القداسة- محمد عبد الرحمن

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-10-2024, 12:36 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-08-2004, 01:26 PM

Amjad ibrahim
<aAmjad ibrahim
تاريخ التسجيل: 12-24-2002
مجموع المشاركات: 2933

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
القداسة- محمد عبد الرحمن


    سلام جميعا كتب الاخ و الصديق محمد عبدالرحمن عضو حركة القوى الجديدة الديمقراطية حق هذه الدراسة في وقت مضى من العام الماضي و ظلت حبيسة الايميل لوقت طويل، و بعد ان استشرته ارسلها اليكم كي تثروها بالاسئلة و الملاحظات.
    شخصيا اعتقد ان على الحركات العلمانية في السودان التعمق في دراسة التطرف الديني بدون مغالاة، و دراسة التاريخ بشكل موضوعي و تقديم الادلة العملية و المنطقية، فالصراع الاتي في السودان سيكون للدين و لفهم الدين اكبر اثر في ادارته خاصة بعد ان انفردت الجبهة الاسلامية عن طريق اتفاقها مع الحركة الشعبية بمقاليد الامور في الشمال وفق مفهوم متطرف و اقصائي للدين.
    لا اطيل عليكم و اليكم هذه الدراسة
    امجد


    القداسة

    لقد اختار كثير من المفكرين الإسلاميين التفريق بين الإسلام والفلسفة أي بين العقل والإلهام ، وقد أدى ذلك إلى دخول الحضارة الإسلامية في سبات فكري عميق لم تستفق منه . ولا يمكن تدارك ذلك التخلف اليوم إلا بإعادة نظر عميقة في الفكر الديني في الإسلام ، وإعادة صياغة محتواه بلغة العصر . وهذا يقودنا إلى التركيز على مصدر القوة الرئيسي في الإسلام ، ألا وهو تأكيده على روحانية الإنسان دون أن يؤدي ذلك إلى فصله عن العالم حوله . فبينما أكدت المسيحية على معاني الإلهام والروحانية الداخلية نجد الإسلام يؤكد على الروحانية الإنسان المنفعلة بعالمه المحيط . ونجد أبلغ تعبير عن هذا في التجربة روحانية الصوفية ، وهي تجربة دينية شخصية عميقة قد تكون غير قابلة للنقل ، ولكن مع ذلك يمكن أن تخضع للتحليل العقلي ، على الأقل عبر ثمارها .

    هل تنطبق ظاهرة القداسة وجدلياتها على الجبهة الإسلامية ؟

    لاشك أن الظاهرة الدينية ظاهرة متناقضة وبالقطع هي تسيطر علي شخصية أو اعتقاد مجتمعنا. وإذا كانت الشخصية ذات الثقافة الدينية هي الشخصية الغالبة في السودان حاليا، وخاصة بعد أن فرضت الجبهة الإسلامية المرجعية الإسلامية كمرجعية أساسية للسلوك السياسي،وبعد أن جعلت الثقافة الإسلامية ثقافة إجبارية لجيل بأكمله . ويخطئ فهم الظاهرة الدينية من يعتقد أن القداسة خاصية إلهية بحتة.ولذا وبمجرد تكوين حركة منظمة سواء كانت دينية أو فكرية أو سياسية،ينشأ نزاع حول اقتسام القداسة بين الناس أنفسهم. والتوزيع غير المتساوي للقداسة، إذا كان مشروعاً أن نتحدث هكذا، هو الذي يكوّن التراتبية الدينية التي تتحول في جميع الحالات تقريبا إلي تراتبية سياسية. ولذلك يمكن أن نقول ونحن مطمئنون ألي أن الزعامة الدينية قابلة قابلية مطلقة لتتحول إلي زعامة سياسية، بل ليست هي في واقع الأمر سوي زعامة سياسية تتخذ هيئة الانصراف عن الدنيا في نفس الوقت الذي تقبل عليها إقبالاً بالغ الشراهة.إن محاولة المنظرين الإسلاميين تصوير قداسة الخلافة الراشدة علي انه نموذج يتحتم علي الأمة أن تطارده حتى تنقطع أنفاسه دون أن تدركه أبداً ، وفي نفس الوقت فان هؤلاء المنظرين استصحبوا في تحليلهم مجموعتين متناقضتين من الافتراضات:فمن جهة كانوا يعتقدون مخلصين أن هذه الدنيا في فساد وتدهور أبدي ، ولن يظهر فيها قط أمثال أبي بكر وعمر وعلي، فضلاً عن خاتم النبيين(صلعهم).ولكنهم في نفس الوقت ظلوا يسهبون في توصيف وظيفي للخليفة المرتقب ،ويسبغون عليه صفات لا تكون إلا لقديس أو نبي . وقد خلق هذا تناقضاً بين الواقع و المثال أدي بالضرورة إلي نظرات مثل نظرة بن خلدون تميّزت بالتشاؤم والكفر بالمٌثل .

    أما ففي فكر الجبهة الإسلامية نجد شيئاً مفارقاً حيث كان الترابي يريد أن يكون مجدداً بالمعايير التي حددها أبو الأعلى المودودي وربما أراد أن يكون رجل المائة عام يحيي السنة . ويرى المودودي أن المجدد قد يشتغل بواحد أو أكثر من تسعة أبعاد لتجديد الإسلام :-

    1- تشخيص العلل القائمة .

    2- خطة للإصلاح .

    3- تقدير المرء لما عنده من جوانب بالقصور أو القدرة .

    4-انقلاب فكري .

    5- إصلاحات علمية .

    6- الاجتهاد في الدين .

    7- الدفاع عن الإسلام .

    8- إحياء النظام الإسلامي .

    9- الانقلاب العالمي .

    والمجدد المثالي في مفهوم المودودي هو الذي يحقق الأهداف التسعة .. وهو سوف يظهر باسم الإمام المهدي ، الذي بشرت به الأحاديث النبوية .

    وفي نظر المودودي أن المهدي المنتظر ذي مواهب عقلية وروحية يحقق بها مهمته الثورية ليقيم "خلافة" على منوال النبوّة . كما يرى أن المهدي لا يصنع الخوارق ولن يعلن عن نفسه ، وإنما سيعرفه الناس بإنجازاته . ومفهوم المجدد أو المهدي أو المرشد تطرح مشكلة القيادة للتيارات والحركات الإسلامية : فهي قد أضحت مركز اهتمام كل المنظمات والكيانات الإسلامية حيث كل واحدة وضعت لنفسها "تصوراً" عن القيادة علي أساس الانتفاء من الصفات والشروط الضرورية للمهدي ، كما يقول هرير دكميجان – أستاذ العلوم السياسية في جامعة نيويورك: ( وإمعاناً في فكرة المجدد أو المهدي نجد أنفسنا هنا أمام احتكار كلي للمقدس ). فالترابي يختلف عن الأحزاب التقليدية في تأصيل قداسته بالآتي :-

    1- اجتنب الترابي أو الجبهة مصطلحات أصلية في التقاليد الإسلامية مثل الإمارة والإمامة والإرشاد وآثر مصطلحاً أقرب إلى التقاليد الديمقراطية مثل الأمانة والمسئولية والقيادة .

    2- يردد الترابي دائماً : ( إن الجماعة – الأخوان لم تنشأ عن مبادرة شيخ فرد متقدم بكسبه الديني أو التاريخي على الآخرين يقوم فيهم مرجعاً للتوجيه مغنياً عن توسيع القيادة وتركيب التنظيم ولو إلى حين) .

    3- إن الجبهة الإسلامية لم تنسى ولم يفوتها ما أوصى به ميكافيللي أميره أن لا يتجاهل أهمية عامل الدين في السيطرة على شعبه ، وبما أن الجبهة انتهجت الخطاب الديني علي قاعدة التكوين الطائفي ، ووفقاً لذلك يضع الجبهة محل الطائفية الجديدة . وكما قال د. برهان غليون : ( أين استخدم ما تبقى من العصبية الماضية في سبيل تحقيق أهداف مادية دنيوية لا علاقة لها بالدين أو برفعة سمعة هذا المذهب أو ذاك .

    4- وتحت السطح نجد هناك تنافس كان يدور بين قاعدة الأنصار – الصادق المهدي الثابتة ، والجبهة . وبذلك يحاول الترابي أن يقود قاعدة إسلامية متحركة من المحلية إلى العالمية .. وهي قاعدة ترى أن من أولى واجباتها أن تتحرك في اتجاه استقطاب القاعدة الثابتة تحت دعوى "وحدة" الحركة الإسلامية ووحدة هدفها .فالصادق المهدي يتحرك في اتجاه القيادة دون كثير جلبة حول "عالمية" المهدية وان كان يعتقد أيضاً أن التجديد يأخذ شكل الانبعاث والصحوة علي قاعدة حركة إنقاذ من الممكن أن تأخذ طابعاً فكرياً.فقد جاء في مؤلفه "يسألونك عن المهدية" فقرة تقول:-

    (وأحياناً تأخذ حركة الإنقاذ الفكري طابعاً فردياً حيث يقوم في معمعان النزاع عملاق يجمع أطراف النزاع ويقوم حلاً توفيقياً علي مستوي اعلي من اتحاد الفكر. هؤلاء العمالقة يستجيب الواحد منهم لحاجة جماعية عميقة ويتحدث بالمنطق السائد في زمانه و بتعبيرات المعارف المتاحة له الرائجة في ذلك الزمان ومن صفات هؤلاء العمالقة أن الواحد منهم يفوق أقرانه بقوة مستمدة من يقينه بأنه ملهم ).

    هل للطائفية والصوفية أن تندثر ، ويحل محلها النظام الموجود الحين ؟

    في مقالات للدكتور عبدالوهاب الأفندي "مارس 1998م" قد تعرض للرد فقال :-

    "والأمر لا يعدو أن يكون أحد اثنين ، إما أن تكون الطائفية قد اندثرت فعلاً ، وخلفتها في قلوب الشعب وولائه الرموز الثورية الجديدة ، "أو أن يكون الأمر بالعكس". أما إذا كانت الطائفية لا تزال هي القوة الأعظم ، فالأمر لا يعدو واحد من بديلين: إما أن هذا الأمر سيستمر ، وان الحكومة لا زيادة لها في سندها الشعبي ، أو أن نفوذ الطائفية سيتضاءل وأنصار الحكومة سيتكاثرون . ففي كلا الحالين فإن الصدام مع المعارضة ذات الدعم الشعبي الواسع لن يكون من المصلحة ، فإذا كانت الحكومة تري أنصارها و سندها إلي زوال ، فمن الحكمة استمالة من سيكون بيدهم الأمر في المستقبل والاجتهاد في كسب ودهم ".و هذا فعلاً ما نشاهده الآن وما يحدث علي الساحة.

    والمتابع الآن إلي الأحداث في البلاد يري أن الشعب قد اتجه بالرفض لتجديد الترابي ، والدليل علي ذلك التفاف الشعب الكامل حول الصوفية ومحاولته الاستناد علي "بركات" الشيوخ والصالحين في تحقيق المعجزات، كرد فعل معاكس ، ورفضاً لما جاء به الترابي ،وفشله في التجديد الذي حاول به ضرب الصوفية باحتوائها ..وذلك يشبه بما حدث في شرق أوروبا وخصوصاً في بولندا عندما حاولت الماركسية إجبار هذه الشعوب علي الابتعاد عن معتقداتهم ، فقد كان رد الفعل كره هذه الشعوب لذاك المد، مما أدي إلي الالتفاف حول الكنيسة وبالتالي هزيمة الماركسية.

    موقف ابن خلدون من وضع الدين في النشاط السياسي :-*(1)

    قبل أن نبدأ في وصف فكرة ابن خلدون عن دور الدين في الدولة ، لا بد لنا أن نطرح فكرته الكاملة عن الوضع السياسي ، وخلفيته عنها ، حيث نجد ابن خلدون عاش في عهد كان الحاكم مهتماً بالسلطة أساساً ويتجه إلى خدمة المصلحة العامة كوسيلة للبقاء في الحكم . فقد اكتشف ابن خلدون أن الناس كانوا يتعرضون للقسوة والظلم باسم كل أنواع المثاليات والأفكار ، فسعى للكشف عن السبب الكامل وراء هذا الوضع . وقد عثر على ضالته فيما أسماه الأسباب "الطبيعية" أو الاجتماعية . فالمجتمع الإنساني الذي يقوم على الأسرة الممتدة أو العشيرة يتجه ضرورة إلى إنشاء وحدات اجتماعية تقوم على العصبية (أي التماسك العشائري) ، والعصبية هي الرباط الذي يحفظ التماسك للوحدات الاجتماعية فيشكِّل من ثمَّ أساس السلطة السياسية . والعصبية المقصودة هي عصبية النسب الطبيعي "أو في ما معناه" أي اعتقاد وجود هنا النسب أو قيام حلف أو ولاء يقوم مقامه ويشبهه.

    يرى ابن خلدون أن السلطة السياسية ضرورة لإدارة شئون المجتمع والمحافظة على نظامه ويتولاها بالضرورة أقوى فرد أو مجموعة في ذلك المجتمع . وتختلف السلطة السياسية الرسمية (الدولة أو الملك حسب تعبير ابن خلدون) عن السلطة العرقية "الرياسة" : إذ أن الأولى تكون على مستوى أعلى وتشتمل على القهر ضرورة . ولكن الملك هو الغاية التي تنتهي إليها كل عصبية حتماً ، لأن العصبيات المتجاورة ، إما أن تتقاتل وتتمزق وإما أن تدخل في حكم عصبية غالبة . وهكذا نجد نسقاً مضطرداً في الوجود الإنساني ، حيث يميل الأفراد للتلاحم في مجموعات تقوم على النسب ، وتتبع في ذلك زعيماً قبلياً تكون عشيرته هي الأقوى والأرفع مكانةً في القبيلة ، وهذا بدوره يفضي إلى قيام الدولة القاهرة التي تتزعمها أقوى العشائر ، وتتجه الدولة بالضرورة للتوسع وضم الأقاليم والجماعات الأضعف إلى سلطانها . وهذا التوسع تحكمه قوة العصبية المؤسسة للدولة ، فالدول "العامة الاستيلاء" (أي الإمبراطوريات تحتاج إلى عصبية غالبة) . كما أنها تحتاج إلى أيديولوجية موحدة ، هي الدين أو دعوة الحق . وأخيراً فإن الدولة لا بد أن تواجه ضرورة عوامل التآكل ثم الانهيار حيث تحل محلها دولة جديدة أكثر شباباً وحيوية غالباً ما تنشأ على يد مجموعة بدوية .

    يفنِّد ابن خلدون المفهوم التقليدي الذي روَّجه الفلاسفة والعلماء المسلمون والذي يرى في الدين (أو بتعبير أدق ، الدين القويم الناشئ عن وحي سماوي) أساس النظام الاجتماعي والدولة ، ويحتج في ذلك بأن أغلب المجتمعات الإنسانية خبرت السلطة والدولة بينما لا تتبع إلا القليل منها أدياناً سماوية . فالدولة تنشأ نشأة طبيعية من الواقع الاجتماعي لأن المجتمع يتعرض ضرورة للتفتت إذ لم تقم فيه سلطة مركزية غالبة . وأكثر أنواع الحكم بدائيةً هو الملك الطبيعي القائم على القوة المجردة ، بينما نجد مستوى أعلى من هذا هو المُلك السياسي القائم على العقلانية لتحقيق المصلحة العامة ، وينقسم هذا بدوره إلى :-

    أ‌- يكون الحاكم فيه مهتماً بالسلطة أساساً ويتجه إلى خدمة المصلحة العامة كوسيلة للبقاء في الحكم .

    ب‌- يهتم فيه الحاكم بالمصلحة العامة أساساً ويراعي مصلحته في هذا الإطار .

    ت‌-الخلافة أو الإمامة ، وهي سلطة تقوم على الشرع الإلهي وتسعى للجمع بين المصلحة الدنيوية والأخروية للعباد . فتكون الدولة بهذا المفهوم مؤسسة تعاونية لتحقيق المصالح الدينية والدنيوية .

    ونجد رأي ابن خلدون المتذبذب حول علاقة الدين والدولة حيث أنه ذكر حتى الأنبياء لا يمكنهم الاستغناء عن العصبية إذا أرادوا لدعوتهم النجاح ، إذ أن أي دعوة لن تجد قبولاً واسعاً ما لم تدعمها القوة . والعصبية هي المصدر الوحيد للقوة الاجتماعية . هذا وقد انتقد ابن خلدون على أولئك الذين يعتقدون أن القيمة الأخلاقية الذاتية لدعوتهم وصدقها كافٍ في حد ذاته لتأمين الإتباع الواسع لها . ويدلل على ذلك بالمصير الفاجع لكثير من المصلحين الذين تصدوا لمقاومة الظلم والانحراف بدون أن يتأكدوا من تأمين الدعم الضروري الذي لا يتأتى إلا بالعصبية ، فكان مصيرهم الفشل والهلاك .

    ونجد ابن خلدون من جهة أخرى يعترف بدور خاص للدين في تقوية ودعم الدولة ، وذلك حين يقول : ( إن فرض حكم الدولة على البدو لا يتأتى إلا بالاستعانة بالدين والإقناع الذي يمثله ، فأهل هذه المجتمعات البدوية التي فلتت من كل سلطة لا يسهل انقيادهم للسلطة إلا إذا تولى إقناعهم بذلك نبي أو ولي يرضونه) . ولذلك تقوم الإمبراطوريات العظيمة إلا على أساس دعوة دينية أو دعوة حق وقضية عادلة كما سبقت الإشارة . ورجع ذلك أن الإمبراطوريات يتطلب تماسكاً زائداً في الدولة المتوسعة يجعلها تتفوق على الدولة المنافسة وتخضعها . ومثل هذه القوة لا تتأتى إلا عبر رابطة دينية توحِّد القلوب وتجمع الأمة على هدف واحد . ومن هذا المنطلق فإن الوازع الديني يدعم ويقوي العصبية . وبذلك أرى هنا المنحى الميكافيللي واضحاً وقوياً . فالدين والقضايا العادلة تخدم وتدعم القوة التي تولدها العصبية .

    الاستنتاج :-

    لقد لخص الدكتور عبدالوهاب الأفندي رأيه الواضح في كتابه الإسلام والدولة الحديثة في الآتي :-

    في غزوة تبوك للذين ترددوا في الانضمام إلى هذه الغزوة الشاقة بعدم المشاركة في أي عمل عسكري (قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين) الآية 53 سورة التوبة ، والآية 83 من نفس السورة (فإن رجّعكَ الله إلى طائفةٍ منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوّاً إنّكُم رضِيتم بالقُعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) . ونجد تلك المعاملة تتميز عن الوسائل التقليدية التي تستخدمها الدولة لفرض سلطتها ، والتي تعتمد على الحوافز والعقوبات المادية .

    1- وإذا نظرنا إلى مجتمع المدينة وتكوينه آن ذاك ، نجد أنه تأسس على تحالف بين المسلمين واليهود . يبدأ ابن خلدون من الافتراض بضرورة البحث عن قوانين أساسية عامة تحكم العلاقات الإنسانية بدون الالتفات إلى الافتراضات الأخلاقية التي تعكِّر الرؤية العلمية الصحيحة وتعوقها .

    2- ينتهي بالاستنتاجات المتجردة من الاعتبارات الأخلاقية . فبعد أن يشرح لنا ابن خلدون أصل السلطة السياسية وأن أساسها هو القوة الطبيعية ينتهي ببساطة بمحاولة إقناعنا بأن الحق للقوة ، وأن أي محاولة قهر القوة المجردة باسم الحق والعدل مكتوب عليها الفشل الحتمي . لأن الحق والعدل لوحدهما عاجزان بمفردهما عن توليد قوة تقف في وجه طغيان القوة الغاشمة.

    3- مثل هذه النظرية المتشائمة للطبيعة الإنسانية كانت عاملاً مهماً في تبرير السلبية الشاملة تجاه التحلل والظلم المتفشي اللذين عمَّا العالم الإسلامي وقتها . ذلك الاعتقاد بأن القوة المجردة الغاشمة لن تغلبها إلا قوة مجردة مثلها ، وأن الحق عاجز عن تجميع البشر حوله وتوحيدهم .

    4- ويستطرد الكاتب بصفحات أخرى ليواصل خلافه مع واقعية ابن خلدون التي سعت مثل "واقعية" هوبز وميكافيللي كما يُبنى إلى إيجاد كل عزر للطغيان والاستبداد . فبينما نجد أن النظرية الإسلامية التقليدية تجد العذر للطغيان من منظور عقائدي (بدعوى أن الأجيال التي تلي العهد النبوي مقصرة بالضرورة عن ذلك النموذج) ، نجد ابن خلدون ومن تبعه يحاولون إيجاد مبرر "علمي" يقنعنا بأن الاستبداد والسلطة ضرورتان متلازمتان لا بديل لهما إلا الفوضى .

    النظام السياسي في عهد الرسول :-

    لم يواجه المسلمون قضية الدولة بصورة مباشرة إلا بعد وفاة الرسول (ص) . ذلك أن النظام السياسي الذي أقامه الرسول (ص) لم يعتمد على القهر ، وقد كانت العضوية (بما تحتويه من مخاطر كبيرة للعضو) :-

    1-الطوعية (مثل الانضمام للغزوات والسرايا ودفع الزكاة) .

    2- لم تكن للدولة آلية لفرض المساهمات أعلاه .

    فإننا نجد في عهد الرسول التعامل مع بعض المشاكل وحلها على أساس الوازع الأخلاقي كما حدث فالوظيفة القضائية اعتمدت آنذاك على الوازع المعنوي بدلاً من القهر ، وعليه كان الرسول يحكم بين فئات ذلك المجتمع فيما يدخل فيه من شجار وخلاف (فلا وربُك لا يٌؤمنون حتى يحكّمونك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) سورة النساء "الآية 65". ونجد في هذه الآية دليلاً واضحاً على احتكام غير المسلمين إلى الرسول (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم، وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً ، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط والله يحب المقسطين. وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين).

    نجد هذا الوضع اختلف بعد وفاة الرسول (ص) بصورة جذرية ، حيث لم يكن هناك شخصية تتمتع بما له من كلمة ونفوذ ، مما جعل إقامة دولة تقليدية واقعاً لا مفر منه .

    مشكلة الإسلاميين بعد انقطاع الوحي عن الرسول (ص) والنظرية السياسية التقليدية :-

    لقد ظلت مؤسسة الخلافة التي يعود أصلها إلى تلك التجربة المبكرة مثاراً للخلاف منذ ذلك الحين ، حيث أثارت الخيارات التي اتخذها السلف وهم يتلمسون خطاهم بعد غياب الرسول وانقطاع الوحي أسئلة كثيرة وما تزال . وكان أول سؤال هو من الذي سيقوم مقام الرسول بعد غيابه ؟

    لقد كان انتخاب أبوبكر الصديق في أنه أفضل المسلمين وأقربهم إليه بمثابة الرفض والانتقاد لبعض المعارضين الذين تمردوا على السلطة الجديدة ورفضهم منحها ليست ضريبة كما يظهر من اسمها ، فريضة دينية أساسها تطهير المسلم لنفسه . وقد كان الرسول أو من ينوب عنه يتولى جمعها وتوزيعها على المحتاجين حسب نظام يبدأ بسد الاحتياجات المحلية في الناحية التي جُمعت فيها الزكاة ثم يحول الفائض بعد ذلك إلى المحتاجين في بقية الأقاليم . ويجوز استخدام الزكاة لسد الاحتياجات العامة ، مثل تزويد المقاتلين وبناء المساجد وما إلى ذلك . ولهذا لم يكن من المخالف لتعاليم الإسلام أن تتولى قبيلة أو مدينه جمع الزكاة وتوزيعها محلياً ما دامت الأسس القرآنية تراعى في الجمع والتوزيع . ولكن قيام مشكلتين مهمتين أدى إلى ألا يكون هذا الرأي مجرّد اجتهاد مشروع :-

    أ‌- لان الرافضين لدفع الزكاة لم يكونوا علماء مجتهدين مخالفون غيرهم في رأي محدد بل كان أغلب من تولّى كبر هذا التمرد جماعات من القبائل البدوية التي كان التزامها بالإسلام هشاً علي افضل تقدير.

    ب‌- لقد قدَّر قادة الجماعة وقتها أن هذا الرأي مبعثه الأنانية وضعف الأيمان وليس اجتهاداً مخلصاً في أمور الدين .

    و بذلك نجد أن ذاك التفسير وجد ترحيباً واسعاً من الرعيل الأول من المسلمين الذين التفوا حوله بحماس ، ووجدوا في قيادة أب بكر الطمأنينة والعد باستمرارية عهد الرسول . وقد ساعدت قوة الدفع التي جاءت من الالتزام العميق والواسع بمثاليات الإسلام علي جعل هذه الصيغة فعّالة في تلك السنوات الأولي .

    و مهما كان فقد أدرك هؤلاء بأن أبابكر لم يكن الرسول، وقد ذكّر المسلمين حينها "وليت عليكم ولست بخيركم ..وإنما أنا متَّبع ولست بمبتدع ..فإن أصبت فأعينوني وإن أخطأت فقوموني"، وبَدَى أن هذه العبارة كانت بمثابة جزءاً من دستور الدولة الجديدة .

    ففي العهد النبوي لم يكن هناك مجال لتقويم القائد أو مراقبته للتأكد أنه لم يكن يخطي . ولكن الوضع الجديد اختلف ، حيث اصبح من واجب البشر أنفسهم التأكد من الممارسة السياسية تنسجم مع الهداية الإلهية والقيم التي جاء بها الوحي. والسؤال يطرح نفسه ما هي الجهة التي تحدد ما يطابق الشرع وما يخالفه ، وتقَّوم الحاكم المخطئ إن أصاب ؟ .

    ومن الواضح أن هذه الجهة لا يمكن أن تكون الخليفة نفسه ، إِذ أنه كان هو الذي طلب العون والتقويم . ولكننا يجب أن نذّكر أن أبابكر :-
    1-لم يقبل رأي واجتهاد مانعي الزكاة ، كما انه لم يقبل نصيحة قادة الأمة الذين حذروه من قتالهم.

    2-هذا يشير إلي أن الخليفة كان يحكّم ضميره فوق كل شئ ، ويرى أن ضميره واعتقاده الصادق هو المرجع الأخير لحسم أي خلاف حول أقوم المسالك وأفضل السياسات ، صحيح أن الخليفة كان يستشير كبار الصحابة أمثال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهم . لكن الخليفة كان الفكرة المركزية التي حكمت المنظومة السياسية الجديدة، ومرجع حين يتعلق الأمر بتفسير مقتضى العقيدة ومنطوق الشرع والقانون.

    هذا السمو والارتفاع الذي القيادة السياسية علي عهدي أبي بكر وعمر بن الخطاب ما كان يمكن أن يتكرر مهما قاربه من أتى بعد الرسول.

    وبهذا نجد أن فكرة تولى السلطة اصبح واجباً بأن يتولاه بالضرورة شخص واحد (حيث لا مكان لقيادة جماعية أو تعددية بحسب الأقاليم). ويجب أن يكون الخليفة أفضل المسلمين و اعدَّ لهم وأكثرهم كفاءة ، بالإضافة إلي كونه ذكراً قرشياً النسب. وأن خلعه لا يجوز حتى وإن ارتكب مخالفات قانونية واضحة ، و لا يخلع إلا إذا ظهر منه كفر بوَّاح .وقد ظهرا هذا جلياً في تنظير علماء مثل الماوردي والغزالي حيث يجب تحمل الحكم الظالم بل والاعتراف به ، فلو لم نعترف بشرعية الحاكم المستبد لانهار الأساس القانوني للحياة الاجتماعية والروحية للامة الإسلامية . ففي رأي هؤلاء فإن الدولة تستمد شرعيتها من الحاكم ، ولذلك إذا انتفت شرعية الدولة بطلت كل المعاملات حتى الزكاة والصلاة أيضاً .

    فالمشكلة لا تتوقف فيما ذكرنا سابقاً ،ولكن تستمر لتشمل الخلل الكبير في النظرية التقليدية والخلط بما هو أخلاقي وما هو واقعي ، وتلبيس الوقائع لباس المثال ، حتى أصبح النقاش حول القضايا السياسية يتحول إلي المسائل العقائدية . فقد نشأت مدارس كثيرة في تحويل بعض الأسئلة السياسية إلي أسئلة عقائدية كمدرسة المعتزلة ، والتي تعتبر من رواد العقلانية في الإسلام . لكن أدت هذه المدارس في النهاية إلي حجب القضية الأساسية وراء غيوم التهويمات الفلسفية واللاهوتية ، لم يساعد علي تناولها موضوعياً .

    نجد أن النظرية التقليدية تأثرت تأثراً ملموساً بالمدرسة الشيعية التي كانت تري الخليفة بمثابة نائب الرسول . ولم تحالف المدرسة السنية التقليدية ذلك الرأي ، وإن استبعدت العصمة ، فهي تري الحاكم أن يكون أتقي وأعدل وأشجع وأعلم وأفضل المسلمين … الخ . ولكن هذه المؤهلات والصفات المذكورة مثل التقوى والفضيلة من الصعب تحديدها موضوعياً .

    ولذلك السؤال يطرح نفسه إذا كان الخليفة بهذه الصفات كلها ، فكيف للامة أن تحاسبه وهم أقل منه علماً وتقوي ؟ . أي يبقي ذلك النموذج رمزاً للنموذج النبوي القيادي حتى وإن احتله مغتصب ، مما وسع الهوة بين المثال والواقع إلي درجة جعلت النظرية تفتقد الجدية .

    والجدير بالذكر أن ابن خلدون اقترب من هذا المنهج وحاول تعديله ولكنه لم يستطع ، بل احتفظ بها كما هي .

    ونجد أن تلك النظرية التقليدية لم يكن لها موقف وخطوات واضحة للتعامل مع الطغاة وإزالتهم من مناصبهم ، وحتى الذين رفضوا التقويم والنصح كعبد الملك بن مروان عندما استولي الحجاج بن يوسف علي مكة وقتل عبد الله بن الزبير فقال وقتها عبد الملك :-

    "إنكم تكلفوننا أعمال الأوائل ولا تسيرون سيرتهم ، و الله لا أسمع رجلاً يقول لي أتق الله إِلا ضربت عنقه" .

    لذلك نجد الجهد الذي تم لتأسيس نظرية الخلافة و ترسيم أسسها طال للأسف الشكل فقط ولم ينفذ إلي المضمون . فحتى حين وضعت هذه النظرية في إطار قانوني ، نجدها افترضت خطا في البشر الكمال والقداسة(و خاصة في الحكام الذين هم عادة أبعد البشر عن سلوك القديسين) .

    وقد أدى كل هذا الخلط لأن تعيش الأمة دوماً في انتظار ذلك الإمام المهدي الذي يجمع في شخصه بين القوة والقداسة والتقوى .

    علي عبد الرزاق وقضية الخلافة :-

    قام عالم الأزهر المصري الشيخ علي عبد الرزاق (1887-1966) بنشر كتابه "الإسلام و أصول الحكم" في أواخر 1925 . وكان الشيخ قد رفض في كتابه هذا الاعتراف لمؤسسة الخلافة بأي اصل في الممارسة الدستورية الإسلامية وقد احتج برأيه علي أربع نقاط :-

    1- أن الرسول (ص) لم ينشئ دولة وكانت سلطته روحية لا غير .

    2- الإسلام لم يحدد نظاماً معيناً للحكم ويمكن للمسلمين أن يختاروا أي نظام حكم يرونه مقبولاً.

    3- كل أنظمة الحكم التي نشأت بعد وفاة الرسول بما فيها خلافة أبي بكر والخلافة الراشدة لم تتم علي اصل ديني ، وإنما كانت مؤسسات إرتجلها العرب في ذلك الوقت لتسيير شئونهم ، وإطلاق اسم "الخلافة" عليها قصد به إضفاء شرعية دينية علي هذه المؤسسات .

    4- هذا النظام هو أصل البلاء في العالم الإسلامي لأنه استخدم لتبرير

    *(3)الاستبداد وفرض الانحطاط علي المسلمين

    *(4) وقد ناقش الكتاب نقطتان محوريتان :-

    أ‌-أن نظام الخلافة التقليدي لم يكن بعينه فرضاً واجباً كما انه لم يستند علي نصوص أو متطلبات شرعية قطعية ، وعليه فإن المسلمين أحرار لو شاءوا اختيار بديل آخر له رأوا أنه الاصلح.

    ب‌- إن الشريعة الإسلامية لم تحتوي علي أي موجهات سياسية ، وأنها تركت المسلمين أحراراً ليحددوا ما يرونه مناسباً لهم من أحكام وقيم في أمورهم الدنيوية عموماً والسياسية خاصة .

    *(5 ) أبو الأعلى المودودي والنظرية التقليدية :-

    لقد سعي المودودي لتقديم إجابات واضحة وقاطعة للمسائل التي تثيرها نشأة الدولة الحديثة من منظور إسلامي فقد تعرض المؤلف إلي:-

    1- تعريف الدولة الإسلامية الحقيقية هي عبارة عن عملية عبادة جماعية تضطلع بها الأمة الإسلامية وترتكز علي مفهوم خلافة الإنسان في الأرض . فالإنسان خليفة الله تعالي هو صاحب السيادة في المجتمع السياسي الإسلامي الذي يتساوى فيه أفراد الأمة في المسئولية في إدارة الدولة .ويمكن إطلاق تعبير ال " “theodemocracy علي مثل هذه ، باعتبارها دولة ديمقراطية يحكمها القانون الإلهي .

    2- الهدف الأساسي لهذه الدولة الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل وسيلة ممكنة . وقد استنتج المودودي من هذا أن الدولة الإسلامية لابد أن تكون شمولية ، أقرب عنصر لها هو الدول الشيوعية أو الفاشية .

    3- هذه الدولة أيضاً دولة أيديولوجية بمعني أن حق المواطنة فيها يقوم علي العقيدة و لا ينظر إلي جنس أو قومية المواطن فيها أو طبقته .

    4- وقد زاد المودودي فأعاد تأكيد النظرية متطلبات النظرية الإسلامية التقليدية كأساس للدولة الجديدة . فالحاكم في هذه الدولة لابد أن يكون شخصاً فرداً هو أعدل المسلمين وأتقاهم ، ويتولى منصب الخلافة . و يعاون الخليفة في أداء مهامه مجلس استشاري ولكن للخليفة حق رفض مشورة المجلس حتى وإن كان ذلك رأي أغلبية الأعضاء ،وليس للمجلس ولا للامة بكاملها أن تعارض أي قرار يتخذه الخليفة ، ولكن يحق للامة أن تخلع الخليفة إذا فقد ثقتها .

    5- الدولة الإسلامية بهذا المعنى هي المرحلة النهائية في خلق المجتمع الفاضل ، فالدولة لا تكون إلا انعكاساً للأوضاع الاجتماعية التي عنها تنشأ .

    6- لخلق هذا المجتمع لابد أن تقوم نواة من الأفراد الملتزمين لقيم الإسلام وأن يناضل هؤلاء ويجتهدوا لكي تعلوا هذه القيم في المجتمع بأكمله ،وهكذا يتم وضع الأساس للدولة الإسلامية .

    7- ومثل هذه الدولة تخالف الدول الأخرى التي يخضع فيها الإنسان لإنسان مثله(إما مباشرة عن طريق الاستبداد ، أو بطريق غير مباشر عبر الخضوع لقوانين ونظريات وأيديولوجيات من صياغة البشر) ، وذلك لأنها لا تعترف بسيادة إلا لله سبحانه وتعالى .

    فإننا نجد في عرض المودودي لهذه المفاهيم تناقض واضح لثلاث مفاهيم :-

    فهناك سيادة عليا لله تعالى (الترجمة العملية في هذه الحالة لهذا المفهوم هي السيادة للشرع أو القانون) .

    · سيادة أخرى للامة .

    · سيادة للخليفة .

    فبما أن لاوجود للقانون إلا الخليفة أو الأمة ممثلة بمجلسها ، فإن هذه الصيغة المقترحة تحيل السيادة للخليفة منفرداً ، مما جعل من سلطته بها سطوة و جبروت عبر ممثليها أو عبر مؤسساتها من قضاء وغيرها .

    أ‌- أما منهج المودودي في تولي الدولة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تتحول الدولة إلي سلطة شمولية تتدخل في أخص شئون الأفراد ، مما يعارض الطبيعة الديمقراطية التي عزاها لها المفكر .

    ب- وهناك مشكلة أخري نتجت عن الافتراضية المتلازمة حول ضرورة أن يكون الحاكم ديكتاتوراً يتمتع بالتقوى وأن تكون الدولة واقعة تحت سلطان أمة هي مجتمع فاضل تعريفاً .

    ج- فبالإضافة إلي صعوبة تحديد الصفات المتعلقة بالتقوى والفضيلة موضوعياً ، نجد أن الحركات الإسلامية الحديثة تعتبر نفسها عملياً التجسيد الحي للتقوى والصلاح _ هذا الاعتقاد الذي أقترن أيضاً بالتشاؤم حيال المسلمين مما خلق هزة عميقة بين هذه الجماعات والمسلمين .

    د- إن هذا التعالي خلق ردة فعل معاكسة لدي هذه الجماهير وعضد النظرة التشاؤمية لدي هذه الجماعات تجاه العامة بسبب رفضها للجماعات الإسلامية .

    محاولات المعالجة :-

    قد بدأت بعض الحركات في محاولة لمعالجة هذا المفهوم كما حدث في حركة الأخوان المسلمين في السودان في الستينيات والسبعينيات ، لتتبناه الحركات الأخرى .فقد وضح في كتابات حسن الترابي ، فهو تناول المشكلة من منظور منهجي . فقد رأي أن الدولة تمثل مبدأ تشريعياً مهماً في القانون الإسلامي وتقترن في ذلك بالإجماع كواحد من أسس التشريع الإسلامي ، كما دل علي ذلك بالتالي :-

    1- اعتبار العلماء ممارسة الدولة علي عهد الخلافة الراشدة بمثابة سوابق قانونية .

    2- أن قرارات الحاكم في أمور عهد الخلافة الراشدة بمثابة سوابق قانونية .

    3- أن قرارات في أمور كثيرة اعتبرت لتحديد منطوق القانون .

    4- وقد زاد الترابي ورفض المفهوم التقليدي للإجماع (والذي أكد عليه المودودي) ، والذي يرى الإجماع المقصود هو إجماع الصحابة أو إجماع علماء الدين ورأى بالمقابل أي الإجماع الملزم هو إجماع غالبية المسلمين (الرأي العام لجمهور المسلمين) في أي وقت معلوم .

    5- يقتصر دور العلماء وغيرهم من الخبراء المتخصصين في شتي ضروب العلم علي تنوير الرأي العام في شتي مجالات تخصصهم . ولكن الرأي العام المستنير هو الحكم في شئون الأمة لا رأى القلة من المتخصصين .

    6- حقيقة أن مذهب المعتبرة والمستندة لدي جمهور المسلمين لم تفرضها سلطة سياسية ولا رأى حفنة من العلماء ، وإنما اختارها العامة اختياراً حراً ، مما يعني أن رأى الجمهور هو الفيصل في تحديد الإجماع .

    7- ومن ذلك يرى الترابي أن الحكومة الإسلامية يجب أن يقع اختيارها من قبل الشعب وبناء علي الإرادة الحرة لأغلبية المسلمين . فإذا تم انتخاب الحكومة بناء علي هذا المبدأ فيما يتعلق بتفسير القانون نفسه ، وتصبح هذه الخيارات جزءاً من الشريعة .*(6)

    ويذهب الغنوشي أبعد من ذلك حيث يرى :-*(8 )

    أ‌- أن الحركة الإسلامية لا يصح اعتبارها تجسيداً للمجتمع الفاضل ، بل لا تعدو أن تكون واحدة من القوى المؤثرة في إطار الدولة الديمقراطية . (الترابي يرى أن الحركة الإسلامية بمثابة القائم والقيَّم علي قيم الإسلام والشريعة في إطار الدولة الإسلامية ) .

    ب‌- يرفض الغنوشي رؤية الترابي أعلاه والذي تصدت له الحركات الإسلامية بعد غياب الخلافة ، حيث يرى أن الحركة الإسلامية في نظره لا تملك احتكار تفسير الإسلام ولا حق إملاء القيم التي يلتزمها المجتمع – فهذه الحركة مجرد حزب سياسي آخر يطرح برنامجه علي الجماهير التي عليها وحدها أن تختار في أي برنامج أو حزب ترَّجح .

    ج- يرى الغنوشي أن الحركات الإسلامية ليست وصية علي الشعب ولا قيّمة عليه وكل ما يحق لها هو أن تدعو الناس إلي برنامج بالتي هي أحسن وتجتهد في إقناعهم . فإذا رفضوا القبول بالبرنامج الذي تطرحه فغن هذا شأنهم . عكس ما يطرحه المودودي وغيره من الإسلاميين .

    محاولات الإصلاح في العالم الإسلامي الشيعي :-

    أود قبلا البدء في سرد وتحليل الثورة الإيرانية أن أوضح لماذا تطرقت إلي الثور ة الإيرانية ؟ .

    إنه في الحقيقة محاولة مني لمقارنتها بالنظام السائد في السودان كنموذج قد برز وما زال يشبه النظام الإيراني في بروز الشخصية الكارزمية والقداسة وانتظار المهدي المنتظر . وكما ذكرت سابقاً محاولة الترابي ومريدي الحكم التقمص والظهور بهذه الشخصية .

    لقد ظلت محاولات الإصلاح عند الشيعة مستمرة منذ جمال الدين الأفغاني والذي تمكن في فرض وصاية المجلس الأعلى الشيعي علي مراجعة كل تشريع يصدره البرلمان ، بعد الاستنفار الذي قاده علماء الشيعة لقرار الشاه ناصر الدين منح احتكار شراء التبغ الإيراني لشركة بريطانية .

    بالرغم من هذا النشاط فإن الفكر الشيعي ظل عاطلاً من أي أسس فكرية تسند هذه النشاطات الإصلاحية التي كانت ارتجالية في الغالب – ذلك أن الفكر الشيعي ، وخاصة وسط المدارس الإثني عشرية ، مازال يفرض بأن السلطة الحقيقية لا يمكن أن تكون إلا من نصيب الأمام المعصوم الغائب . وقد ظل هذا الفراغ النظري قائماً حتى مجي أية الله الخميني وبروزه كأبرز منظر سياسي شيعي في العصر الحديث ، مما أعطي بعداً سلبياً علي نظرية الفكر الشيعي والتي حاولت أن تكون ثورية أو أخذت طابع الثورية .(فنجد هذه النظرية أي نظرية الأمام الغائب وانتظار عودته حولت الواجب الإصلاحي عن كاهل الأمة ووضعته علي عاتق الأمام الغائب ، ولم يبقي للامة في غيبته سوى الانتظار والترقب )*. (10)

    عندما تولي الخميني قيادة الثورة في إيران سعي لأن يجسد الدستور الإيراني والممارسة السياسية هذا المفهوم ، حيث أصبحت المرجعية العليا للدولة في يد فقيه يعتبر عملياً ونظرياً نائب الأمام الغائب . وقد جعلت شعبية الخميني وشخصيته الطاغية من هذه النيابة اكثر من مجرد عملية شكلية . ويمكن أن يقال أن الخميني تمتع بسلطة ونفوذ وتقديس لم يتمتع به أي من أئمة الشيعة في حياته .



    وقد أعاد الخميني صياغة الفكر الشيعي التقليدي في الأتي:- * (7)

    1- أعاد تأكيد مركزية الدولة في الفقه الشيعي أسوة بالحال في الفقه السني ، وتم له ذلك بتوسيع مجال مؤسسة ولاية الفقيه (وهي ترتيب ذرائعي مؤقت ابتكره الفكر الشيعي بعد غيبة الأمام لتجنب الاعتماد علي المؤسسات القضائية للدولة السنية) ، فقد نقلها من المؤقتية إلي شئ من الثبات والدوام .

    2- سعي الخميني إعطاء الفقيه حق النيابة عن الأمام في إدارة شئون السياسة للمجتمع قياساً علي دوره في إدارة الشئون الاجتماعية .

    لقد وصل تقمص الخميني لدور الأمام حتى مجيء المهدي ذروته في إعلانه الشهير في فبراير 1988 بأن مصلحة الدولة الإسلامية (كما يعرفها الأمام طبعاً) تعلو كل قيمة أخري وحتى علي الشرائع الإسلامية والفرائض من حج وصوم . وحينما حلول خليفته الحالي آية الله الخميني أن يفسر هذا الرأي بأنه يعني مصلحة الدولة الإسلامية في إطار الشريعة ، وبخطاب الخميني في رسالة مفتوحة أعاد فيها تأكيد أن مصلحة الدولة الإسلامية والدفاع عنها فوق الشريعة نفسها ، وأنه يجوز للأمام تعطيل كل نصوص الشريعة وحتى الفرائض من زكاة وصوم وغيرها لحماية الدولة الإسلامية ، وذلك لان الدولة الإسلامية هي أساس ، فلو زالت لزالت الشريعة بالكلية ، وعليه فإن الحفاظ عليها له الأولوية علي كل جزئيات الشريعة .*(9)

    وهكذا أصبحت الإمامة مع الخميني تجسيداً للفكرة التي جمعت بين الرؤية السنية و الشيعية للسلطة السياسية باعتبارها ولاية زعيم يتسم بالتقوى والصلاح والكاريزما الدينية .

    وقد كان سلوك الأشخاص البارزين في الثورة الإيرانية أبعد ما يكون عن كونه نموذجاً يحتذي، ولم يكن إطلاقاً يشبه سلوك الأولياء والقديسين ممن نعموا بالهداية الإلهية ، فهم لم يتقاتلوا حول السلطة والجاه كأي بشر خطأين ، ولم يتآمروا باستمرار ضد بعضهم البعض فقط بل أن الصراع من أجل المكاسب المادية والسياسية ميز أيضاً تصرفات كثيراً منهم . وفوق هذا فإن حكام إيران دأبوا علي ارتكاب الأخطاء والفظائع وانتهاكات حقوق الإنسان وما إلي ذلك من أخطاء في الحرب والسلم ، مما جعلهم يقصرون كثيراً حتى عن النماذج الإسلامية التقليدية التي يدينها الفكر الشيعي بقوة .*ويواصل الكاتب (د. عبدالوهاب الأفندي) انتقاداته للمذهب الشيعي ويكتب :- (وبهذا تكون الثورة الإيرانية قد حسمت من ممارستها أي شك يتعلق بالخلل الكبير في النظريات الإسلامية التقليدية حول الدولة والحكم وعدم كفايتها لحاجات المجتمع المسلم )*. (10)

    ونجد المثل السوداني الإسلامي قد حذا نفس الحذو من الثورة الإيرانية حيث حاول :-

    أ‌- تعمَّد ضبط المد الثوري الشعبي وما يصاحبه من عنف وإراقة للدماء .

    ب- اختلافه الوحيد عن الثورة الإيرانية أنه قام علي انقلاب عسكري وليس ثورة شعبية .

    ج- الخلل الواضح أيضاً في المفاهيم التقليدية الإسلامية في المجال السياسي ، وأكدت تأكيداً حاسماً ضرورة التفكير في تشديد الضوابط التي تحكم الممارسة السياسية وتقوية دور المؤسسات علي حساب الأشخاص .

    ويحاول د. عبدالوهاب الأفندي أن يحذر المسلمين بهذه العبارات:- (10)

    "علي المسلمين ألا يتهاونوا في رفض كل ميكافيلية تسعي إلي تبرير الدوران حول المبادئ الإسلامية والأخلاقية لتحقيق أهدافهم . فعلي المسلمين أن يحذروا ، بدون السقوط في حبائل المثالية العقيمة ، من تلك الحجج التي استخدمت في الماضي وتستخدم في اليوم لتبرير الجرائم الكبرى باسم الضرورة أو باسم المثل العليا ، ومن المهم أن يدرك كل فرد أن الضرورة القاهرة الوحيدة هي تلك الضرورة التي ينقاد لها طائعاً . فالضرورات تبرر التقصير عن بلوغ الكمال ، ولكنها لا تبرر الأجرام . فإذا استصحبنا هذه الحقائق والمبادئ ، أمكن للمسلمين كأفراد أن يعيشوا حياة كريمة وأن يفلتوا من إسار الصيغ التي لم توَّلد في الماضي سوى الأوهام والمعاناة واللبس" .

    إن الادعاء بأن الدولة الإسلامية هي غاية في حد ذاتها كما نادي بذلك أية الله الخميني ، والترابي ، والماوردي ،وغيرهم .. ، هذا الادعاء يفقد معناه إذا انحرفت الدولة عن مبادئ الإسلام التي تدّعي حراستها . ونحن نرى كثير من الأحزاب والجماعات الإسلامية في الطريق إلي فقدان مبرر وجودها بانكفائها علي ذاتها حتى أصبحت تقدس نفسها وهياكلها ووجودها ، تقدم حفظ كيانها والدفاع عن مصالحها علي كثير من القيم الإنسانية بل وحتى الإسلامية نفسها ، هذا بالرغم من أن هذه الجماعات لم تصل كلها إلي السلطة !
                  

07-09-2004, 00:51 AM

Amjad ibrahim
<aAmjad ibrahim
تاريخ التسجيل: 12-24-2002
مجموع المشاركات: 2933

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: القداسة- محمد عبد الرحمن (Re: Amjad ibrahim)

    سلام جميعا
    نسيت ان ارسل ايميل الكاتب
    [email protected]
    تحياتي
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de