً رغم أنها واحدة من ابرع ما ابتدعه الفقه السوداني الدستوري. تلك لم تكن ضربة قاضية على اتفاقية أديس أبابا فحسب، بل وعلى مقومات التعايش السلمي بين المسلمين وغير المسلمين في السودان.
    الموضوع الثاني هو التأييد المطلق الذي حظيت به قرارات نميري في سبتمبر 1983 من تأييد من جانب الأخوان المسلمين. نميري، فيما نُقَدر، لم يكن يبتغي من إصدار تلك القوانين غير سحب البساط من تحت أقدام كل من كان يدعو لتطبيق الشريعة، أو إقامة شرع الله، أو للصحوة الإسلامية. ولو كان الدين بغيته لما قال في لقائه بالجالية السودانية في أبي ظبي منذ بضع سنوات: ''الشريعة دي خازوق أنا غزيته وأنا براي البقدر أقلعه''. تأييد الأخوان المسلمين يومذاك لنميري وقوانينه مفهوم من ناحية النفعية السياسية political expediency البحتة، ولكن الأخوان لم يكونوا يقدمون أنفسهم كسياسيين فحسب، بل قدموها أيضاً كأصحاب رسالة تتجاوز حدود الأوطان، وكمجتهدة يمتلكون ادوات المعرفة الحديثة التي تمكنهم من الخروج بالدين من المدار المغلق الذي حشره فيه تحجر الفقه. وبهاتين الصفتين كان يعنيهم أن يكون النموذج الإسلامي العملي الذي يطرحون أسمى وأرفع مما عداه حتى يُغري من لهم الخيرة في اتخاذ الإسلام ديناً، وأجدر من يكونون بالإغراء المواطنون السودانيون من غير المسلمين. ذلك أمر فطن له الدكتور الترابي جيداً قبل قوانين سبتمبر، وقبل تعديلاته للدستور التي ضيقت واسعاً في الدين.
    فقبيل إصدار نميري لقراراته قام الترابي بوصفه نائباً عاماً بمراجعة شاملة لقوانين السودان (المجلدات التسع والتي تضمنت آنذاك 286 قانوناً) انتهى منها إلى أن ثمان وثلاثين قانوناً فقط من تلك القوانين تخالف الشريعة. وللوصول إلى ذلك الحكم استعان بلجنة ضمت نخبة من القانونيين وأهل الفكر: حسن عمر، عون الشريف، علي شمو، سيد أمين، ميرغني النصري، على محمد العوض، صديق الضرير، على عبد الرحمن الأمين الضرير، محمد الجزولي، اميل قرنفلي، جمال بسيوني (مصري)، محمد الفاتح حامد. واقترح الأخير ضم جنوبيين للجنة فاستجاب نميري للاقتراح وأصدر قراراً بإضافة فرانسيس دينق، امبروز ريني، اكولدا امانتير، ودفع الله الحاج يوسف إلى اللجنة. وحول الحدود على وجه التدقيق كان للترابي اجتهاد أحسب أنه وفق فيه، ومن ذلك التدرج في تطبيق الحدود مثل حد الشرب (والذي ألحقه الترابي بالتعزيرات وليس الحدود) حيث ترك لحكام الولايات حرية تطبيقه بعد أمد محدد، وأباح الشرب للأجانب والبعثات الدبلوماسية (أو بالاصح قضى بعدم تجريمه)، كما وجه أن لا يطبق الجلد إلا على الشارب. ولكن ما أن أصدر نميري قراراته حتى انتهى الشيخ المجتهد إلى رأي نقيض حول تطبيق الحدود بما فيها تلك التي لم يدرجها في منظومة الحدود. مثلاً، أقر تطبيق القطع في السرقة فوراً لأنه، كما قال، ''قطع لكل الارتياب والانهزام الثقافي'' (الأيام 19/1/1984)، كما أيد تطبيق ''حد الشرب'' على غير المسلمين وعلى الأجانب الذين استثناهم في حكمه الأول مبرراً ذلك، هذه المرة، بالقول ''لا استثناء للأجانب وغير المسلمين من حدود الله وخاصة الشرب فالاستثناءات تقود للتلاعب'' (الأيام 3/10/1983).
    قضيتنا ليست مع التأييد السياسي لقرارات نميري، فللسياسة أحكام. وليست حول الاتفاق أو الاختلاف معه إن كان الذي طبقه يمت بسبب إلى شرع الله أولا يمت. القضايا التي نوليها اهتماماً في هذا المقال هي أولاً اختزال شرع الله كله في العقوبات المقدرة، خاصة وقد بقيت من هذه النظرة ظلال خلال المفاوضات الأخيرة حول تطبيق الحدود في العاصمة. ثانياً حق المجتهد الذي ينقض في الصباح ما أبرمه في العشية في أن يُضفي، أو تُضفي، أي قدسية على إجتهاداته بحيث يصبح الدين والاجتهاد البشري بشأن الدين سيان، ويصبح الاختلاف مع الاجتهاد البشري كفر وارتداد عن الدين. ثالثاً الإساءة البالغة التي لحقت بالدين ليس فقط باختزاله في الحدود بمعنى العقوبات المقدرة، وإنما أيضاً على وجهين آخرين. الوجه الأول هو الإيحاء أن تلك العقوبات هي جوهر الدين، علماً أن حدود الله ليست وحدها العقوبات التي وردت خمساً، كل واحدة منها في آية واحدة: السرقة (المائدة 3، القذف (النور 4)، الحرابة (المائدة 33)، القصاص (البقرة 17، الزنا (النور 2)، وليس من بينها ما يعرف بحد الردة أو حد الشرب. هذه الحدود هي جزء صغير من باب أكبر هو العقوبات، في حين تستوعب حدود الله ما هو أشد خطراً من العقوبات. ففي العبادات حدود (البقرة 187)، وفي الفروض حدود (النساء 13)، وفي الزواج والطلاق حدود (البقرة 229)، وفي الأخلاق حدود (التوبة 97)، وفي الوفاء بالعهود حدود (التوبة 112)، وكل ذلك يدخل في مجال تهذيب النفوس وضبط العادات والمعاملات. لا نقول هذا تقليلاً من أهميتها، وإنما تبياناً لخطل الرأي الذي يختزل حدود الله كلها في خمس آيات. الوجه الثاني هو أن الحدود لم تفرض لكيما تصبح سلاحاً لابتزاز الخصوم. ولربما كان نميري أصدق مع النفس إن ظن هذا، بعد أن أطلق على ''الشريعة'' وصفاً خرج به عن الجادة، وجاوز به حدود الأدب: أسماها ''القانون البطال''. قال في خطابه بمناسبة الذكرى السنوية لمايو: ''كل بيت ندخله ونفتشه .. من يشرب في الخفاء .. من يزني نفتشه لأن الإسلام أمرنا بذلك. أيوه سنحاكمهم بالقانون البطال ده'' (الصحافة 25/5/1984). تلك زلة فرويدية أبانت ما يدور في أعماق الرجل، ولكن ما بال أهل الحجى ذوي الحِجر يَلبَسون الدين، كما قال الإمام علي، كما يُلبس الفروُ مقلوباً.
    لقد فرض الدين قيوداً صارمة في تطبيق الحدود (بمعنى العقوبات المقدرة) أهونها قيد الإثبات والبينة. فالحدود تدرء، وفي قول عائشة عن رسول الله صلعم '' إدرأوا الحدود عن المسلم ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فلئن يخطئ الأمام في العفو خيراً من أن يخطئ في العقوبة'' رواه الترمذي والحاكم البيهقي بسند صحيح. والحدود فيها الستر، روى مالك عن سعيد بن المسيب أن رجلاً جاء لأبي بكر وقال أن فلاناً قد زنى. قال أبو بكر ''هل ذكرت هذا لأحد غيري''. قال لا: قال له'' ''تب إلى الله واستتر بستر الله فإن الله يقبل التوبة من عباده''. والحدود ـ وهذا هو أكثر ما يعنينا في هذا المقام ـ لا تقام بشهادة الإمام، ويروي أن عمر الفاروق شهد رجلاً يزني فشاور علياً: ''ما قولك في أمير المؤمنين شهد رجلاً يزني'' قال علي ''عليه أن يأت بأربعة شهود أو يقام عليه الحد''، أي يقام حد القذف على أمير المؤمنين. كما أن علم القاضي ليس بحجة فيها، أما في السودان فقد أصبحت الحدود في عهد نميري هي ''القانون البطال'' الذي يبث به الحاكم الرعب، وانتهت في العهود التي تلته إلى أداة الحاكم الفاعلة للابتزاز والإذلال والإساءة للخصوم.
    على صعيد الجنوب لم يكن لقوانين سبتمبر صله مباشرة باندلاع الحرب، أولاً لأن القرارات السياسية المدمرة (الإلغاء الفعلي لقانون الحكم الذاتي الإقليمي)، والإجراءات الإدارية والعسكرية الخاطئة (نقل القوات الجنوبية للشمال) التي أشعلت الفتيل سبقت قوانين سبتمبر. ثانياً لأن تلك القوانين لم تمس الجنوب رغم انطباقها عليه نظرياً، باعتبار أن القانون لم يَعفِ أحداً من أهل السودان في الشمال والجنوب. على أن الهوس الذي صَحِب اندلاع الحرب من جديد (تصوير البيانات الرسمية للحرب باعتبارها حرباً ضد الكافرين، اتخاذ الجهاد في سبيل الله شعاراً للجيش، إضفاء طابع ديني على الجيش) أكسب الصراع، بالضرورة، بُعداً دينياً. لهذا لم يكن غريباً أن تطالب الحركة بإلغاء تلك القوانين وتجعل إلغاءها شرطاً من شروط إنهاء الحرب والمشاركة في الحكم، خاصة ولم يكن خيار الانفصال أو حتى حق تقرير المصير مطروحاً يومذاك بالنسبة للجنوب.
    وعلى سقوط نظام مايو أخذت المواقف تميل للتشدد لأسباب لا علاقة لها بالدين. فمن جانب إتخذ التجمع النقابي موقفاً معادياً للأخوان المسلمين (قبل أن يصبحوا جبهة قومية إسلامية) لا بسبب تأييدهم لقوانين سبتمبر وإنما لتأييدهم لنظام مايو في مرحلته الأخيرة ومن ثَمَ تحميلهم كل أوزار النظام. هذا الموقف دفع الاخوان للاستمساك بتلك القوانين تماكراً وكيداً ''إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً''. لهذا أصبح من العسير على السياسة الشمالية أن تتخذ موقــــفاً سيـــــاســــياً راشداً في قضية الدين والسياسة يأخذ في الاعتبار هموم غير المسلمين، كما يكفل المطامح المشروعة للمسلمين، على أن يكون ذلــــــك عبر القنوات الديمقراطية بحيث يكون القرار في النهاية معبراً عن إرادة الشعب تعبيراً حقيقياً.
    وعند توسد الإسلاميين السلطة ومباشرتهم الحوار مع الحركة الشعبية تقدموا بإقتراح لا يخلو من الجرأة ألا وهو استفتاء الشعب حول الشريعة، وكان ذلك رداً على قول الحركة أن تلك القوانين لم تصدر بإرادة شعبية بل أصدرها حاكم فرد.
    الحوار في هذا الشأن لم يقطع شوطاً بعيداً لعدم وصول الطرفين في المفاوضات الأولى التي دارت بينهما (خاصة في أديس أبابا ونيروبي في عام 1989) لاتفاق حول القضايا الأخرى المطروحة: الديمقراطية، حكومة الوحدة الوطنية الخ. وبانتقال الحوار إلى منابر أخرى (أبوجا ثم الايقاد) وطرح موضوع الانفصال كخيار (انشقاق رياك مشار وانشائه لحركة استقلال جنوب السودان)، ثم التقاء الجنوبيين جميعاً على حق تقرير المصير كحد أدنى لأي وفاق، أصبحت قضية قوانين سبتمبر أمراً غير ذي موضوع في رأي دعاة الانفصال، إلا أنها ظلت تؤرق بال الوحدويين في الحركة. تلك هي المرحلة التي ارتفعت فيها النبرة في الحديث عن علمانية الدولة إن كان للسودان أن يبقى موحداً بصفة دائمة، أو حتى خلال الفترة الانتقالية. ومنذ المفاوضات الأولى، اتضح أن ذلك أمر دونه خرط القتاد بالنسبة لمفاوضي الحكومة، خاصة وقد أصبح تعبير العلمانية تعبيراً رجيماً.
                  

08-12-2004, 10:21 AM

ahmed haneen
<aahmed haneen
تاريخ التسجيل: 11-20-2003
مجموع المشاركات: 7982

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الدين والسياسة .. زراعة الإحَن وحصاد المحن /د. منصور خالد (Re: ahmed haneen)

    فوق
    فـــــوق
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de