الأفارقة والعرب … إنَّ الذي بينهم لمختلفٌ جداً

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 05:09 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-09-2004, 09:44 AM

Adrob wad Elkhatib
<aAdrob wad Elkhatib
تاريخ التسجيل: 05-05-2003
مجموع المشاركات: 638

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الأفارقة والعرب … إنَّ الذي بينهم لمختلفٌ جداً

    الأفارقة والعرب … إنَّ الذي بينهم لمختلفٌ جداً
    د. عمر مصطفى شركيان

    [email protected]

    حينما أُسر زعيم المعارضة الويلزي وأُحضر للمثول أمام الامبراطور الروماني في روما، قال الزعيم الأسير: "بما أنكم ترغبون في في السيطرة على العالم، فهذا لايعني أنَّ العالم راغب في العيش تحت احتلالكم". كان هذا، بالضبط والربط، هو رد الملك النوبي المسيحي لرسل جوهر الفاطمي – حاكم مصر – عندما بعثهم إلى مملكة النُّوبة للخضوع للدولة الإسلاميَّة ديانة وحضارة. فقد أردف الملك النوبي مستهجناً ذلك الإلحاء، بعدما طلب منه رسل جوهر اعتناق الإسلام، وهو يسأل لماذا لا يتخذ مليككم المسيحية ديناً له، حيث أنَّ كل عقيدة درة في عيون معتنقيها يبتهجون دائماً أن يروا طرائقهم تسود.

    ومهما يكن من الأمر، فقد استبسل النُّوبة قتالاً ودفاعاً عن ممالكهم القديمة حيناً من الدهر حتى اُضطروا إلى توقيع ذلك الاتفاق المهين الذي يُعرف في التأريخ باتفاقية البقط بين زعيم النُّوبة وقتئذٍ – كاليدوسوس – وحاكم مصر عصرذاك – عبدالله بن سعد بن أبي سرح. وأبشع ما جاء في الاتفاق هو اجبار النُّوبة على دفع 360 عبدا سنوياً إلى دولة المسلمين في بغداد. إنَّ هؤلاء الأرقاء، وغيرهم ممن جُلبوا من بلدان أفريقيا، هم الذين خاضوا فيما بعد ما عُرف بثورة علي بن محمد الزنج في العراق. غير أنَّ بعض الروايات تورد أنَّ العدد الاجمالي كان 400 عبداً حيث يذهب 40 منهم إلى حاكم أسوان حينئذٍ – عبدالله بن أبي سرح، وباقي الرقيق إلى دولة الإسلام. فمن هو عبدالله بن سعد بن أبي سرح؟ ومن ذا الذي منحه حق امتلاك ذلك النصيب المعلوم؟

    عبدالله بن سعد بن أبي سرح صحابي من بني عامر بن لؤي من قريش، كان أخاً عثمان بن عفان من الرضاعة وقد استجار له عثمان يوم فتح مكة فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم. "عند فتح مكة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله، هو وعبدالله بن خطل ومقيس بن صبابة ولو تعلَّقوا بأستار الكعبة. ففرَّ عبدالله واحتمى بسيدنا عثمان بن عفان فغيَّبه فترة حتى تهدأ الخواطر، ثم أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم طالباً له العفو. فصمت الرسول صلى الله عليه وسلم طويلاً ثم استجاب. وبعد ذهاب عثمان وعبدالله قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمن كانوا معه من الصحابة: ماصمتُّ إلاَّ ليقوم أحدكم فيضرب عنقه. فقال له أحد الأنصار: فهلَّ أومأت إليَّ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم إنَّ النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين".(1) وقد اعطاه عثمان بن عفان خمس الخمس من غنائم جيوش المسلمين في أفريقيا. وقد ورد في تأريخ الطبري (تأريخ الرسل والملوك) أنَّ عثمان لما أمر بن أبي سرح بالزحف من مصر على تونس لفتحها قال له: "إن فتح الله عليك غدا أفريقيا فلك ما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة فضلاً".(2) وإنَّه لمبلغ الأسى أن نجد رجال "الانقاذ" في السُّودان يطلقون اسم عبدالله بن سعد بن أبي سرح على إحدى كتائب الجهاد التي تموج وتمور بها الساحة السياسيَّة السُّودانيَّة لإخضاع أهل الجونب وجبال النُّوبة والأنقسنا كرهاً ورهبة. بالطبع وبالضرورة، لم يعجب هذا المرج والهرج بأرواح الأبرياء أهل العقل والبصيرة. فقد تصدى لهذا العبث لفيف من الأقلام كان أبرزهم السيد إبراهيم طه أيوب، وزير خارجية سابق في حكومة الدكتور الجزولي دفع الله (1985–1986م). فلم يترك صاحبنا أيوب أهله والرماح تنوشهم، بل هب ليبدِّد هذا الخطل الجلل في المخيلة السُّودانيَّة. وأذكر في الكتاب أيوب إنَّه كان صادقاً فيما ذهب إليه وعما عبَّر عنه.

    عوداً إلى البدء، فقد انصرف جل اهتمام العرب باصطياد الرقيق أكثر من اهتمامهم بنشر التعاليم الإسلامية والثقافة العربية، ويتضح ذلك جلياً في إلحائهم على تسديد متأخرات الرقيق والعمل بهذا الاتفاق القميئ على نحو 600 عاماً. وقد اهتم العرب، أكثر مما اهتموا، بالإماء. والأمة كما هو معروف هي أنثى العبد، وكان يجيز لهم الاستمتاع بهن كزوجاتهم، مستدلين بالأية الكريمة في قوله تعالى: "والذين هم لفروجهم حافظون. إلاَّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنَّهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون".(3) فعقد الزواج في الاسلام لا يحل للرجل أن يتزوج أكثر من أربع في وقت واحد، ولكن يحل له أن يطلق منهن ويتزوج غيرهن ولكن بعد انقضاء عدتهن وهي مدة ثلاثة أشهر بعد الطلاق. أما ملك اليمين فهو حق الرجل أن يمتلك من النساء ما يشاء دون تحديد العدد طالما هو قادر على ذلك، حتى وصل الأمر عند بعض الخلفاء إلى امتلاك ألفي أمة، وعند البعض الآخر آلاف أمة. وتوزَّعت الأماء بين جارية لفراش اللِّذة، وبين سريَّة(4) تلد لمولدها وتقيم معه ولا يحق له بيعها، وتصبج حرة بعد موته، وبين قينة تحي الليالي الملاح بصوتها العذب الصدَّاح. وقد حفلت قصور الخلفاء والأمراء والقادة الأغنياء بالجواري من كل لون وجنس، فمنهن الحبشيَّة، ومنهن الروميَّة، ومنهن التركية، ومنهن الهندية، وقد تفشَّى الفساد واللهو في الدور التي غصَّت بمثل هؤلاء الجواري، ولم تسلم من ذلك قصور الخلفاء الذين بالغوا في اقتنائهنَّ وفي المبالغ التي دُفعت لشرائهن حتى أنَّ بعض الخلفاء دفع أربعين ألف دينار ثمناً لجارية واحدة، وهذا المبلغ يكفي لإعالة عائلة لمدة سنة كاملة، وبعضهم جمع في قصره أكثر من ثلاثة آلاف جارية يُنفق عليهن ما يكفي للانفاق على خمسين ألف مسلم، وبعضهم انشغل عن أمور الخلافة بجارية أخذت بعقله وسيطرت على تفكيره حتى مات حزناً بعد موتها فدُفن بقربها.(5) وكان أكثر الناس يُكرِهون إماءهم على البغاء، يبتغون عرض الحياة الدنيا، وإن أردن تحصناً، فنهى الله تعالى في كتابه عن ذلك بقوله عزَّ وجلَّ: "ولا تُكرِهوا فتياتكم على البغاء وإن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا".(6)

    ولعل هذا السلوك غير الانساني يفسِّر ما تتعرض له عاملات(خادمات) البيوت من فليبينيات وهنديات وغيرهن في المملكة العربيَّة السَّعودية وغيرها من دول الخليج الأخري من استغلال جنسي وامتهان لحقوقهن ضد رغباتهن. كما أنَّ تلك الدوافع الجنسية والرغائب الشهوانية هي التي جعلت العرب يؤثرون الإناث على الذكور في الاسترقاق، وقد بلغت نسبة الإناث إلى الذكور 1:3. وعلى الرغم من هذه النسبة الضئيلة من الذكور، بيد أنهم كانوا يتعرَّضون إلى أفظع صنوف الأذي الجسدي وهو عملية إزالة الأعضاء التناسليَّة (Castration) وتحويل الرجال إلى الخصيان (Eunuchs) لحراسة الحريم في المنازل. وفي هذه العملية البشعة كانت نسبة البقاء على قيد الحياة 10% من جملة الذين يتعرَّضون لهذا العملية المميتة. وعليه فلن تصيبنا دهشة إذا وجدنا نسبة قليلة من الزنوج الأفارقة في شبه الجزيرة العربية الذين جاءوا إلى هذه البسيطة عن طريق "ما ملكت أيمان العرب". بالمقارنة مع العالم الغربي، نجد أنَّ الغرب استحبوا الرجال الأشداء الأقوياء على النساء، وإن جلبوا مع أولئك الرجال عدداً من النساء، لحفظ النوع وضمان عملية التكاثر. كان دافعهم إلى استجلاب الرقيق القوي الأمين للعمل في مزارع القطن في الولايات المتحدة الأمريكية وحقول قصب السكر في جزر الهند الغربيَّة (البحر الكاريبي)، وتعبيد الطرق، وتشييد القناطر، وحفر السرادق، وبناء العمران والعمل في مصانع الغرب الرأسمالي إما إبَّان الثورة الصناعيَّة في أوربا أو في بناء دولة الويات المتحدة الأمريكية الحديثة النشوء.

    ويحدثنا البروفسير يوسف فضل حسن، المدير السابق لجامعة الخرطوم، في بحثه القيم عن بعض مظاهر تجار الرق العرب من السُّودان بين القرن السابع والتاسع عشر، أنَّ العرب هم أول الأجانب الذين توغَّلوا إلى أدغال أفريقيا لاشباع الرغبة الملحة للرقيق في العالم الإسلامي. ومن خلال إيلاجهم إلى أعماق القارة، ومازال الحديث للبروفسير حسن، وجدت تجارة الرق حافزاً قويَّاً وأهمية قصوى.(7) وفي هذا السياق تأتي مقولة بن خلدون الشهيرة: "إنَّ العرب ما أن تغلَّبوا على أوطان وإلاَّ آل عليها الخراب". بيد أنَّ سياسة الإسلام تجاه الاتجار بالإنسان يصدع بها حديث شريف يُنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مستهجناً هذه المهنة: "شرار الناس من باع الناس". وقد كان عمر بن الخطاب – ثاني الخلفاء الراشدين – يردد مقولته الشهيرة "بم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" في الوقت الذي كانت فيه تجارة الرق رائجة في شبه الجزيرة العربيَّة. ومهما يكن من الأمر، فقد كان هنالك نوعين من الرقيق المطلوب في سوق النخاسة: النوع الأول ذو الأصل التركي، ويتم استخدامهم في الجندية (المماليك)، أما النوع الثاني فهو السًّوداني بمعناه التأريخي العريض (من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي)، وكانوا يعملون في البيوت، والعسكرية والأعمال اليدوية الشاقة. ويمكننا الاستدلال بشجاعة الأفارقة، مما استخدمهم العرب في ساعات الوغي وحين يحمو الوطيس، في قول الشاعر الزيمبابوي – موسيمارا بوناس زمونيا – حيث أنشد

    إحد عشر رجلاً رُصصوا قتلاً

    في تظاهرة رفع الرواتب

    لكن! لما صمت دوي المدافع،

    حالاً اصطفَّ مائة آخرون وقوفاً

    وجوههم فحمية مسلوخة

    وقفوا

    لتظاهرة أخرى

    إنَّه يسحر الإنسان

    وعلى الرَّغم من غياب احصاء دقيق عن العرب وتجارة الرقيق في أفريقيا، غير أنَّ المؤرخ بول لوفجوي (Paul Lovejoy) يقدر العدد بنحو 9.85 مليون أفريقي تم نقلهم قسراً كأقنان إلى شبه الجزيرة العربيَّة وجزء يسير إلى شبه جزيرة الهند. إذاً، مالذي يجعل الإنسان يختزل إنساناً أخر إلى وضع قانوني يسمح ببيع وشراء غيره في سوق النخاسة؟

    حدثت في عصور متأخرة محاولة لتصنيف البشر إلى ثلاثة أقسام: سلالات "النهار" وسلالات "الليل" وبينهما برزخ هو سلالات "الغسق"، وحتى الأن لا يزال الناس في أمرهم مختلفون، فهناك فريق كبير من الكُتاب يقولون: الجنس الأبيض والجنس الأسود والجنس الأصفر. ومع أنَّ لون البشرة هو الفوارق الظاهرة بين الجماعات البشريَّة، فهو ليس فارقاً سلاليَّاً أصليَّاً، بل مكتسباً من تأثير البيئة. فليس اللون إلاَّ صبغة والبياض نقص الصبغة. ويأبى بعض الناس ألاَّ يسمون الأشياء بأسمائها، فيطلقون اللون الأسمر على الإنسان ذي اللون الأسود، وفي ذلك يقولون – على ذمة التقارير الاجتماعيَّة والنفسيَّة – "السمارة أمارة" خاصة هجين "حبشطالي" (الأب حبشي والأم إيطاليَّة)، أو هجين "إيطاشي" (الأب إيطالي والأم حبشية). وإذا كان هذا الأسمر ممن يملك صوتاً جميلاُ، فإنَّ الناس تطلق عليه اسم العندليب الأسمر. وفي المقابل هناك اللون الأبيض، وهو أقرب ما يكون إلى لون الحليب، لذلك يُقال أبيض كالحليب، وتقول العرب الجارية الرعبوبة وهي البيضاء الحسنة الناعمة التي تستحسنها عند التأمُّل لدمامة قامتها، والهجان هي المرأة الحسنة البياض. ويتخذ العنصريون من القتامين أو الصبغ السافع – صبغة الجلد – طريقاً للتفاضل والتمايز، ويجعلونه سبباً لأنَّ هذا التباين إنَّما هو بيولوجي قد أوجده الله على السَّطح الخارجي لجسم الإنسان للتكيُّف مع تغيُّر البيئة واختلاف الأجواء الشمسيَّة بين القطبين وخط الاستواء. وقد توهَّم بعض النسَّابين العرب ممن لا علم لديهم بطبائع الكائنات أنَّ السُّودان ولد حام بن نوح، اختصوا بلون السَّواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه، وفيما جعل الله من الرِّق في عقبه وينقلون في ذلك حكاية من خُرافات القصاص. وفي القول بنسبة السواد إلى حام غفلة عن طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء. كائناً ما كان الأمر، فقد اتخذ العالم الغربي هذا التفسير التوراتي لسواد الزنوج كتعليل ديني لاستعبادهم، ثم ذهب بعض منهم أكثر من ذلك سبيلاً، حيث نظَّر العلماء الغربيُّون إنَّه إن وُلد طفلان أحدهما أبيض والآخر أسود، ففي لحظة ما يتوقَّف عقل الطفل الأسود عن التطوُّر، وتم إصدار تأليفات شتى في هذا الافتراء الذي لا تسنده حجة. فلا التفسير اللاهوتي للعنصريَّة ولا العلمي يمت للحقيقة بصلة. وإنَّ الأدلة على عدم صحة القول بتفوق إحدى السلالات الراقية في المواهب العقليَّة على الأخرى لمتوفرة. فإذا أخذنا الوجهة الفردية ودرسنا تسلسل بعض النوابغ، وجدنا أنَّ لا عبرة بنقاوة السلالة فالشاعر الكبير أسكندر بوشكين المبدع في الأدب الروسي القومي كان ذا عرق زنجي، فقد كان لبطرس الأكبر قائد زنجي رفعته درجة ذكائه إلى مرتبة مهندس المدفعيَّة العام وصيَّرته ذا أملاك واسعة وبطلاً هماماً وتزوج سيدة روسيَّة من الأشراف، وحفيد هذا الزنجي هو بوشكين أعظم شعراء روسيا. والكاتبان الشهيران دوماٍس الأب والإبن كانا ذا عرق زنجي. كما أنَّ تشيفاليير دي سينت-جورج (Chevalier de Saint-George) كان أول أسود بلغ مرتبة عقيد في الجيش الفرنسي. وقد وصفه جون آدمز، الذي أصبح فيما بعد ثاني رئيس للولايات المتحدة الأمريكيَّة، لدي زيارته لفرنسا في العام 1779م بأنَّه الشخصية الأكثر موهبة في أوربا، وذلك في ركوب الخيل، والرماية، والمنازلة، والرقص والموسيقى. وقد رفعته مواهبه في اللحن والموسيقى مكاناً عليَّاً، وبات يُعرف بموزارت الأسود. وفي العام 1775م، عيَّنه الملك لويس السادس عشر رئيساً للأوبرا في باريس. بيد أنَّ الرَّاقصات الباريسيات رفعن بلاغاً إلى الملكة يخبرن جلالتها أنَّ شرفهن وحساسيَّة ضمائرهن يجعلان الأمر مستحيلاً لهن تلقي تعليمات من الخُلاسي (المولَّد). رحم الله سينت-جورج موسيقاراً كان ثم فارساً مغواراً. فقد انتظرت روحه حيناً من الدهر قبل أن يتم الاحتفاء بهذا النابغة وتخليد ذكراه باعادة تسمية شارع ريتشبانز، الجنرال الفرنسي الذي أمر بقتل آلا ف المتمردين في إحدى جزر الهند الغربيَّة، باسم تشيفاليير دي سينت-جورج في قلب باريس.

    وقد أنجبت أفريقيا رجالاً عظاماً، فيعتبر ليوبولد سيدار سنجور، الرئيس السنغالي الأسبق، واحداً من أهم شعراء الفرانكوفونيَّة (Francophone) – أي الأقطار الناطقة باللغة الفرنسيَّة، بل أجل من قال الشعر الفرنسي بعد الحرب العالميَّة الثانية (1939–1945م). وقد صاغ مع إيميه سيزير نظرية الزنوجة (Negritude) للتعبير عن الشخصية الجماعيَّة الزنجية-الأفريقيَّة. وقد أصدر سنجور أول عمل شعري العام 1945م تحت عنوان "أناشيد ظليَّة". و على الرَّغم من تسلمه مقاليد الحكم في السنغال، إلاَّ أنَّه واصل عمله الشعري. وأصدر بعد ديوانه الثاني "أثيوبيات" (1956م)، "طوارق ليليَّة" (1961م)، و"مرثيات كبرى" (1978م). وسنجور معرف أيضاً بقلمه النقدي في شؤون الثَّقافة والسياسة، وتقف الأجزاء الخمسة "الحريَّة" على رأس أعماله النثريَّة. لقد نال العديد من الجوائز وأوسمة الشرف، حيث استطاع هذا الشاعر الإنساني النزعة أن يكتشف لنا المخيلة الأفريقيَّة في أجمل لحظاتها الإنسانيَّة وبلغة آتية من أعماق تربتها وتأريخها العريق، وفي الوقت ذاته ترتقي بلغة المستعمر إلى سمو الشعر الكوني، حيث كان سنجور أول أفريقي يدخل الأكاديميَّة الفرنسيَّة.(9) ووقتما أكَّد سنجور بأنَّه يتمتَّع باحساسات أفريقيَّة، ولكنه يفكر بطريقة أوربيَّة سمى ذلك "ظاهرة التهجين الحضاري والبيولوجي والثقافي". فقد ولد لأب مسيحي وأم مسلمة. وهذه الظاهرة – أي ظاهرة التهجين الحضاري – أعطت دفعة قوية للحضارات المصرية والأفريقيَّة والأغريقيَّة. وقد درس سنجور المسيحي الإسلام وقرأ القرآن، كما أنَّه تأثَّر بالشعر العربي القديم ولا سيما أشعار عنترة بن شداد العبسي. وعلى الرَّغم من اعتناقه للمسيحيَّة عقيدة له، إلاَّ أنَّه كان ينفق على إخواته المسلمات حتى أكملن تعليمهن الجامعي. وليس هذا بغريب، وإنَّما هو عرف جار في الثقافة الاجتماعيَّة الأفريقيَّة حيث يأخذ الدين دوراً فردياً في علاقة الشخص مع ربه، وكل نفس بما كسبت رهينة، فلا تديين للأسرة، أو المجتمع، أو الدولة، إلاَّ بعد انسياب الهوس اللاهوتي إلى بعض أقطار القارة كما سنبين ذلك لاحقاً في هذه الصفحات. إنَّ مبادئ التلاقح الانسيابي في المجال الثقافي والديني والعرقي بين الشعوب الأفريقيَّة والعربيَّة، لا بالسيف والسلطان كما يفعل الآخرون، قد استرسل فيها الأديب السوداني جمال محمد أحمد. ذلكم الأديب الألمعي الذي أفنى ريعان شبابه يعلِّم السودانيين والأمم الناطقة بالعربيَّة عن تراث أفريقيا في تصنيفاته الأدبيَّة والفكريَّة وفي التراجم والبحوث: "مطالعات في الشؤون الأفريقيَّة (1968م)، "سالي فوحمر" (1970م)، "في المسرحية الأفريقيَّة" (1971م)، "وجدان أفريقيا" (1972م)، "عرب وأفارقة" (1977م)، "أفريقيا تحت أضواء جديدة"، "ولايات النيل المتحدة"، و"الثقافة الأفريقيَّة المعاصرة". هذا الرفد العارف والمتعمِّق في الشأنين الأفريقي والعربي قد تم على بصيرة ورؤية، واتكأ على تأريخ ومكوِّن عميق الجذور.

    ومثلما أنجبت أفريقيا سنجور أتت، كذلك، بابن آخر يشار إليه بالبنان. إنَّه فتى نيجيري يقال له وول سوينكا – وإن كان أهالي نيجيريا ينطقون اسمه "شوينكا". إنَّ هذا الأديب الحصيف قد لفت انتباه العالم كله بإبداعه في الأدب حتى حاز على جائزة نوبل للآداب لعام 1986م كأول أديب أفريقي يحصل على هذه الجائزة منذ أن وُجدت، ثمَّ تبعه في الجائزة سنجور. وسوينكا كاتب دراما ومقال وقصة قصيرة، ثمَّ إنَّه شاعر وروائي وممثل موهوب وموسيقار بارع ومخرج مسرحي عميق الوعي والإدراك والفهم، كما أنَّه سياسي من طراز رفيع. ولذلك فإنَّ الأكاديميَّة السويديَّة، وهي تعلن عن قرار فوزه بجائزة نوبل، قالت في أسباب هذا الفوز ... إنَّ سوينكا قدَّم عرضاً مؤثراً للوجود والإنسان مع آفاق ثقافيَّة عريضة الاتساع. وقد قال عنه المناضل الأفريقي، نيلسون مانديلا: " إنَّه شكسبير أفريقيا".

    على الرَّغم من هذه الأدلة الدامغة في نبوغ الأفارقة، أخذت العرب أهمية عظمى على أوهام السلالة فافتخروا كثيراً (بطيب عنصرهم) وظنوا الأجانب أدنى منهم فسموهم (علوجاً) وغير ذلك من الأسماء، وأثَّر الدين الإسلامي عندهم كثيراً على أوهام السلالة. فقد تقاول مرة أبوذر الغفاري وعبد زنجي في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فاحتد أبوذر على العبد وقال له: "يا بن السوداء"، فغضب النبي عليه السلام، وقال: "طفَّ الصاع طفَّ الصاع"، أي قد تجاوز الأمر حده "ليس لابن البيضاء على بن السوداء فضل إلاَّ بالتقوى أو بعمل صالح". فوضع أبوذر خده على الأرض، وقال للأسود: "قم فطأ على خدي".(10) تُرى من هو ذلك العبد الزنجي؟ إنَّه بلال بن رباح مؤذِّن الرسول صلى الله عليه وسلم. إنَّ الإسلام الذي يدين له العرب وغيرهم قد آزره وحملوه العبيد في بادئ الأمر. فقد نكل بهم المشركون أي تنكيل وكابدوا وصابروا كل أضراب العذاب. فنجد أنَّه حين سمع الخباب بن الأرت بالرسول صلى الله عليه وسلم، أعلن إسلامه. وعلى الرغم من أنَّه كان عبداً بلا سند شعبي، لم يخف إسلامه من قريش، فأوسعوه ضرباُ حتى أغمي عليه واستيقظ ليجد جسمه يعاني من جروح، وعظامه تعاني من التواء وتكسير. قال الشعبي: "صبر الخباب فلم تكن له بين يدي الكفار قناة، فجعلوا يلصقون ظهره العري بالحجارة المحماة حتى ذهب لحمه من شدة العذاب، ولم يضعف ذلك من إيمانه فكان أكبر من كبرياء قريش في طغيانها حتى اشتد عليه البلاء ومن معه من بلال بن رباح، وصهيب بن سنان، وعمار بن ياسر وآخرين.(11) وقد عُذِّب الأرقاء لسببين: لأنهم عبيد سود، فضلاً عن اعتناقهم الدين الجديد الذين هم له مخلصون والكفار به مشركون. وبما أنَّ المسترقين لم يملكوا من الدنيا من شئ، إلاَّ أنَّ إيمانهم بالعقيدة الجديدة قد تجلب لهم تغييراً اجتماعياً من حرية وكرامة، أو تعدهم بالوعد الحق، لذلك نجدهم قد دخلوا في دين الله أفواجاً.

    وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وسلَّم في حادث العَرَنيين، وكان هؤلاء قد استولوا على إبل للنبي وقتلوا راعيها النُّوبي، وقطعوا يديه ورجليه وغرزوا الشوك في عينيه ولسانه حتى مات. فأرسل النبي في طلبهم، فأُدركوا، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الشمس حتى ماتوا. وفي حادث العَرَنيين هذا لذكرى وجيعة في حق إمرأة "نوباويَّة" في السُّودان. فبينما كان كاتب هذه السطور في جبال النُّوبة لحضور مؤتمر عموم النُّوبة في كاودا (من 29 تشرين (نوفمبر) – 5 كانون الأول (ديسمبر) 2002م) تعرَّضت هذه السيدة من المليشيات العربيَّة الحكوميَّة إلى فعلة شنيعة ما أنزل الله بها من سلطان. فما كانت إمرأة سوء، ولم تكن بغيَّاً. وعلى الرَّغم من ذلك، اُغتصبت على أسنة الرِّماح، أو كما تقول الفرنجة (Gang-raped)، وبعد الاغتصاب تم حشو أعضائها التناسليَّة وأذنيها وعينيها وأنفها وثغرها بالتراب والأعشاب، ثمَّ تركوها ملاقاة على قارعة الطريق، حتَّى عُثر عليها أهلها النُّوبة وهي هامدة تكاد لا تبين من أمرها شيئاً، وكانت قاب قوسين أو أدنى من الهلاك. فأتت بها قومها تحملها إلى مستشفى كاودا، حيث تم اسعافها بواسطة البعثة الطبيَّة لدي القوات الدوليَّة العاملة في مراقبة اتفاق وقف إطلاق النَّار في جبال النُّوبة الموقع بين الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السَّودان وحكومة السُّودان في سويسرا في 19 كانون الثاني (يناير) 2002م. في ذينك الحادثين، العَرَانيين في الجزيرة العربيَّة والمليشيات العربيَّة في جبال النُّوبة، عامل مشترك ألا وهو أنَّ الضحية من النُّوبة والجناة من العرب – سواء علينا إن كانوا من العرب العاربة أم المستعربة – وإن اختلفت الأزمنة وتباعدت الأمكنة. إنَّ هذا السلوك البربري ناتج من اقتناع عميق عند العرب بأن النفس الأفريقية رخيصة، وموتهم لا يعني شيئاً لديهم، فلم يكتفوا باستعبادهم، بل ذهبوا أكثر من ذلك سبيلاً في التعذيب التقتيل.

    وكتب الأديب النحرير أبوعثمان الجاحظ رسالة مستفيضة عن "فخر السُّودان على البيضان" فيها سارداً ومعدِّداً مزايا وحرف ومواهب الأقوام ذي الأصول الأفريقيَّة الذين عاشوا في الوطن العربي حول شط العرب ومسقط وعمان وسواحل البحر الأحمر. وتوصَّل إلى حقيقة ذكاء هؤلاء الناس من الصومال وأكسوم وغيرهما، بحيث تؤكِّد ما دوَّنه عنهم الرومان واليونان وكبير النجاشي في أثيوبيا. وقد يقول قائل: كان الجاحظ يتخذ أسلوباً دفاعيَّاً عما كان يجيش في نفسه ويعتمل في صدره من الغضب، لأنَّه كان أسود اللون مما أضفى على عمله الجانب الانتقامي أكثر من المسلك البحثي. لكن ماذا عساه أن يفعل: رجل عاش في مجتمع تنوشه العنصريَّة البغيضة وتتقاذف به الأهوال والضغينة كأنَّه كبش فداء في مأدبة اللئام.

    وقد كتب أحد القراء العرب – معلِّقاً ومبدياً إعجابه عن طريق التهكم والسخرية – عن مقال خطَّه جعفر عباس في إحدى الدوريات العربيَّة، حيث قال: "إنَّه أُعجب أكثر لأنَّه يحاول (جعفر عباس) أن يختبئ وراء اللون الأسود محاولاً اخفاء أصله السويدي. ولعلَّ تشابه كلمتي سويدي وسوداني هو ما جعله يختار سوداني".(12) هذا هو جزاء السًّودانيين في الوطن العربي، فكلما أسرفوا في حب العرب من جانب واحد، رُدت إليهم بضاعتهم مزجاة بما في ذلك منتجاتهم الزراعية. وهكذا نجد أنَّ الفول السُّوداني معروف في لبنان وبقية أقطار الشام الأخرى "بفستق العبيد"، في الوقت الذي يدلِّل فيه السُّودانيون الصمغ الذي يُحصد من غابات السافنا في قلب أفريقيا "بالصمغ العربي". فعلى السودانيين أن يُستشفوا من هذا المرض النفسي ويعتقوا رقابهم من الذيلية العمياء التي رموا فيها أنفسهم ولا يكادون أن ينفكوا منها أو يجدوا منها مخرج صدق. ولمعرفتنا بالجغرافيا السياسيَّة لمنطقة الشام لم تأخذنا دهشة عندما قرأنا أنَّ وليد جنبلاط، أحد زعماء الطوائف اللبنانيَّة، قد عاب كونداليزا رايس، مستشارة الرئيس الأمريكي – جورج دبليو بوش- في شؤون الأمن القومي، في لونها الأسود، حيث قال عنها: "وكونداليزا بلونها النفطي (أي الأسود)". أولئك هم أخلاق خلائق أهل الشام في الحاضر والماضي. فحينما ولاهم معاوية بن أبي سفيان بن حرب بعد الفتنة الكبرى أتى شيئاً مثيلاً لما قاله جنبلاط. فبينما كان معاوية في الحج سأل عن إمرأة من بني كنانة يقال لها دارميَّة الحجونيَّة، وكانت سوداء كثيرة اللحم، فبعث إليها فجئ بها، فقال: ما حالك يا ابنة حام؟ فقالت: لست لحامٍ إن عبتني؛ أنا إمرأة من بني كنانة. وفي موضع آخر سأل إعرابي رجلاً موسراً فلم ينل منه شيئاُ فقال شعراً مبتذلاً ليس به بيان أو إبداع:

    والله والله مرتين لحفر بئر بإبرتين

    وكنس مصر بريشتين وغسل عبدين أسودين

    حتى يحولا لأبيضين وحمل ثورين باليدين

    وهناك أشعار عربية كثيرة نكاد لا نحصيها عدداً تجعل من الإنسان الأسود – رقيقاً كان أم حراً – موضع الإهانة والاستفزار، كما يقول شاعر آخر:

    العبد يقرع (يلحى) بالعصا والحر تكفيه الإشارة

    وهذا البيت هو أقرب ما يكون إلى المثل العربي القائل: "إنَّ اللبيب من الإشارة يفهم". وترقى فكرة هذا المثل إلى "حسب الحكيم كلمة واحدة"، أو "حسب العاقلين كلمات قليلة"، واستقر هذا المثل على الصيغة المتداولة: "تكفي الحكيم كلمات قليلة". وبين أيدينا مقال للكاتب السعودي – نزار عبيد مدني – عارضاً فيه الشخصية العربيَّة في الفكر العربي القديم. ولقد عني الكثير من الأُدباء العرب القدامى منهم والجدد بإبراز صفات فاضلة عن الإنسان العربي في خلقه وطبائعه وتقاليده وسجاياه في الشعر والنثر والخطب والقصص والأمثال، حتى لو كان ذلك متناقضاُ مع ما أقره القرآن الكريم في محكم تنزيله "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً". ولم نستثن، بلومة لائم ولا ضربة لازب، أولئك الذين اتخذوا العروبة إثنية ثانية لهم، كما يندرج في هذا الإطار رأي بن المقفع الكندي (وأصله من فارس) في العرب في معرض سؤاله عن أعقل الأمم. فلم يعني بالسؤال الفرس الذي قال فيهم: إنَّهم ملكوا كثيراً من الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر، فما استنبتوا شيئاً بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم. وقال في الروم أصحاب صنعة، وفي الصين أصحاب طرفة، وفي الهند أصحاب فلسفة، وفي السُّودان قال عنهم شر خلق الله. ومن شعراء الصعاليك من عُرف بسواد لونه، لاختلاط دمه "بالدم الحامي"، وذلك لكون أمهاتهم من الإماء السوداوات المستقدمات من الحبشة أو أفريقيا أو من الهند عن طريق اليمن. ولقد سمى العرب هؤلاء الشعراء السُّود بأغربة العرب أي غربانها. وعلمنا أنَّ الغراب رمز الغربة المشؤوم، فهو يعتري المنازل بعد أن يبين أهلها، وبسبب تشاؤمهم من الغراب، اشتقوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب. فتقول العرب: "أشأم من غراب البين". فكان من هذه الأغربة عنترة بن شداد، كما كان منهم الصعاليك الثلاثة: ثابت بن الأوس الأزدي الملقب بالشنفري نسبة إلى عظم شفته أو حدة مزاجه، وثابت بن جابر بن سفيان الفهمي الملقب بتأبط شرَّاً، والسُليك بن السُلكة. والشنفري، الذي يُدعى في بعض المصادر بعمرو بن مالك الأزدي، شاعر جاهلي يماني، كان من فتَّاك العرب وعدَّائهم لما تعرض له منهم، وهو أحد الخلعاء الذين تبرَّأت منهم عشائرهم. قتله بنو سلامات نحو 70 ق.ه. (نحو 525م). أما عنترة بن عمرو بن شداد العبسي – هذه الشخصية الأسطوريَّة في تأريخ العرب قبل الإسلام – فقد كان لديه مشاكل مع أبيه – أقرب الناس إليه – بسبب لونه الذي تسببت فيه أمه السوداء، أو لكون أمه جارية لا أكثر ولا أقل. وكان أمُّه أمة حبشيَّة تسمى زبيبة، وأبوه من سادات بني عبس، وكان من عادات العرب ألاَّ تلحق ابن الأمة بنسبها، بل تجعله في عداد العبيد، ولذلك كان عنترة عند أبيه منبوذاً بين عبدانه. إنَّ هذه الاشكاليات مع أبيه قد زالت عندما أبلى عنترة في إحدى الغارات بلاءً حسناً، مما دلَّ على شجاعته وجعله حرياُ بأن ينال إعتراف أبيه. ويشير المؤرخون إلى أنَّ سبب تفتُّح شاعرية هذا الرجل، أنَّ رجلاً من بني عبس قد سابه وذكر سواده، وأمه، وأخوته، وعيَّره بذلك، فجاوبه عنترة، وفخر عليه بأنَّه يخوض المعارك، ويعف عند المغنم، ويجود بما ملكت يده، ويفصل الخطة الصماء. فقال الرجل: "أنا أشعر منك"، فردَّ عنترة: "ستعلم ذلك"، ثم أنشأ المعلَّقة ... وقد ذكر بعضهم أنَّها أول قصيدة قالها.

    وقد بلغ بالعرب مبلغاً من الكراهيَّة والعنصريَّة جعلهم يقتلون ثلاثة من شعراء أولاد العجم ممن كان مشتهراً بالغزل، ومنهم: وضاح اليمن، ويسار الكواعب، وسحيم عبد بني الحسحاس. ووضاح اليمن هو عبدالرحمن بن إسماعيل (وفي المؤرخين من يسميه عبدالله بن إسماعيل)، من آل خولان، من حمير: شاعر رقيق الغزل، عجيب النسيب، كان جميل الطلعة يتقنَّع في المواسم. قدم مكة حاجاً في خلافة الوليد بن عبد المطلب، فرأى أم البنين بنت عبدالعزيز بن مروان، زوجة الوليد، فتغزَّل بها فدفنه الوليد حيَّاً في العام 90 ه، ويسار الكواعب قيل عنه إنَّه كان شاعراً دميم الصورة تضحك النساء من رؤيته فيحسبهن يعجبن به ويعشقنه. ورأته منشم بنت الوجيه وكانت زوجة مولاه، فضحكت، فطمع بها فدخل عليها خباءها فأتته بطيب ومعها موسى فأشمته الطيب وأنحت بالموسى على أنفه فاستوعبته قطعاً فخرج ودمه يسيل فعرف زوجها فقتله. أما سحيم فهو شاعر رقيق الشعر اشتراه بنو الحسحاس فنشأ فيهم، فقتلوه وأحرقوه لتشبيبه بنسائهم، وذلك نحو 40 ه (660م). وإنَّما قُتلوا كلهم أجمعين أبتعين بدعوى الكف عن أولئك النساء، وحفظاُ لهن، حين رأوا التعرض، وشنعة تلك الأشعار، والمقالة القبيحة. بيد أنَّ الحجاج بن يوسف في عتوه لم يتعرَّض لابن نمير في تشببه بزينب أخته مخافة أن يكون ذلك سبباً للخوض في ذكرها، فيزيد زائد، ويكثر مكثر. وكذلك معاوية بن أبي سفيان لم يتعرَّض لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت وكان يتشبب بابنته.(13) هؤلاء هم قوم أحلُّوا الغزل لأنفسهم فلم يطب لهم أن يروا ذلك في غيرهم ولا سيما العجم والعبيد حتى لو أدَّى ذلك لتصفيتهم جسديَّاً كما شهدنا. وقرأنا كيف اكتظَّت الساحة الأدبيَّة بشعراء الغزل العذري والعفيف وغيرهما، أمثال قيس بن الملوَّح (المعروف بمجنون ليلى)، وهي ليلى بنت مهدي بن سعد، وكذلك جميل بن معمر العذري (من بني عذرة) – صاحب بثينة - وكُثير عزَّة وإمرئ القيس وخاله المهلهل بن ربيعة، والأحوص وبشار وآخرون من شعراء التشبيب ( بأنواعه وهي النسيب والغزل والتصابي).

    ومثلما بغض العرب شعر العجم، انحسر دور الموسيقي في نطاقه العربي السلبي، فكان متروكاً "للموالي". ويحدثنا التأريخ الإسلاموعربي عن أول مغني نبغ في الإسلام وهو "طويس"، أي تصغير طاووس – والتصغير هنا للتحقير – واسمه الكامل عبدالمنعم عيسى بن عبدالله الذائب (637–710م). وكان "طويس" مولى بني مخزوم في المدينة. نشأ ببيت أروي أم الخليفة عثمان بن عفان، وسحرته وهو صغير الألحان التي كان يغنيها أسرى الفرس الكادحون في المدينة، فقلَّدهم ولم ينبه ذكره إلاَّ في أواخر خلافة عثمان (644–646م). وتلهج كتب تأريخ العرب بذكر عبقريَّة "طويس" الغنائيَّة، ولقد قال عنه تلميذه "بن سريح" إنَّ "طويس" أجمل وأحذق مغني عصره. وهكذا ترفع المواهب الناس للعلا، وإن كانوا غير أهل لذلك بالميلاد. ومع ذلك كان "طويس" مثل أكثر أوائل المغنيين آنذاك من سقط المجتمع ومنبوذيه لأنَّه مخنث ولا يتمتَّع بمكانة واحترام من الطبقة العليا، وإنَّه صار مضرب المثل عند العرب إذ يقولون "أشأم من طويس"، لأنَّ طويس قال: "ولدت ليلة قبض النبي صلى الله عليه وسلم، وفطمت ليلة مات أبوبكر (الصديق)، واحتملت ليلة قتل عمر (بن الخطاب) وزففت إلى أهلي ليلة قتل عثمان (بن عفان) وولد لي في اليوم الذي قتل فيه علي (بن أبي طالب)". هكذا كان مضرب المثل في الشؤم، الذي يلاحق الموالي باستمرار مع تقلُّبات الخلافة (الأمويَّة والعبَّاسيَّة). أما "طويس" نفسه، فعندما استخلف معاوية الأول (661–680م) صاح مروان بن الحكم بالمخنَّثين وكان آنذاك عاملاً بالمدينة. فهرب "طويس" إلى السويداء على طريق الشام، وفي هذه المدينة بقي الموسيقار الشيخ حتى وافاه الأجل وهو ممتلئ مرارة لأنَّ شهرته في الغناء لم تعصمه من قضاء مروان عاهل المدينة.(14) وقد انتهج الزنوج الأرقاء في الولايات المتحدة الأمريكية أغاني الحزن الأفريقيَّة والنواح كأداة للتعبير عن الشعور الديني العميق في قلوبهم. وهكذا تطوَّرت الموسيقى الأفروأمريكية من أنين الزنوج في الكنائس، والحقول كما أخبرنا عن ذلك الموسيقار الأفروأمريكي الأسود ليونيل ريتشي، والناشط السياسي دو بويس (W E B du Bois). فالواقع السئ الذي تعيشه الطبقة المضطهدة في المجتمع الطبقي، تفجِّر في ذهنيتها الأفكار الدينيَّة، لتستمد منها السلوى والعزاء. وعليه فإنَّ الدين لهو التعبير عن البؤس الواقعي، والاحتجاج على هذا البؤس الواقعي معاً، وهو زفرة الكائن المثقل بالألم، وروح عالم لم تبق فيه روح، وفكرعالم لم يبق فيه فكر.

    بيد أنَّ أكثر الأشعار هجاءً قد جاء من أبي الطيب المتنبئ فيها يهجو كافوراً. وكافور الأخشيدي نوبي من شمال السودان، كان والده زياتاً، وكغيره من ضحايا عصره وجد نفسه يُباع ويُشترى في سوق النخاسة بمصر، ولكن بفضل ذكائه وقوة مراسه استطاع كافور أن يستولى على مقاليد السُّلطة في مصر. وُلد المتنبئ ونشأ في عصر من أدق العصور الإسلاميَّة، حيث واجه المسلمون ثلاث حركات من التمرد: التمرد البابكي الذي قاده بابك الحزمي، وتمرد الزنج بقيادة علي بن محمد الزنجي في البصرة، ثم جاء في النهاية التمرد القرمطي. وكان يرى المتنبئ أنَّ الأعاجم جبناء لكنَّهم يمثِّلون عنصراً متفوقاً، فدفعته كراهيته للمد الشعوبي إلى مهاجمة الأعاجم في شعره.(15) غير أنَّ عصيان الزنج كان له مبرراته بعد أن جمع العرب الأرقاء وحشروهم في بيئة تتلقَّفهم متاهات موحشة، لا ملجأ لهم فيها ولا عاصم لهم منها، حتى بدأوا يتربَّصون بأسيادهم الدوائر، إلى أن لاحت لهم بارقة الأمل في ثورة علي بن محمد بن عبدالرحيم من عبدالقيس، تلكم الحركة المعروفة بثورة الزنج في تأريخ الطبري. فعندما حشد على بن محمد جنوده من الأرقاء الزنوج، قال لأسيادهم في إحدى المواقع: إنني كنت قد عزمت على قطع رقابكم جزاءاً نكالاً لمعاملتكم لهؤلاء المسترقين بالغطرسة والعجرفة، فلقد تحدَّث إلي عنكم زملائي، والآن قررت أن أطلق سراحكم. فرد السادة الوجلون، الذين هم على وشك الموت، إنَّ هؤلاء العبيد لأُباق(16) مسرفون، وسوف يؤبقون حين تلوح لهم أول فرصة سانحة، وإنَّك وهم إذاً لخاسرون. لم يأبه علي بما قالوا، بل أجبرهم على الحلف بالطلاق ألاَّ يبوح أي منهم بموضعه وجنده وتعدادهم، ومن ثَمَّ أطلق سراحهم. ومهما يكن من الأمر، فقد وعد علي أتباعه وأشياعه من الموالي، والعبيد، والغلمان، والخوال السودان بالمال والمنازل والجاه والسلطان وتحسين أحوالهم المعيشيَّة من حياة ضنكة إلى أخرى رغدة. ورأينا كيف جاءت سهام البيضان على السُّودان من معية عبدالرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي (المعروف بابن خلدون)، فقال: "قد رأينا من خلق السُّودان على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب، فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع، موصوفين بالحمق في كل قطر، والسبب الصحيح في ذلك أنَّه تقرر في موضعه من الحكمة أنَّ طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه وطبيعة الحزن بالعكس وهو انقباضه وتكاثفه".(17) وأضاف بن خلدون أنَّ المسعودي قد تعرَّض "للبحث عن السبب في خفة السُّودان وطيشهم وكثرة الطرب فيهم، وحاول تعليله فلم يأت بشئ أكثر من أنَّه نقل عن جالينوس ويعقوب بن اسحاق الكندي أنَّ ذلك لضعف أدمغتهم وما نشأ عنه من ضعف عقولهم، وهذا كلام لا محصَّل له ولا برهان فيه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".(1 ويمضي ابن خلدون في مقدمته متحدِّثاً عن نيل السُّودان (غرب أفريقيا) الآتي من مبدئه عند جبل القمر ويذهب إلى البحر المحيط في مملكة مالي من أمم السُّودان. وذكر بن خلدون أنَّه "في جنوبي هذا النيل قوم من السُّودان يقال لهم لملم، وهم كفاَّر ويكتوون في وجوههم وأصداغهم (...) وكلهم عامة رقيقهم، وليس وراءهم في الجنوب عمران يعتبر إلاَّ أناسي أقرب إلى الحيوان العُجم من الناطق، يسكنون الفيافي والكهوف، ويأكلون العشب والحبوب غير مهيأة، وربما يأكل بعضهم بعضاً، وليسوا من عداد البشر".(19) وأيم الله أي إساءة أفظع وأشنع من هذه! ولا يحسب المر أنَّ شعوب السُّودان الشرقي كانوا أحسن وصفاً من أترابهم في غرب أفريقيا من شئ. وإنَّ من الأمم لمختلفين في ألسنتهم، وإنَّ منهم لمتشعِّبين في عاداتهم وتقاليدهم ثم إنَّهم بغير الإسلام يدينون. ولم يكن هذا الاختلاف أو ذاك التباين أو ذلكم الاعتقاد أمراً يدعو لأساءة الآخرين بما يلتهجون، أو حسبما يتصرَّفون، أو عما يعتقدون. فذلك شأنهم وهذا نهجهم انتهجوه في هذه الحياة الدنيا، فلست عليهم بمسيطر.

    ولكيما يظن غيرنا، وإنَّ بعض الظن إثمٌ، إننا صببنا جام غضبنا على العرب دون الغرب فنذكِّرهم أنَّنا جادلنا في أمر الغرب ونظرتهم تجاه الأفارقة في دوريات عربيَّة أخرى.(20) وقد تصدى لهجوم الغرب أدباء أفارقة آخرون بالتَّفنيد لأباطيلهم بالخطابة والكتابة. فكان تشينو أتشيبي – الروائي النيجيري الذائع الصيت والأب االرُّوحي للأدب الأفريقي الحديث – محقاً في نقده اللاذع لجوزيف كونراد في روايته عن أفريقيا – قلب الظلام (Heart of Darkness) – حين نعته بأنَّه عنصري بعد ذلك زنيم. وقد أبان أتشيبي بأن الهدف السامي للأدب أكثر من أن يكون محتوياً على جملة رصينة، وذلك مما يجعل الأمر مأساويَّاً. وإذا كان الأدب، سواءٌ علينا أنثراً كان أم شعراً، يهدف إلى الإساءة إلى الناس، فهذا يحط من قدر الأدب نفسه. إنَّ الرصد الدقيق لما يعتمل في وجدان الأدباء من انفعالات وأحاسيس ذاتية تترجم معاني الضمير الجماعي لدي الأمم التي يعيشون فيها وإليها ينتسبون.

    إنَّ ما ذهبنا إليه، إذاً، يلخِّص باختصار غير مخل بالقصد المخيلة العربيَّة في الأقوال والأفعال تجاه شعوب أفريقيا. فقد أدركنا لماذا أقبل العرب بقضهم وقضيضهم على أفريقيا من الشرق والشمال، حيث نزلت سفنهم سواحل أفريقيا الشرقيَّة، وزحفت جحافل جيوشهم من الشمال إلى الجنوب على نهر النيل لاسترقاق أهل أفريقيا، فسبَّوا نساءهم، واختطفوا أطفالهم، وقتلوا رجالهم، وهلكوا الزرع

    الحبشة وشبه الجزيرة العربيَّة

    لا أحد يستطيع على وجه الدقة تحديد تأريخ بداية الأوصال بين العرب والأحباش. فقد قيل إنَّ أول اتِّصال رسمي أجراه عبد شمس بن عبدالمناف بالنجاشي – ملك الحبشة - وأبرم معه اتفاقاً تجاريَّاً، حيث كانت الحبشة تنتج التمور واللادن والأطياب وريش النعام والعاج والجلود والتوابل، ثم مصدراً لتجارة الرقيق. وقد ثبت بالبحث عن هذه العلاقة، التي نمت بين شبه الجزيرة العربيَّة والحبشة، أنَّها كانت تقوم على استغلال الأولى للثانية. فإذا أخذنا الحبشة مثالاً لأفريقيا المكلومة، نجدها أنَّها كانت ملتجأ لاستجلاب الحسان الحبشيات لاشباع رغبات العرب الجنسيَّة. وحين بدأ الملك سيف بن ذي يزن يسوم النصاري عذاباً شديداً، أرسل النجاشي قوة قوامها 70,000 محارباً وفي جنوده أبرهة الأشرم، وأمر عليهم رجلاً يُقال له أرياط (أرباط)، حيث استطاع بهم دحر الأعداء وانقاذ رفقاء الدِّين. وقد ذُكرت واقعة تعذيب أصحاب الأخدود في القرآن الكريم في قوله عزَّ وجلَّ: "قُتِل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم إلاَّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد".(21) لما قتل ذو نواس مَنْ قتل من أهل اليمن في الأخدود لأجل العود عن النصرانيَّة أفلت منهم رجل يُقال له دوس ذو ثعلبان حتى أعجز القوم، فقدم على قيصر، امبراطور الروم، فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما فعل بهم. واستعان قيصر بالنجاشي لما بينهما من دين مشترك ولقرب الحبشة من اليمن، على أنَّ قرب الدار خيرٌ من البعد.

    بالإضافة إلى نصرة إخوة لهم في الدِّين، كان أرياط يعتزم على وضع حد للإهانة التي كان الأفارقة يتعرَّضون لها. ومهما يكن من الأمر، فلم تكن لأبرهة الأشرم، الذي اعتلى عرش اليمن (525–573م) بعد مقتل أرياط، أيَّة نوايا توسعيَّة لنفوذ الامبراطوريَّة الحبشيَّة في شبه الحزيرة العربيَّة لولا أن تمرحض (أي استخدمه مرحاضاً) أحد أعراب مكة في كنيسة يمنيةَّ إمعاناً في تدنيس دور العبادة. وقد حاول الأحباش منازعة قريش في تجارتها الداخليَّة بإقامة كنيسة في اليمن حرصوا أن تكون في غاية الفخامة والروعة ليجلب إليها العرب للحج والمتاجرة، ولكن عملهم هذا لم يؤد إلى نتائج بسبب أنَّ مكة كانت مأوى أصنام العرب، والبيت الحرام محل تعظيم معظم القبائل العربيَّة بسبب انتسابه إلى إبراهيم الخليل، وهو عربي وكل ذلك يرضي قوميتهم العربيَّة. فلما شاع أمر الكنيسة وتفشى الخبر وعم القرى والحضر، غضب رجل من النَّسأة من بني فُقيم، فخرج حتى أتاها فقعد فيها وتغوَّط (في القُليَّس بصنعاء – وهي كنيسة لم يُرَ مثلها في زمانها بشئ من الأرض)، وقد فعل رجل من أهل البيت الذي تحجه العرب بمكة غضباً لما سمع أنَّ أبرهة يريد صرف الحجاج عنه. وعلى الفور تحرَّك أبرهة وجنوده من الأحباش وعلى ظهر أفيال صوب الكعبة الشريفة، وبفعل فاعل جرى ما أشار إليه القرآن الكريم بسورة الفيل في محكم تنزيله: "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل. ألم يجعل كيدهم في تضليل. وأرسل عليهم طيراً أبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل. فجعلهم كعص مأكول".(22) كانت تلك الأزفة قبل ظهور الإسلام، وسمي هذا العام في التأريخ العربي بعام الفيل، حيث فيه وُلد الرسول صلى الله عليه وسلم – أي 20 نيسان (أبريل) العام 571م. وقد ذهب جمهور المفسرون في أمر طير أبابيل (بصيغة الجمع التي جاء بها القرآن) مذاهب شتى، وسوف لا نخوض فيها عملاً بتحذير ابن خلدون في عدم تفسير التأريخ من منطلق ديني بحت لما في الدين من عصبيَّة، وكذلك أنَّ هناك عوامل أخرى اجتماعيَّة وسياسيَّة وجغرافيَّة لها الدور الرئيس في تفسير مجريات الأحداث التأريخيَّة، وإن كان الدِّين جزءاً لا يتجزأ من هذه العوامل.

    بيد أنَّ قصص التأريخ القديم تفيض بهذه الروايات، التي تذهل العقل دائماً، ولم نجد له تفسيراً علمياً. فقد حاول الفرس غزو مملكة النُّوبة القديمة في شمال السُّودان بعد أن هبطوا مصر، فلم يفلحوا في الوصول إلى أرض النوبة، ولم يعثروا على أهلها حتى يستطيعون عليهم غلباً. وقد قال عنهم هيردوت، المؤرخ الأغريقي القديم، أنَّهم ضاقت عليهم الأرض بما رَحُبت، وأُبيدوا بريح صرصر عاتية، فلم تبق لهم باقية.

    وعوداً إلى بدء، نجد أنَّ الصراع في اليمن كان ناشباً بين الامبراطوريَّة البيزنطية وحلفائها (كالحبشة ودولة الغساسنة) من جهة، والامبراطوريَّة الفارسيَّة وحلفائها (كالمناذرة) من جهة أخرى. وقد ظلَّت المناذرة تحت حكم الأحباش منذ العام 525م، وفشل ملك الفرس في إرسال جيوشه لمساعدة حليفه، سيف بن ذي يزن، زعيم المناذرة. وفي هذه الأثناء، ظلَّ الأحباش يحكمون اليمن، بعد سقوط دولة بني كندة، خمسين عاماً – وفي بعض الروايات أثنتين وسبعين سنة - توارث ذلك منهم أربع ملوك: أرياط ثم أبرهة ثم ابنه يكسوم ثم مسروق بن أبرهة، وما أن خرج الأحباش حتى قام الفرس باحتلال اليمن العام 575م. ويُروى أنَّ القائد الفارسي "وهرز" لما هزم الأحباش جاء بالعلم فلم يدخل من باب القصر اليمني المشهور بريمان تطيُّراً من أن ينكس العلم فأمر بهدم الباب. وقد علمنا أنَّ حمير وبعض القبائل اليمنيَّة، تكونَّت نتيجة للتزاوج بين العرب والأحباش، لكن لغتهم استقرَّت على العربيَّة بعد الفتح الإسلامي. فقد صدق أبوعمرو بن العلا وقتما قال: "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا، حيث أكَّد ذلك الدكتور طه حسين ذاكراً الاختلاف في نسقي اللغتين العربيَّة والحميريَّة. ومما يستدل به على اختلاف لغة أهل حمير قول العرب: "من دخل ظفار حمَّر"، وظفار قرية باليمن يكون فيها المغرة، وحمَّر تكلَّم بالحميريَّة، وأصله أنَّ إعرابيَّاً كان بين يدي ملك حمير فقال له: ثب، أي أقعد بالحميريَّة فحسب العربي أنَّه يأمره بالوثوب فقفز وكان على مكان مرتفع فسقط فهلك. فقال الملك ذلك.(23) ذلك ما كان من أمر الأحباش والعرب قبل الإسلام. فماذا كان من أمرهم بعد بزوغ الإسلام وابتعاث محمد نبياً رسولاً؟

    ما أن اشتد العذاب بالمسلمين نتيجة احتضانهم دعوة محمد عليه الصلاة والسلام، حتى أمرهم الرسول بالهجرة إلى أرض الحبشة لأنَّ فيها ملك أفريقي عادل ثُمَّ نصراني يُقال له النجاشي، ولم يحثهم بالهجرة إلى أرض الشَّام في شمال شبه الجزيرة العربيَّة، ولا إلى العراق حيث أهل النفاق كما وصفهم الحجاج بن يوسف. ويقول الطبري: "وكان بالحبشة ملك صالح يُقال له النجاشي، لا يُظلم أحد بأرضه، وكان يُثني عليه. وكانت أرض الحبشة متجراً لقريش يتجرون فيها ويجدون فيها رفاغاً من الرزق ومتجراً حسناً". وكان أهل هذه الهجرة إلى الحبشة أثني عشر رجلاً، أربع نسوة، وفيهم - ما فيهم - عثمان بن عفان وزوجته رقيَّة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام والزبير بن العوام. وقد خرجوا خائفين مترقبين لأنَّ الملأ كانوا يأتمرون بهم ليقتلوهم. وبعثت قريش في أثرهم عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بهدايا للنجاشي ليردهم عليه، فأبى وقال للرسولين: انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما أبداً. وتقول بعض المصادر أنَّ قريشاً بعثت إلى النجاشي في أمر من قدم إليه من المهاجرين عمارة بن الوليد بن المغيرة وعمرو بن العاص. ولما كانوا في السفينة مع عمر وإمرأته فقال لها عمارة: قبِّليني. فقال لها عمرو: قبِّلي ابن عمك. وقعد عمرو على منجاف(24) السفينة لقضاء الحاجة، فدفعه عمارة، فألقاه في البحر، فما تخلص حتى كاد يموت. فلما صار إلى النجاشي أظهر له عمرو أنَّه لم يحفل بما أصابه منه، فجاءه عمارة يوماً فحدثه أن زوجة الملك النجاشي علقته وأدخلته إلى نفسها، فلما تبيَّن لعمرو حال عمارة وشى به عند الملك وأخبره خبره، فقال النجاشي: أئتني بعلامة استدل بها على ما قلت؟ فعاد عمارة، فأخبره عمرو بأمره وأمر زوجة النجاشي فقال له عمرو: لا أقبل هذا منك إلا أنَّ تعطيك من دُهن(25) الملك الذي لا يدَّهِن به غيره. فكلَّمها عمارة في الدهن، فأعطته منه، فأعطاه عمرو، فجاء به إلى الملك، فأمر السواحر فنفخن في أحليله،(26) فذهب مع الوحش، فلم يزل متوحشاً حتى خرج إليه عبدالله بن أبي ربيعة في جماعة من أصحابه، فجعل له على الماء شركاً، فأخذه، فجعل يصيح به: أرسلني فإني أموت إن أمسكتني. فأمسكه، فمات في يده.(27) ليس في فعل رسل قريش هذا شئ من الأخلاق، إنَّه من باب الإسلال والإغلال (أي السرقة والخيانة)، إنَّهم قوم يسيئون الضيافة، ويؤثرون الخيانة. والقرآن يحدثنا عن جفوة الأعراب وغلظتهم وإمعانهم في الكفر والنفاق وقلة حظهم من العاطفة الرقيقة التي تحمل على الإيمان والتديُّن. أليس هو الذي يقول: "الأعراب أشدُّ كفراً ونفاقاً وأجدر ألاَّ يعلموا حدود ما أنزل الله"؟ أليس قد شرع للنبي أن يتألف قلوب الأعراب بالمال (والمؤلفة قلوبهم)؟ بلى! على أي حال، فقد راود عمارة بن الوليد إمرأة النجاشي عن نفسها، وهمَّ بها. أليس فيهم رجل رشيد؟ وقد علمنا أنَّ أحد المهاجرين، الذين هبطوا الحبشة، أعجبته فيها كثرة الخير، وفضَّل البقاء فيها وتنصَّر وابتعل إمرأة حبشيَّة، وكان يستمتع باحتساء الخمر والحياة الجديدة التي ألفها في هذه البقعة من مسارب الأرض.

    وتأثَّر المسلمون بما شاهدوا وشهدوا في أرض الحبشة وأهلها الأحباش المسيحيين أي تأثير. فلما عادوا إلى الحجاز ومكَّن الله لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وشرعوا في تدوين القرآن الكريم ائتمروا ما يسمونه، فقال بعضهم: سموه بالسفر، قال ذلك لتسمية اليهود، فكرهوه. فقال قائل آخر منهم: رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف. فاجتمع رأيهم على أن يسموه بالمصحف. كما أنَّه لم تنقطع مساعدات الأحباش إلى المسلمين حتى بعد ظهور الإسلام، فعندما أرسل يزيد بن معاوية جيشه من الشمال لغزو الحجاز ومكة المكرمة وجد جماعة من الأحباش المسيحيين، الذين أرسلهم النجاشي للدفاع عن الكعبة، يذودون عن هذا البيت العتيق. وقد أعان ابن الزبير بهم فضمَّهم إلى أخيه مصعب بن الزبير فكانوا يقاتلون معه.(2 وكان على رأس جيش يزيد بن معاوية قائد يُقال له مسلم بن عُقْبة المري، الذي ذهب لتأديب أهل المدينة الذين أعلنوا العصيان على الدولة الأمويَّة. وبعد أن اقتحمها مسلم أباحها لجنوده ثلاثة أيام: قتلاً ونهباً واغتصاباً للنساء. ويُروى أنَّ المغتصبات ناهزت السبعة آلاف أحصين على أساس الولادات غير الشرعية التي حصلت في المدينة بعد تلك الحادثة. وقد توفي مسلم في طريقه إلى مكة، التي قصدها بعد أن فرغ من أهل المدينة، للقضاء على حركة ابن الزبير.(29) غير أنَّ المرء يتساءل ما الذي يجعل الأحباش مدافعين مخلصين عن النصارى في اليمن عندما استنصروهم ضد جلاديهم، وكذلك دفاعهم المستميت عن أهل مكة المسلمين حينما أعلنوا تمرُّدهم السياسي؟ إن التفسير الوحيد هو التضامن الأفريقي وعدم الرضاء بالضيم لأنفسهم ولغيرهم مهما تباعد المكان أو اختلفت الأديان.

    على أي حال، تشكَّلت الحبشة (أثيوبيا حاليَّاً) كنواة لدولة منذ عهد إمبراطوريَّة أكسوم في العام 500 ق.م.، وكان أعظم ملوكها عيزانا الذي غزا مملكة مروي بل حطَّمها تحطيماً العام 330 م في حملاته الشهيرة، وظهرت المسيحيَّة الأرثوذكية في هذه الامبراطوريَّة العام 330م، وأمست جزءاً لا يتجزأ من مكونات ثقافة سكان هذه المرتفعات. غير أنَّ الإسلام بات كرديف مشاكس في الحبشة في القرن السادس عشر، فقد كانت هنالك مجموعة مسلمة على الطرق التجارية المؤدِّية إلى منطقة زيلع(30) من البحر الأحمر. وسرعان ما ترعرع تحالف إسلاموي سلطوي تحت قيادة الإمام أحمد بن إبراهيم (1529–1543م) ضد الأهليين الأصليين. وبمساعدة المغامرين البرتغال، الذين كانوا يأملون في إدخال الطائفة الكاثوليكيَّة في المنطقة وإحلال محل العرب في تجارة الرقيق، تمَّت هزيمة المسلمين واندحارهم. ولعل مغامرات أحمد بن إبراهيم في الحبشة تذكِّرنا بحملة عبدالله جمَّاع، الذي قاد تحالف العرب ضد مملكة علوة في سوبا بالسُّودان بعدما وفَّرت لهم المملكة المسيحيَّة حرية العقيدة من طقوس، وشعائر تعبديَّة، وتشييد دور العبادة وغيرها. مهما يكن من الأمر، فقد دارت الدائرة على البرتغال وطردهم الأحباش في القرن السابع عشر، وعادوا من حيث أتوا مدحورين مذمومين.

    لقد ارتمى الأحباش بأنفسهم في صراع الأباطرة والجبابرة في العالم القديم، فنصروا النصارى في اليمن حين استغاثوهم، ودافعوا عن أهل مكة المسلمين والبيت العتيق من المسلمين أنفسهم في صراع سياسي محموم، ومما صاحب ذلك الصراع من استباحة أرواح الأبرياء واغتصاب النساء. إنَّ التجارب المستفادة من الأديان السماويَّة تزودنا بأداة للاستنتاج يمكن أن نستخلص منها قابليَّة العوامل المكوِّنة للسلوك الدِّيني لتكوين شخصيَّة دمويَّة فاشيَّة المزاج معادية للإنسان. ومن المعروف أنَّ الوازع الدِّيني قائم على التخويف، وهو المهمة الأساسيَّة لرجل الدِّين الذي تخصًّص في تحذير المؤمنين من غضب الآلهة، لكنه في نفس الوقت يساهم في تطبيق الغضب الإلهي على رعاياه. وتتفاقم هذه الأدوار في الحالات التي تجتمع فيها سلطتان متكاملتان دينيَّة وزمنيَّة، حيث تتداخل عوامل الخوف الروحي من القوى الخارقة مع الإرهاب الحكومي-الإكليرسي. وثمة عامل آخر هو أنَّه من المقرَّر في علم النَّفس الاجتماعي التقدُّمي أنَّ شخصية الفرد تتكيف بمعاييره الأخلاقيَّة المستمدة من وسطه الاجتماعي والروحي أكثر مما هي بالمبادئ القانونيَّة المفروضة عليه من فوق. لذلك نجد أن سلوك مسلم بن عُقْبة المري نابع من ثقافة دولة بني أميَّة الدمويَّة والتراث الاجتماعي لشبه الجزيرة العربيَّة.

    الحضارة الإسلاموعربيَّة... حقيقة أم خرافة

    يرنو دعاة الإسلام السياسي اليوم إلى مدينة بغداد – حاضرة العراق – كرمز لكل ما هو مقدَّس، ومهد الحضارة الإسلاموعربيَّة. بيد أنَّ بغداد في عصرها الذهبي لم تكن تعاني من الرقابة على المطبوعات أو التطرُّف الدِّيني، حيث أنَّ النخبة العربيَّة يومئذٍ كانوا يرحِّبون بمن له صناعة ونفوذ من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان. وسوف نرى، في هذه الصفحات، هل ما يُعرف اليوم بالحضارة الإسلاموعربيَّة قد نشأت حقيقة في الوطن العربي كما يزعم العرب، أم أُخذت من أمم أخرى وتم تشذيبها بواسطة العرب؟

    إنَّ المفهوم السَّائد اليوم أنَّ الإسلام وحده أنجب حضارة يُحسد عليها في القرون الوسطى خرافة، ونصف حقيقة، وزلق لسان يقوم على تصحيف الواقع الذي ساد في ذينك الزمان والمكان. في الحقيقة، شهدت بغداد في عصرها الذهبي بين الأعوام 765–1000م قليلاً من التطرف الإسلامي وحضوراً مشهوداً من الهنود، والصينيين، وأهل الكتاب (اليهود والنصارى)، وعبدة الأوثان، الذين استقبلهم العالم العربي ورفعوعهم مكاناً علياً. كان صفوة العرب يتجادلون فيما بينهم أنَّه مهما ملك القرآن الكريم من حكم مأثورة وناصية القول، فلا يمكن أن تحتكر ديانة واحدة كل الحكمة. غير أنَّ هذا الانفتاح على العالم الخارجي والدِّيانات الأخرى لم يدم طويلاً، وسرعان ما غشي العالم الإسلامي غمام كثيف مهيل من التَّطرُّف الدِّيني. وعليه كان لزاماً علينا أن نلج إلى بطون المعرفة ونغوص في أمهات الكتب بحثاً عن عن الحقيقة لكي نجليها لمن أراد أن يعتبر أو يقدر. إذاً، ماذا جرى في بواكير الإمبراطوريَّة الإسلاميَّة؟

    عندما شيَّد الخليفة أبو جعفر المنصور مدينة السلام (الاسم الرَّسمي لبغداد يومذاك) العام 762م، كانت مدينة جنديشابور (Gondeshapur) في جنوب غربي فارس (إيران حاليَّاً) مركزاً ركيزاً للعلم. وفيما ازدهرت جماعة النسطوريين (Nestorians)، وهم جماعة ذي علاقة بمذهب نسطوريوس الذي اُعتبِر هرطقة العام 431م، والذي ذهب – فيما ذهب – إلى أنَّ الطبيعتين الإلهيَّة والبشريَّة ظلَّتا منفصلتين في يسوع المسيح. وقد انفصلت هذه الجماعة عن النصرانيَّة البيزنطيَّة بعد العام 431م، وانتشرت في فارس ولا تزال قائمة ينتسب إليها الأشوريون. بُعيد قدوم النسطوريين إلى جنديشابور من الغرب القصي، حضر لاجئون آخرون من الساسة والكهان، بما فيهم أولئك الذين طُردوا من الأكاديميَّة الوثنيَّة في أثينا، التي أسسها أفلاطون،(31) وعندما أُغلقت أبوابها بواسطة النصارى العام 529م. ولسنين عدداً أوى إلى مدينة جنديشابور طلاب العلم والطب، ينهلون من علومها في الأعشاب الطبيَّة، والعمليات الجراحيَّة وضروب العلاج الأخرى. وجاءت في المرتبة الثانية ترجمة الأعمال الأجنبيَّة. وانخرطت أغلب أُسر النسطوريين في الطب في جنديشابور، يُورِّثون إلى أحفادهم تراجمهم في كتب الطب. وفي جنديشابور – لا بغداد كما يزعم العرب والمسلمون – شُيِّدت أول مستشفى (بيزمارستان Bismaristan بلغة أهل فارس). وفي داخل المدينة كان يتحدَّث الناس بألسن كثيرة: الإغريقيَّة (اليونانيَّة)، والسُريانيَّة، والآراميَّة، والسَّنسكريتيَّة (لغة الهند الأدبيَّة القديمة)، وبذلك التَّخابر يعكسون تقاليد أمم تليدة، ويترجمون النصوص من الإغريقيَّة والسَّنسكريتيَّة إلى السّريانيَّة والآراميَّة. وهكذا نجد قصص ألف ليلة وليلة وغيرهما من الأعمال الأدبيَّة التي بها ضرب الرواة والرحالة في الأرض العريضة. وحينما احتل العرب جنديشابور العام 638م، أقدم الطلاب بعجلة تزايديَّة على تعلُّم لغة المنتصر، وطفقوا يترجمون النُّصوص الطبيَّة والهندسيَّة وغيرهما من الإغريقيَّة والهنديَّة إلى العربيَّة.

    انتقل هذا التقليد في ترجمان أعمال البلدان والأمم الأخرى إلى بغداد ودمشق. ويتضح، مما سبق، أنَّ خدمة ترجمة النفيس من الأعمال الأجنبيَّة يعود أصلها إلى صنعة أهل الكتاب وعبدة الأوثان، ولم يكن هنالك مثل هذا العمل في العالم العربي من قبل. وفيما كانت مدينة السَّلام (بغداد) تنمو في الحجم والعلم، هاجرت إليها طائفة من النسطوريين من جنديشابور (المدينة العالمية). وبعد ذلك كان أهم حدث هو وصول بحث معروف لدي العرب باسم "سندهند"، وهذا العمل هندي الأصل وصاحبه "براهماسفونتا"، الذي كان معروفاً في بغداد منذ القرن الثامن عشر الميلادي. كان عمل "براهماسفونتا"، الرياضي الهندي، أول مساهمة في علم الجبرة، الذي طوَّره الرِّياضي العربي – الخوارزمي (780–850م) – بنجاح. وقد جاءت مساهمة "براهماسفونتا" في الرِّياضيات مصحوبة معها الأرقام الهنديَّة التسعة (1,2,3,4 ... إلخ)، التي مازالت مستخدمة حتى يومنا هذا، وما زلنا نخطئ في تسميتها بالأرقام العربيَّة. وقبل ذلك كانت الأرقام تُكتب في شكل كلمات أو باستخدام الحروف الهجائيَّة. وقد تُرجمت هذه المسودَّة، التي تحمل الأرقام الهنديَّة، إلى العربيَّة العام 775م، وكانت تحوي - فيما تحوي - الرقم العاشر (الصفر)، وقد أثبت العرب إنَّهم رياضيين بارعين بالتقليد وليس بالابتكار، وسرعان ما انتقل علمهم الرِّياضي هذا، الذي بدأ في الهند، إلى الأوربيين. ثم رُزق العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي بخليفة له بصيرة ورؤية، المأمون. كان المأمون متعاطفاً مع طائفة المعتزلة، التي كان معتنقوها القوميون تستحوذهم فكرة التوفيق بين القرآن الكريم ومعايير الفكر الإنساني. وقد رأى المأمون في المنام، هكذا تقول الأسطورة، أرسطو بادياً أمامه. وعلى الفور أرسل رسله يمنة ويسرة حتى حطت في القسطنطينيَّة بحثاً عن المسودَّات الأغريقيَّة، وأُسس المأمون في بغداد مركزاً للترجمة.

    ومما لا ريب فيه أنَّ أغلب الترجمات كان يقوم بها شيخ المترجمين – حُنين بن اسحق (803–873م) – في "بيت الحكمة"، الذي بناه المأمون العام 833 م. وحُنين هذا نسطوريَّاً كان ثم نصرانياً، وكان يتحدث بأربع لغات مما رفعته مواهبه هذه مُقاماً علياً، وأصبح لبيت الحكمة رئيساً ومشرفاً على كل الترجمات العلميَّة. علَّم حُنين ابنه اسحق وابن عمه حُبيش علم الترجمة، فقاموا كلهم أجمعون أبتعون بترجمة "الفيزياء" لأرسطو(32) و"الجمهوريَّة" لأفلاطون وسبعة كتب في علم التشريح لجالين، وكذلك أعمال أبُقراط(33) وديوسكوريدس وللاستزادة فقد ترجم حُنين العهد القديم من النسخة الإغريقيَّة القديمة المنقولة من العبريَّة إلى العربيَّة، لكن ضاع هذا العمل بسبب الإهمال أو الأهوال، أو بفعل حاقد جاحد، أو على يد متزِّمت متعنِّت. وتوارثت أسرة حُنين العلم وأصول المعرفة على نحو قول الشاعر:

    فتذكَّروها آخراً عن أول وتوارثوها كابراً عن كابر

    وفي مقام ليس بأدنى من ذي حُنين، بدا ثابت بن قرة، مؤسس المدرسة الثانية في الترجمة. فقد ترجم ثابت إلى العربيَّة أعمال أُقليدُس،(34) وأرخميدس،(35) وبطلميوس،(36) وأبولونيوس. ولم يخامرنا أدنى شك أنَّ ثابت كان من أذكى العلماء وأشدهم علماً، وكان له شرف عظيم في عرض علوم اليونان إلى الناس. غير أنَّه لم يكن بمسلم، كما أنَّه لم يكن نصرانيَّاً ولا يهوديَّاً، لكنه كان من الصابئة الذين كانوا في ذلك الوقت من عداد عبدة الأوثان، وقد جاء ذكرهم في القرآن الكريم، وبذلك نالوا حظَّاً من الحماية الدنيويَّة في الدولة الإسلاميَّة.

    وحين نتحدَّث عن الصابئة – في معرض الحديث عن ثابت بن قرة – فإننا نعني قوماً من الحرنانيَّة، أي سكان مدينة حرَّان، الذين لم يكونوا ينتمون إلى إحدى الديانات السماويَّة الثلاثة: اليهوديَّة أو النصرانيَّة أو الإسلام، وإنَّما كانت لهم عبادات وشعائر خاصة بهم، وظلَّوا يعرفون باسم الحرنانيَّة حتى عهد المأمون الخليفة العباسي (833م)، حين اختاروا اسم "الصابئة" وهو اسم ورد في القرآن تخلُّصاً من عقوبة توعَّدهم بها المأمون. وعندما توفَّى المأمون في غزوة إلى بلاد الروم، عاد إلى المذهب القديم من كان قد تنصَّر منهم، أما الذين أسلموا فلم يرتدُّوا خوفاً من القتل وأقاموا متستِّرين بالإسلام وكانوا يتزوَّجون بنساء حرَّانيات، فيجعلون الذكر مسلماً ويبقون الأنثى على مذهبهم القديم. إنَّ ثابت بن قرة الحرَّاني هو الذي أدخل جماعة الصابئة إلى أرض العراق فثبتت أحوالهم وعلَّت مراتبهم وبرعوا. وقد اشتهر كثير من هؤلاء الصابئة، الذين أقاموا ببغداد، في الطب وعلوم الأوائل عامة والتأريخ والأدب خاصة.

    وفي الجغرافيا، أخذ العرب مفهوم مركز الكون من الهنود، وسموه عرين، وهو تصحيف لكلمة عُجين الهنديَّة، حيث نقلوا تلك المفردة من جغرافيا بطلميوس، التي فيها تُطلق لفظة عُجين على مركز الكون. ومن المفترض أن يكون مركز الكون هذا في منتصف الطريق بين الغرب والشرق. وقد عُرِّف الغرب هنا ببحر الظلمات، ويعني المحيط الأطلسي، والمركز هو القمة – أي أعلى نقطة على الأرض – التي عليها يمكن للمرء أن يرى السماوات طباقاً، وهذه البقعة مجاورة لمملكة الله في الأرض. إنَّ في الجمع بين هذين اللَّونين من العلم – الجغرافيا والعبادة – شئ من الغرابة، فإنَّ التناقض الذي يظهر بينهما، في حقيقة الأمر، جلي. إذ أنَّه لا يُعقل الوقوف على قمة ما ليخترق البصر حُجُب الغيب إلى السماوات والغيهب.

    وأيضاً، نجد أنَّ أبا بشر متى بن يونس، الذي كان زميلاً وثيق الصلة بالفارابي الشهير، كان نصرانيَّاً هو الآخر. حاول أبو بشر أن يوفق بين أرسطو والقرآن. كما أنَّ أعظم شعراء القرن السَّابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر الميلادي – أي غيث بن الصلت، الذي أخذه الخليفة المأون إلى مكة - كان نصرانيَّاً. وعلى الرَّغم من تعيينه شاعر الديوان (القصر)، إلاَّ أنَّه رفض تبديل دينه بالإسلام تبديلاً. ولم يشاء كذلك العزوف عن احتساء الخمر، ولبس الصليب. لقد طلَّق زوجته، وابتعل طليقة محلها، وقد شُوهِد غير مرة مع الداعرات، وقد امتلأت بطنه بالخمر حتَّى الثَّمالة، قائلاً: "إنَّ هذه هي الطريقة الوحيدة التي بها أجد السبيل إلى استرسال الشعر". هذا هو حال غيث العربيد، الذي كان للخمر معاقراً وللنساء زيراً، فلم تردُّه معاقرة الخمر أو تلهيه مجالسة النساء عن تجويد عمله.

    ازدهر الاشتغال بالترجمة بعد اكتشاف الورق، وهو حرفة صينيَّة. وحسب التقاليد، فإنَّ صناعة الورق بدت على يد أسرى صينيين تم أسرهم بعد معركة طلاس (150 ميلاً شمال-شرق طشقند في إقليم كيرجستان)، حيث أفدى هؤلاء الأسرى حياتهم بتعليم العرب صناعة الورق. وقد قيل أنَّه كان يُوجد رسامون، ونسَّاجون، وصواغ صينيُّون في الكوفة – جنوبي العراق. وأنَّه من المؤكَّد أنَّهم كانوا على علم بصناعة الورق. ومهما يكن من أمرهم، فهنالك ثمة حقيقة باقية ألا وهي أنَّ هذ الصنعة أجنبيَّة، ولم تكن عربيَّة، وإنَّ لفظة كاغاد، التي تعني الورق في اللُّغة العربيَّة القديمة، مأخوذة من أصل صيني.

    ومما تقدم يتَّضح أنَّ الانفتاح وتقبُّل الآخر كانا من السمات الأساسيَّة في بغداد في عهدها الذهبي. وعليهما استطاع الأقوام وضع الأسس في الطب، والرِّياضيات، والفلسفة، والجغرافيا، وبعض فروع المعرفة. وقد آوى إلى بغداد أولئك التجار والكتاب والساسة والكهان والعلماء والمنجمين والكيميائيون، لا لشئ غير أنَّها كانت مدينة تذخر بالحريَّة شأنها في ذلك شأن برلين، وباريس، ونيويورك في عصور لاحقة. وقد بدأ العرب أنفسهم في الترحال في القرن الحادي عشر الميلادي بعد وصول البوصلة من الصين، وكان أشهرهم ابن بطوطة المغربي، وقد درسنا في أيام الصبا كيف استطاع هذا الرحالة العربي أن يهرِّب دودة القز، التي تنتج الحرير، من الصين إلى العالم العربي، وذلك في العصا التي كان يحملها ويتوكأ عليها وله فيها مآرب أخرى بما في ذلك التهريب. كما أن أغلب العلماء، أو جلهم، لم يكونوا بمسلمين، كانوا يهود ونصارى وصابئيين.

    غير أنَّ هذا الانفتاح لم يكد ليستمر طويلاً. فسرعان ما أصبح العلم المأخوذ من الإغريق والهند يُعرف بالعلوم الأجنبيَّة، وأصبحت مثار شبهة لدي رجال الدِّين الإسلامي. وفي العام 1065م (أو 1067م)، تم بناء "النظاميَّة" في بغداد، وهي مدرسة دينيَّة لتدريس علوم القرآن والشعر القديم – ليس الجاهلي بالطبع، لأنَّه قيل قبل صدر الإسلام. وما لبثت هذه "النظاميَّة" حتى توحَّدت مع "المستنصريَّة" في جسد واحد (المدرسة)، وهي كليَّة دينيَّة ذات عروة وثقى بالمسجد، تُدرِّس في أغلب الأحيان الأخلاق والقيم المبنيَّة على القرآن الكريم. ويحتوى المنهج على علوم الدين والقرآن الكريم وعلم الكلام ومقارعة الحجج العلمية والفلسفيَّة بأكيدة الإيمان المجرَّدة. وبذلك بدأ تحريم هذا العلم الدنيوي الموفود بالترغيب عنه، وتحبيب علم الوعظ والإرشاد بالترغيب فيه. ما حدث في بغداد في عهد التَّزمُّت يذكرنا بما جرى في مصر في سنين مضت. كان ذلك حين أنشأ الشيخ رشيد رضا شيئاً سماه مدرسة الدعوة والإرشاد، وأعلن أنَّ هذه المدرسة ستُعِد طلابها من الأزهريين لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ولإرشاد المسلمين أنفسهم فى دينهم الصحيح المبرأ من أوهام القرون وأباطيلها. وقد ضاق المجدِّدون من أبناء الأزهر بهذه المدرسة أشدَّ الضيق، وسخط عليها أعظم السخط. ورأى تلاميذ الأستاذ الشيخ محمد عبده أنَّ في عطف الخديوي على هذه المدرسة وإعانته لها ما أثار في نفوسهم الرَّيب فنفَّروا الناس منها، وأطلقوا ألسنتهم فيها، وعابوا على الشيخ رشيد أنَّه ثاب إلى من أخرج الأستاذ الإمام من الأزهر وعرَّضه لكثير من الشر والأذى وأغرى به الشيوخ، حتَّى أذاعوا عن الشيخ ما أذاعوا من السوء، ونالوه بما نالوه من المكروه.

    ولا يساورنا أدنى شك أنَّ الشعوب العربيَّة قد خضعت في فترة من تأريخها لثقافات وحضارات متعدِّدة ذات قيم عالية منها الفرعونيَّة (الزنجيَّة) أو الأفريقيَّة (الأحباش في اليمن) أو البابليَّة أو الفارسيَّة. وعلينا، إذاً، أن نبحث عن القيم الثقافيَّة للحضارة المسماة إسلاموعربيَّة في بقايا تلك الحضارات المنقرضة، لأنَّ في البحث عن مكونات الأشياء ينبغي الرجوع إلى الأصول والغوص في الجذور. فامتداد نفوذ الحضارة الفرعونيَّة في منطقة الشام قد خلفت أثاراً معماريَّاً وروحيَّاً في هذه الأصقاع النائية. وقد علمنا أنَّه حين تزوج سيدنا سليمان عليه الصلاة والسَّلام من إحدى أميرات الأسرة المالكة في مصر الفرعونيَّة، ابتعث معها والدها الفرعون مهندسين معماريين، فشيَّدوا ما يُعرف اليوم بهيكل سليمان (الذي أحل محل خيمة الاجتماع) على شاكلة المعابد في مصر. وقد برع الفراعنة في العمران وعلم الفلك والهندسة والزراعة والري وغيرها مما نجزم بأنَّ هذا العلم قد تسرَّب إلى العالم العربي قبل بزوغ الإسلام، إما مباشرة من مصر أو من خلال الحضارة الهلينية (نسبة إلى هيلين الذي تقول الأسطورة إنَّه الأب لكل القبائل الإغريقيَّة) عند الإغريق، ولا سيما أنَّ العرب ترجموا أغلب أعمال الفلاسفة والأطباء والعلماء الإغريق كما ذكرنا سلفاً.

    ومن نافلة القول، لولا سماحة الخليفة المأمون ورجاحة عقله لما استطاع العلم أن ينساب إلى بغداد من أثينا وأوديسة والإسكندريَّة وأنطاكية اليونانيَّة وجنديشابور الفارسيَّة، ومنها جمعاء إلى توليدو في أسبانيا العام 1085م. مما لا جدال فيه أنَّ الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من انتاجه الثَّقافي، وتتألَّف الحضارة من العناصر الأربعة الرئيسة: الموارد الاقتصاديَّة، والنظم السياسيَّة، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون. ولإطراد الحضارة وتقدمها عوامل متعددة من جغرافية واقتصادية ونفسية كالدين واللغة والتربية، ولانهيارها عوامل عكس تلك العوامل التي تؤدي إلى قيامها وتطورها، ومن أهمها الانحلال الخلقي والفكري، واضطراب القوانين والأنظمة، وشيوع الظلم والفقر (بأنوعه المطلق والنسبي والذاتي)، والتشاؤم أو اللامبالاة، وفقدان الموجهين الأكفاء والزعماء المخلصين. فإنَّ الحضارة التي استرسلنا في تحليلها وتعليلها قد مرَّت بالدولة الإسلاميَّة من شعوب الأرض المختلفة ووجدت فيها بعض الاهتمام في بادئ الأمر وعندما تضافرت العوامل التي تتكاثف وتدمِّر الحضارات انحسرت هذه الحضارة ورحلت إلى أمم أخرى، وبات العرب يبكون على الأطلال والماضي الذي ولَّى بلا عودة.

    إرث الاسترقاق والمشكل السُّوداني

    إنَّ الأدب الاستعلائي الذي انتشر في شبه الجزيرة العربيَّة، كما أسهبنا فيه في مستهل هذا البحث، سار بهم العرب عندما هبطوا السُّودان على ظهور الخيل أو على كل ضامر. وتفاقم الوضع الاجتماعي في عهد السُّلطنة الزرقاء بعد أن اتَّخذوا الإسلام لهم ديناً، والعربية لغة وثقافة ثم هُوية لهم لتفادي غزو الأتراك-المصريين، الذين أفلحوا فقط في استبطاء الغزو. وساهم الخريجون الأوائل بأدبهم وتعليمهم ومنتدياتهم الفكرية في تكريس ذلكم المفهوم الأحادي (الإسلاموعروبي) في مؤتمر الخريجين، وقد قرأنا كيف كان يتبارى القوم في الخرطوم وواد مدني في تقليد العرب في أشعارهم ومناظراتهم كما حدثنا عنهم الأستاذ حسن نجيلة في سفره القيِّم "ملامح من المجتمع السُّوداني". وفي الحق، يقول قائل: "عندما تتسيد الفصاحة على الخطاب السياسي – كما حدث بالأمس ويحدث اليوم – يُسحَق الفكر، ويعتري السياسة هُزال وغثاثة".(37) وهكذا أنتج هذا الاستهلاك الأدبي غلاة وأصحاب عواطف ومحاباة. ولا ريب أنَّ ذلك الغلواء وتلك المحاباة وجدا سبيلهما إلى أدمغة السودانيين – باستثناء فئة قليلة في بعض الحلات النَّادرة، والنَّادر لا حكم له - في شمال السُّودان حتى بات جزءاً رائساً في تكوين عقلية "أهل الحل والعقد" في هذا القطر المتعدِّد الأعراق والمترامي الأطراف. وعليه، بدا هذا السلوك الاقصائي للآخر يأخذ طابعاً سياسيَّاً واجتماعيَّاً ودينيَّاً في المجتمع السُّوداني بعدما وفَّرت له الدَّولة كل السبل عن طريق الممارسة والتسلُّط والقهر، والمحاكاة في الأسرة، التي هي نواة المجتمع، والمدرسة التي تصوغ الشخصيَّة حسبما ترتضيها الدَّولة.

    والجدير بالذكر، فإن مسألة الانتماء القومي هذه أمست إحدى جوانب المشكل السُّوداني، الذي اصطلح عليها السُّودانيون اسم الهُويَّة. وقد قتل الدكتور الباقر العفيف مختار هذا الموضع بحثاً، فنوصي القراء أن يطلبوه ويقرأوه.(3 درس الدكتور مختار هذه المسألة الشائكة بعق منفتح وغطى جوانبها التأريخية – بما فيها من إرث تجارة الرِّق في السُّودان - والاجتماعية والسياسيَّة، والنفسيةَّ مستخدماً منهج بحثي علمي في غاية الأهمية وفيه شئ من المجهود كثير. ومن خلال تتبعنا الأحداث السياسيَّة في الشرق الأوسط، علمنا - علم اليقين - أنَّ العرب ينظرون إلى السُّودان بصفتهم فئة وسطى بين الأفريقية والعروبة، في بعض الحالات، أو أفارقة لا غير، في حالات أخرى، ومن ثَمَّ اعتمد عليهم العرب في حل خصوماتهم وفض نزاعاتهم. ويبدو ذلك جليَّاً في الأمثلة الآتية: فعندما اندلعت الحرب الأهلية في اليمن في الستينيات من القرن الماضي وتورَّطت فيها الحكومة المصرية والمملكة العربيَّة السَّعوديَّة، لم يجد الرئيس المصري - جمال عبدالناصر - والعاهل السَّعودي – الملك فيصل - غير وزير خارجيَّة السُّودان، محمد أحمد محجوب، لإصلاح ذات البين والتوفيق فيما شجر بينهما، وقد بذل المحجوب جل وقته محاولاً التوفيق بين الأشقَّاء العرب في الوقت الذي كان فيه جنوب السُّودان يشتعل حرباً أهلية ضارية. وقد شهدنا أنَّ العرب يمَّموا وجوهم شطر الخرطوم العام 1967م لعقد مؤتمرهم الشهير "بمؤتمر اللاءات الثلاثة" للتنديد بالعدوان الإسرائيلي على الدول العربيَّة المجاورة لها. وفي مطلع السبعينيات من القرن الماضي – كذلك - أوفد زعماء الدول العربيَّة المجتمعون في القاهرة الرئيس السُّوداني الأسبق جعفر محمد نميري إلى الأردن لإحضار رئيس منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة – ياسر عرفات – إلى القاهرة لمصالحته مع العاهل الأردني - الملك حسين - بعد الأحداث الدمويَّة التي جرت بين المنظمة والمملكة الأردنيَّة الهاشميَّة. وفي تلك الأثناء استفاد العرب من تهور وطيش نميري الذي كان في ذلك الزمان غريراً أرعناً، ومعيناً من طاقة لا ينضب، وإلاَّ ماذا يعني إيفاد رئيس دولة إلى دار حرب وسط دوي المدافع وأصوات الرصاص لاستصحاب أحد طرفي النزاع إلى طاولة المصالحة؟ وقد طلعت علينا الصحف السُّودانيَّة حينئذٍ بالعنوان البارز التالي: نجا الرئيس نميري من إطلاق النَّار بالأردن! إذاً، هل الشخصيَّة السُّودانيَّة في شمال السُّودان مأزومة أم لا؟

    إنَّ الشخصيَّة السُّودانيَّة في شمال السُّودان السياسي تعاني من "ازدواجيَّة الضمير" (Double consciousness). إذ أنَّ هذه الازدواجيَّة تجعله ينظر إلى نفسه من خلال عيون عنصر آخر – وهو العربي. وتشتمل هذه الازدواجيَّة على أنَّه شخصين متباينين، وروحين منقسمتين، وفكرتين متنازعتين في جسد واحد ذي بشرة سوداء. وكما قلنا – سلفاً - فقد ساعدت الدَّولة في ابتناء هذه السياسة منذ عهد السلطنة الزرقاء في سنِّار العام 1405م، وكذلك تحت السيادة الأجنبيَّة، حيث رُجِّحت العروبة كأداة سياسيَّة عسكريَّة لاستمرار الدَّولة وديمومتها. ومما لا ريب فيه أنَّ "التركيَّة رجَّحت كفة العروبة عندما قرَّرت البحث عن رقيق قادر على حمل السلاح دون مقابل أو أجر، وفي تلك المرحلة بدت العروبة كما لو أنَّها المقابل للعبوديَّة اجتماعيَّاً واقتصاديَّاً وثقافيَّاً، فأضحت العروبة خطاً سياسيَّاً انتقائيَّاً للتعبير عن الحريَّة التي يتمتَّع بها أفراد لم يخضعوا لضرورات عبوديَّة الدولة".(39) وقد عزَّزت الإدارة البريطانيَّة-المصريَّة هذه الفكرة (1898–1956م)، وسار على نهجهم دعاة الاستقلال وقادة الحكم الوطني إلى يومنا هذا.

    فقبل أن يصبح رئيساً للوزراء في السُّودان في العام 1986م، طاف السيد الصادق المهدي في دول شرق أفريقيا، وعندها وقف معلناً على الملأ - الذين اجتمعوا حوله - أن فشل الإسلام في جنوب السُّودان يعد إخفاقاً من قبل السودانيين المسلمين منهم، لأنَّهم لم يستطيعوا حمل راية الإسلام إلى العالميَّة. وأضاف الصَّادق قائلاً: "إنَّ للإسلام بعثة مقدَّسة في أفريقيا، ويُعتبر جنوب السُّودان نقطة انطلاق لتلكم البعثة". هذا ما ردَّده الدكتور غازي صلاح الدين العتباني حينما كان يترأس أحد وفود حكومة "الإنقاذ" في مباحثات السَّلام بين الحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في نيروبي – حاضرة كينيا – مما أدهش رؤساء الإيقاد، الذين هم أفارقة، كما أنَّهم كلهم نصارى أجمعين أبتعين. هذا هو حال السُّودان بما فيه من عصر الحكم الغشيم، والفتنة السياسيَّة، والتطرف الفكري، وأخذ الناس بالغيبة المكفوفة(40) والرغبة الجامحة في تصدير القلاقل والتوتُّر إلى كل مكان قريب أو بعيد. إنَّ اختلاف الآراء وتنازع المصالح ينشآن من عدة تناقضات؛ هذه التناقضات تتولَّد من حقائق جغرافيَّة واجتماعية، وقد تتكوَّن بأسباب دينيَّة، وتأريخيَّة واقتصاديَّة، وسياسيَّة، ونفسيَّة. وقد وجدنا كل هذه التناقضات في شخصيَّة الصَّادق المهدي وكان هو أحد المساهمين في تدمير هذا البلد غير الأمين. إذ أنَّ الشخصيَّة القوميَّة تعني مجموع القيم والأنماط النفسيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة، التي تتميَّز بها الأمة عن غيرها من الأمم. عليه نجد أنَّه من العسير جداً أن نجد شخصيَّة سودانيَّة تحمل في أحشائها هذه المكوِّنات لكيما يلتف حولها الناس، وذلك نسبة للتعدُّد الدِّيني، والثقافي، والعرقي الذي يتصف به السُّودان.

    سواءُ علينا إن شئنا أم أبينا فالسُّودان اليوم سقيم ومرضه يكمن في مخلفات تأريخ الرق، التي باتت تنتج نفسها بصورة مستبطنة تظهر نتائجها النتنة في التهميش الاقتصادي والاقصاء الثقافي وحرمان التمثيل المتكافئ في السلطة المركزيَّة وغيرها. إنَّ السلطة السياسيَّة والاقتصاديةَّ والعسكريَّة، بهذه القسمة الضِّيزي، مكثت في أيدي أقليَّة محتكرة من شمال السُّودان النيلي (Riverain North) ردحاً من الزمان حتَّى أزرى بهم الدَّهر. وهكذا استحوزت هذه الفئة على كل شئ على حساب الأغلبيَّة المهمَّشة. إنَّها تتحكم في الاقتصاد، وتصدر القرارات رُخاء في الاستثمار والأجور وفي الشأنين القومي والعالمي، وتتربَّع على الجَّيش، وتسيطر على وسائل الإعلام والتَّعليم والصحة والحياة العامة. وتسمَّى هذه الظاهرة الاحتكاريَّة للسُّلطة لدي علماء الاجتماع بمفهوم المحصلة الثابتة في السُّلطة (A constant-sum concept of power)، حيث تتركز المصالح الذاتيَّة في أيدي نفر من قابضي السُّلطان الذين هم في صراع دؤوب مع رعاياهم. وهم على ما يفعلون – أو قل فيما يفعلون إن شئت – يؤثرون على أنفسهم دون أن تكون لهم شمائل خاصة أو صفات نفسيَّة تميِّزهم عن عامة النَّاس. وما نقول إلاَّ ما شهدنا. ذلك مرض تم تشخيصه منذ زمان ليس بقصير، والذي يرفض رفضاً باتاً صرف الدواء هم أولئك الصفوة الحاكمة، لما في أنفسهم من ضغينة كثير توهماً بأن الوضع الجديد قد يذهب بكل ما استحصدوه من مال وجاه. وداء عضال أخر استفحل في هذا البلد هو التطرف الديني لدين واحد بعينه – الإسلام. وقد ذهب غيري - ممن لهم بسطة في العلم والقلم - في التحليل لهذه الظاهرة مذاهب شتى، مما يغنينا عن الخوض فيه أكثر من ذلك، وقديماً قالوا: لا يُفتى ومالك في المدينة.

    وقد حمل الغلواء في المسائل التعبديَّة دولة أفريقيَّة أخرى – ألا وهي نيجيريا – إلى تطبيق الشريعة الإسلاميَّة في بعض الولايات دون مراعاة حقوق مواطنيها غير المسلمين. وكانت نتيجة هذا الطيش إزهاق أرواح بريئة في أعمال عنف احتجاجيَّة بين صفوف المواطنين في الوطن الواحد. غير أنَّ الشيخ إبراهيم ذكذاكي – أحد علماء الإسلام في نيجيريا – كان له رأياً مخالفاً لما وقع فيه الولاة النيجيريون أصحاب الغلو في الدِّين. كان يجادل الشيخ ذكذاكي بأنَّ تطبيق الشريعة الإسلاميَّة في دولة نظامها غير إسلامي سوف يجعل من الدِّين أداة لقهر المواطنين البسطاء، بينما يبقى الحكام والولاة فوق القانون. وهذا ما يحدث في سودان البشير اليوم، كما حدث في عهد الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري في الثمانينيات حينما أصبحت الشريعة الإسلاميَّة سوط عذاب مسلطاً على الفقراء والمساكين والخصوم السياسيين، وكان القاسم المشترك في كلا النظامين هو الدكتور حسن عبدالله التُّرابي. كان حرياً بدعاة الإسلام السياسي في السُّودان أن يتركوا أمر انتشار الإسلام في المجتمع السُّوداني وماوراء حدود السُّودان أن ينساب بصورة تلقائيَّة وأن يأخذ منحى طبيعيَّاً لا حد السيف والتصريحات الهوجاء، كما شهدنا، لأنَّ الله قادر على حماية هذه الدعوة، وفعَّال لما يريد. حيث أنَّ حركة تفاعل المجتمع كفيلة بتحديد مدى سرعة أو بطء حركة التغيير، كما حدث في بعض مجتمعات شمال وغرب السُّودان أثناء حقب تأريخيَّة مختلفة. إنَّ محاولة تغيير أسلوب حياة الناس بالقوة قد يولد قوة مضادة ربما تكون أكثر عنفاً واقتداراً. فكل شئ يحمل في صميمه جرثومة نقيضة، ويخوض المعركة مع النَّقيض، ويتطوَّر طبقاً لطبيعة الصراع.

    ومما لا جدال فيه أنَّ لكل مجتمع محاسن ومآخذ. وإنَّ هذه المحاسن والمآخذ مغروسة في نفوس الناس بواسطة الأسرة والتربية والعقيدة والبيئة والمفاهيم الاجتماعية. فلا يعني هذا أنَّ الدين – كائناً ما كان – يمكن أن يكون مستودع المساوئ دون اعتبار العوامل الأُخر المذكورة أعلاه. فتجارب الأمم وقصص الأولين والآخرين فيها تخابير مستفيضة في حق شخوص ناصروا أدياناً غير ذلك الذي يدينون له امتناناً على أصحاب الحق ورأفة بهم. وفي هذا الصدد يقول فولتير (1694–1778م): إنَّني لا أوافقك فيما تزعم، لكنَّني على استعداد للدفاع عن حقك - حتَّى الموت - في القول عما ترغب الإفصاع عنه (I disapprove of what you say, but I will defend to the death your right to say it) . ففي السُّودان شرع المسلمون في بناء مسجد أم درمان الكبير، ثم انقطعت بهم النفقة، وظلَّ المسجد دون سقف، حتِّى مر بالمسجد شاعر مسيحي، أوجعه أن يعجز المسلمون عن إكمال مسجدهم، فأطلق قصيدة يعزِّي ويكفكف دموعه. والقصيدة أطلقت دموع المسلمين فأكملوا مسجدهم.

    ومثلما ألهب الشاعر السُّوداني المسيحي مشاعر المسلمين وأتموا بناء مسجدهم، انقذ الخليفة عمر بن الخطاب أضخم كنيسة عند النَّصارى- كنيسة القيامة – لتبقى في أيدي النَّصارى، ولا تذهب للمسلمين بعد أن أوشك النِّصارى أن يضيِّعوها. وحينما زار القدس ومضى في جولة يتفقد أحوال مواطنيه، أدركته الصلاة وهو يزور كنيسة القيامة هذه. فلما طلب منه القسيسون أن يصلِّى الظهر مكانه داخل الكنيسة رفض، وكان تبريره للرفض هو أنَّه إذا صلَّى فيها لا يمضي طويل زمان حتَّى يغلبكم عليها المسلمون، وهم يقولون: "صلَّى عمر هنا" ويجعلونها مسجداً. وصلَّى عمر خارج الكنيسة، ولم يمض طويل زمان حتَّى أقام الناس مسجداً حيث صلَّى عمر وهو "مسجد عمر اليوم في فلسطين". اعتبر عمر الخليفة كنيسة المسيحيين أمانة في عنق الدولة تحفظها الدَّولة المسلمة لأصحابها حتَّى إن فرَّط فيها أصحابها. ويقوم تعامل الأديان بين الناس بمقدار "شخصيَّة أولي الأمر منهم" ومدى إيمانهم بالعدل والمساواة. والخليفة العبَّاسي جلد طبيبه النَّصراني مائة جلدة لما قام الطبيب النَّصراني هذا بالبصق على رسم يمثِّل السيدة مريم العذراء.(41) كان لعمر بن الخطاب رؤية، وذلك لدرايته بطبائع أهله المسلمين، الذين قد يستبد بهم الأمر ويحطِّمون الكنيسة لكي يبنوا محلها مسجداً. ولنا فيما جرى في الهند في العام 1992م عبرة حين هب الهندوز وثبة رجل واحد وهدُّوا مسجد باباري في مدينة أيودا المقدَّسة ليشيِّدوا على أطلالها معبداً للإله رام، وقد زعموا أن المسجد - الذي كان يصلي فيه المسلمون حتى قبيل تحطيمها - هو في الأساس معبد قديم لهم إستبدله المسلمون المغول الغائرون مسجداً في زمن كانت الإمبراطوريَّة الإسلاميَّة تمتد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ولنا نحن في السُّودان كنيسة دنقلا التي قُلِبت مسجداً. وقد أسفر عمل الهندوز هذا عن أعمال عنف طائفية راحت ضحيتها 2,000 من الأرواح.(42) ومهما يكن من أمر الهندوز والمسلمين في الهند، ففي السودان شهدت كنائس كُثر، لا كنيسة واحدة، تحطيماً مدمِّراً من قبل زبانية نظام الفريق عمر حسن أحمد البشير في المدائن (الخرطوم بحري) والضواحي والأرياف. ليس هذا فحسب، بل حُرِّقت مساجد ومصاحف في جبال النُّوبة بواسطة جموع المجاهدين، الذين يُرسلون لإخضاع أهالي هذه المنطقة بقوة السِّلاح، وفيما هم يقومون بذلك الحريق إذ يردِّدون قولتهم: أحرقوا مساجد العبيد! هؤلاء هم النُّوبة المغلوبين على أمرهم، فلم يكد يحميهم شئ غير انطلاقهم إلى شَعَف الجبال فيتحرَّزون فيها خوفاً من معرِّة الجيش. هذا هو أمر النظام القائم في سبيل إخضاع الشعب على نحو بروكرستيزي (Procrustean).(43)

    فلو كان الإكراه بمقدوره أن يأتي بنتائج أيجابيَّة لأفلحت الحكومة النرويجيَّة أن تفرض اللُّغة النرويجيَّة على لابلاند، أي أرض الللاب، الذين يسمون أنفسهم ال(سامي)، وقد فشلت من قبل محاولات السُّلطة في إدخالهم في المسيحيَّة، وفضَّلوا البقاء على ديانتهم القديمة، التي تقوم على عبادة الطبيعة، وأهم آلهتم الشمس والقمر، وعندهم إله للرعد، وإله للعواصف، وإله للخصب وغير ذلك. وفي القرن السابع عشر، حاول ملك النرويج، الملك كرستيان الرَّابع، أن يدخلهم في المسيحيَّة قسراً، ففرض عقوبة الإعدام على كل فرد منهم لا يعتنق المسيحيَّة، وأقام لهم كنيسة، فلم يجد ذلك نفعاً إلاَّ في حدود ضيِّقة. وأخيراً اضطرَّت الحكومة أن تعترف بلغة ال(سامي) وثقافتهم، ومنحتهم نوعاً من الاستقلال الذاتي فكونت لهم برلماناً هو بمثابة مجلس استشاري، كما باتت تأخذ بمطالبهم وأعرافهم ومعتقداتهم بعين الاعتبار.(44)

    إذاً، أين يقبع منبع ثقافة الاستعلاء العرقي هذه الذي ينتهجها الصفوة الحاكمة في السُّودان ودول أخرى في مناطق التماس العربي-الأفريقي؟ لا يساورنا أدنى شك – كما أشرنا سلفاً - أن جذور هذا السلوك غير السوي تعود إلى عصر تجارة الرِّق، وإن كان ذلك العصر لم يزل ماثلاً للعيان بصورة مباشرة وغير مباشرة. وعلى الرَّغم من أنَّ التجارة بالبشر قد أُلغيت في العالم منذ زمن سحيق، إلاَّ أننا نجد دولة موريتانيا قد أقدمت على إلغائها في العام 1980م، ولم يستطع هذا الإلغاء الرسمي الاسمي من وقف ممارستها في المجتمع الموريتاني حتى يومنا هذا، حيث لا يزال هنالك 40% من الحراتين – الرقيق المعتوق أو أحفادهم – من جملة سكان موريتانيا البالغ تعدادهم 2 مليون نسمة. وإنَّ كل المستعبدين من أصول زنجيَّة في الجنوب، والذين يقومون بالاسترقاق هم البيضان من شمال موريتانيا. بيد أنَّ بعضاً من البيضان لهم بشرة سوداء نتيجة تزاوجهم أو اتخاذهم نساء زنجيات – من جملة العبيد الذين يملكونهم – أزواجاً لهم، وما صفة البيضان التي رانت على قلوبهم إلاَّ حالة نفسية. وهناك اعتقاد شعبي شائع غرزه البيضان في عقول العبدان أنَّ الطاعة تؤدِّي بصاحبها إلى جنات الفردوس نًزلاً، أما المعصية فمؤداها جهنَّم خالدين فيها أبداً. وهنا تأتي تسخير الدِّين أداة رائسة للسيطرة الأبديَّة على إثنية اجتماعية. ومن يفعلون ذلك كذلك، فإنَّهم على وجه اليقين أشرار. ومهما يكن من الأمر، فالحريَّة أغلى شئ في الوجود، ولذلك حرصت القوانين والأعراف على تأكيدها وصيانتها. ويُحكى أنَّه حدث أن تنازع أثنان طفلاً، وكان أحدهما مسلماً والآخر ذميَّا، وادَّعى المسلم أنَّ الطفل ملك له (أي عبد أو رقيق)، بينما ادَّعى الذمي أنَّه ابن له، فحُكِم لصالح الذمي، لأنَّ تنشئة الطفل على الحرية وإن كان على غير دين الإسلام أفضل من تنشئته على العبوديَّة وإن كان على الإسلام. إذ أنَّ حرية المرء وكرامته ترتبطان بانسانيته، فتسبقان دينه وتتقدمان عليه، فالحريَّة في غير الإسلام أفضل من العبوديَّة في الإسلام.

    ثم ندلف إلى تأريخ السُّودان بماضيه المأساوي. فها هو أحد منظِّري الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة في السُّودان، الدكتور حسن مكي، يطل علينا باستعراض لكتاب "النيل الأبيض (The White Nile)" لمؤلفه ألان مورهيد (Alan Morehead).(45) وقد كتب الدكتور حين خلا إلى نفسه: "أنَّ الرحالة والتجار العرب مثل أحمد بن إبراهيم الملقب بتيبوتيب – ويعني اللَّقب الرجل صاحب الرموش المتحركة سريعاً لعيب في عينيه – هم الذين قادوا الرحالة الغربيين".(46) وإنَّه لمن المعلوم أنَّ تيبوتيب هذا لم يكن برحالة، إنَّما تاجر رقيق كان ثمَّ متخصصاً في بيع الأفارقة في أسواق النخاسة. وأضاف حسن مكي قائلاً: "إنَّ أحمد بن إبراهيم قريب الشبه بالزبير باشا رحمة، حيث استطاع تأسيس نفوذ ضخم في قلب الأقاليم الإستوائيَّة، إلاَّ أنَّه لم يصنع دولة كما فعل الزبير باشا رحمة، والذي يلفت الانتباه إلى هؤلاء الأبطال العرب في وسط أفريقيا الإستوائيَّة أنَّهم استطاعوا بمفردهم تقريباً إنشاء سلطنات ودول من خلال تحبيب سكان هذه المناطق فيهم ووضع ثقتهم وولائهم كذلك، والدليل على ذلك أنَّ الزبير باشا رحمة استطاع أن يقود جيشاً ضخماً من الاستوائيين ويحارب بهم أقدم سلطنة في المنطقة وهي سلطنة الفور". واستطرد حسن مكي: "إنَّ إخلاص قبائل جنوب (السُّودان) في القتال ومسيرتها الطويلة خارج حدودها الجغرافيَّة في أجواء صحراويَّة لم تتعوَّد عليها لا يمكن أن يأتي بدافع القهر والخوف". وفيما ذكر حسن مكي أنَّ "التأريخ يحفل بصور الرقيق الحقيقي الذي امتلك القوة المادية في مرحلة من المراحل فانقلب على ساداته ومزَّقهم شر ممزَّق"، بيد أنَّ التأريخ حفي – كذلك - بسِيَر العبيد الذين اُستُعبِدوا حتى باتوا مخلصين لأسيادهم أي إخلاص، ولم يكن يملكون من أمرهم رشداً، فقاتلوا وماتوا في سبيلهم، وهذا ما كان من أمر أهل الجنوب الذين أذلَّهم وغواهم الزبير باشا رحمة، تاجر رقيق بالمهنة كما اعترف هو بذلك حين كان يروي سيرته الذاتيَّة في منفاه بجبل طارق للصحفيَّة البريطانيَّة فلورا شو في سلسلة مقالات نشرتها بمجلة مراجعات معاصرة (Contemporary Review) العام 1887م.(47) إذاً، من العبث بمكان أن يحاول حسن مكي أن يسبغ الزبير بصورة ناصعة غير التي هو كان عليها. كما علينا أن نذكِّر الدكتور - وإنَّ الذكرى تنفع المؤمنين - أنَّ علماء الإجتماع غالباً ما يميِّزون بين نوعين من السلطان: سلطة تفويضيَّة (Authority) أو إكراه وإجبار(Coercion) . فلم نجد من الوثائق ما تدلُّ أنَّ أهل الجنوب فوَّضوا الزبير باشا رحمة ليكون سلطاناً عليهم، غير أنَّه أفلح في تزويد الأترك-المصريين بالعبيد حتى أجازوه بلقب الباشا، وهو أرفع لقب بعد الخديويَّة. حقَّاً، إنَّ كتب التأريخ حُبلى بقصص الأرقاء الذين ثاروا وانتفضوا ضد جلاديهم، ودونكم وكتاب السكرتير العام للحزب الشيوعي السُّوداني، محمد إبراهيم نقد، في "علاقات الرِّق في المجتمع السُّوداني"، غير أنَّنا نعيب على الكاتب، محمد إبراهيم نقد، أنَّه لم يذكر في الكتاب شيئاً عن تجارة الرِّق في شرق أفريقيا، الذي كان رائجاً للتجار العرب من مسقط وعمان بعدما خاض واستفاض في الحديث عن هذه التجارة في غرب أفريقيا، الذي كان مستودعاً لتجار العالم الغربي.

    وعندما يكتب حسن مكي "أنَّ أثينا القديمة (...) استذلوا مجموعات كاملة من البشير (لعلَّه يعني البشر وليس البشير الذي يعرفه السُّودانيون) وجلهم من الأفريقانيين، انقلبوا على سادتهم الأوربيين وكوَّنوا جيشاً ضخماً خرَّب المدن اليونانيَّة القديمة، وحطَّم حضارتها إلى الأبد". وقد إلتهمنا أسفار الأولين والآخرين إلتهاماً فلم نعثر على هذه الفرية، التي تقول إنَّ أغلب الأرقاء عند الإغريق كانوا أفارقة، ولم نهتدي إلى ذلك سبيلاً، وليت حسناً قد ذكر المصدر للاستوثاق واستجلاء الحقيقة. أما إذا أراد كاتبنا أن يستغفلنا بأن تجارة النخاسة كانت مقصورة على الأوربيين دون العرب، كما يردِّد ذلك أخرون، فهذا قول مردود.

    وحين يسترسل حسن مكي في القول أن ألان مورهيد في تأليفه "النيل الأبيض"، حاول "أن يسمِّم العلاقة المستقبليَّة بين العرب والأفارقة بحديثه عن تجارة الرقيق، وكيف أنَّ العرب الأشرار دمَّروا كل صور الحياة هناك بفعل شراهتهم للرقيق، وكيف أنَّهم مارسوا القسوة المتناهية مع السكان المحليين (...)"، نجد أنَّه لم يكن حصيفاً وكان للحقيقة متجاوزاً، لأنَّ التَّسميم – في حقيقة الأمر – هو الإتيان بهذه الأعمال المنكرة التي تقشعر منه الأبدان ويشيب عنها الولدان دون الاعتذار عنها وطلب العفو والمغفرة والصفح، وليس تذكير الناس بالتأريخ المأساوي على حقيقته وعلاته، الذي أقدم عليه العرب وفعلوه شر فعلة، من التسَّسميم من شئ. ومن واجبنا تذكير الشَّعب السُّوداني بهذه الحقائق الدَّامغة – الغابرة والمعاصرة معاً – وخاصة تلك التي لا تعرف عنها الأجيال المعاصرة إلاَّ لماماً. وإذا اعتبرنا ما حدث كان من ماضٍ استعماري يشوبه الكثير من الشوائب القميئة – كما يحلو لبعض السُّودانيين النأي بالحديث عن الرِّق وتعليق كل شئ على الاستعمار، قميص عثمان – غير أنَّ الحرب الأهليَّة التي تدور رحاها اليوم في السُّودان أفرزت تجارة الرِّق مرة أخرى، وكان أصحابها تجار عرب سودانيين. ولعلَّ من نافلة القول أن نذكر أنَّ وصف حسن مكي لشخصي الزبير باشا رحمة وتيبوتيب "بالأبطال العرب في وسط أفريقيا الإستوائيَّة" ونعته لتيبوتيب "بالمجاهد الإمام الأثيوبي المسلم أحمد بن إبراهيم" لهو إساءة بليغة للأفارقة، وإنَّ حسناً هذا قد أخذته العزة بالإثم.
                  

06-09-2004, 09:45 AM

Adrob wad Elkhatib
<aAdrob wad Elkhatib
تاريخ التسجيل: 05-05-2003
مجموع المشاركات: 638

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأفارقة والعرب … إنَّ الذي بينهم لمختلفٌ جداً (Re: Adrob wad Elkhatib)

    في الحق، لا نكاد نصدق من يزعم لنا أنَّه يضع تأريخ السُّوداني السياسي بالمعنى الصحيح لكلمة التأريخ. إنَّ لفظ التأريخ نستعمله نحن الآن فيما يستعمل فيه الأجانب لفظ (Histoire). وأصل هذه الكلمة الوصف، كما فهمه أرسطاطاليس عندما كتب تأريخ الحيوان. ومن أراد أن يصف شيئاً من الأشياء – أو يدوِّن حدثاً تأريخيَّاً – وصفاً علميَّاً فنيَّاً صادقاً يعطيك صورة مشابهة أو مقاربة، فلا بد من العلم بما يصف. وما رأيك فيمن يصف ما يجهل؟ هو إما كاذب أو صاحب خيال. والحق أنَّ كثرة الذين يكتبون في تأريخ السُّودان من السُّودانيين يكذبون ويتخيَّلون. فليس بين أولئك وهؤلاء الذين يتهالكون على تدوين تأريخ السُّودان، ويتنافسون فيه، ويحتكرون تعليمه والكتابة فيه من له فهم أو فقه في درس التأريخ والنقد التحليلي، وهم – بعد ذلك – ذوي نوايا سيئة وأصحاب غلو في العقيدة والعرق، فغلوا في تحقير غيرهم وإصغارهم، فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم أيضاً. وهل فعل الدكتور حسن مكي غير هذا؟

    ومثلما اعتذر الغرب عن تجارة الرق واعتذروا – أيضاً – عن دورهم في الحروب الصليبيَّة، وقالوا لا تؤاخذوننا بما فعل أجدادنا الغابرين، كنا نتمنَّى أن يعتذر العرب عن دورهم الرائس في هذه التجارة غير الإنسانيَّة، وأقصد بالتَّمني الذين امتهن ذويهم هذه الصناعة، حيث ما زال أحفادهم – وهم كُثر – يصولون ويجولون. فبدلاً أن يتواروا خجلاً عما فعل أنسابهم، أخذوا يؤلفون الكتب، وهم فيها يمجِّدون أفعالهم ويصفونهم بالأبطال، ويمكرون مكراً كُبَّاراً. ونذكر، على سبيل المثال، خليفة عباس العبيد وهو يقول في نسبه الزبير باشا رحمة4

    سموك الزبير فارساً تشد الحيل

    سموك الزبير فارساً تصد الخيل

    سموك الزبير صالحاً تقيم الليل

    سموك الزبير بتغير هوية ليل

    لقد كان موقف السكرتير العام للحزب الشيوعي السُّوداني، عبدالخالق محجوب، مشهوداً حين وقف في مؤتمر المائدة المستديرة في الخرطوم العام 1965م معتذراً لأهل الجنوب، حيث قال – فيما قال: "نعم، نحن أحفاد الزبير باشا رحمة، تاجر الرقيق، غير أنَّنا نطلب العفو ونرجو المغفرة، بل نود أن نفتح صفحة جديدة من العلائق التصالحيَّة بين أهل الشمال والجنوب من أجل السُّودان الواحد". ومن ثَمَّ ذهب إلى أهله (أهل الشمال)، فتشاوروا فيما بينهم، حتى أجمعوا على أمرهم، وجاءوا بالدكتور حسن عبدالله التُّرابي – زعيم جبهة الميثاق الإسلامي – ناطقاً رسميَّاً باسم أحزاب الشمال (يمينيَّة ويساريَّة وقوميَّة عربيَّة) ضد أهل الجنوب. تُرى ماذا قال الدكتور التُّرابي عن "واقعة المائدة المستديرة" هذه لاحقاً؟ ذكر الترابي في التسعينيات في إحدى الدوريات العربيَّة التي تصدر في لندن أنَّ أحزاب الشمال – باستثناء جبهة الميثاق الإسلامي – لم تكن تملك مبادرة سياسيَّة لحل ما كانت تسمى – وما زالت تسمى خطأً - "بمشكلة الجنوب". أما جبهته، والحديث للدكتور التُّرابي، فكانت لديها مبادرة مستوحاة من عهد (ميثاق) الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود في المدينة.(49) إنَّ في هذا القول إساءة – في حق مواطنين وُجِدوا في البلاد قبل دخول العرب إلى السُّودان – لهو أوجع من لدغة الحية الرقطاء. هذه الأقوال هي التي تعكِّر العلاقات بين أهل الشمال والجنوب، مما يصعب معها حل المشكل السُّوداني.

    وتجدر الإشارة هنا إلى أمر الأدباء في العالم الغربي لما في الأمر من صلة بمسألة الرِّق. فخلال حقب تأريخيَّة خلت ظلَّ بعض الكتاب المشاهير يكرِّسون جهدهم لظاهرة الاستعلاء العرقي، وذلك في منتدياتهم الأدبية وتأليفاتهم المتعدِّدة كما يفعل الدكتور حسن مكي حاضراً في الخرطوم. فحين تمرَّد العبيد السُّود في خليج مورانت على الساحل الشرقي في جزيرة جامايكا – المستعمرة البريطانيَّة يومئذٍ – العام 1865م، فرض الحاكم الإستعماري، آير، قوانين عرفيَّة، وللتو أعدم 450 متمرِّداً من العبيد، وجلد 600 رجلاً وإمرأة، وحرق 1000 منزلاً. ثم أخذ جمهور الأدباء في بريطانيا يتجادلون فيما بينهم في أمر الزُّنوج. فمنهم من اعتقد، باطلاً، أنَّ السُّود ليسوا كمثل البيض، ولا ينبغي معاملتهم على السواء. وقد ذهب في هذا المنحى توماس كارلايل في مقالة مناسبيَّة في مسألة الزُّنوج، وكتب – فيما كتب – أنَّهم جنس آخر محصور في بشرتهم السَّوداء وفي دونيتهم. وسار على نهج كارلايل كل من تي إتش هوكسلي، وشارليس داروين (صاحب نظريَّة التطور)، وشارليس لايل، وجون روسكين، وشارليس تينيسون. غير أنَّهم أبدوا قلقهم على الشرعيَّة لا الجنس البشري الآخر، فرأوا أنَّ رعايا بريطانيين (بحكم الاستعمار) قد حُرموا من حكم القانون، فالمشكل يكمن في القانون العرفي (الذي استنه الحاكم آير)، كما كتب هوكسلي، وليس هو بمحبٍ للزُّنوج. وأضاف تينيسون أنَّ هناك فوارق فطريَّة (بين السُّود والبيض)، ونزعات وراثيَّة التي تتجاوز التربية، وأردف أنَّه ليس بمالكٍ للعبيد من القلب، لكنه لا يحب الزُّنوج. وفي هذا الجدل الأدبي المقيت، انبرى شارليس ديكينز – من أعظم كُتَّاب الرواية التي كانت تعالج المشاكل الاجتماعيَّة في العهد الفيكتوري في بريطانيا – حاملاً رأياً متأرجحاً بين الإساءة وتأييد وضعية العبيد، وعلى وجه التخصيص إبَّان الحرب الأهليَّة الأمريكيَّة. ففي كتابه "مذكرات أمريكيَّة (American Notes)"، صنَّف ديكينز ملاك العبيد في أمريكا إلى قسمين: المعتدلين العقلانيين أصحاب الماشية البشريَّة، والقسم الآخر الذين لهم حق استمراريَّة مؤسسة الرِّق، بما فيها من الجلد والسخرة والتعذيب، دون أن تستوقفهم سلطة بشرية.

    أما كرام الكاتبين الفرنسيين، مثل كادمي-كوهين، مؤلف "المقت الأمريكي (The American Abomination)"، وأندريه سيجفريد، وأندريه تارديو، وجرجس دوهاميل فلم يكتفوا بتصويب سهامهم على "الوحش الأمريكي" بعد أن توجَّسوا خيفة منه بما امتلك من القوَّة الاقتصاديَّة والعسكريَّة والنفوذ الاجتماعي والثقافي، وبات يشكل خطراً ماثلاً على الحضارة الأوربيَّة. بل طفق هؤلاء الكُتَّاب يضربون على الحلقة الضعيفة في صراع العمالقة – أي الزُّنوج الأرقاء الذين لا حول ولا قوة لهم. فهاجم دوهاميل الأفلام الأمريكيَّة مدعياً أنَّها أداة رائسة لمضيعة وقت العبيد، وعنصر تسلية للأمي، والمخلوقات الفقيرة التي تخدَّرت بالعمل والقلق؛ إنَّها – أي الأفلام الأمريكيَّة – حصان طروادة لأمركنة (Americanise) العالم. ووسط هذه الحملة الشعواء على الزُّنوج الأرقاء وقف جون ستوارت ميل، بعد وفاة وليام نيب العام 1845م، لنصرة الزُّنوج العبدان من براثن طغيان البيضان. مما مضى من جدال يبرز السؤال التَّالي: هل نأخذ العرق كمبتدأ لفهم العالم من خلال التجارب الفرديَّة أم نجعله منشوراً زجاجياً حيث من خلاله يمكن النظر إلى العالم وفهمه؟ ويقودنا هذا السؤال إلى التحكيم بين الناس عما يفعلون وليس يمعايير الأعراق البشريَّة. وقد تطوَّرت الدول الغربيَّة – في حدود القانون والممارسة العامة عل الأقل – في تجاوز التظلُّمات بسبب التفرقة العنصريَّة في تشريع قانون الحقوق في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة(The Bill of Rights) ، وتطبيق سياسة تساوي الفرص في بريطانيا(Equal Opportunities Policy) ، وعلينا – نحن معشر السُّودانيين – أن نحذوا حذوهم.

    وعلى صعيد آخر نذكر في الكتاب أديباً ذاع صيته في الأمصار وفي دول ما وراء البحار، ذلكم هو الطيَّب صالح. وإذ نقول ذلك وبين أيدينا روايته "موسم الهجرة إلى الشمال". وقد فكَّرنا مليَّاً علام أقبل العرب على روايات الطيب صالح يبجِّلونها تبجيلاً، وقادنا التفكير إلى وجود وجه الشبه بين ما تحويه روايته المذكورة من قصص جنسيَّة خليعة والأدب العربي المتمثل في "أخبار النساء" لإبن عبد ربه، و"أخبار النساء" لابن قيم الجوزية، و"أخبار النساء" لأبي الفرج الأصفهاني. وفي هذا الشأن أكتفي بإيراد هذا التعليق الذي عثرنا عليه في "آخر ورقة" في الكتاب، الذي اكتفي المعلِّق بذكر اسمه على النحو التالي: د. قاسم (؟). فماذا دون الدكتورقاسم؟ قال الدكتور إنَّ هذا العمل "تبديد... تبديد... وثم تبديد لطاقات كامنة كان من الأولى أن تتحوَّل إلى شئ مفيد. الكتاب عبارة عن خيالات شيطانيَّة وهيهات فهيهات خُلقت للتسلية اللَّحظيَّة التي تختفي بسرعة البرق كما التمتع بها، هذا إذا حدث!!! وأكيد يتم حدوثه لرواد وعاشقين أمثال هذه الروايات. أين الرسالة ومعالجة الموضوع يا صالح، الذي بدأت به القصة بعد انتظار على الجمر "سبع سنوات" من عودته؟؟؟ انتظار البلد الفقير لأدنى المجاهدة بمساندة العلم الذي جناه مقابل احتراق شمعات شبابه... هل أتى ليُنفِّر الخلق من صحرائهم الظامئة التي تحيط بهم؟ أم البؤس الذي استنكره في وضعه؟ أم كان هذا تقرباً لهم بالخمر وندمائه لقتل الوقت... دعايات بارعة مستمدة من إعلام غربي فاشل، ما أبشع الصور هي عندما تخلى عن كينونته الدينيَّة والعربيَّة بحرق المخطوط العربي والمصلاة... يا بئس ما ساوم به تلك (...) وكشف عن ضعف بدين في أحشائه، يا لهزيمة الرجل المتعلم، المسلم، العربي، الأفريقي الراشد. كان من باب أولى أن يهدف إلى إكمال القصة بعكس انتصارات فكريَّة، علمية تجوب عطاءاً لطين البلد الذي نشأ منه، لكن هذه هو جزاء السُّودان في النهاية. كان يمكنه أن يبني حلقة وصل مع محجوب لإتمام بناء مشروع زراعي، مستشفى، مدارس... إلخ. لكنه هرب بخياله الشَّارد تحت وطأة التأثُّر بالانجليز ولم يفد أو يغذي عقلنا بشئ من حضارة الغرب التكنولوجيَّة. الغرب يتألَّق يوماً بعد يوم، ونحن نخضع إن دلَّ هذا على شئ، إنَّما يدلُّ على التقاعد ومن ثّمَّ استعمار جديد أخطر من الأول (استعمار معنوي)". فليس بالضرورة أن نتفق مع كل ما أورده الدكتور قاسم لفظاً ومعني، وإن وجدنا قواسم مشتركة بيننا وبينه فيما ذهب إليه تعليقاً على رواية الطيب صالح.

    وفي أحدى صفحات الرواية وعلى لسان مصطفى سعيد (عثمان)، تلك الشخصية الأسطوريَّة التي دارت حولها الرواية، يقول الروائي الطيب صالح: "أنا مثل عطيل. عربي أفريقي (...) نعم. هذا أنا. وجهي عربي كصحراء الربع الخالي ورأسي أفريقي يمور بطفولة شريرة". ثم يمضي الروائي، الطيب صالح، فيضيف: "كنا واثقين أنَّ مصطفى سعيد سيصير له شأن يذكر. كان أبوه من العبابدة، القبيلة التي تعيش بين مصر والسُّودان. إنَّهم الذين هرَّبوا سلاطين باشا من أسر الخليفة عبدالله التعايشي، ثم بعد ذلك عملوا رواداً لجيش كتشنر حين استعاد فتح السُّودان. ويقال إنَّ أمه كانت رقيقاً من الجنوب. من قبائل الزاندي أو الباريا، الله أعلم. النَّاس الذين ليس لهم أصل، هم الذين تبوأوا أعلى المراتب أيام الإنكليز". ويستطرد الطيب صالح: "وقد استخدمته وزارة الخارجيَّة البريطانيَّة في سفارات مريبة في الشرق الأوسط. وكان من سكرتيري المؤتمر الذي انعقد في لندن سنة 1936م. إنَّه الأن مليونير، ويعيش كاللوردات في الريف الإنكليزي".(50)

    إنَّ وصف طفولة الطفل الأفريقي بالشر فيه غلواء، وعلمنا دوماً أنَّ الطفولة براءة، وقد يكون هنالك شر حول هذه الطفولة ولا يكون للطفل دوراً فعيلاً في هذا الشر، وقد يكون الشر ناتجاً عن عدوان تجار الرقيق فيري الطفل، الذين لم يظهروا على عورات النِّساء، أبواهم يُقتلان أمامهم وإخوتهم يُقتادون إلى العبوديَّة، وقد لا يراهم منذئذٍ أبداً. ثم طفق أديبنا يصف قبيلة والد مصطفى سعيد، أي العبابدة، بالخيانة الوطنيَّة لأنَّهم هرَّبوا سلاطين باشا من أسر الخليفة عبدالله التعايشي، ثم بعد ذلك عملوا رواداً لجيش كتشنر حين غزا السُّودان. السُّودان – في حد ذاته - ملئ بسودانيين قاموا بدعوة ونصرة الغزاة. فهناك المك نصر الدين، أحد أفراد العائلة المالكة في الميرفاب في بربر، الذي توسَّل إلى محمد علي باشا، والي الحكومة التركيَّة في مصر، لمساعدته ضد إخوانه الذين نافسوه في السلطة. كما أنَّ السيد على عثمان الميرغني قد جاء مع كتشنر بصفته ضابطاً سياسيَّاً انتقاماً لما تعرَّضت له طائفته الختميَّة من المهديَّة، وظل يخدم "الاستعمار ودولة الاستكبار" حتى المعاش، وكان له نصيباً معلوماً من خزينة الدولة حيث به استطاع بناء حزبه الطائفي، وتمويل نشاطه الديني السياسي. أما مسألة الرق في والدة مصطفى سعيد فحدِّث ولا حرج، ويقودنا الحديث إلى إطراح السؤال التَّالي: هل الشخص المستعبد مجرم أم ضحية؟ بالطبع، إنَّه ضحية فلا يمكن ولا يُعقل أن نزيد في عذابه وإيلامه، لأنَّه ليس لديه دور فعول في عمليَّة الاستعباد هذه، وإن نفعل ذلك نكون قد غرسنا طعنة نجلاء في جرح غائر لم يلتئم بعد، أو كما تقول الفرنجة(To add insult to injury)، فلو كان يملك المولى من أمره شيئاً لما اختار أن يكون مملوكاً، حيث أنَّ الحريَّة درة الحياة. يقودنا هذا الجدال إلى أهل شمال السُّودان، الذين ما فتأوا ينعتون أهل الجنوب والنُّوبة والأنقسنا بالعبيد، متناسين أنَّ سكان أحراش الجنوب وجبال النُّوبة وتلال الأنقسنا هم أحفاد الأجداد الذين وقفوا وقفة رجل واحد ضد حملات الرِّق في عصر بداية توغل العرب إلى أفريقيا، وبلوغ تجارة النخاسة أوجها في العهد التركي-المصري. أما إخوتنا في شمال السُّودان المستعرب، الذين أسرفوا على أنفسهم ضد السُّودانيين الأفارقة، فهم ذلكم الخليط الهجين من العرب القادمين من حيث أتوا والرقيق المريض، مع العلم بأنَّ الرقيق القوي الشديد كان يتم تصديره إلى الخارج حسبما تشترط "مواصفات ضبط الجودة (Slave quality control)" في أسواق الرِّق العربيَّة والغربيَّة، نسبة لظروف الرحلة الطويلة مشياً على الأقدام فضلاً عن حمل الأمتعة والبضائع، وهم موصدين بالسلاسل والشُّعب. كما أنَّ الأسعار الباهظة للرقيق السليم القوي هي التي أملت شروط هذه الجودة.

    ثُمَّ نعود – وعودهم معوج - إلى قول أديبنا الروائي، الطيب صالح، إنَّ "الناس الذين ليس لهم أصل، هم الذين تبوأوا أعلى المراتب أيام الإنكليز". هذا قولٌ عار من الحقيقة، فقد علمنا علم اليقين أنَّ هؤلاء، الذين وصفهم الكاتب بمن ليس لهم أصل، هم أولئك الناس الذين بحثت في جذورهم الدكتورة اليابانيَّة، يوشيكو كوريتا، وأطلقت عليهم لفظة المنبتين (Detribalised) ، وعلى رأسهم البطل السُّوداني علي عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ.(51) وقد حدا بهم مغني السُّودان الصدَّاح الموسيقار محمد وردي: سيذكر التأريخ أبطالاً لنا، عبداللطيف وصحبه وكل من خط على التأريخ سطراً بالدماء، وكل من صاح بوجه الظلم لا. ولا ريب أن علي عبداللطيف قد واجه المستعمر بصلابة وجسارة، وفي أروع ملحمة نضاليَّة عرفها تأريخ الشعوب والأمم، ولم يتبوأ منصباً سياسيَّاً أيام الإنكليز.

    إنَّ فشل الكاتب في مواجهة الصورة العقليَّة، التي يشترك في حملها أفراد أو جماعة وتمثل رأياً مختزلاً إلى حد الإفراط المشوه أو موقفاً عاطفيَّاً من عرق أو قضيَّة، تمثل عين الإخفاق نفسه وفشل الروابة في تأدية الرسالة التربوية التصحيحيَّة. هذا إذا فرضنا أنَّ الكاتب كان صافياً في نواياه وحاول بعمله الروائي عكس التقاليد الموروثة بما فيها من شوائب ونوائب الدهر. إنَّ الكتابة الأدبيَّة التي تروي حقبة تأريخيَّة ينبغي أن يبحث صاحبها في الحياة السياسيَّة والجوانب الاجتماعيَّة إبَّان ذلك العصر دون محاباة أو مغالاة. ومن يفعل ذلك دون فهم أو فقه، فمثله كمثل الذي يريد أن يفهم خمريَّة من خمريات أبي نواس دون أن يتعمَّق في فلسفة المعتزلة، ودون أن يدرس التَّوحيد واختلاف أهل السُّنة والمعتزلة فيه. وقد علمنا أنَّ الجاحظ كان أديباً لأنَّه كان مثقَّفاً قبل أن يكون لغويَّاً أو بيانيَّاً أو كاتباً. لذلك كنا نأمل أن يكون في رواية الطيب صالح موضوعية العلم كما فيه من ذاتيَّة الأدب.

    وكما ذكرنا سلفا،ً فإنَّ أحد عوامل الصراع الدموي في السودان يعود إلى التهميش الثقافي، الذي بلغ مداه بحيث أمسى الحكام الخرطوميون يجدُّون ويجتهدون ثم يجاهدون من أجل محو الآخر من الوجود حتى لا يبقى هناك بشر يتعللَّ بالمساواة والتكافؤ الثقافي. وبات الوطنيون المهمشون لهم خيار واحد لا ثاني له: خذوا هذه الثقافة الإسلاموعربيَّة لا غير. "فإنَّ صفة قوميَّة الثقافة السُّودانيَّة لا يمكن خلعها في وقتنا الحاضر على شريحة لثقافة واحدة من أنماطه الثقافيَّة المختلفة، حتى لو كان تلك الثقافة قد أكَّدت منعتها وسيادتها على أجزاء كبيرة من الوطن".(52) وعندما احتجَّ أبناء الجنوب ضد سياسة تعريب المناهج التعليميَّة رد عليهم الدكتور خالد المبارك بأن يبقوا في جامعة جوبا فإنَّ لهم فيها ما طلبوه. ما هكذا تُورد الإبل يا خالد! هذه الجامعات منذ تأسيسها ظلَّت قوميَّة، ولعلَّ جامعة جوبا، التي يوصي بها الدكتور المبارك أهل الجنوب أن يبقوا خالدين فيها، مكتظة بأبناء الشمال، إدارة وطلبة. ولم يقل لهم أهل الجنوب إذهبوا إلى جامعة أم درمان الإسلاميَّة لتغترفوا منها العلوم باللُّغة العربيَّة وتنهلوا من معينها الإسلام، بل تعايشوا معهم إخوة وخلاناً، إيماناً منهم بأنَّ الوطن المسمى السُّودان، مهما جار وضنى عليهم، فهو واحد حتَّى إشعار آخر.

    بيد أن ذلكم النهج الاعتسافي لم يكن هو ذوق عموم أهل السُّودان، وإلا لما عجز حكام الخرطوم بالجدال والنضال بالنقاش حتى اختاروا طريق الحرب وهي طريق التهلكة للجميع، ونقصد بالجميع هنا ضياع القطر المسمى السُّودان في خاتمة المطاف إذا لم يستدرك السادة الحكام الأمر. إنَّ مسألة الثَّقافة في السُّودان، إذاً، في حاجة إلى معالجة. وقد كان الأستاذ عبدالله عبدالوهاب ذكيَّاً أريباً حين طرح سؤالاً في ورقته "مقدمة في سؤال المسرح السُّوداني، وامتداداته في رقعة السُّودان القديم" عن دواعي مشاركة المسرح السُّوداني في الاحتفالات الحوليَّة التي تُقام في بغداد، ودمشق، والقاهرة، والرباط تحت اسم "المسرح العربي".(53) ونفى الأستاذ عبدالوهاب وجود ثمة علاقة بين المسارح العربيَّة وتراثياتها، والمسرح السُّوداني، وذلك من خلال ثلاث مستويات: عدم وجود أيَّة علاقة بين الموضوعيَّة التُّراثيَّة التي يشتغل عليها المسرح السُّوداني والمسرح العربي، وعدم وجود علاقة بين الشخصية الذاتيَّة التي يتحدَّث خلالها المسرح السُّوداني والمسرح العربي، وأخيراً غياب علاقة اللُّغة التراثيَّة التي يتمثَّل بها المسرح السُّوداني والعربي. وذكر نماذجاً من الموضوعيَّة التُّراثيَّة السُّودانيَّة في ممالك النُّوبة القديمة، وتتويج رث الشُّلك، ومملكة المسبعات في كردفان، وسلطنة الفونج في سنار، ومملكة تقلي، وممالك دارفور، والزَّاندي وغيرها. كما لا يمكن للجمهور العربي أن يتفاعل مع شخصيات سودانيَّة مثل إسماعيل صاحب الربابة أو سليمان الطوالي الزغرات مثلما يتفاعلون مع مسرحيَّة تراثيَّة عربيَّة اُستلهمت من عنترة بن شداد، أو الزير سالم، أو زهير بن أبي سلمى، فضلاً أنَّ لفظة "سوداني" تعني "عبد" في كل تفاسير الرحالة العرب من ابن حوقل وحتى ابن بطوطة. وجاء في كتاب طبقات ود ضيف الله عند حسن ود حسونة "جاني السُّوداني الكلب"، و لفظة كلب تعني عبد. وفي اللُّغة العاميَّة السُّودانيَّة نجد أنَّ الدكتور عون الشَّريف قاسم قد استطاع أن يحصر العديد من الكلمات العاميَّة السُّودانيَّة ويرجعها إلى أصولها، فوجد أنَّها إما بجاوية قديمة، أو نوبيَّة قديمة، أو فوراويَّة قديمة أم من جبال النُّوبة ... إلخ.

    إنَّ الدكتور عون الشريف قاسم هو ذلك الرَّجل المتخصص في الجغرافيا اللُّغويَّة (دراسة الفروق المحليَّة والإقليميَّة الخاصة بلغةٍ ما – (Linguistic geography، الذي عاد إلينا ضحى لكي يحدِّثنا أنَّ الإسلام "أنشأ لغات إسلاميَّة جديدة مثل السواحيليَّة في أفريقيا، والأرديَّة في آسيا، والمالطيَّة والمجريطيَّة في أوربا". ولا نحسب أنَّ الدكتور قد أصاب إذا اعتبر هذه اللُّغات إسلامية لأنَّ فيها كلمات عربيَّة وإن أصابها تصحيف. فهل، بالمقارنة، تصبح اللُّغات النُّوباويَّة أو كل اللغات السُّودانيَّة بعدما دخلت إليها كلمات عربيَّة لغة الإسلام كذلك، وإن ظل المتحدثون بها نصاري أو معتنقي الأديان الأفريقيَّة أو ما يسمى في الدساتير السُّودانيَّة (المعدَّلة منها والدائمة، وما الدَّوام إلاَّ لله وحده لا شريك له) بكريم المعتقدات (Noble Religions)؟ ما لهم كيف يحكمون! وقد وجدت مفردات عربيَّة سبيلها إلى لغات أجنبيَّة أخرى، لأن الاقتراض اللغوي ظاهرة طبيعيَّة في جميع اللُّغات ليقوم بدورها التواصلي والنفعي داخل نسيج المجتمع الواحد وبين الكيانات الثقافيَّة المتباينة. ويحدِّثنا سيف الدين الماحي أنَّ "القرآن الذي نزل حاوياً من الحكمة والبيان ما لم تحويه كل البلاغات العربيَّة السالفة، نجده قد احتوى على كثير من المفردات الفارسيَّة والهنديَّة والحبشيَّة والعبريَّة والحورانيَّة والسريانيَّة والروميَّة وغيرها".(54) ولعلك واجد في لغة العرب الكثير من المفردات التي عُرِّبت حتى يُخيَّل للمرء أنَّها عربيَّة قحة وما هي بذلك. فاللُّغة العبرانيَّة ساميَّة، واللُّغة الفينيقيَّة ساميَّة، ولغة الكلدانيين ساميَّة، واللهجات الآراميَّة كلها ساميَّة، وبينها وبين اللُّغة العربيَّة من التشابه القوي حيناً والضعيف حيناً آخر مثل ما بين اللُّغة العربيَّة ولغة البابليين في عصر حمورابي ولغة الحميريين والسبئيين والحبش والأنباط. وإذن، فلم لا تكون العبرانيَّة والسريانيَّة والكلدانيَّة ولهجات الآراميين كلها إسلاميَّة لما بينها وبين العربيَّة من تشابه؟

    وعلى جانب آخر، نجد ألفاظ "فتوى" (Fatwa)، و"جهاد"(Jihad) ، و"انتفاضة"(Intifada) ، و"سفري" (Safari)العربية مشاعة في استخدامات اللُّغة الإنجليزيَّة. وكما أسلفنا، فإنَّ اللُّغات لتتلاقح مع بعضها بعضاً لتتوالد حفظاً للبقاء مثلها كمثل الكائنات الحيَّة، وإذ يستفيد منها الناس في التخابر ونقل المعرفة ولا مناص من ذلك إلاَّ من أبى وتكبَّر وكان للحقيقة لكنود. وقد ساعدت عوامل الاختلاط بالمصاهرة والمجاورة والمحاربة والمتجارة في أمر هذا اللقاح اللغوي المبين، فنجد في البرتغالية شيئاً من الأسبانيَّة، وفي الإيطاليَّة شيئاً من الأسبانيَّة، والإنجليزيَّة شيئاً من الفرنسيَّة وهلم جراً. كما أنَّ للعدوان أثر بليغ في إعارة كلمات أجنبيَّة للغات المعتدي عليه، ففي السُّودان نجد مفردات مثل "اسبتالية"، و"شفخانة"، و"سلخانة"، و"جبخانة"، و"أدبخانة"، وتعني هذه الألفاظ - على التَّوالي - "مستشفى"، و"عيادة"، و"مسلخ"، و"ذخيرة حربيَّة"، و"مرحاض"، التي أتت إلينا نتيجة الاستعمار التركي-المصري الذي جثم على البلاد من العام 1821–1885م. بيد أنَّ للعولمة (Globalisation) – أو كما يسميه الصًّادق المهدي الكوكبيَّة (Globality)، وإنَّ صادقنا هذا لشغوف بالمفردات – فضل عظيم في التداخلات اللغوية-الاجتماعيَّة. هذه هي سنن الحياة، فقد تراضى الناس وتصالحوا مع أنفسهم أن تسير على هذا النهج، وما عسى أن يكون للدِّين الإسلامي من أمر هذه المسائل من شئ، إلا الذين أسرفوا على أنفسهم في الغلواء واستغلوا عقول الدهماء من الأقوام لتضليلهم. هذا خلل يجب أن نتداركه، فهل نجسر؟

    خلاصة

    وفي الختام، نطرح السؤال الاستنكاري التَّالي، هل السُّودانيين الأفارقة مستاءون؟ ومم؟ ظلَّ السّودان مستودعاً لإشباع رغبات العرب بالرَّقيق منذ القرن السَّابع عشر فيما عُرف باتفاقية البقط. كما أنَّ القبائل العربيَّة قد تحالفت فيما بينها وانقضوا على مملكة علوة في سوبا، وحين جاء جند إسماعيل باشا لغزو السُّودان كان العرب أدواتهم في تمويل الرِّق، ودونكم والزبير باشا رحمة في جنوب السُّودان ودارفور، وبدوي أبو صفيَّة في جبال النُّوبة – حيث كان يتَّخذ من الأبيض نقطة لانطلاق غزواته ثم مركزاً تجاريَّا لبيع الرقيق المجلوب – والست آمنة وزوجها خوجلي الحسن في جنوب النيل الأزرق (مناطق الفونج). وحين أعلن المهدي حركته ضد الاستعمار التركي المصري العام 1882م أواه أهالي النُّوبة حيث كان سكان الشمال البحري ينأون بأنفسهم، لواذاً، ويقفون على الأعراف – وهي منطقة وسطي بين هذا وذاك – بعيداً عن مساعدة المهدي خوفاً من بطش الحكومة وتشككاً في مقدرته على منازلة السُّلطة. وما أن انتصر المهدي على الغزاة في الأبيض حتى أقدم على اعتقال المك آدم أم دبالو – مك تقلي – مع أهله وعشيرته وأعوانه، ومات المك أم دبالو وهو في الأسر ومقيَّد بالسلاسل في شبشة بالنيل الأبيض عندما كان المهدي زاحفاً نحو الخرطوم. هذا هو جزاء الرجل الذي تبرَّع بابنه – فلذة كبده – للمهدي ليُعلِّمه أصول المهدية ويكون معه رفيقاً في السلاح، فضلاً عن المال والبنون الذي وجده المهدي لدي أهالي جبال النُّوبة لتقوية شوكة حركته. واآدماه! وفَّيت، وفي بعض الوفاء مذلَّة، لأُناس شيمتهم الغدر. ثم جاءت حملات المهدية على أهالي النُّوبة قتلاً واغتصاباً وتشريداً وحرقاً لديارهم دون حق، وآية ذلك الدَّمار إفراغ قرى كانت آمنة بأكملها مثل جبال كاو-نيارو وهلم جراً.

    ثم انتفض السُّودانيون تحت راية اللواء الأبيض بقيادة البطل على عبداللطيف وصحبه ضد الاستعمار البريطاني-المصري، فنعتهم أهل الشمال العربي "بالناس الذين ليس لهم أصل"، وأساءوا إليهم في نسبهم وحسبهم، دون أن يسألوا أنفسهم عن الأسباب التي أدَّت إلى ضياع أصلهم. بالطبع، الإجابة تكمن في أزمة الرق الذي كان الشمال العربي سيدها. وظهر الدكتور محمد آدم أدهم على رأس الغلابة في العاصمة المسماة جوراً وبهتاناً بالقوميَّة، فنعتوه بالعنصرية. هذا هو حال الأفارقة في السُّودان، فكلما أسرفوا في الإخلاص إلى العرب أي الإخلاص اُضطُهدوا وزُجِروا. فحقاً، إنَّ الذي بينهم وبين العرب لمختلفٌ جداً. إنَّ أبيات الشاعر ابن المقفع الكندي لهو أصدق تعبير لحال السُّودانيين الأفارقة.

    وإنَّ الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمِّي لمختلفٌ جدَّاً

    فإن هم أكلوا لحمي، وفَّرت لحومهم وإن هدموا مجدي، بنيت لهم مجداً

    وإن ضيَّعوا غيبي، حفظت غيوبهم وإن هم هووا غيي هويت لهم رُشداً

    وإن زجروا طيراً بنحساً تمر بي زجرت لهم طيراً تسرُّ بهم سعداً

    وفي السُّودان الظليم، وتحت رايات الحكم الغشيم، كلما طلب السواد الأعظم (سكان المناطق المهمَّشة بلغة العصر) نصيبهم في التمثيل السياسي، والخدمات الاجتماعية، والاعتراف الثقافي لم يجدوا غير وصفهم بالعنصريين الانفصاليين. فماذا تعني لفظة العنصرية (Racism)؟ إنَّ كلمة العنصرية، التي ما فتأ أهل الشمال الحاكم يطلقونها على طلاب العدالة والمساواة، لهي مختزلة في المعنى والمدلول. العنصرية صفة لازمة لمن يرى في نفسه، أو لمن يروا في أنفسهم بالباطل، أسباب التفوق بسبب لون البشرة أو الجنس البشري، أو بما يمتاز به من تجاعيد الشعر وشكل الأنف والفم وهلم جرًا. فافتخر العرب بلون بشرتهم واحتقروا الأفارقة شعراً ونثراً، واشتط أدولف هتلر بجنسه الآري وحسب أنَّ نسبه أسمى عرق خلقه الذي يبدئ ويعيد، وظنَّ العبريون بأنهم شعب الله المختار، لذلك جرى التصادم الاستئصالي لهم في ألمانيا الآريّة لأنَّه في حالة وجود، أو إدِّعاء وجود، قوتين عظميين فلا بد لأحدهما أن يسود في نهاية الأمر. وكذلك اعتبر البيض أسياد الوجود فبغوا على الهنود الحمر في الأمريكيتين، وقضوا على الأروميين (سكان أستراليا الأصليين Aborigines -)، فنشروا الأوبئة والأمراض الفتاكة. وصدق من قال ما أن حطَّ الاستعمار في الأمصار حتى نزل البلاء وعم الوباء يحصد أرواح المواطنين حصداً فيذرهم قاعاً صفصفاً. وفي جنوب أفريقيا انتهج المزارعون الهولنديون (Boers) سياسة التفرقة العنصريَّة (Apartheid) وأذلُّوا سكان البلاد الأصليين لأكثر من ثلاثة قرون، حتى جاء الحق في العام 1990م لحظة إطلاق سراح الزعيم الأفريقي – نيلسون مانديلا - وذهق الباطل إنَّ الباطل كان ذهوقاً. وفي خضم هذه الادِّعاءات بالنقاء العرقي وسمو الحسب والنسيب، لم نسمع يوماً قط أن الأفارقة في السُّودان، أو في العالم كافة، قد تطاولوا على غيرهم عنصراً وتصايحوا فيهم بالباطل، بل كل ما نقموا من غيرهم هو العدل والمساواة وتكافؤ الفرص في التَّعليم والصحة والتنمية والتمثيل السياسي لا أكثر ولا أقل. فليس هذا من العنصريَّة في شئ. إنَّ محصلة هذه القسمة الضِّيزى هي سبب استعار الحرب الأهلية الأولى في السُّودان، وما الحرب الثانية التي تدور رحاها اليوم إلاَّ امتداداً للأولى. إذ أنَّ لكل حرب في التأريخ بقية معلَّقة من حرب سبقتها! فمعاهدة فرساي للسَّلام التي انتهت بها الحرب العالميَّة الأولى كانت هي بذاتها خميرة وبذرة الحرب العالميَّة الثانية! والنتائج التي انتهت إليها معركة السويس العام 1956م كانت هي بذاتها مقدمات الإعداد لمعركة سيناء العام 1967م.

    وإذا أخذنا السُّودان حسب النظريَّة الوظيفيَّة (Functionalism Theory) في علم الاجتماع، يمكننا اعتباره صرحاً أو جهازاً اجتماعيَّاً غير متجانس، ويحوي في أحشائه الشروط الوظيفيَّة (الانتفاعيَّة) الآتية: الثقافات المتنوعة، والقوميات المتعددة، واللُّغات المتباينة، والدِّيانات السماويَّة وغير السماويَّة. فما المطلوب إذاً؟ ليس هناك أدنى شك أنَّ المطلوب هو توفير حدٍ من الإجماع القِّيمي (Value consensus) لكيما يتم الاعتراف بهذه الفوارق الاجتماعيَّة والروحيَّة والثقافيَّة، بل وتشجيعها وتنميتها. هذا إذا تصالحت الصفوة الحاكمة مع أنفسهم، وكفوا عن التهالك على السلطة والتنافس فيه، ورأوا أن يكون للسُّودان من عوامل النمو ودواعي البقاء والرُّقي. فلم نجد أبلغ من بيت الشعر المنسوب إلى أمير الشعراء – أحمد شوقي – الذي فيه ينشد إرساء قيم العلاقات الاجتماعيَّة المبنيَّة على التكافل الإنساني والتعايش السلمي بعيداً عن الغلاة الدِّينيين و محاباة الساسة وغيرهم:

    أنا شيعي وحبيبتي أمويَّة واختلاف الرأي لا يفسد للود قضيَّة

    أما إذا لم يرض الصفوة الحاكمة أمر إيلاء هذه الشروط اعتبارات قصوى، فإنَّ الخلل السياسي والاقتصادي والتعليمي والتنموي والخدمي، الذي بدأ منذ فترة غير قصيرة في طريقها إلى حسم الصراع عن طريق تغيير الأجهزة التشريعيَّة والتنفيذيَّة والعسكريَّة، التي انتفعت به فئة قليلة ردحاً من الزمان. فعلينا، إذاً، أن نذكِّر أولئك الصفوة المنتفعين أن المهمَّشين قادمين، وبعدئذٍ سيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.

                  

06-09-2004, 11:09 AM

hamid hajer
<ahamid hajer
تاريخ التسجيل: 08-12-2003
مجموع المشاركات: 1508

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأفارقة والعرب … إنَّ الذي بينهم لمختلفٌ جداً (Re: Adrob wad Elkhatib)

    الاخ / أدروب ود الخطيب
    تحياتي لك وانت توثق ..
    للدكتور شركيان في مهجره ..
    فقد تناول المسكوت عنه في تأريخنا السوداني ..
    كتجربه مقيته يجب تجاوزه بنقد الذات ..
    يجب أستقامة ما اعوج منه بممارسة الاعتراف ..
    فأنه يعمد لمستقبل جديد بزيت التسامح ..
    و أول الخطي بتغيير أسم شارع الزبير باشا ..
    المجرم الذي أساء الي نفسه و الانسانية ..
    ودونك اهل دارفور يقارعونه المنون ..
    في معركة منواشي ( 70 كيلومتر شمال نيالا ) ..
                  

06-09-2004, 01:17 PM

aymen
<aaymen
تاريخ التسجيل: 11-25-2003
مجموع المشاركات: 708

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأفارقة والعرب … إنَّ الذي بينهم لمختلفٌ جداً (Re: hamid hajer)

    الاخ ادروب.. لك اجزل الشكر و انت تتحفنا بما كتب الدكتور عمر شركيان
    الرجل بحر لا ينضب من المعرفة و البلاغة..
    وددت لو اننا شهدنا مناظرة بينه و بين مدعي العلم والتاريخ بروفيسور حسن مكي، و الذي اكاد اضحك كلما قرأت له مقالا يتحدث فيه عن التاريخ.. الرجل لا يخجل من ايراد الافتراءات البينة، و التي لا يصدقها الذوق السليم دعك من المعرفة بالتاريخ..
    هل قرأت تلخيص محاضراته في المغرب و التي لخصها احدهم (اعتقد اسمه ابوبكر الصديق)في سودانيل العام السابق؟ لقد كدت اتقيأ..
    مثل هذا الرجل يجب ان يحاكم.. علي الاقل اكاديميا، و سحب درجاته العلمية عند التاكد من استغلالها في التزوير..
                  

06-10-2004, 12:19 PM

Amjad ibrahim
<aAmjad ibrahim
تاريخ التسجيل: 12-24-2002
مجموع المشاركات: 2933

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأفارقة والعرب … إنَّ الذي بينهم لمختلفٌ جداً (Re: Adrob wad Elkhatib)

    Salam all
    Dear Abdallah
    A good article indeed
    Please insert the sources if it is possible
    Salam
                  

06-10-2004, 01:46 PM

د. بشار صقر
<aد. بشار صقر
تاريخ التسجيل: 04-05-2004
مجموع المشاركات: 3845

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأفارقة والعرب … إنَّ الذي بينهم لمختلفٌ جداً (Re: Adrob wad Elkhatib)

    العزيز ادروب

    التحية لك علي لاطلاعك البورد علي بهذه القراءة العميقة وتحية للدكتور

    عمر شركيان


    المقال تناول مواضع في عمق المسكوت عنها .


    ففي بيئتنا السودانية الكثير من القاذورات المجتمعية البالية ولكنها تعاد انتاجها كل مرة .

    ان القوي الافريقية وقوي الهامش مطلوب منها اعادة ترتيب اولوياتها


    ومساراتها في شان هويتها الافريقية واعادة ترتيب ادواتها المعرفية

    بحيث ينحت في عمقها الافريقي ويكشف لاجيال القادمة مدي الغزارة

    والتدفق في هذه البيئة. فالعمالقة من امثال مانديلا وسوينكا وتامبو

    وتوتو ...........الي اخر القائمة قدمت الكثير الكثير الي البشرية

    فهل يعرفه اجيالنا السودانية الافريقية المستعربة؟


    اننابحاجة ماسة الي تشكيل صحافةومراكز دراسات وقنوات معرفية

    افريقية تعكس حجمنا الحقيقي. فالمثل الذي يقول ما حك جلدك مثل


    ظفرك ينطبق علينا , ويجب ان نتحرك في اتجاه بناء ذاتنا الافريقية

    وستكون مشرقة ايّما اشراق.


    مانديلا حكاية الرجل الاسطورة من العمق الافريقي



                  

06-11-2004, 02:21 AM

zoul"ibn"zoul

تاريخ التسجيل: 04-12-2003
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأفارقة والعرب … إنَّ الذي بينهم لمختلفٌ جداً (Re: Adrob wad Elkhatib)

    Salaam

    Interesting article, however filled with incorrect historical facts and explicitly advocating for hatred. Of the uncorrect facts is the north american appology for the slave trade which never happed, not sure where the writer brought this information from. Had this really happened you would have seen massive financial compensations paid for the African Americans. There is also no appology for the crusader wars that the writer claim from the Vatican as well als no appology for the jews treatment by the catholic church

    .
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de