حاج حمد يحاور الاستاذ كمال الجزولي والدكتور منصور خالد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 04:47 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-26-2004, 08:15 PM

tariq
<atariq
تاريخ التسجيل: 05-18-2002
مجموع المشاركات: 1520

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حاج حمد يحاور الاستاذ كمال الجزولي والدكتور منصور خالد

    حول الوسط الكبير وكنفودرالية الجنوب وفيدرالية الغرب

    كنا قد نشرنا مقال الاستاذ كمال الجزولي الذى عقب فيه على كتابات الاستاذ محمد ابو القاسم حاج حمد بعنوان (حاج حمد من رمضاء السوسيوبوليتيكا إلى نار الجيوبوليتيكا). وكان الدكتور منصور خالد قد عرض أيضاً لآراء حاج حمد في نفس القضايا في الصفحات من 329 إلى 333 والصفحات من 363 إلى 367 في كتابه: (جنوب السودان في المخيلة العربية- الصورة الزائفة والقمع التاريخي ، ، ط 1 ، دار تراث للنشر ، لندن 2000). وقد قام الأستاذ حاج حمد بالتعقيب على الأستاذين.

    لأهمية الموضوع وحيوية المناقشة بين الأساتذة الثلاثة رأينا إعادة نشر مقال الأستاذ كمال الجزولى ، ونشر نص د. منصور خالد بعنوان: (خلافاتنا مع حاج حمد حول هوية السودان الثقافية) ، مع نشر تعقيب حاج حمد علي المداخلتين كل على حدة ، وذلك خدمة للقارئ وتسهيلاً لاطلاعه على الحوار متكاملاً.

    حَاجْ حَمَدْ: مِن رَمْضَاءِ السُّوسْيوبُولِيتيكَا إِلى نَارِ الجّيوبُولِيتيكَا!

    بقلم/ كمال الجزولى

    على حين يُغفِل السيد محمد أبو القاسم حاج حمد كلَّ خيبات التيار (الاستعلائى/السلطوى/ التفكيكى) الذى ينتسب إثنياً إلى تكوين (شمال ووسط) السودان المستعرب المسلم ، فى ما يتصل بترتيب مساكنته مع تكوينات (التنوُّع الهويوى) الأخرى فى (الجنوب) و(الغرب) و(الشرق) ، فإنه يتصوَّر حلاً معجزاً للمشكلة ، مِمَّا لم يخطر من قبل على بال هذا (الشمال والوسط) ، ولم يولِه انتباهته المتمكثة ، إذ يمكنه الآن ، برأى حَمَد ، نفض يده بسهولة من كلِّ تبعات هذا (التنوُّع) اللبيك ، بالعكوف فقط على تنقية خصائصه (الجيوبوليتيكيَّة) والتخارج بها من هذا المأزق ، قفزاً فوق كلِّ وقائع الاستحلاب (السوسيوبوليتيكى الاقتصادى) التاريخـى ، أو ما يصطلح عليه (بالتهميش) الذى ينكره السيد حاج حمد ويعده محض ادعاء عنصرى (البيان ، 1/5/04).

    تقوم هذه النظريَّة ، التى لا يكلُّ حاج حمد عن الترويج لها فى جُلِّ نتاجاته الفكريَّة النشطة ، على فرضية تجعل (للشمال ـ الوسط) ، أو ما تطلق عليه (الوسط النيلى) أحياناً ، وتلحِق به (الشرق) من عجب ، خصوصيَّة (جيوبوليتكيَّة) مغايرة لخصوصية (الجنوب والغرب) ، كما تفترض له ، بخلاف غيره ، وحدة (مركزيَّة) باعتباره منظومة تجمع بين ساحل البحر الاحمر والنيل ، ويمكن توثيق تاريخها الموحد منذ دولة نبتة (750 ق.م ـ 540 ق.م) ، ودولة مروي (540 ق.م ـ 350م) ، و(نقش عيزانا) أول ملك مسيحي لأكسوم (350م) ، ثم الممالك المسيحية الثلاث: نوباتيا والمقرة وعلوة ، والتي استمرت ألف سنة ، وممالك البجا القبلية ، ثم السلطنة الزرقاء (1505م ـ 1821م) ، والتى تأسَّست على حلف الفونج في النيل الازرق مع العبدلاب في الشمال والحداراب فى الشرق ، إضافة إلى ما ثبتت به ، على حدِّ تعبيره ، أركان هذه (المركزيَّة) منذ الاحتلال التركى (1821م ـ 1885م) ، والاحتلال الثنائى البريطانى المصري (1899م ـ 1956م).

    وتخلص النظريَّة إلى أن هذه المنطقة قد شهدت ، تبعاً لخصوصيَّتها (الجيوبوليتيكيَّة) ، تفاعلاً ثقافياً وعرقياً يحول دون تقبلها لأىِّ نوع من الاختراقات!

    أما (الغرب) فيمكن ربطه مع (الوسط النيلى) بفيدراليَّة ذات صلاحيات واسعة ، وفق حاج حمد الذى يقول إنه يستند فى ذلك إلى رؤية السيدين دريج وحرير ، متجاهلاً أن حركة القائدين المذكورين (التحالف الفدرالى الديمقراطى السودانى) قد أعلنت عن دمج قواتها فى جيش تحرير السودان بدارفور الذى رفع مؤخراً سقف مطالبه إلى مستوى مطالب الحركة الجنوبيَّة بقيادة قرنق (الأيام ، 12/6/04) .

    وأما الجنوب فلا بُدَّ أن يُربط بمصيره (الجيوبوليتيكى) الخاص به منذ قرن وربع القرن ، بحيث لا يمكن أن يرتبط مع هذا (المركز) إلا فى إطار (كنفدرالى) بفاصل حدود عام 1956م الادارية! ويحار المرء فى مواصلة السيد حمد تشدده إزاء نيفاشا (البيان ، 29/5/04) ، رغم أن بروتوكولاتها قد ذهبت ، فى المحصلة النهائيَّة ، إلى نفس هذه (النتيجة الكونفدراليَّة) ، بل أبعد من ذلك! اللهم إلا إذا كان اعتراضه ينصب على فترة السنوات الست الانتقاليَّة ، كونه يريد أن يرى (كنفدراليَّته) متحققة منذ اليوم؟!

    وأما أىُّ حديث آخر عن المناطق الثلاث المطروحة حالياً (جنوب النيل الأزرق ـ جبال النوبا ـ أبيى) فلا يعدو كونه ، بحسب هذه النظريَّة ، اختراقاً (لجيوبوليتيكا) تكوين الشمال والوسط و(مركزيته) التاريخية والجغرافية والسياسية (ألوان ، 5/6/04). وبهذا فإن السيد حاج حمد لا يتنكب اختيار الزاوية الصحيحة للنظر إلى المشكلة ، فحسب ، بل يعمد ، فى واقع الأمر ، وإن كان بطريقة أكثر ذكاءً ، لإعادة إنتاج طبعة (منقحة ومزيَّدة)، فى الظرف الجديد ، من نفس أيديولوجيا (الجلابة) التقليديَّة ، وتيارها (الاستعلائى/ السلطوى/التفكيكى) القديم الذى تشكل النخبة الاسلامويَّة الحاكمة نموذجه الأكثر اكتمالاً. وليس أدل على ذلك من تصريحه بأنه لم يدعُ يوما (لتفكيك) هذا النموذج أو (اسقاطه) لأن في ذلك تفكيكاً (لمركزية الوسط) دون وجود بديل! وأنه ظل يدعو لإعادة (تصحيح) هذا النموذج منهجياً في الفكر والعقيدة ، واستراتيجياً في السياسة والحكم! ومع ذلك فهو يصف (خطته) هذه بأنها وطنيَّة ديموقراطيَّة (الصحافة ، 12/6/04).

    إن الحقيقة التى لا تجوز المغالطة فيها هى أن غالب الطبقات والشرائح الاجتماعية (للجلابة) الذين تمكنوا ، منذ خمسة قرون ، من الاستحواز على الثقل الاقتصادى السياسى والاجتماعى الثقافى فى بلادنا ، إنما ينتسبون إلى الجماعة المستعربة المسلمة المنتشرة ، أساساً ، فى الشمال ومثلث الوسط الذهبى (الخرطوم ـ كوستى ـ سنار) ، وهى التى تَشكَّلَ فى رحمها ، لهذا السبب ، التيار (السلطوى/التفكيكى) المستعلى على (الآخرين) فى الوطن بالعِرق والدين والثقافة واللغة ، علاوة على الثروة بطبعيعة الحال.

    لقد تكوَّنت هذه القوى الاجتماعيَّة فى ملابسات النشأة الأولى لنظام التجارة البسيط على نمط التشكيلة ما قبل الرأسمالية فى مملكة الفونج ، منذ مطلع القرن السادس عشر (ك. بولانى ـ ضمن تيم نبلوك ، 1990م) ، وضمَّت مختلف شرائح التجار والموظفين والفقهاء وقضاة الشرع ، أو الطبقة الوسطى الجنينيَّة وقتها. وعند انحلال المملكة أوائل القرن التاسع عشر حازت هذه القوى على أراضيها وثرواتها ، فجرى تكبيل قوى الانتاج البدوى بين القبائل الطرفيَّة ، كما فى الجنوب وجبال النوبا والفونج والنيل الأبيض مثلاً ، من عبيد وأنصاف عبيد رعاة ومزارعين وحِرَفيىِّ انتاج سلعى صغير ، بالمزيد من علاقات الانتاج العبودية والاقطاعية المتداخلة. وكان هؤلاء يعتبرون مورداً رئيساً للرقيق والعاج وسلع أخرى "كانت تنتزع بالقوة .. مما جعل لهذه العملية تأثيراتها السالبة على المناطق المذكورة" (المصدر).

    كان لا بد لهذا التأثير السالب أن ينسحب على العلاقات الاثنيَّة عموماً ، ليس لجهة الاقتصاد فحسب ، وإنما لجهة الثقافة والاجتماع أيضاً ، مِمَّا مهَّد لحجاب كثيف بين العنصر المستعرب المسلم وبين (الآخرين) ، حيث استعصم العنصر الزنجى مع لغته وثقافته بالغابة والجبل ، وحدث الشئ نفسه تقريباً فى سلطنة الفور ومملكة تقلى (محمد المكى ، 1976م). ومنذ العام 1820م جرى تعميم النموذج مع دولة الأتراك الحديثة التى "تمتلك أدوات تنفيذ عالية الكفاءة ، فبرز النهج الاستتباعى للثقافة العربيَّة الاسلاميَّة بشكله السافر" (أبكر آدم اسماعيل ، 1999م).

    ومع مطالع القرن الماضى حصلت هذه القوى على دفعة كبيرة من الاستعمار البريطانى الذى احتاج إلى (مؤسسة سودانية) تدعم وجوده فى الأوساط الاجتماعيَّة ، الأمر الذى هيَّأ لقوى (الجلابة) من كبار الزعماء القبليين والدينيين وكبار التجار وخريجى (الكليَّة) وراثة السلطة بعد الاستقلال ، بذهنيَّة تنزع لتأكيد (نقاء) عِرْقها ولغتها وثقافتها ، وتقديم نفسها كنموذج (قومىٍّ/مركزى) يزعم تمام التأهُّل لاختزال مجمل التكوينات الأخرى ، ففاقمت بذلك من أوضاع القهر والاستعلاء برسم وتطبيق سياسات (الأسلمة) و(التعريب) القسريَّة.

    تلك هى الوضعيَّة التى استقبل بها (الجلابة) صورة الوطن ومعنى الوطنيَّة والمواطنة ، بالمفارقة لكل معطيات (الهُجنة) التى ترتبت على قرون من اختلاط الدماء العربيَّة الوافدة والأفريقيَّة المحليَّة ، بالاضافة إلى كلِّ حقائق (التنوُّع) الذى أنكرت استحقاقاته الأنظمة المتعاقبة ، مِمَّا أفضى إلى مأزقنا الراهن الذى تساوق فيه (التهميش) الاقتصادى السياسى مع (التهميش) الاجتماعى الثقافى ، كمصدر أساسىٍّ لهذا الحريق الوطنى العام ، وهو ما ينكره حاج حمد.

    ومن ثمَّ فإن نظريَّة الرجل قائمة ، ببساطة ، على نفس خيار النهج (الاستعلائى/ السلطوى/ التفكيكى) القديم. الفرق الوحيد هو أنها ، وبدلاً من مطالبتها (للهامش) ، كما فى السابق ، بالخضوع (السوسيوبوليتيكى الاقتصادى) التام (للمركز) دون قيد أو شرط ، تستدير الآن ، بعد أن زلزل السودان زلزاله ، وأخرج (الهامش) أثقاله ، (لتجترح) أوضاعاً (جيوبوليتيكيَّة) جديدة ، فتحث (المركز) العروبى الاسلاموى على اللواذ بخصائصه (الجيوبوليتيكيَّة) التاريخيَّة وترك هذا (الهامش) العنصرىِّ الحاقد لمصيره (الجيوبوليتيكىِّ) المغاير .. والله الغنى!



    ***

    خلافانا مع حاج حمد حول هوية السودان الثقافية

    بقلم/ د. منصور خالد

    استرعى انتباهنا مؤخراً أيضاً قيام حزب سوداني شاملي جديد (حسم) يتبنى أطروحة الكونفدرالية بحسبانها الحل الأمثل لأزمات سوداننا المارد المارض. التكييف النظري لهذه الأطروحة جاء في مقال طويل للأستاذ الباحث محمد أبوالقاسم حاج حمد وهو رجل أعرض في العلم وبلغ الغاية في البحث والاستقصاء، إلا أنا ظللنا دوماً معه على خلاف حول هوية السودان الثقافية. دعوة أبي القاسم للكونفدرالية هي دعوة حق لا يريد بها باطلا، ولكن سبيبته إليها هي ما لا نستسيغ. قال: إن علاقات الشمال والجنوب علاقات استراتيجية محضة فرضتها الخديوية المصرية "في عهد اسماعيل"، وأن "مشروع قرنق غير قابل للتحقيق عملياً لأن الشمال مهيأ لفصل الجنوب عوضاً عن فقدان هويته وهي هوية اكتسبها عبر قرون ولم يشارك الجنوب في تفاعلاتها الحضارية والثقافية والدينية. فارتباط الجنوب بالشمال هو محض ارتباط إداري نتج عن التوسع المصري الجيوبوليتيكي باتجاه منابع النيل ". أضاف المحقق أن "الدعوة للسودان العلماني الموحد لا علاقة لها بقبائل الدينكا" وإنما "تجسد طموحات الدكتور قرنق بالذات".

    لقد ظلت حكومات الشمال تخوض حرباً ضد الجنوب منذ الاستقلال بهدف الحفاظ على وحدة القطر وفق الانموذج الشمالي الثقافي والسياسي. على ذلك الموقف ظلت حكومات الشمال لابثة بالرغم من أطروحات الجنوبيين حول قواعد الوحدة السليمة بين شقي القطر والتي رفضت الواحدة تلو الأخرى: الفيدريشن في مطلع الاستقلال، الحكم الذاتي عقب مؤتمر المائدة المستديرة. وكأن تلك النظرة النفقية (Tunnel Vision) لا تكفي، إذ زادتها حكومات الشمال بابتلاء آخر هو تديين السياسة. هذه الحكومات جميعها كانت تدرك طبيعة العلاقة بين الشمال والجنوب، أهي عضوية أم إدارية؟ وكانت تدرك - عند سعيها لتعريب الجنوب وأسلمته - إن كان للجنوب دور أو مكان في التفاعل الحضاري والثقافي لشمال السودان أو لم يكن له دور. لهذا فإن القول بأن "الشمال مهيأ لفصل الجنوب عوضاً عن فقدان هويته" فيه تبسيط للأمور. التفسير الصحيح لحديث المحقق هو أنه الآن وقد جاءت الحركة بطرح يتناقض مع المنظور الآحادي للهوية السودانية، وفشلت كل محاولات النخب الحاكمة في الشمال لفرض تلك النظرة الآحادية، فمن الخير أن يقع طلاق.

    ولكن هل صحيح أن هذا هو رأي أهل الشمال؟ الذي يقول هذا يغفل تاريخاً طويلاً منذ اتفاق أديس أبابا (1972) مروراً بقرارات أسمرا (1995) عبورا بكوكا دام (1986) ومبادرة السلام السوداني (198. قيادات الشمال التي صاغت هذه الاتفاقات والعهود لم تر في أي منها فقدانا للهوية بل تأكيدا للوحدة مع التنوع، والتنوع لا يتسق مع النظرة الأحادية للشخصية السودانية. السبيبة التي يتوسل بها الأستاذ محمد أبوالقاسم ظاهرة بدأت مع هذا النظام الذي افترض للسودان هوية لا يقبلها أهل الشمال أنفسهم دعك عن أهل الجنوب، ولا نحسب أن الأستاذ المدقق ذو صلة - بعيدة كانت أم قريبة - بتلك المنظومة الفكرية التي تتنكر لواقع السودان.

    لم يحالف الكاتب التوفيق أيضاً عند ما قال إن الدعوة للسودان العلماني الموحد لا علاقة لها بقبائل الدينكا وإنما تجسد طموحات الدكتور قرنق، فما معنى الزج بقبائل الدينكا في الأمر. فقد ظللنا مثلا ندعو منذ السبعينات لاحترام الوحدة مع التعدد، هذا فكر لم نستلهمه مما أورثناه أهلنا العمراب، أو هو رأي يعبر عن طموحات أهله الرباطاب كما يتخيلونها بأنفسهم. قرنق لا ينظر لنفسه ولا يريد الآخرين أن ينظروا له باعتباره "دينكاوي" جنوبي، لا لأن تلك صفة يتمنى أن يخلعها عن نفسه، ولكن لأن الرؤية التي يسعى لاشاعتها نظرة تتجاوز القبيلة والاقليم شمالا وجنوبا، شرقا وغربا. لهذا هو حقيقي بأن يتعامل معه محاجوه كصاحب رؤية وفكر دون اعتبار لمنبته.

    ليس صحيحاً أيضاً أن الحرب التي تقودها الحركة الشعبية اليوم تصدر من نفس المنطلقات التي اندفع منها ساترنينو وأقرى جادين مثلا؛ يقول الأستاذ المحقق أن الشمال سئم حرب الجنوب التي اشتعلت "مرة بحجة عدم التكافؤ، ومرة بحجة التمايز الديني والأثني، ومرة بحجة وجود أنظمة عسكرية ديكتاتورية مع أن جون قرنق نفسه كان طرفا في محادثات أديس أبابا" (الحياة 15/6/1999م) هذا عرض للنتائج يغفل الدوافع ، وتخليط بين أمور فيها المتشابه وغير المتشابه. أي قراءة فاحصة لكل واحدة من حروب الجنوب تهدى القارئ إلى أس المشكل. حرب الجنوب الأولى غذاها بفكرها أناس لا يبتغون وحدة بين شقي القطر (أقرى جادين مثلاً) لأن رأيهم مع رأي أبي القاسم، في حين وقف زعماء جنوبيون راشدون يدعون للرباط الفيدرالي فكان نصيبهم السجن (ستانسلاوس بياساما). وجاء على السودان عهد عسكري، من بعد، ظن أن سبيله الوحيد للحفاظ على وحدة القطر هو الأسلمة القسرية، وذهب غير مأسوف عليه. تلاه عهد بدأ في حل المشكل بأسلوب عقلاني وعقد لذلك المؤتمرات وأقر المواثيق (حكومة أكتوبر وما بعدها). عن تنفيذ تلك المواثيق عجزت حكومة الشمال، فاندلعت الحرب. من أوار تلك الحرب لم يسلم حتى كبار قومهم من نصراء الوحدة بين الجنوبيين ومنهم من قضي عليه غيلة (وليام دينق) دون أن يصيب أهله قودا أو قصاصا. وللمرة الأولى بدأ الحديث عن دستور إسلامي في الستينات فما كان من الجنوبيين إلا أن رفعوا شعار العلمانية. أعقب ذلك العهد المايوي واتفاقه الذي حقق سلاماً لعشر سنوات ثم نقضه صانعه فكانت الحرب. هذا هوالتاريخ؛ فيه الحق وفيه الباطل؛ وفيه الفعل ورد الفعل.

