|
وأيضا .. لماذا لا يقتل بعض الهنود الناس في لندن؟ عن الشرق الأوسط
|
أرجو من القارئ الكريم أن يقبل استمراري في تحرير قضية الإرهاب في بلادنا العربية والإسلامية، وأؤكد له أن الحديث هنا عن البشر المسلمين وليس الإسلام، وعن كل الذين سقطوا ضحايا للإرهاب في كل بقاع الأرض الإسلامية وغير الإسلامية، وذكر لندن هنا لا يزيدها قيمة وأهمية على شرم الشيخ والرياض وبالي والدار البيضاء وبغداد، حيث جرت عمليات للقتل الجماعي، والذبح الفردي، تحت راية الدين الحنيف. فما نحن بصدده هنا، هو في النهاية البحث عن علاج لن يمكن الوصول إليه ما لم نقرر عن يقين أسباب الظاهرة الإرهابية، وعما إذا كانت ناجمة عن شعور بعض المسلمين والعرب بالغبن والظلم بما يجري وجرى في العالم العربي والإسلامي، أو أنه نتيجة آيديولوجية بعينها ترى في القتل جزءا من رسالة سياسية، ونظاما للحكم وتنظيما للمجتمع يحقق الخلاص في الدنيا والآخرة.
هنا فإن الحالة الهندية ـ كما كانت الحالة الصينية من قبل ـ تقدم لنا مثالا تاريخيا لافتا للنظر حول تجربة للقهر الاستعماري والاستعباد الاقتصادي والاستيطان السكاني والتجزئة الجغرافية، ومع ذلك فلم نجد هنديا واحدا بين الجماعة التي قتلت الناس في لندن أو نيويورك أو مدريد، أو بين صفوف «المقاومة» في العراق، أو الشيشان، أو غيرها من ميادين «الجهاد» المتعارف عليها. ومنذ مرّ فاسكو دي جاما برأس الرجاء الصالح في عام 1498، ووصل بعدها إلى شواطئ الهند، تغير تاريخها تماما طوال القرون التالية بعد أن تكالب عليها أنواع متعددة من المغامرين والقراصنة والمبشرين الأوروبيين الذين بدأوا في عملية نهب منظم لشبه قارة بأكملها. وشهد القرن السابع عشر انفراد بريطانيا بالهنود على كافة طوائفهم وأديانهم ولغاتهم، وعن طريق شركة الهند الشرقية بدأت سياسة فرق تسد الشهيرة في قلب كل الطوائف على بعضها بعضا، والضم المباشر للتاج البريطاني حتى أصبحت تهيمن مع منتصف القرن التاسع عشر، على 60% من الأراضي الهندية، وفي عام 1877، أصبحت الملكة فيكتوريا إمبراطورة للهند، وخلال تلك الفترة وما قبلها وما بعدها، لم تكف بريطانيا قط عن نزح الثروات الهندية على حساب الشعب الهندي. وخلال قرن ـ ما بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين ـ مرت الهند بخمسة وعشرين مجاعة كبرى مات فيها ما بين 30 و40 مليون هندي، وفي آخر هذه المجاعات بين عامي 1943 و1944 أثناء الحرب العالمية الثانية، مات ما بين ثلاثة وأربعة ملايين نسمة. ومن بين الأقوال الكثيرة للمهاتما غاندي، فإن قوله إن «الفقر هو أسوأ أنواع العنف»، كان أكثر التعبيرات عن الحالة الهندية في أشكالها الهندوسية والإسلامية والسيخية، ومع ذلك ـ ويا للمفاجأة ـ فقد كان رده هو المقاومة السلبية وليس قتل الناس في لندن أو في أي مكان آخر. وعندما قام بعض الوطنيين الهنود بأعمال للعنف ضد البريطانيين الذين ارتكبوا مذابح مروعة، كان موقف غاندي ورفاقه هو الانتقادات لهذه الأعمال واعتبارها دلالة على عدم النضج للحركة الوطنية كلها.
ولم يكن القهر الاستعماري البريطاني للهند اقتصاديا فقط، إنما كان سكانيا كذلك، حيث نزح البريطانيون إلى الهند ليقيموا فيها مستوطنات سكانية لها قوانينها الخاصة التي ترفع الغربيين عامة فوق كافة الهنود من حيث الحقوق والالتزامات. وحينما اكتشفت مجموعات من الهنود ـ المسلمين والهندوس ـ في عام 1857، أن البنادق البريطانية الجديدة ـ لي أنفيلد ـ يستخدم في تشحيمها شحما مكونا من شحوم الأبقار والخنازير نشبت أول الثورات الهندية العظمى، التي لم تتردد بريطانيا في سحقها بعد أن كانت قد سحقت وأخضعت بلا رحمة جميع قوى المقاومة لدى الإمارات الهندية، مهما كانت الديانة أو المذهب. وفي النهاية لم تترك بريطانيا الهند، إلا بعد أن تم تقسيمها بين الهند وباكستان، وهو التقسيم الذي لا يزال يمثل جرحا غائرا في شبه القارة الهندية، ولا يزال له مخلفاته المتفجرة والمؤثرة على الدولتين بسبب قضية كشمير.
