صناعة التاريخ وتحقيق الفرجة 1 - 2 اتجه نحو البعيد والبعيد يبقى هكذا لا اصل ولكنني اضيء انني بعيد والبعيد وطني ادونيس مدخل: يحدد دكتور صبري حافظ مفهوم التجريب في المسرح بفكرة: (التمرد على المؤسسة المسرحية السائدة والمسيطرة على عالم المسرح في واقع ثقافي ما، وبالنزوع الى الخروج علي التقاليد الفنية المألوفة ، والرغبة في ارتياد آفاق بكر، واستكشاف عوالم مجهولة وبالتعرف إلى ضخ دماء جديدة في عروق الحركة المسرحية كلما عراها الشحوب او سيطر عليها الروح التجارية) مجلة المسرح العدد الثاني 2004 - الشارقة. نأتي تحديدا بهذا ا لتعريف لمفهوم التجريب لأننا نفترض اولا ان الحركة المسرحية السودانية انما يعتريها الشحوب وتسيطر عليها الروح التجارية المبتذلة مشكلة ملامحها وتقاليدها الفنية التي اقل ما توصف به انها بعيدة كل البعد عن فكرة المسرح الملتحم بجماهيره وقضاياه ، المسرح الفينيقي الذي يحرق ذاته وعناصره ليتخولق وينبعث من جديد يجسد فتيا وثوبا بهيا. ونفترض ثانيا ان عرض مسرحية صفر يا قطر لامس لحد كبير حيثيات مفهوم التجريب آنف الذكر وبالتالي هو في رأينا مغامرة مسرحية كبرى من حيث افق وحجم الانتاج ومن حيث استشراقه الفكري والجمالي لتلك الحيثيات وهو بذلك يوسم صناعة الذين من موقع المسؤولية والاهتمام تحركوا نحو صناعة التاريخ يوسمهم بمسرحيين من اجل التغيير. وفق هذه المقدمة نحاول الوقوف على بنية وفلسفة هذا العرض. العنوان: اول ما يمكن ملاحظته في بنية هذا العنوان اقتضابه وصيغة الامر المباشرة المماثلة للغة العساكر.. امران حتمهما في رانيا الوضع الراهن لركاب القطار الذين وجدوا انفسهم في حالة من الانتظار القاتل، انتظار ان يتحرك القطار. فضلا عن وعيهم بعجزهم واختلافهم في انتاج الفعل الذين يمكنهم من تحريكه، وذلك بسبب محاولة كل منهم منفردا توجيه وقيادة هذا القطار الرمز للوجهة التي يريد بوصفهم قبائل وجماعات ومتعددة، لا تعي ولا تمتلك القدرة علي ادارة حوار ديمقراطي يمكنهم من الوصول الي دفة القيادة / رئاسة الدولة فهي مجموعات/ وطن اعترف آلية الجيش في الاستيلاء على دفة الحكم وما اعتباطا كان اختيار هذا العنوان الآمر اسما للمسرحية، انما في رأينا وضمن سياق العرض يأخذ دلالة تخرج من قاموس السكة الحديد ليغازل ادبيات العساكر وهكذا يصبح العنوان اولي الاشارات المسرحية البليغة لهذا العمل.. سيما وان صناع العرض بدلوا وطوروا هذه الصيغة الآمرة الي اغنية جماعية لخصت حلمهم المشترك وذلك بعد توصلهم الى جدوى ترديدها سرا و بشكل منفرد.. فهم وعوا لضرورة الاتحاد وانتاج الفعل المغاير فكان ان صار العنوان اغنية صفر يا قطر سكتك طويلة.. وحولك الوحوش والغابات حرايق .. وناسك في خطر.. الدخان سحاب ودم الناس هدر.. بنية العرض: نهض العرض جماليا برهانه على عدد من الاجناس الفنية والادبية المختلفة فقد احتوى على الرقص والتمثيل ومهارات الحاوي كفنون ادائية كما احتوى على الحكي والقصص والغناء والحوار كآليات سرد لم يكتف في استخدامه اياها بما تواضع عليه مسرحيا وانما استطاع ان يقارب جماليا بين الرواية والملحمة وما بين المسرح.. فكان توظيفا هجينا افرز خروجا خلاقا عن التقاليد الفنية المألوفة هذا الامر يمكن ملاحظته من الآتي: اولا: لم يحتكم العرض لمبدأ ومنطق السببية او مبدأ الاحتمال والضرورة في تقديمه لاحداثه كمباديء اعتاد المسرح استخدامها انما زاوج بين تكنيك السيرة الشعبية والملحمة والرواية وما بين تقاليد المسرح المختلفة، فقد اوجد شخوصه في فضاء رحب ومتعدد يشتمل بدوره علي عدد من الفضاءات التي لا يجمع بينها سوى الفضاء ا لام وهو فضاء الانتظار ، فالدرويش ومقولاته المرمزة واشاراته العرفانية فضاء يتقاطع وباقي الشخصيات الاخرى الراقصون/ الحبوبة// ادروب/ كلتوم ست الشاي/ العاشقون وغيرهم من شخصيات المسرحية التي كل منها يمثل فضاء مستقلا في ذاته متأزرا موضوعيا وباقي الفضاءات ليكون عرض مسرحية صفر يا قطر، فلو كان سهلا ملاحظة الصفة المسرحية في تقديم حدوتة العاشقين وازمتها فذلك غير مواتي في حالة الحبوبة. نفس الامر تجده لو قاربت ما بين آليات ومنطق تقديم لعبة الحاوي في متن العرض وما بين شخصية الدرويش في نفس العرض. ثانيا: اختيار الشارع وما يفرضه من بنائية محددة اتاح لعناصر وآليات العرض دينامية متجددة واحتمالات للتطور والبناء ذلك بسبب جمهور مسرح الشارع الذي مسموح له فنيا وعمليا بالتدخل والمشاركة في صناعة احداث وحكايات العرض، وما تقلص مكان التمثيل في مثل هذه العروض إلا تجليا حميما لهذه المشاركة. ثالثا: رهان العرض في تقديم احداثه وحواديته علي بعض الكوادر الفنية غير الممثلة في الاصل كالراقصين والمغنيين والعازفين والجمهور انما رهانا ضمن للعرض ما افترضناه من خروج وتجريب بحسبان ان خبرات مثل هذه الكوادر تختلف عن خبرات وآليات الكادر المسرحي فالعرض لم يحصر استفادته من هذه الكوادر في شكل الادوار الاستعراضية الجمالية الزائدة التي اعتاد المسرح سجنهم فيها. انما كانوا مشاركين اصيلين في بناء العرض وفق تقاليدهم و آلياتهم الخاصة فلم يسعَ العرض الى ادغامهم فيه كممثلين وانما بوعي قاصد استوعبهم اضافة فنية وفكرية تضمن ضخ دماء ورؤى جديدة في النسيج العضوي له. رابعا: اشتمال العرض على عدد من الفنون بالاضافة للحرية التي اتاحها الاخراج لكوادره الفنية امران ضمنا للعرض تنويعات ادائية مختلفة وثرية ضمن البناء الكلي للعمل ، فالراقصون شكلوا جمل السلام والتعايش كجمل مركزية في العمل وفق المنطق والقوانين الخاصة بفن الرقص. نفس الامر ينطبق على باقي الفنون التي اعتمدها العرض شروطا لنهوضه .. فالحاوي قدم لعبته وفق منطق وقانون الخدعة وخفة اليدين اللتين ينطوي عليهما فنه .. بينما تجد بائع الشاي والحبوبة في احايين كثيرة استفادا من تكنيك الرواية والسيرة الشعبية في تقديم حواديتهم .. هذا بالاضافة الي الرهان على التمثيل المسرحي الذي زخر به العرض. الاداء والشخصيات: أ/ فضاء الحبوبة فضاء السرد والحكاية الشعبية: تمثل شخصية الحبوبة في هذا العمل الذاكرة الجمعية التي تقارب عن طريق سردها لحكاية (فاطنة السمحة) ما بين الماضي المتمثل في هذه الحكاية وما بين واقع ركاب القطار وهي بذلك تتبنى منهجا اسقاطيا استقرائيا يهدف الى استنباط المقاربات الفكرية والملامح المشتركة بين الازمتين فحاضر هؤلاء الركاب هو بالضرورة نتاج طبيعي لماضيهم الذي تقترحه ضمنيا الحبوبة باختيارها لحكاية فاطنة السمحة، ولما كان التاريخ ليس بالظاهرة السكونية الجامدة بل انه سلسلة متصلة تتالى حلقاتها بانتظام وعبر ترتيب نظامي يجعل من حلقاتها الاولي بداية لحلقاتها الثانية تكتسب بذلك حكاية فاطنة السمحة صفتها الايحائية بحسبانها قصة تتعرض لعلاقات الاسرة والقرابة وما تفرزه هذه العلاقات من قيم اخلاقية كالوفاء والخيانة والجشع . الخ ففي قصة فاطنة يخون الاخ اخيه الغائب و يقتل ويشرد ابناءه ليستولي بعد ذلك علي ماله و ارضه، وكأن القصة تقول لنا ان هذا الاخ يعيش بيننا وينفث في رئة القطار جشعه وانانيته. كما ان فاطنة السمحة المشردة والتي تبحث عن والدها بين ركاب القطار ما زالت اسمالها البالية معرقلة لعجلات القطار. كما ان دم اخيها الذي سفك يسيل سيلا يقتلع المنهاج والقضيب الذي يسير عليه هذا القطار، فالنص التراثي فاطنة يتضمن ابعادا اسقاطية وايحائية تحرض نحو الاستقراء التاريخي واستنباط مقولات ومواقف كالجشع والأنانية وتوزيع الموارد وغيرها من المفاهيم التي بثها النص التراثي (فاطنة السمحة) في ركاب القطار حتى يتداركوا استمرار وجودها، المقولات والمواقف، بينهم وبالتالي لا يستطيعون تحريك القطار.. فالحبوبة باختيارها لهذا النص التراثي تحديدا انما تبصر الركاب الي ازمتهم عن طريق السرد والحكي والذي جماليا حبسوه المخرج بلوحات تعبيرية متزامنة وزمن السرد ومضيفة له في الوقت نفسه بعدا شاعريا تأسي عبر التكوينات الراقصة والمتحولة والتي توحي وترمز الى مضامين وشخصيات القصة الشعبية. جسدت هذه الشخصية الفنانة القديرة والمناضلة فايزة عمسيب تلك الام الرؤوم والتي كانت حكاية وكانت بالحق احدى الركائز التي نهض بها العرض. بائع الشاي الشاهد والضمير: كذلك من اهم شخصيات العرض شخصية بائع الشاي الذي عبر ترحاله التاريخي والمستمر مع القطار صار شاهدا وحافظا لذاكرة القطار والركاب فهو يسقيهم شايه وحكمته التي اكتسبها من محطات وانعطافات القطار فبجانب سقيه الشاي يسلي الركاب بقصصه ورواياته التي تتجد تجدد الماء الذي يصنع منه الشاي ويقدمها حارة ودافئة دفء محبته وصدقه الذي يكنه لأولئك الركاب .. ولو استندت الحبوبة علي نص تراثي في حكايتها فإن بائع الشاي راهن علي المتخيل والفنتازي من الحكي اذا ابدع في طرحه لأحدى ازمات الركاب المتمثلة في تبنيهم لحمل الاستعداء والتفرقة العنصرية ومواقف الرفض - رفض الآخر - نعم ابدع بائع الشاي في تصوير هذه المقولات عن طريق قصة لحكاية قبيلة الهنود الزرق والتي يحب احد ابنائها فتاة من قبيلة الهنود الحمر، وهي قصة شيقة وعميقة المغزى اذ تقارب بين شخصيتي الفتاة الشمالية والفتى الجنوبي اللذين يطرحهما العرض وكأن بائع الشاي يحذر ركابه من المصير والدمار الذي عانت منه قبيلتا الهنود الحمر و الزرق بسبب وقوفهما ضد محبة ابنيهما وهنا يقدم العرض الاشكال القبلي كواحد من اسباب توقف القطار توقف الوطن. لعب دور البائع الفنان الاستثنائي سيد عبده صوصل والذي لعب بجانب دوره التمثيلي دورا فعالا وكبيرا في هذا العرض وذلك بالتفكير والتخطيط والسهر عليه منذ ان كان حلما راوده مع باقي افراد الورشة التي انتجت هذا العرض. وهنا لابد من شهادة مهمة في حق هذا الفنان ، فصوصل فنان استثنائي بّعِد بأدائه ويبعد من مفهوم السيريكية ، من سيرك ، والابتذال والتهريج المجاني.. يسكن في الوقت نفسه بأدائه محراب القداسة والسحر والتوغل في المناخ الطقسي والصوفي الشفيف ، تلك السلالم والدرجات التي حددها المخرج العراقي العالمي جواد الاسد للممثل حتى يصعد الى منطقة المس الجنوني الفاعل ، تلك المنطقة التي ظل يشغلها صوصل كلما حكى او مثل فهو جاد تجاه مسرحه منحاز به للانسانية جمعاء ولقضيته الوطنية المعقدة. اقول ان صوصل مسرحي استثنائي بفضل ثقافته العالية وشمولية ادراكه للمسرح تلك الامور التي تبدت في قدرته العالية في تجديد وابداع حكاياته في عرض صفر يا قطر فهو يوميا يأتي بقصة جديدة زاده قدرات فذة في الكتابة النصية والارتجال لذلك يظل فنانا ينتج اسطورته الخاصة ويبقيك ساهرا وصاحيا مستمتعا حينا وحينا يبكيك حد التوهج واصطياد الوعي والدرب الخلاص.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
عصام ابو القاسم
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست