|
|
 "روميو وجولييت" في النوبة " مصر" : عادات وتقاليد الزواج هناك تدفع للانتحار
|
عادات وتقاليد الزواج هناك تدفع للانتحار وتسبب العنوسة
"روميو وجولييت" في النوبة
حمدي الحسيني
ابتعد عن تلك الفتاة السمراء.. الحسناء.. ولا تفكر في الزواج منها مهما كنت تحبها، ومهما كانت تبادلك الحب والمشاعر الرقيقة الجميلة.. فطريقك يا ولدي مسدود.. مسدود!! لا تبحث عن وسيلة لإقناع أهل محبوبتك بالموافقة على زواجها منك فهم لن يرضوا بك زوجا لابنتهم مهما كان وضعك الاجتماعي ودرجة وسامتك، وأرقام ثرائك. كل هذا لا يهم عندهم.. المهم أنك لست نوبياً. تلك هي عادات وتقاليد النوبيين منذ عشرات السنين.. لا يزوجون بناتهم إلا لشباب النوبة فقط.. حتى لو بقيت البنت “عانساً” حتى آخر العمر ليس من حقها أن تتزوج من خارج النوبة أبدا.. أما الشاب النوبي فيتزوج من يشاء من بنات النوبة أو من غيرهن إذا أراد قلبه وهوى من بنات القاهرة أو الإسكندرية أو أي محافظة أخرى..
لعل أهم أسرار “عنوسة” بنات النوبة خلال السنوات الأخيرة هي هذه العادات والتقاليد التي يتوارثونها جيلا بعد جيل.. فالبنت النوبية عليها أن تتزوج رغما عنها من شاب نوبي حتى لو لم تكن تحبه أو توافق عليه، وإلا فلن ترى الزواج طيلة حياتها، وهي المشكلة التي تواجهها “بعض” فتيات الجيل الجديد المثقف في النوبة، ونقول “بعض” لأن غالبية بنات النوبة أنفسهن يفضلن “العنوسة” على الزواج بشاب غير نوبي متأثرين في ذلك بالمعتقدات التي تزرع فيهن هذا المبدأ أو تلك العادة منذ نعومة أظفارهن، والكثيرات منهن يقتنعن بهذا المعتقد وتنشأ الفتاة النوبية على أن الشاب غير النوبي لن يصونها ولن يعطيها حقها كامرأة لها كرامتها وكيانها، وبالتالي إذا وجدت الفتاة النوبية أنه لم يتقدم لها شاب نوبي مناسب فإنها تفضل الحياة بدون زواج أو الانتظار طويلا حتى يأتي هذا العريس النوبي المناسب الذي يوافق مواصفاتها وشروطها مما أدى بلا شك إلى ارتفاع سن الزواج بشكل ملحوظ فيما بين بنات النوبة في الفترة الأخيرة فضلا عن زيادة عدد العوانس هناك.
مجتمع أمومي: حاولنا معرفة أصول وجذور تلك التقاليد والعادات النوبية فتحدثنا مع الأديب النوبي “يحيى مختار” الذي وجدنا عنده تفاصيل كثيرة عن عادات وتقاليد النوبيين ومعتقداتهم في الزواج وغيره، وقال لنا: المجتمع النوبي له خصائصه التي تميزه عن غيره من المجتمعات، فهو مجتمع كان منعزلا جغرافيا في أقصى جنوب مصر.. إضافة إلى أن اللغة النوبية بلهجتيها المعروفتين ( الفادتجدا، والكنوز) تعد لغة مختلفة جذريا عن أية لغة أخرى، ورغم أننا نتحدث العربية كمصريين مسلمين وعرب إلا أننا مازلنا نتحدث اللغة النوبية فيما بيننننا بالإضافة إلى أن مجتمعنا النوبي “مجتمع أمومي”، فالميراث فيه للأم وليس للعصب مما يعطي المرأة وضعا أكثر تميزا.
وبسبب العزلة الجغرافية واللغة الخاصة والوضع الأمومي تشكلت حتمية ألا تتزوج الفتاة النوبية إلا من “داخل القبيلة” فقط، وليس من أهل النوبة ككل، ففي بدء الأمر لم تكن النوبية تتزوج إلا من داخل الأسرة، وبعد ذلك من داخل القبيلة.. فمثلا لم تكن النوبية من “الكنوز” تتزوج من نوبي من “الفادتجدا” وهكذا، وفي المقابل كان ولا يزال من حق الفتى النوبي أن يتزوج من يشاء دون أن يكون ملزما بالزواج من النوبيات، وفي اعتقادي أن هذا الأمر ليس مقصورا على النوبيين فقط، فالأشراف في صعيد مصر لا يزوجون بناتهم إلا من نفس القبيلة وهو نفس ما نجده عند الهوارة الذين لا يزوجون أبناءهم لأحد أفراد قبائل العرب الذين يبادلونهم هذا الاعتقاد، ورغم ذلك فإن الموضوع برمته بدأ يتغير نسبيا بحكم التطور، وانفتاح المجتمع أكثر من ذي قبل مع زيادة نسبة التعليم وانحسار الجهل والأمية، دون أن نغفل أن هناك الكثيرين الذين مازالوا يعتقدون هذا الاعتقاد باعتباره جزءاً من الموروث والعادات والتقاليد التي يجب الحفاظ عليها مثلها مثل اللغة، ولاشك أن مشكلة العنوسة قد فرضت نفسها على بنات النوبة في الفترة الأخيرة لكن لا ننسى أن ذلك جزء من مشكلة عامة فالعنوسة أصبحت ظاهرة انتشرت في المجتمع المصري كله وارتفع سن الزواج بصورة لافتة للنظر ومثيرة للانتباه..
قبائل النوبة: ومن يبحث في المجتمع النوبي يجد أن هناك ثلاث قبائل كبرى رئيسية هي “العرب”، و”الكنوز” و”الفادتجدا”.. وقد حاولنا إلقاء الضوء على تلك القبائل لمعرفة المزيد من التفاصيل عن عاداتها وتقاليدها المتوارثة، فوجدنا أن العرب مثلاً يقطنون في وسط منطقة النوبة ويتحدثون بالعربية، وهم موزعون بين قرى وادي العرب، السنقارى، شاترمة، المالكي، السبوع، وإضافة إلى ذلك فإن القبائل العربية القديمة التي هاجرت إلى بلاد النوبة وهي بنو ربيعة وجهينة وغيرهم اختلطوا بالنوبيين ونشروا الإسلام وبعض الملامح المميزة له من قيم ولكنهم أخذوا منهم لهجتهم التي امتزجت بالعربية وساعد على ذلك انعزال المجتمع النوبي عن مجتمع أسوان الكبير وكان نهر النيل وسيلة المواصلات السهلة التي تربط بين قرى النوبة قديما.. لكن الآن وبعد بناء السد العالي تم تهجيرهم إلى منطقة أراضي الاستصلاح الزراعي الجديد بمدينة “كوم امبو” على بعد 50 كيلومتراً شمال مدينة أسوان وتمتد على طول المنطقة شمال وشرق مدينة كوم امبو بشكل يقارب نصف الدائرة ويتخللها طريق ممهد للمواصلات يربط جميع القرى النوبية بعضها ببعض..
أما الفادتجدا فهم يتحدثون النوبية القديمة ويقطنون المنطقة الجنوبية ولهم لهجة خاصة بهم تسمى “الفديجة” تنطق ولا تكتب!!
وهناك قبيلة “الكنوز” وأهلها يقطنون المنطقة الشمالية ويتحدثون باللهجة الكنزية..
وكل قبيلة من هذه القبائل كانت في بادئ الأمر ترفض حتى أن تتزوج بناتها من رجل نوبي من خارج القبيلة، لكن تطورت الأمور مع تطور العصر وأصبحوا يسمحون للفتاة النوبية أن تتزوج رجلا نوبيا من قبيلة أخرى أما من خارج النوبة فهذا مستحيل تبعا للعادات والتقاليد والموروثات القديمة منذ عشرات السنين.
زواج مبكر: ومن عادات وتقاليد الزواج في النوبة أيضا أن السن النموذجية الذي يتزوج فيه الشاب النوبي يتراوح ما بين 18 و22 سنة أما الفتاة فتتزوج وعمرها ما بين 15 و 20 عاما ويعد العريس “الجهاز والموبيليا”، وعلى عكس الشائع يكون مقدم الصداق أقل من مؤخره، ويتراوح بين خمسة جنيهات إلى 15 جنيها ويكون بين أسرتي العروسين في العادة اتفاق داخلي على مقدم الصداق وغيره على الرغم من المظاهر والمبالغات والمساومات التي تحدث، وتنحر الذبائح بكثرة ملحوظة بمنزلي العروسين، وإذا كانت هناك جنازة قبل مرور سبعة أيام على الزواج فلابد أن يخرج العروسان ويشهدان الجنازة قبل دخول أحد المشيعين عليهما، وإذا مر موكب عرس آخر على منزل العروسين قبل “السبوع” فإنهما يخرجان ويصاحبان الموكب ولا يدخلان منزل العرس الثاني بل إن “العروسة” ترسل أصغر أطفال الأسرة وعليها حلية صغيرة كتعبير رمزي عن مشاركة أفراد وأهل العرس الثاني الأفراح.. وإذا كانت والدة العريس أو العروس قد سبق لها أن جاملت إحدى الأسر الأخرى بالمشاركة في أفراحها وهي بكامل حليها الذهبية وجب على هذه الأسرة المعاملة بالمثل..
ومن العادات المتوارثة أيضا عند الزواج اهتمام العروسين بزيارة نهر النيل والتبرك بمائه، وحمل العريس للسيف والكرباج وربط سكين ذي حدين على الذراع اليسرى منعا للحسد، وكذلك تخطيه النار التي يوضع عليها البخور والملح وتستمر الأفراح بضعة أيام تقام فيها الموالد والأناشيد والأذكار والرقص طوال الليل.