لكن تقسيم الهند إلى دولتين قد أفرز لنا ظاهرة مثيرة للدهشة والتأمل، فبينما كانت باكستان واقفة في ظهر التجربة الطالبانية المتطرفة في أفغانستان، وكانت من الدول المغذية بالبشر والقدرات لجماعة «القاعدة»، بل ان من قاموا بعملية لندن في السابع من يوليو كانوا من أصول باكستانية، فإن المسلمين في الهند وهم أكثر عدد من المسلمين في دولة واحدة من دول العالم ـ 150 مليون نسمة ـ بعد اندونيسيا، لم يسيروا على نفس الطريق، وجاء منهم رئيس الجمهورية الهندية الحالي، وكان منهم رؤساء لمجلس الشيوخ، وقادة عظام في حركة التحرر الوطني الهندية. والأهم من ذلك كله، قادة علميون وسياسيون للمشروع الهندي نحو المستقبل. لقد كان الرد الهندي على مظالم وقهر وتقسيم واستيطان الماضي، هو إنشاء دولة عصرية ديمقراطية حديثة تجبر الدول العظمى والصغرى على احترامها. وبعد نصف قرن من الاستقلال، صارت الهند دولة نووية، تنتج أقمارها الصناعية، وسفنها الحربية والمدنية، وبعضا من طائراتها، وكثيرا من الصلب، والبرامج الإلكترونية التي جعلتها قوة عظمى في الثورة الصناعية الثالثة. وبعد فترة من الغزل مع الحلول الاشتراكية التي جعلتها تنمو بمتوسط قدره 3.6% خلال الفترة من 1950 إلى 1979، أصبحت الهند تنمو الآن بما يتراوح ما بين 7% و8% سنويا، أي بمعدلات تقارب تلك التي حققتها الصين. وكان هذا الحل الهندي للمعضلات التاريخية، هو الذي خلق حالة من التوافق العالمي على أن تكون الهند ليس فقط عضوا مقبولا في النادي النووي العالمي ـ بعد مقاومة ومقاطعة وعقاب من الولايات المتحدة والغرب ـ بل انها أصبحت دولة مرحب بها عضوا دائما في مجلس الأمن.
هذا الرد الهندي على حالة الظلم التاريخي لم يختلف كثيرا عن الرد الصيني على مظالم تاريخية أخرى، وهو لا يختلف عن رد السكان المحليين في أمريكا الشمالية والجنوبية إزاء موجات الاستيطان والاستعمار الغربية، بل وفي جنوب آسيا، حيث مرت الجيوش الاستعمارية تسحق الشعوب وتقسم الأمم وتنشر المستعمرات والمستوطنات، وحتى تضرب أهل اليابان بالقنابل الذرية. في كل هذه الأحوال كان الرد هو بناء مشروع للمستقبل له جوانبه التعليمية والعلمية والاقتصادية والتكنولوجية والسياسية قادر على منافسة المشروع الغربي في التعامل مع العالم. وفي كل هذه الأمم، وبين هذه الأمم، لا نجد ذلك الشعور المفرط بالوحدة والانعزال والرغبة في الخلاص من الدنيا طالما يحقق ألما لجماعات بشرية أخرى، سواء كانت مسيحية أو إسلامية. وليس معنى ذلك أن هذه الدول والأمم والجماعات والأديان لا يوجد بينها متطرفون وإرهابيون، بل وحتى انتحاريين واستشهاديين، لكن المؤكد أن غضب هؤلاء منصب على بلادهم، ولا يوجد هناك من يحتفل بهم، أو يعتقد أن هناك أعذارا تجعل أعمالهم مفهومة إن لم تكن مبررة. والفارق بين هنا وهناك، ليس فقط في وجود مشروع أسير للماضي لدينا، في مقابل مشروع مطروح للمستقبل لديهم، إنما في وجود جماعات سياسية منظمة ترى أن المستقبل لا يكون إلا بعودة للماضي، وربما كانت هذه هي القضية في البداية والمنتهى!.
|
|
|
|
|
|