    القراءة العابرة لهذا التأريخ تبين أن المشكل مشكل سياسي توفرت مشروعات محددة لتجاوزه إلا أن الأنظمة الحاكمة في الشمال تخاذلت عن تطبيقها. لطبيعة هذا المشكل فظن القاضي توفيق قطران في تقريره عقب أحداث الجنوب قبيل الاستقلال، إذ جاء في تقريره: "هناك أدلة كافية تؤكد أن المشكلة الحقيقية سياسية وليست دينية. فالمسيحيون والروحانيون شاركوا جميعاً في الأحداث كما شارك فيها وقاد الدعاية المناهضة للشمال مسلمون جنوبيون".

    ظلم المحقق قرنق أيضاً عندما قال إنه كان طرفا في اتفاق أديس أبابا. هذا تقرير لا علاقة له بالحقيقة. فالرجل لم يشارك في تلك المفاوضات، وكان له رأي في نتائجها أوردناه في الجزء الأول من هذا الكتاب. "أجندة قرنق، حسب رأي الكاتب، هي احتواء "الشمال كله وجنوبته على أساس (أفريقاني) بالتحالف مع الاثنيات غير العربية في الشمال في إطار علماني. هذا هو مضمون سودانه الجديد. فلما غالبه الانقاذ باسلوبه المعروف (جهاداً) وتعبئة لجأ إلى الكونفدرالية" (الحياة 17/6/1999م). لولا معرفتنا الحقة بالناقد لحسبنا أن في موقفه إعجاب خفي بسياسة الجبهة الجهادية. نعرف عنه غير هذا، كما نعرف حرصه على التدقيق. القليل من التدقيق كان سيقوده إلى أن طرح الكونفدرالية ما كان ليبرز إلى الوجود لولا رفض النظام الوحدة القائمة على مبدأ الفصل بين الدين والسياسة والتعددية الحزبية، فأطروحات اقتسام السلطة ظلت مبسوطة للحركة منذ أغسطس 1989. ترى ما الذي كانت ستصنعه جموع العلمانيين والعروبيين والقوميين والوحدويين والديموقراطيين في الشمال لو قبل قرنق تلك القسمة في أديس أبابا (أغسطس 1989) ، وفي نيروبي (ديسمبر 1989) ، وفي كل ما تلاهما من اجتماعات في أبوجا ونيروبي تحت مظلة الايقاد؟


    ***

    تعقيبا الأستاذ محمد ابو القاسم حاج حمد

    التعقيب الأول: إشكالية مفهوم الوسط الكبير

    بين الأستاذين كمال الجزولي ومنصور خالد

    صدق الأستاذ (كمال الجزولي) في عنوانه ومقاله المنشور بجريدة (الصحافة - الخميس 29 ربيع الثاني 1425هـ/ 17 يوليو (تموز) 2004م - العدد 3970) - (حاج حمد: من رمضاء السوسيوبوليتيكا إلى نار الجيوبوليتيكا!) فأنا واقع بالفعل بين رمضاء السوسيولوجي ونار الجيوبوليتيك وكأني أذوق مس سقر.

    ولا مهرب لي من رمضاء الوسط والشمال والشرق كوحدة جيوبوليتيكية منذ ألفين وسبعمائة عاماً بكل أبعادها التاريخية والحضارية والاجتماعية والاقتصادية ليس لأني مكوّن ضمنه فقط ولكن لأني أعاني سلبياته التركيبية التي ذكرها الأستاذ الجزولي «ان الحقيقة التي لا تجوز المغالطة فيها هي أن غالب الطبقات والشرائح الاجتماعية (للجلابة) الذين تمكنوا، منذ خمسة قرون، من الاستحواذ على الثقل الاقتصادي السياسي والاجتماعي الثقافي في بلادنا، انما ينتسبون إلى الجماعة المستعربة المسلمة المنتشرة، أساسا، في الشمال ومثلث الوسط الذهبي (الخرطوم - كوستي - سنار)، وهي التي تشكل في رحمها، لهذا السبب، التيار (السلطوي/ التفكيكي) المستعلي على (الآخرين) في الوطن بالعرق والدين والثقافة واللغة، علاوة على الثروة بطبيعة الحال.

    لقد تكونت هذه القوى الاجتماعية في ملابسات النشأة الاولى لنظام التجارة البسيط على نمط التشكيلة ما قبل الرأسمالية في مملكة الفونج، منذ مطلع القرن السادس عشر (ك.بولاني - ضمن تيم نبلوك، 1990م)، وضمت مختلف شرائح التجار والموظفين والفقهاء وقضاة الشرع، او الطبقة الوسطى الجنينية وقتها. وعند انحلال المملكة أوائل القرن التاسع عشر حازت هذه القوى على اراضيها وثرواتها، فجرى تكبيل قوى الانتاج البدوي بين القبائل الطرفية، كما في الجنوب وجبال النوبا والفونج والنيل الابيض مثلا، من عبيد وانصاف عبيد رعاة ومزارعين وحرفيي انتاج سلعي صغير، بالمزيد من علاقات الانتاج العبودية والاقطاعية المتداخلة. وكان هؤلاء يعتبرون موردا رئيسا للرقيق والعاج وسلع اخرى كانت تنتزع بالقوة.. مما جعل لهذه العملية تأثيراتها السالبة على المناطق المذكورة (المصدر).

    كان لابد لهذا التأثير السالب ان ينسحب على العلاقات الاثنية عموما، ليس لجهة الاقتصاد فحسب، وانما لجهة الثقافة والاجتماع ايضا، مما مهد لحجاب كثيف بين العنصر المستعرب المسلم وبين (الآخرين) ، حيث استعصم العنصر الزنجي مع لغته وثقافته بالغابة والجبل، وحدث الشيء نفسه تقريباً في سلطنة الفور ومملكة تقلي (محمد المكي، 1976م). ومنذ العام 1820م جرى تعميم النموذج مع دولة الاتراك الحديثة التي تمتلك ادوات تنفيذ عالية الكفاءة، فبرز النهج الاستتباعي للثقافة العربية الاسلامية بشكله السافر (أبكر آدم اسماعيل، 1999م).

    ومع مطالع القرن الماضي حصلت هذه القوى على دفعة كبيرة من الاستعمار البريطاني الذي احتاج إلى (مؤسسة سودانية) تدعم وجوده في الاوساط الاجتماعية، الامر الذي هيأ لقوى (الجلابة) من كبار الزعماء القبليين والدينيين وكبار التجار وخريجي (الكلية) وراثة السلطة بعد الاستقلال، بذهنية تنزع لتأكيد (نقاء) عرقها ولغتها وثقافتها، وتقديم نفسها كنموذج (قومي/ مركزي) يزعم تمام التأهل لاختزال مجمل التكوينات الاخرى، ففاقمت بذلك من اوضاع القهر والاستعلاء برسم وتطبيق سياسات (الأسلمة) و(التعريب) القسرية.

    تلك هي الوضعية التي استقبل بها (الجلابة) صورة الوطن ومعنى الوطنية والمواطنة. بالمفارقة لكل معطيات (الهجنة) التي ترتبت على قرون من اختلاط الدماء العربية الوافدة والافريقية المحلية، بالاضافة الى كل حقائق (التنوع) الذي انكرت استحقاقاته الانظمة المتعاقبة، مما أفضى الى مأزقنا الراهن الذي تساوق فيه (التهميش) الاقتصادي السياسي مع (التهميش) الاجتماعي الثقافي، كمصدر اساسي لهذا الحريق الوطني العام، وهو ما ينكره حاج حمد».

    قد انتهى الاستاذ الجزولي الى القول: (وهو ما ينكره حاج حمد).

    والصحيح ان هذا ما لا ينكره حاج حمد، بل ويضيف حاج حمد الى ذلك ان العروبة في هذا الوسط ليست (حضارية) تماثل البناءات الحضارية العربية في دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة، وانما هي عروبة ذات نمط (ثقافي شفهي بدوي).. (محاضرة آفاق السلام في السودان)- رؤية ميدانية. تحليلية- المجمع الثقافي- ابو ظبي- 4/4/2004 راجع الصحافة 17 إلى 24 ابريل 2004 - 5 حلقات.

    وان ميلاد العروبة في السودان هو (ميلاد متعسر) ، فقد نشأت هذه العروبة والمماليك يحكمون مصر وإثر سقوط آخر مظهر حضاري عربي في قرطبة (السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل - الصفحات ).43- 48- المجلد الاول- ط 2.

    ولا يملك السودان من عروبته سوى (كتابة) اللغة العربية التي (استوردها) من المراكز الحضارية، وخط بها مصاحف القرآن على (الجلد). ولم تنتج عروبة السودان سوى مخطوطة واحدة هي (طبقات ود ضيف الله).

    اما الذين حكموا هذا الوسط الكبير ـ ومع انجازاتهم ـ هم مجرد كتبة ومحاسبين واداريين من ذوي المؤهلات الوسطى كفئة وطنية مساعدة للادارة الاستعمارية فلما اعتلوا سدة السلطة بالسودنة تكشف خلو اذهانهم من أي (منهجية) في الفكر والفلسفة ومن أي رؤية استراتيجية في السياسة والحكم والبناء الاقتصادي والتنموي وكانت عقليتهم عقلية (موازنة مالية) و(مراجع عام) وليس عقلية تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية.

    وان المزاعم الحضارية لابناء الوسط لم تتجاوز بناء (دامر المجذوب) وليس عطبرة حيث مجمع الورش. والسكك الحديدة، وشتان بين (الدامر) الوطنية وعطبرة المرتبطة بالاستثمارات الاستعمارية.. وشتان بين (بورتسودان) و(سواكن) وبين مشروع القطن في الجزيرة وسواقي الشمالية، وشتان بين اكاديميات بخت الرضا وخورطقت وحنتوب ووادي سيدنا، مبانيا ومناهج حديثة في التأهيل والتدريب وبين (الخلاوي) الوطنية التي انتهى اليها (سقف) الجهد الوطني في الوسط، واخيرا شتان بين (الخرطوم) وقصر الحاكم العام (القصر الجمهوري) وبين ام درمان وقبة الامام المهدي.

    لهذا كتبت اني اكثر ادراكا ووعيا بسلبيات هذا الوسط والشمال من كل الذين كتبوا ضده، فالمستعلون من الشماليين (الجلابة) هم من نسيج هذا التخلف او (ثقافة الجلابية) كما كتب الاخ القائد (باقان اموم).

    لان قادة الشمال هؤلاء من الكتبة والمحاسبين ومعلمين متوسطي الثقافة فقد قادوا السودان كله نحو الهاوية اذ انهم يفتقدون الى الخبرة والمؤهلات بما في ذلك الانقاذ الذي يزخر بالكوادر وحملة الشهادات العليا ـ من امريكا واوروبا ـ غير أن تنشئة الكادر التنظيمي القيادي فيهم قد اقتصرت على (علوم آخروية) وليست (دنيوية)، وحين يفهمون الدنيا فانهم يفهمونها بمنطق التراث المرتبط (بتاريخانية) انتاج ثقافي وذهني عرفي منذ عصور التدوين الهجرية الثلاثة الأولى، فلا يصلون الى اطراف وهوامش (ابن رشد) في العقلانية والفلسفة، ولا الى اطراف اطراف (ابن خلدون) في علم التحولات الاجتماعية، ولا الى ذرة داخل صفر من علوم (ابن عربي) الإلهية.

    بل وفي قول للاخ (الدكتور غازي صلاح الدين) اثناء مؤتمر الشريعة الذي عقده مركز الاسلام والديمقراطية المؤسس في واشنطن في قاعة الصداقة بالخرطوم (19 - 21 ابريل/ نيسان ) قال ان مصادر فشل تجربتهم الاسلامية عدم وجود مصادر ومراجع سابقة على تجربتهم توضح لهم كيفية البناء المعاصر، نظرا وتطبيقا، للاسلام. ففضحوا جهلهم بكل الاجتهادات الاسلامية في عصر التنوير (1789/ 1940) من محمد عبده وإلى علي عبد الرزاق ومفهومه في (الاسلام واصول الحكم).

    وفضحوا جهلهم وعدم تعاطيهم مع اكثر من ثلاثة آلاف بحث على مدى عشرين عاما منذ 1970م وفي عدة ندوات ومؤتمرات وورش عمل. فالتجربة (ترابية) ولازالت كما قال (الدكتور حسن مكي) في نفس المؤتمر.

    اني فعلا احترق بنار (السوسيوبوليتيكا) وبحيثيات هذا الوسط المركزي الفاشل والذي فصلت فشله تلك الدراسة القيمة حول (مواصفات الدولة الفاشلة) للسيد (روتبرج) بأكاديمية كيندي والمنشورة في فصلية واشنطن الصادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية صيف 2002م والتي رجعت اليها في محاضرتي (الوجود الامريكي في افريقيا وموقع السودان منه) بتاريخ 23 فبراير (شباط) 2004م - (مركز دراسات الشرق الاوسط وافريقيا - الخرطوم). والمنشورة في «الصحافة» بداية من 2 مارس- اذار 2004 وكذلك مقالي «صفات الدولة الفاشلة- الصحافة- 21/4/2004 العدد 3913

    فاذا اراد محررو (الكتب السوداء) في الغرب نقد الوسط المركزي الى حد (التهشيم) وليس (التهميش) فأنا رجلهم وقلمهم وكذلك الآخرون، ويكفي ان عنوان كتابي هو (المأزق التاريخي).

    فأنا أشد تهشيما لهذا الوسط المركزي من الاستاذ الجزولي، وأشد كرها واشمئزازا من استعلائيته ذات البنى القبلية، والثقافة العربية الهامشية والشفهية وفكره التقليدي من (طوائفه) الى (انقاذه). فالوسط قد فشل في قيادة السودان وبنائه على أسس وطنية حديثة. «راجع مقالتنا التي تكشف عجز قادة الوسط بعنوان/ السودان ازمة فكر وقيادة- الصحافة- 10- 11 يوليو - تموز 2003م.

    ولكن.. ولكن.. ولكن: كيف العلاج؟.

    يكمن العلاج في نشوء حركة وطنية ديمقراطية مستقطبة وجاذبة لكل السودانيين تطرح مخططا للتنمية الاستراتيجية الشاملة وللنمو الاقتصادي والاجتماعي والفكري والثقافي.

    مهمة هذه الحركة الوطنية الديمقراطية الشاملة ان تحول الجغرافية السياسية للسودان المعاصر والتي فرضها المصريون قسراً في المرحلة (1821 - 1874) حين مدوا مركزية الوسط الى الغرب والجنوب، الى (تدامج وطني) يستوعب ثم يتجاوز (جدل التجزئة) المركب على القبلية والاثنية والطائفية والجهوية بمخطط علمي ـ استراتيجي. ومن مهمة هذه الحركة الوطنية الديمقراطية الشاملة الخروج من عقلية الافندية في (الموازنة) الى عقلية النمو الاقتصادي الاستراتيجي الشامل انطلاقا من المشروعات الاقتصادية الحديثة التي أسسها البريطانيون تبعا لمصالحهم في السودان من مشروع الجزيرة للاقطان والى ميناء بورتسودان وورش عطبرة.. فقادة الشمال في كل احزابهم لم يقرأوا كتابا واحدا لامثال (بول باران) حول (التخلف والتنمية) ولا (ايف لاكوست) حول (جغرافية التخلف) ولم يتابعوا دراسات (منتدى روما) ولا حتى اوراق ومقررات (مؤتمر اركويت) .انهم حكام (فهلوة) و(تخلف) وليسوا حكام تخطيط علمي وحداثة وتقدم.

    ولابد ان تستند هذه الحركة الوطنية الديمقراطية الشاملة على قاعدة (القوى الاجتماعية الحديثة) في (كل السودان) من (فرانسيس دينج) في الجنوب والى (كمال الجزولي) في الشمال والى (فقراي) في الشرق والى (بهاء الدين حنفي) في اقصى الشمال والى (هارون كافي) في جبال النوبا والى (شريف حرير) في الغرب والى والى والى.

    ولابد ان تستند هذه القوى الاجتماعية الحديثة الى (الجيل الثالث) الذي بدأ بعهد نميري المظلم منذ 1969م ويشارف الان سن الثلاثين، حيث يعيش (عدمية الانتماء) الوطني والثقافي متطلعا نحو (العولمة) وثقافتها وآلياتها ومفتقرا بذات الوقت لبناءات النمو الذاتي التي تدخله عالم العولمة بكيفية يتداخل مع ايجابياتها وتصرف عنه تحكم شركاتها الكبرى وفرض هيمنتها.

    فمنهجي علماني ليبرالي ديمقراطي «بالكيفية التي طرحتها ووثقتها» وحتى ادرأ عن الديمقراطية تعالى الطائفية والحزبية طالبت بإعادة «مجلس الشيوخ» ليمارس «رقابة دستورية» على اغلبية الطوائف والاحزاب الميكانيكية، مناديا بإعادة تطبيق المادة «44» من دستور السودان المؤقت لعام 1956 وهذا مجالك القانوني- اخي الجزولي- «المأزق التاريخي- ص 747/ 750» ونشرت مقالي الاخير في صحف الخليج «الوسط- البحرين» بعنوان: علمانية العاصمة ضرورة اسلامية» لاسقاط المفهوم الثيوقراطي للسلطة الدينية التي لا اساس لها في الاسلام. والتي اعدمت من قبل الشهيد محمود محمد طه وتريد ان تعدم في ايران المفكر الاصلاحي «اغا جاري» والتي تكيل اتهامات «الردة» لكل مفكر ومصلح.

    فالتجديد الاسلامي يحتاج إلى «العلمانية» قبل حركة قرنق، والاسلام يحتاج إلى العلمانية ليعرف على حقيقته بعيدا عن وصاية فقهاء الرسوم.

    هذا هو العلاج الوطني الديمقراطي الشامل، وهذا هو (المخرج)، ولم ادخر وسعا ماليا ولا جهدا ذهنيا ولا حتى عضليا لأحقق ذلك منذ صدور كتاب المأزق التاريخي في طبعته الاولى عام 1980م. والى دعوتي للمؤتمرات القومية التداولية قبل سقوط نميري في عام 1984م وقد ضمنت وقتها تأييد سورية وليبيا مما دفع نميري حين اصبح اماما للهجوم على شخصي واتهمني بتدبير انقلاب ضده بالتحالف مع المرحوم حافظ الاسد ومعمر القذافي في مسجد القوات المسلحة، بتاريخ 8 يونيو/ حزيران 1984م ثم تناوشتني كلاب صيده في (ألوان) وفي غيرها من الصحف بتاريخ 12/11/1984م و 2/3/1985م ولم يدافع عني في هذه الحملة الرسمية الشرسة التي طالبت بطردي من منصبي في خارجية الامارات، والتي طالبت بمنع مقالاتي في الصحف الكويتية سوى رجل واحد فقط ـ ليس من ابناء الوسط المركزي وليس من ابناء السودان هو المرحوم (جاسم المطوع رئيس تحرير الوطن بتاريخ 12 ديسمبر 1984 العدد رقم 3383 ) الذي أفرد نصف الصفحة الاولى كاملة من صحيفة الوطن (الكويتية) للرد على نميري بعنوان: (سوداني.. يسأل نظامه). واضطررت بعدها لمغادرة الخليج كله الى (قبرص).

    اذن، «فمنهجي» وطني ديمقراطي، لست بأثني ولا جهوي ولا طائفي، ولا عنصري ولا قبلي، وأدين (ثقافة الجلابة) واستعلائية بدو الوسط وثقافتهم الشفهية وتصدرهم السلطة بثقافة الافندية والكتبة والمحاسبين، وموروثات التراث منذ القرن الهجري الثالث.

    وحتى اسلاميتي ومؤلفاتي منذ صدور (جدلية الغيب والانسان والطبيعة ـ العالمية الاسلامية الثانية) والتي فهمت خطأ ـ لمجرد تماثل العنوان ـ (كرسالة ثانية) بما اورده المرحوم الشهيد محمود محمد طه وهو الامر الذي نفيته بالصفحات 114/ 127 من المجلد الثاني» ـ لا تماثل اسلامية قادة هذا الوسط، فاسلاميتي (ابستمولوجية معرفية قرآنية ومنهجية) تأخذ بالليبرالية ولكن انطلاقاً من العائلة وليس الفرد وتأخذ بالعلمانية الرافضة والنافية للسلطة الثيوقراطية الكهنوتية وولاية الفقهاء ومجالس شورى الاحزاب الدينية، مؤكدا على أن الاسلام (حاكمية كتاب) مفتوحة على العقل البشري وليس (حاكمية الهية) كما ذهب الى ذلك المودودي وسيد قطب، وليس (حاكمية استخلاف) كما يذهب الى ذلك فقهاء السنة والشيعة. ولكني اميز بين علمانية الدولة التي ادعو لها وبين (الفلسفة الوضعية العدمية) في المجتمع والتي ارفضها لأن مكونات الانسان (كونية) وليس مجرد مادية.

    (فمنهجي) نسيج كل هذا الذي ذكرته والذي تحول الى مساقات اكاديمية ومحاضرات منذ ربع قرن، في جامعات تونس وماليزيا والجامعة الاسلامية في بيروت وبعض جامعات الاردن والدراسات العليا في جامعة القاهرة وتأسست على هذه المساقات ذخيرة معهد (اسلام المعرفة) بجامعة الجزيرة في الخرطوم واكتنزت بها مكتبة (فرجينيا) للمعهد العالمي للفكر الاسلامي في واشنطن وكذلك مركز دراسات الاسلام والديمقراطية في واشنطن. ولك - اخي الجزولي- ان تراجع اصدارتنا الاخيرة «منهجية القرآن المعرفية» و«الستمولوجية المعرفة الكونية» ومحاضرتي الاخيرة في مؤتمر الشريعة الاسلامية في الخرطوم «الاسلام ومنعطف التجديد- 19- 21 ابريل 2004» ومحاضرتي «علاقة الدين بالدولة» في جامعة ام درمان الاهلية»

    اذن، فهمي للعروبة مختلف عن هذا الذي يسود في الوسط المركزي، فالعروبة بالنسبة لي (جماع حضارات وثقافات وأعراق) من سبأ في اليمن والى البابليين والآشوريين في العراق والى الاراميين والكنعانيين في سورية والى القرطاجيين في تونس، والى لقاحات البانتوية والعربية في سواحيلية شرق افريقيا.. والى.. والى.. والى.. فهي ليست قومية عنصرية آحادية متعالية، ولكن الذين تعالوا بها ضمن رؤاهم الضيقة هم الذين جعلوا من العروبة مادة للسخرية وجعلوا منها تفريقا بينهم وبين الاكراد والبربر والزنوج، ويكفي ان هذا الاستعلاء قد انتج اسوأ معاهدة اذلال فرضها (عبد الله بن ابي السرح) على النوبة لاستجلاب العبيد واسمها (البقط) وبالنوبية (العهد).


    انتقال داء الوسط الى الاطراف:

    ان داء الوسط هذا قد انتقل الى الاطراف (برد الفعل العكسي) فظهرت مقولة (التهميش) التي لم تطرح النهج الوطني الديمقراطي الشامل وانما طرحت العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص، وهذا مبدأ توراتي، فتمثل (المهمش) عقلية (المهمش) فارتد الى العنصرية والجهوية، فتشكلت نفسية (المعذّب) بنفسية (المعذِب) كما قال المرحوم (فرانز فانون) في كتابه (المعذبون في الارض) وهو يبحث الحالات العصابية في تجربة الثورة الجزائرية.

    وقتها استهدف الوسط المركزي بمنطق اثني عنصري معاكس ومضاد، فلا يمكنني ان ابرر للاطراف دعواها العنصرية بذات الكيفية التي رفضت الدعاوى العنصرية في الوسط نفسه. وكم كتبت في محاضراتي منذ (كيف يفكر الجنوبيون السودانيون) عام 1986م «صحيفة الخليج- الشارقة 16/12/1986م أشيد بالمانفستو الذي اصدرته حركة تحرير شعب السودان وادانة المانفستو لانفصالية الانانيا وانفصالية حركات مماثلة اخرى في الشمال، واقسمت على (وحدوية) قرنق وراهنت عليها، وتثبيت هذا الموقف يحتاج تسجيلا وتوثيقا أي صفحة اخرى في جريدة (الصحافة) ولكن حين انحرفت حركة قرنق عن النهج الوطني الديمقراطي الشامل وبدأت بالممارسات العنصرية والجهوية تحالفا مع النوبا والانقسنا ودينكا ابيي، ومدت جسورها الى (الفور) و(البجا) زيفت توجهها الوحدوي الذي كان من المفترض ان (يركب عليه السودان الحديث الموحد) وانتهت الى (تفكيك) السودان كله اثنيا وجهويا وليس الوسط فقط. حينها واجهت وانتقدت ولازلت على موقفي.

    فاذا استقام قرنق وابناء الغرب للنهج الوطني الوحدوي الديمقراطي الشامل فأنا لهم ومعهم وبالمنطق العروبي والاسلامي الذي ذكرته، اما منطق الآخرين في الاسلام والعروبة فأنا ارفضه، وقد كتبت فصلا كاملا في كتاب (السودان: المأزق التاريخي - المجلد الثاني) حول ان الحركات السياسية العربية في السودان هي حركات (استعراب مستوردة) عن القاهرة.. ودمشق دون فهم للعروبة ودون فهم (لجدل الواقع السوداني).- «الصفحات 356/374 و 477/ 492

    ويقودني هذا القول للكشف عن جهد كنت ازاوله عام 1964م وإثر ثورة اكتوبر حيث كنت مستمسكاً بخط عربي (عام) وواسع في فهم العروبة وعلاقتها بالآخرين في الاطار الوطني ضمن (جدلية الوحدة) الوطنية وليس (جدلية التجزئة العنصرية) وقد طرح هذا التوجه في المغرب المرحوم الشهيد (المهدي بن بركة) مؤسس الاتحاد الوطني للقوى الشعبية وقد كانت صلتي به عبر المرحوم (الباهي محمد) وهو من أصل (موريتاني) ورفيق (فرانز فانون) في ادبيات الثورة الجزائرية، وقد وصل الخرطوم أثناء ثورة اكتوبر. وافترض الناس وقتها اني (بعثي) وهذا غير صحيح البتة. واكبر دليل على ذلك، نقدي لمقررات المؤتمر القومي السادس للبعثيين في عام 1966م واتهامي لهم (بالفرز الطبقي) على حساب «التوجه القومي العام» مما يمزق وحدة المواجهة الوطنية لاسرائيل.

    علني بهذه الواقعة اكشف ما ذهب اليه أخي وصديقي الدكتور منصور خالد حين أخطأ ونسب خلفيات تفكيري العروبي للبعث ونمطية افكار العروبيين في السودان. وستأتي مساجلتي ـ باذن الله ـ مع الدكتور منصور خالد وكتابه (جنوب السودان في المخيلة العربية) والنصوص التي أوردها عن طريقة تفكيري.

    وسأوضح دواعي محاولات حفاظي على هذا الوسط المركزي الذي يتأكد فشله كل يوم، ومنذ عام 1954م، ويزيده الانقاذ فشلاً، كما سأوضح دواعي محاولاتي لربط الوسط مع الشمال ومع الشرق. مع طرحي لفدرالية الغرب وكنفدرالية الجنوب السوداني. لا يوصف ذلك (هروبا) من زلزال الاطراف كما ذكر الاستاذ الجزولي ولكن (لاعادة صياغة) الابعاد المختلفة في مكونات جيوبوليتيك السودان بغير الكيفية التي وحده بها المصريون جغرافيا وسياسيا (1821/ 1870) وبغير الكيفية التي ادار بها الحكم الثنائي السودان (1899/ 1956) وبغير كيفية الكتبة والمحاسبين (1956/ 2004) مع تعقيب حول ما طرحته (حركة تحرير السودان) على الانترنت حول كتاباتي بتاريخ 17 يونيو (حزيران) 2004م. فالسودان كله يحتاج لإعادة تأسيس وطني ديمقراطي وليس إلى حركات تجزئة بعقلية شماليين او جنوبيين او غيرهم.

    ***

    التعقيب الثانى: لست شمالياً متعصباً ولكنى مسلم عربى!

    في كتابه (جنوب السودان في المخلية العربية)(1) سقى الصديق د. منصور خالد عروبتي "كدراً وطيناً" حين أغرقها في مستنقع (المغايرة) مع ثقافات الجنوب وتمييزي بين طروحات دكتور جسون قرنق وواقع (الدينكا) آخذاً عليّ تأثري بالمدرسة "الأنثروبولوجية" التي تفضي للتعامل مع ثقافات القبائل والشعودب دون مستوى الحضارة الأوربية الغربية بمنطق تجاوزته النظريات الحديثة في الثقافة، ومشيراً بالذات إلى العالم الأنثروبولوجي الإنجليزي (إيفانز برتشارد) الذي ألف كثيراً حول قبائل جنوب السودان(2)

    عليّ أن أشرح مجدداً فهمي لعروبتي وقوميتي خارج منطق (المغايرة) و(التركز على الأنا) و(الاستحواذ العصبوي) و(التميز) وكافة هذه المعاني العصابية والاستلابية. ففهمي لعروبتي وقوميتي (مغاير) لا للآخر غير العربي ولكنه مغاير للفهم القومي العربي السائد أيديولوجياً Ideological وليس معرفياً Epistemological. فرؤيتي للعروبة لا تنتمي لهذه التصورية النمطية، بل (تتجاوزها) بعد (استيعابها) باتجاه (إنساني عالمي). إذ أن عروبتي ليست فقط جماع لسان وتاريخ وحضارة ووحدة أرض تمتد ما بين المحيط والخليج. وإنما هي (أيضاً) جماع حضارات وثقافات وأعراق منذ أن استوت العروبة بالدفع الإسلامي وعبر أربعة عشر قرناً لترث بالتفاعل والتدامج (حوض الحضارات التاريخية) منطلقة من (مكامنها) الجنوبية الأولى في (سبأ) و(معين) و(حمير) و(قتبان) و(حضرموت) و(أوسان) ومكامنها الشمالية الأولى من (الثمودية) و(التدمرية) و(النبطية) لتضم في أحشائها (السومرية) و(الآكادية) و(البابلية) و(الآشورية) و(الكلدانية) و(الكنعانية) و(الآرامية) و(الأدومية) وكذلك (الفرعونية) و(القرطاجية)(3)
    ثم إن عروبتي وريثة للكوشية، منذ حضارة (كرمة) وإلى (نبته) و(مروي) ولإسقاطات الممالك المسيحية الثلاث (نوباتيا) و(المقرة) و(علوة)(4) وامتداداً إلى (أكسوم).
    فالإفريقية في (داخلي) لأنها بعد مكوّن لتكويني فلا (مغايرة) معها، ولا (استعلاء) عليها، بل أني قد بدأت كتابي (السودان) بمقارنة بين قصيدة (محمد المهدي المجذوب) في مستوجدته مع (المولد النبوي) بمستوجدة الشاعر الإفريقي الغاني (فرنسيس أرنست باركس). فكلاهما مُسْتّوْحِدٌ لِمسْتحوِذٍ عليهما بروحانية صوفية إفريقية هي (السودانية) بعينها.
    وتماماً كاستحواذ (الثلاثية الماجدية) على حوارها صديقي العزيز الدكتور منصور خالد (عبدالماجد).
    فعروبتي (جماع) حضارات وثقافات وأعراق، تتجاوز بحكم تكوينها، كل شوفينية أو عصبوية أو مغايرة سطحية ذاتية، إلا أن يغاير الكل بعضه، ولكني ميّزت في معرض التصنيف العلمي بين (الحضارة الممتدة) و(الثقافة المحلية) التي لا تتجاوز حدود القبلية وتجربتها المحدودة بمحيطها دون أن يستبطن هذا التمييز تلك الاستعلائية الغربية.

    ثم أن توزيع الحضارات - التي تُقابل بحضارات من مثلها في العالم - قد بات معروفا، فهناك الحضارة الغربية التي تمتد بجذورها إلى الهيلينية ( مع فارق التفكير الفلسفي) وإلى الرومانية والمسيحية، إضافة إلى ما بين سبع أو ثمانية حضارات أخرى، منها الإسلامية والبوذية والكنفوشيوسية واليابانية والهندية والسلافية الأرثودوكسية(5) وقد حدد المؤرخ (أرنولد توينبي) في مجلداته Study of History إحدى وعشرين حضارة رئيسية في مجرى التاريخ لا يوجد منها في عالمنا المعاصر إلا ست. وهي التي أتينا على ذكرها. وبجانب موسوعة (آرنولد توينبي)(6) هناك موسوعة (قصة الحضارة) التي كتبها (ول وايرل ديورانت)(7) ، وكلاهما يؤكدان ما ذهبنا إليه ويكفي تطبيق نظرية (التحدي والاستجابة) في نشوء الحضارة على ثقافات الجنوب القبلية المحلية ليتضح لدكتور منصور كيفية تمييزنا بين هذه الحالات دون استعلاء. ويهتم الباحثون الآن بدراسة (العلاقة) بين هذه الحضارة ضمن متغيرات الاستراتيجيات الدولية فيما يكثر الحديث عن (صدامها) أو (حواراتها)، كما يتم التمييز بين (الحضارة) و(الثقافة) و(المدنية) وذلك على مستوى التجارب المتقدمة وما تبقى من الحضارات الإحدى والعشرين التي كتب عنها (توينبي). ولم تتطرق كافة هذه المناقشات في إطار الثقافة لما هو (محلي) لأنه ليس (مقارنة متكافئة) ليس بمعنى (الدونية) ولكن بمعنى التخصيص.
    إن الشمال نفسه لا تنطبق عليه كما ذكرت لا مواصفات (الحضارة) ولا مواصفات (الأحادية العروبية). وقد شرحت ذلك في محاضرة لي (بدار الثقافة) في الخرطوم - (19 أغسطس /أب 2001).
    فقبائل الشمال (مختلطة الأعراق) بحيث تندرج في مفهوم (السودانية - بحكم الاختلاط) بأكثر من مفهوم (العروبية القحة)، بل أن هذه العروبة نفسها كما شرحت هي صيغة (جامعة) لمختلف الثقافات والحضارات والأعراق.

    ثم أن الحالة الشمالية، وإن انتسبت لمصر شمالاً أو ما بين المحيط والخليج، لا تنطبق عليها (مواصفات الحضارة) إلا (نسبيا)، فعروبة السودان قد اكتسبت في مرحلة (عصر الانحدار) الذي فَصّله الدكتور (محمد أسعد طلس)8 فسلطنة سنار الصاعدة في (1505م) تزامنت مع نضوب أنفاس الحضارة العربية في الأندلس (1492م) ومع صعود (العسكرية) التركية بفتحها للقسطنطينية (1453م)، أما الجارة الأقرب والتي تمتد إليها وشائجنا (الحضارية) فقد كانت تعيش في ظل الحكم المظلم للمماليك الشراكسة (1382 - 1517م)، ومن قبل ذلك في ظل المماليك البحرية (1250 - 1389م) وما أدراك ما حكم المماليك بحرية كانوا أو شراكسة!.
    فالحضارة العربية تحولت في السودان إلى (ثقافات قبلية) ذات (طابع شفهي) أثرت سلباً في تكوين المثقف السوداني نفسه ولهذا (أدمن الفشل) - إشارة إلى كتاب د. منصور نفسه (النخبة السودانية وإدمان الفشل).

    فحين أتحدث عن الفارق بين ما هو للحضارة وبين ما هو للثقافات التي يطلق عليها (توينبي) تعبير (متعطلة)، فإني لا أعني حالة حضارية عربية متوثبة ومعطاءة في شمال السودان، وإنما أعني (الفارق النسبي، بمعزل عن أي (استعلاء).

    فالشمال السوداني يتقمص حالته الحضارية العربية، (بالإنابة) وليس (بالأصالة)، فهو ليس طرفاً مشاركاً أو متجذراً على أساس (حضاري) - وليس (تاريخي) - من موروث (الأندلس) أو (الأمويين) أو(العباسيين)، وليس لديه ما كان لغيره في (الزيتونة) و(الأزهر) مثلاً.
    ولا أريد أن يتهمني صديقي د. منصور خالد هنا بالتقليل من المستوى الحضاري لأهلي في الشمال، كما اتهمني بالتقليل من قيمة الثقافات الجنوبية، وإنما أردت فقط التأكيد لدكتور منصور ولغيره من المفكرين والمثقفين السودانيين ضرورة استخدام المعايير العملية في التحليل دون تميز ذاتي.

    ثم أني حين طرحت الفارق بين تفكير الدكتور جون قرنق (الوحدوي العلماني الديمقراطي) وسودانه (الجديد) من جهة والقاعدة القبلية التي يستند إليها فليس مقصدي كما هو واضح - من (كلية الطرح) وليس تجزئته - أن أصادر حق دكتور قرنق في تفكيره (النخبوي) قياساً إلى أوضاعه القبلية، فكلنا نفكر كنخبة ولا نجسد تفكير من ننتمي إليهم عشائرياً، فمفهومي الذي طرحته عن (قوميتي العربية) لا يجسد مفاهيم (الرباطاب) وهم عشيرتي الذين ساءلني دكتور منصور عن علاقة فكري بهم ليماهي ذلك بعلاقة فكر قرنق بالدينكا، أو علاقة فكر (الصحوة) لدى السيد (الصادق المهدي) بالأنصار، أو علاقة فكر سكرتير الحزب الشيوعي (رد الله غربته) محمد إبراهيم نقد بأهل (القطينة) أو علاقة طرح الأخ (ابراهيم دريج) حول الفدرالية بمملكة (الكيرا) في غرب السودان (كتاب د. منصور - ص 264).

    وفات على صديقي الدكتور منصور أني لم أتخذ من عشيرتي (الرباطاب) قاعدة وأداة تنفيذية، لا سياسياً ولا عسكرياً لتحقيق برنامجي، وكذلك لم يتخذ الأخ (نقد) من أهل القطينة قاعدة له، ولا حتى السيد الصادق المهدي، فخطاب (الصحوة) للصادق هو خطاب فكري يتجاوز الأنصار. أما الدكتور قرنق فإنه قد اتخذ من (الدينكا) قاعدة لبرنامجه تحت مسمى (الحركة الشعبية لتحرير السودان) ولم يستطع أن يمتد بخطابه هذا حتى للنخب من أبناء القبائل الأخرى الذين انشقوا عنه منذ اجتماعاتهم في (الناصر) عام 1991 ثم تعرض بعضهم للاغتيالات في حروب جانبية( (فصموئيل قاي توت) قتل في 13 مارس /آذار 1984 على أيدي قوات الحركة الشعبية بالقرب من أدوره، و(أكوت أتيم دي مايان) أغتيل من قبل رجال أمن وليم شول دينق في فنجاك أواخر 1985، والأخير اغتيل من قبل قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان في 5 يوليو 1996 في فنجاك. جوزيف أدوهو قتل على أيدي قوات الحركة الشعبية في 27 مارس 1993 في كنقور ومارتن ماجير قاي، كاتب مسودة (بيان) الحركة الشعبية، قتل في سجنه من قبل قوات الحركة الشعبية عام 1993 في الاستوائية، ووليم نيون يانغ اغتيل وهو يحارب قوات حركة استقلال جنوب السودان في 15 يناير 1996 بالقرب من أيود، أما طون أروك طون فمات على أثر سقوط طائرة حكومية في مدينة الناصر في 12 فبراير 1998. ولم يبق على قيد الحياة من مؤسسي الحركة الشعبية لتحرير السودان سوى العقيد جون قرنق والكوماندور سلفا كير ميارديت. أما الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول والقيادات الأخرى فقد التحقوا بالحركة بعد تِأسيسها بعدة أشهر) - (جون قاي ص17).
    "ولعل القارئ يتذكر جيداً (حروب الفصائل الجنوبية) بين (مجموعة الناصر) بقيادة رياك مشار ولام أكول و(مجموعة توريت) بقيادة جون قرنق بين عامي 1991 - 1994 التي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 100 ألف شخص. وربما يتذكر أيضاً الصراع الذي دار داخل (الحركة الشعبية لتحرير السودان - المتحدة) بين قوات موالية لرياك مشار وقوات وليم نيون يانغ وجون لوك جوك بين عامي 1995 - 1996 التي انتهت بمقتل وليم نون بانج أوائل عام 1996. ثم القتال الشرس الذي دار خلال عامي 1998 و1999 بين مؤيدي مشار وقوات فولينو ماتيب نيال الذي انشق عن حركة استقلال جنوب السودان في سبتمبر 1997 وكوّن مع آخرين (حركة جنوب السودان المتحدة) التي تتلقى الدعم السياسي والعسكري من بعض العناصر المناوئة لتوجهات مشار الانفصالية داخل قيادة القوات المسلحة السودانية وفي أوساط الجبهة القومية الإسلامية - المؤتمر الوطني. كما توسعت رقعة التشرذم للفصائل الجنوبية إلى درجة اصطدام مناصري العقيد قرنق مع مؤيدي الجنرال كاربينو كوانين بول في العاصمة الكينية نيروبي بعد أن اتهم كل منهما الآخر بالتدبير لمحاولة اغتيال خصمه وذلك في 15 - 16 نوفمبر 1998. هذا وقد نقلت طائرة خاصة استأجرتها الحكومة الكينية بول إلى مانكلين بولاية بانتيو بجنوب السودان. واستقبله بولينو ماتيب الذي تربطه به علاقة مصاهرة. وظل كاربينو تحت حماية بولينو حتى اغتياله في ظروف غامضة في 10 سبتمبر 1999 أثر الاشتباكات التي حدثت بين قوات بولينو وتلك التي بإمرة نائبه فيتر قاديت يات الذي انشق عنه)- (جون قاي - ص 40/ 41).

    إن خطاب السيد الصادق المهدي في (الصحوة) وخطاب (ابراهيم نقد) في (المادية الجدلية) وخطابي القومي العربي وفق مفهومي لجدلية (الغيب والإنسان والطبيعة) وما سبق ان أوردته من مفاهيم، هذه الخطابات إنما توجه للمجتمع السوداني بتركيز على "قواه الاجتماعية الحديثة والمستنيرة" والتي لا تبلغ نسبتها حتى الآن سوى 17% من تعداد المجتمع، وهي مساحة اجتماعية أوسع سبق للدكتور منصور خالد نفسه أن كان في طليعة من صاغوا الخطاب إليها، بداية من البحث الذي قدمه (للملتقى الفكري العربي) الذي عقد في الخرطوم في الفترة ما بين 15 وإلى 23 مارس (آذار)1970(9) وإلى إصداره لكتاب (حوار مع الصفوة)(10) ثم مقالاته النقدية - إن صح التعبير- (إعادة تقييم نظام نميري) بعنوان (لا خير فينا إن لم نقلها) (11).
    وحين بدأت تخيب آمال دكتور منصور في (الصفوة) عبر ما صدر له من كتابين لاحقين (السودان في النفق المظلم) و(الفجر الكاذب) انتهى يائساً إلى مؤلفه: (النخبة السودانية وإدمان الفشل).
    كنت أشير على صديقي د. منصور ومنذ نقدي لطرحه في خطابه للصفوة و(المقتصر) على الصفوة، ثم عتابه لها (حيث لم ترتق بمجتمعنا المتخلف إلى مدارج الحضارة الواعدة وبذر بذور الثورة الحضارية وغرس الأخلاقيات العصرية) أن يكتشف (أن دينامية التغيير وحيويته الثورية المبدعة ليست كائنة في تخطيطات الصفوة وإنما في أعماق الحركة التاريخية للمجتمع شرط اكتشاف المنظور الحقيقي لقاعدة الثورة في أوضاع التخلف وصراعية الأصالة والحداثة في إطار جدلي معقد)(12).

    كنت أحاول دفع د. منصور لربط دور (الصفوة - النخبة) بالقوى الاجتماعية الحديثة كقاعدة للتغيير، ولكنه آثر الانصراف عن ذلك الاتجاه تحت ضغط ما أحسه أو بالأحرى خبره عن (إدمان النخبة الفشل) فعجم كنانته - وهي غالية علينا - وانحاز إلى حركة قرنق والتي لم تخرج عن قاعدتها (الدينكاوية) التي ذكرتها، وكذلك لم تخرج عن ممارستها الفردية.



    الهوامش:
    (1) منصورخالد - (جنوب السودان في المخيلة العربية - الصورة الزائفة والقمع التاريخي) - دار تراث للنشر - لندن - الطبعة الأولى - 2000 - الصفحات المعنية (329 - 336) وكذلك (363 - 364).

    (2) ركز (ايفانز) بشكل خاص على قبيلة (النوير) منذ عام 1930 وأهم ما كتبه:
    (E.E. Evans - Pritchard -Nuer Religion - Oxford - 1956) وهناك دراسات أخرى مماثلة.

    (3) للمؤلف: (جدلية الغيب والإنسان والطبيعة - العالمية الإسلامية الثانية - المجلد الثاني - نظرة من الداخل لتحديد الهوية - ص 373 - International Studies and research Bureau British west Indies- الطبعة الثانية - 1996.


    (4) للمؤلف: (السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل- المجلد الأول - خصائص السكان - ص 33 /55 - الطبعة 2 - 1996 - صادر عن نفس الدار.

    (5) صدام الحضارات - شؤون الأوسط - مركز الدراسات الاستراتيجية والأبحاث والتوثيق - الطبعة الأولى (1995) - بيروت - مراجعة التعقيبات على فرضيات (صامويل هانتنغتون) - ص 10 - مع مراجعة النص الأصلي:

    The Clash of civilizations?- The Debate- Samuel . Huntington - A Foreign Affairs Reader - New York - 1993.
    (6) مختصر دراسة التاريخ - 4 مجلدات باللغة العربية - أرنولد توينبي - ترجمة (فؤاد محمد شبل) ومراجعة (محمد شفيق غربال - الإدارة الثقافية - جامعة الدول العربية - القاهرة - ط1 - 1960 من أصل (12) مجلداً باللغة الإنجليزية.

    (7) ويل وايرل ديورانت - قصة الحضارة - الترجمة العربية - د. زكي نجيب محمود - 21 مجلداً - دار الجيل - (بيروت/ تونس) - 1419هـ / 1998م.

    ( جون قاي نوت يوه - جنوب السودان: آفاق وتحديات - الأهلية للنشر والتوزيع - الأردن - الطبعة العربية - 2000 - الصفحات 17 و40.

    (9) نشرت مجلة (المعرفة السورية) أبحاث الملتقى ومداولاته في عدديها رقم (100/101) بتاريخ يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) 1970

    (10) منصور خالد -- الانتماء الزماني والانتماء الوجداني - جامعة الخرطوم - ص 178 / 182 - 1974.

    (11) منصور خالد - سلسلة مقالات بدأ نشرها في صحيفة الأيام السودانية ( 17 فبراير - شباط - 1980- العدد 9934) ثم الأعداد التالية و صدرت لاحقا في كتاب بنفس العنوان
    (12) للمؤلف - السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل - مصدر سابق - ص 416.
    محمد أبو القاسم حاج حمد

    المصدر سودانايل
                  

06-26-2004, 08:52 PM

aymen
<aaymen
تاريخ التسجيل: 11-25-2003
مجموع المشاركات: 708

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حاج حمد يحاور الاستاذ كمال الجزولي والدكتور منصور خالد (Re: tariq)

    والشئ بالشئ يذكر

    الوحدة: مابين الخط الأحمر والجيوبوليتيك

    أبراهام مدوت باك دينق

    وينيبيك/كندا
    [email protected]

    كان الأعتقاد السائد عند رواد الحركة الوطنية السودانية فى حقبة الأربعينيات من القرن الماضى هو إقامة دولة قومية موحدة بعد رحيل الإستعمار وقد أزعجهم كثيرا عدم إنتظام الشعب السودانى فى ذلك العهد حول ثقافة قومية موحدة توحد كلمتهم لمواجهة المستعمر وذلك نتيجة لكثرة القبائل فى الدولة المرتقبة وإنتشار الأمية فيها . كما رأوا فى سياسة الإستعمـار الرامية إلى عدم المساس بثقافات تلك القبائل ، سوى بالطمس أو التغيير ، على أنها مقاومة إستعمارية صريحة ضد التغلغل العربى الإسلامى ثقافيا إلى العمق الأفريقى البدائى ، لذلك إستنجد نفر منهم بمصر ورفعوا مذكرة فى الثالث من أبريل عام 1941 إلى الحاكم العام بصفتة ممثلا لحكومتى صاحب الجلالة الملك جورج السادس ، ملك بريطانيا العظمى ، والملك فاروق الأول ، ملك مصر والسودان . وقد أعتقدوا أن المذكرة تعبر تعبيرا صادقا عن ميول وأمانى الشعب السودانى .

    إشتملت المذكرة على اثنى عشرة مطلبا على رأسها ، منح الســودان بحدودة الجغرافية ، حــق تقرير المصير بعد الحرب مباشرة ، كما طالبوا فى البند الخامس من المذكرة بألغاء القانون الخاص بالمناطق المقفولة الذى ، كما جاء فى المذكرة ، كان يؤرق مضاجع أهل الســودان ويثير فى نفوسهم القلق على وحــــدة بلادهم ومصيرها . وفى البند السابع من الذكرة ، طالبت الحـــــركة بوقف الهجرة إلى الســـــودان بإستثناء ما قررتة المعاهــــدة الإنجليزية المصرية لعام 1936 التى سمحت بهجرة المصريين إلى السودان وقف هجـــــرة الأفارقة من غرب أفـــــريقيا . أما البند الثانى عشر فكان يطــالب بوقف الإعانات الممنوحة لمــــدارس الإرساليات وتوحيد برامـــج التعليم فى الشمال والجنوب . وكذلك قدمت الحـــركة مذكرة لرئيس وزراء مصر آنذاك ضمنها مطالب غير سياسية تطلب من مصر أن تخص السودان وأهلة بنصيب من العناية ، وأن تستنهض الجمعيات الخيرية والمعـاهد الدينية المصـــرية , للعمـــل فى الجنوب فى مجال نشـــر الدين الإســـــلامى ونشر اللغة العربية وبهذا يساير الجزء الجنوبى أخـــاه الشمالى فى ثقافته وتراثه .

    هذا هو نمط التفكير الذى تحدد به مفهوم الوحــــدة لدى جيل الحــــــركة الوطنية الســـــودانية وعلى خـــطه سارت النخب اللاحقة . وفى هذا الصدد يقول المفكر السودانى عبد العزيز الصاوى - هذة الحركــات بدأت كحـــركات إحياء ثقـــافى للذات المحلية وأبرزها فى مقابل الذات الحضارية الأجنبية فكانت جزء من الصــــراع مع هذه الذات ونفيها والتخلص منها . ولم يكن هناك غير الثقافة العربية التى عرفوها فى البيت ، فى المــــدرسة وفى البيئة من حولهم لذلك لم يكن هناك تعمد لإبرازها ضد أو مقابل ذوات ثقافية سودانية أخرى - ولكن النفى والتخلــص فى عهود ورثة رواد الحركة جاء مزدوجا ، فنفى المستعمر ومن ثم نفى القوميات غير العربية والإسلامية فى السودان .

    هكذا ، فالتخلص من الإستعمــار ووحـدة البلاد كانا جـــزءان أساسيان من بنية الفـكر السياسى عند رواد الحركة الوطنية السودانية وعلى ضوئهما رسـم المتعاقبيين السياسيين خط أحمر حذروا من تخطيه فيما يتعلق بوحدة الســـودان كما خططوا لها ورسموها فى مخيلتهم مما يدل على أن نمط التفكير الإستعلائى العنصـرى الذى شكل الموقف السياسى والذى عمل فى مجالة رواسب الماضى الثقــافى فى الشمال لم يتم تصفيته فى بنية الوعى لدى الكثير من النخب السودانية الحديثة ، فتبلورت نتيجة لذلك أيديلوجية فى الشمال لا يستشعر ولا يقبل وجود الآخر.

    غالبا ما تنظر أيديولوجية الهيمنة التى تبنتها أنظمة الخرطوم، ذوات الميول القومى العربى الإسلامى الى مـــطالب الهوامش فى الحقوق والمساواة نظرة دونية أعتقادا منهم بأنهم لم يرتقوا بتفكيرهم الى مستوى القـــومية فى حين أن مفهوم القومية أو حتى السودان ككيان سياسى ، كما هو واضح فى الخطاب الرسمى ، يحمل مفــهوم مغاير لما لدى أهل الهامش ويلتبس حوله عتمة وغموض شديد ، فالسودان عندهم محصور فىإقليم بعينة وأى محاولة لتأكيد الأنتماء إليه من قبل الهامش يعتبر إختراق لخصوصية الوسط العربى الإسلامى ورغم تميز هذه الأيديولوجية بالعنصرية إلا أن أصحابها لا يرون فى ممارساتهم أى نوع من المحورية الأثنية بل ينظرون إلى ثقافتهم على أنها الكمالية التى يجب على ثقافات القوميات السودانية الأخرى أن تذوب فيها وإذا تعذرت ذلك فضلوا تقسيم الســـــودان أو إبعاد أقاليمه ( جيوبوليتيكيا ) للحفاظ على خصوصيتهم ، مما يدل على أن الأيديولوجية التى إرتكزت عليها النخب الشمالية لبناء الدولة الحديثة فى السودان بعد رحيل المستعمر كانت ايديولوجية عليلة كشفت عورتها تحديات الهوامش .

    الخــطأ الفادح الذى وقع فيه القيادات الجنوبية ذوى النزعة الإنفصـــالية أمثال أقرى جادين وقـــاى توت وغوردون مورتات هو التسرع فى تبنى مواقف إنفصالية من دون أن يدركوا هشاشة التوجه الوحدوى الشمالى وقابليته على الإنقلاب المفاجىء فى الإتجاه المعاكس متى ما جوبهت بحقائق التنوع والتعايش والتثاقف بين الإثنيات السودانية المختلفة . ولو قدر على الجــنوب أن ينفصــل بناءا على وجهة نظر هؤلاء القادة الإنفصليين الجنوبيين دون إختبار حقيقى كما هو الآن مع قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان فى مواجهة الأنظمة العنصرية فى الخرطوم ، لبقى ذلك وإلى أمد بعيد ، وصــمة عار فى جبين الجنوبيين . ولأتهم الجنوب بإنفصال غير مبرر رغم حقيقة التوجه العنصرى لأصحاب الميول العروبى فى الشمال والذى يعكسه الفكر السياسى فى الخرطوم .

    هذا التحدى هوالذى جعل أيديولوجية المركز ، التى لم تهيئ نفسها أصلا للاعتراف أومشاركة الآخر ، تخرج كل ما فى جعبتها من العنصرية ، وذلك لأن الأمــر لا يخــــرج من كونه مجرد مغالطة سياسية وفكرية لا غير . وقـــد جاء تصريح السيد قطبى مهدى يحمـــل الأبعـــاد الحقيقية والمغايرة لبعض المفاهيم المتعارف عليها فى الفكـر السياسى السودانى ، فقد قال فى ندوة نظمتها- حسب ما ورد فى سودانايل بتاريخ 10 يونيو- مجموعة حزب الأمة تشارك فى السلطة أن قرنق سيبدأ تنفيذ دعوته إلى الســودان الجديد بعد وصوله إلى الخرطوم بدعم من إسرائيل وقوى أجنبية ، كماأنه يعتبر نفسه - ويقصد قرنق- قائدا للمهمشين ويسعى إلى طمس الهوية العربية والإســــلامية". ثم دعا الى ما أسماه "وعى شعبى"حتى لا يصبح الســــودان أندلسا جديدا وطالب بإجماع"وطنى" . فالشعب المقصود هنا هو الشعب العربى الكريم والإجماع الوطنى يعنى إجماع أهل مركز الوسط .

    وأما النظرية الجيوبولتيكية التى خرج به الأستاذ ابو القاسم حاج حمد وكشف بعض ملامحها فى الحوار التى أجريت معه فى سودانايل بتاريخ12 يونيو2004 فما هى إلا نموذج آخر لعنصرية ما يسميه "مركز الوسط " لكن بعباءة العلم هـــذه المرة ، أى إنها نظرية عنصرية تخندقت وراء مفـردات علمية لتبرير المفهــوم الإقصائى فى فكر نخب مركز الوســـــط ، وأن الصيغ المعرفية فيها تكشف عن رواسب التفكير العرقى القديم الذى يؤكد أنه حتى التفكير العلمى الحديث لدى نخــب ما يسمى بالمركز لم ينج بعد من تلوث النزعة العرقية . والغريب فىالأمــــر هو أن أصحاب تلك الأيديولوجية لا يستشعرون الجانب العنصرى المخل من أيديولوجيتهم نتيجة لتمكن رواسب التمحور الأثنى والثقافى الماضى فى مخيلتهم . فبعد أن حشد السيد أبو القاسم حاج حمد فكرة "الجيوبوليتيكى" بمفردات إقصائية عنصرية ، تباهى بدون أدنى خجل بأنه رد الصاع صاعين لمن كتبوا الكتاب الأسود فى الغرب ولمن بعثوا تحالف الأثنيات فى الجنوب ومن ثم ادعى بأنه انتقد المــواقف العنصرية التى ، كما أعتقد ، تدعى بهتانا وزورا تهميش الوسط للأطراف" فى حين تحدث صراحة عن خصائص- مركزية الوسط التاريخى بشماله وشرقه ، وكيف أن هذه الخصائص لا تتقبل أى نوع من اللإختراقات وأنه -لا مسـاومة على مركزية الوسط ووحدة مع الشرق . ويقول فى موضع آخر: أما الذين طرحوا (كيان الشمال) أو (منبر الشمال) أو غير ذلك فإنهم مساقون برد الفعل العفوى ويؤججون لعنصرية مضادة فى الشمال دون وعى منهم....فتوجيهى للحفاظ على مركزية الوسط ليس أثنيا ولا عنصريا... ولامن قبيل التعالى العروبى" . هكذا وبعفوية مبالغ فيها ، جاءت النظرية الجيوبوليتيكية موبوءة بعنصرية وبهدلة فكرية مثير للشفقة جردت أصحابها من أى أحساس بالتعالى أوالعنصرية نتيجة لإنغماسهم المفرط فى المحورية العرقية والثقافية .

    يمكن أن نفهم مـن حديث الأستاذ أبو القاسم أنه رد الصاع صاعين ، أى أنه رد على عنصرية الغرب والجــنوب بعنصرية" جيوبوليتيكى إختراقى" مضاد . لكن ما علاقة الشرق بهذة الوحدة الإنتهازية البرغماتية المصوبة نحو ميناء بورتسودان ؟ وألا يمكن للدواعى التى إستحضرت جيوبوليتيكا الجنوب والغرب أن توجد لأدروب جوبوليتيكا خاص به فى المستقبل القريب؟
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de