أما بالنسبة للطلاق فتندر حالاته بالنوبة إذ جرى العرف على اعتبار الطلاق من المكروهات كراهة شديدة، ولا يطلق الزوج زوجته إلا في حالات محدودة ولأسباب ودوافع قوية مثل الأمراض المستعصية التي قد تصيب أحدهما أو اليأس من الإنجاب أو ما شابه ذلك، فالنوبيون يقدسون الحياة الزوجية ويحترمون بيوتهم وحياتهم الخاصة ولا يفرطون في أزواجهم بسهولة.
النوبي المشهور: وإذا كان المجتمع النوبي يعيش فيه أناس بسطاء في كل شيء يميزهم هدوء وسكينة واستقامة وأمانة وروابط عائلية وتعاطف وتواد يندر وجوده في مجتمعات أخرى.. إضافة إلى عزلته التي كان لها الأثر الأكبر في احتفاظه بتقاليده وعاداته المتوارثة فإن المجتمع القاهري يختلف عنه كثيرا لكن الغريب والمثير للدهشة أن النوبيين عندما يذهبون إلى القاهرة ويعيشون فيها لسنوات طويلة ولأسباب مختلفة أهمها يتعلق بطلب الرزق وفرص العمل فإنهم يحتفظون بعاداتهم وتقاليدهم في معظم الأحيان، ويرفض الوالد أن يزوج ابنته لشاب قاهري مهما كان ثريا أو ذا وجاهة اجتماعية حتى لو كانت الفتاة النوبية تحبه وتذوب في هواه.. أما الأغرب فهو أن يتمسك شاب نوبي بعدم الزواج إلا من فتاة نوبية رغم ما يراه في القاهرة من حسناوات.. رغم أن تقاليد وعادات النوبة تسمح له بأن يتزوج من يختارها قلبه من أي مكان على وجه الأرض..
وما بالنا أيضا إذا كان هذا الفتى النوبي نجم مشهور.. يعرفه المصريون والعرب وكثير من الأجانب بأغنياته النوبية التراثية الشهيرة جدا؟!
إنه النجم الأسمر محمد منير الذي بلغ عمره حوالي 55 عاما قضى أكثر من نصفها في القاهرة وسط أضوائها وحسناواتها لكنه يرفض الزواج حتى الآن، وعندما سألناه عن السر قال: الزواج قسمة ونصيب، ورغم أنني أعتبر نفسي خارج تقاليد وعادات النوبة بحكم معيشتي في القاهرة منذ سنوات طويلة إلا أنني بصراحة شديدة لم أجد وسط بنات القاهرة أو غيرها من مدن مصر أو بلاد الوطن العربي فتاة تشبه أمي في طيبتها وأخلاقها وروحها الجميلة وفطرتها.. وكل أشقائي يضغطون علي باستمرار لكي أتزوج وأصبح أبا لكن مشروع الزواج مازال مؤجلا بالنسبة لي، ولا أدري متى سيتم.. الله أعلم!!
وبعيدا عن حكاية محمد منير وعزوفه عن الزواج.. فإن أهل النوبة لا يزالون يذكرون ذلك الشاب الصعيدي الذي جاء من “قنا” ليخطب فتاة نوبية التقى بها وأحبها قبل سبع سنوات، وبالطبع واجه رفضا حاسما من أهلها، فألقى بنفسه في نهر النيل متأثرا بقصة الحب الشهيرة بين “روميو وجولييت” لولا أنه وجد من ينقذه من الغرق لكن لم يتزوج بعد نجاته محبوبته..
وعندما تحدثت مع (ن.و) الطالبة النوبية التي تدرس بكلية التجارة - جامعة القاهرة - عن تلك العادات والموروثات النوبية قالت: إنها عادات غريبة وأصبح لا مكان لها حاليا بعد التطور الذي يشهده المجتمع في كل المجالات، وأحمد الله على أن ظروف عمل والدي أجبرته على الانتقال بنا من النوبة إلى القاهرة منذ 12 سنة حتى أصبحنا مثل أهل القاهرة في عاداتهم وتقاليدهم، وتدريجيا تغير فكر والدي بشأن مسألة الزواج، وقد تحدثت معه كثيرا عن تلك العادات والموروثات القديمة فأكد لي أنه بات يرفضها، وأنه أيضا لن يمانع من زواجي بشاب قاهري بشرط أن تكون أخلاقه حميدة ومن بيت طيب وأسرة كريمة حتى يصونني ويحافظ علي طوال العمر.
فتاة نوبية أخرى التقينا بها ورفضت أيضا ذكر اسمها قالت: لا تهمني العادات والتقاليد بقدر ما يهمني وبمنتهى الصراحة أن أتزوج ويصبح عندي بيت وأولاد أعيش معهم إحساس الأمومة الجميل، ولا فرق عندي بين شاب نوبي أم قاهري المهم أن يكون متديناً وقادراً على الانفاق بشكل معقول على بيت وزوجة وأولاد.. فالعنوسة شيء مؤلم وخطير بالنسبة لأية فتاة، وإذا انتظرت الفتاة النوبية شاباً نوبياً يتزوجها فإنها ربما تنتظر طويلا جدا أو لا تتزوج طوال عمرها فهل هذا أفضل أم زواجها من أي رجل آخر؟!َ
|
|
 
|
|
|
|
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست