|
وانتحار "شيبون" .. أو التاريخ غير الرسمي لمأساة الوعي الخلاق!!عبد الخالق السر
|
عبد الله علي ابراهيم وانتحار "شيبون" .. أو التاريخ غير الرسمي لمأساة الوعي الخلاق عبد الخالق السر/ملبورن [email protected] قد يتفق الناس أو يختلفون على د. عبد الله علي إبراهيم. قد يثمنون مواقفه السياسية أو يخفضونها. ولكن ما هو جدير بالتأكيد أن للرجل مقدرة فذة في التأكيد على وجوده على أرض الواقع الثقافي والفكري تفرض على الجميع الاهتمام بما يكتب أيا كان موقعهم من أطروحاته.
انطلاقا من هذه الأرضية التي تتباين فيها مواقفي اتجاه ما يطرح الرجل، تجدني رغم ذلك أكثر حرصا واهتمام بكل ما ينشره ، وليس استثناءاً إذا اهتمامي الحالي بسلسلة مقالاته الممتعة والبالغة الأهمية – في آن- عن انتحار عضو الحزب الشيوعي السابق محمد عبد الرحمن "شيبون" في مطلع ستينات القرن الماضي في ظروف غامضة وبالغة المأساوية.
إن مجرد المحاولة للخروج بمفهوم الانتحار عن التصور النمطي الاجتماعي والديني بوصفه "فضيحة" تلحق بسمعة الأهل أو "كفراً" يستوجب الستر والمغفرة يمثل انتصارا كبيرا في حد ذاته، لأن تبعات مثل هذا النوع من الركون للتبسيطات المخلة لدوافع النفس الإنسانية المعقدة والاشكالات الحياتية في صورها الاجتماعية- الثقافية بالغة التعقيد والكامنة حتماً وراء هذا النوع من النهايات الفجائعية، ساهم إلى حد بعيد في ابتذال تجاربنا الحياتية وأفضى بنا إلى حالة موات اجتماعي فشلت معه كل التضحيات الثمينة لدفعه نحو الأمام. هذا دون أن نغفل مسئوليته المباشرة في تعزيز ثقافة الإجحاف واللامبالاة – في أحسن الأحوال- نحو كل من نذروا حيواتهم قرابين للشأن العام، بصرف النظر عن المآلات ، فذلك شأن آخر.
في رأي، تكمن المتعة الحقيقية في تتبع هذه السلسلة من المقالات التوثيقية في كونها مهدت لنا طريقاً سالكاً لتتبع التاريخ غير الرسمي هذه المرة، والمجهولة في الغالب تفاصيله أما بثقل إشعاع التاريخ الرسمي بزخم شخصياته وأحداثه وسطوة أيدلوجياته من جهة، أو بفعل الصمت الفادح التواطوء والمنساق طوعاً أو كرهاً لرغبة السائد والمألوف من القيم من جهة أخرى.
إن حادثة شيبون لا يمكن في وقتنا الحاضر التعامل معها بذات التواطوء الذي دمغت به في وقتها ولاسباب معلومة لا تخرج مهما تباينت عن عنت واقع ذلك الزمان، بقدر ما يجب التعامل معها – هذه المرة- كانعكاس حقيقي لاشكالات وصراعات وجودية معقدة يغذيها تناقض الواقع الاجتماعي وما زالت تمارس سطوتها حتى راهن اللحظة. هذه الصراعات الوجودية التي تبتدئ من تناقضات الذات أو كما رمز لها دكتور عبد الله بصراع "الافندي والافندي المضاد" ، لا تلبث أن تنداح إلى واقع إشكالي أكثر تعقيدا يتمثل في صراع "الذات المتصارعة" والوجود الخارجي المتمثل في جملة المعايير والقيم الاجتماعية المتصادمة حتما مع رؤى الوعي الخلاق المتوثب لهدم هذه المنظومة القيمية واحلال مفاهيم أكثر "عدلاً" واتساقا مع التطور الاجتماعي المنظور!!.
إذن، كان ذلك قدر شيبون وصحبه ممن دفعتهم الرغبة القوية في مقارعة الواقع الاجتماعي- السياسي في ذلك الزمان. ومن المؤكد أن الرؤية رغم كونها تنم عن عبقرية ووعي خلاق وبصيرة نافذة ميزتهم دون سواهم، إلا أنها كانت تنطوي على غير قليل من الرومانسية الخليقة بشرخ الشباب ، وإلا ما كانت مآلات الصراع بمثل هذه الفداحة (انتحار، اكتئاب).
وإذا كنا بعد قرابة النصف قرن من هذا الحادث المأساوي نكاد نعيش ذات النكوص والانكسارات المتعددة على كافة الأصعدة الحياتية، إذن من الواجب أن نعيد قراءة تفاصيل تلك المغامرة بكثير من التأني وعظيم الاحترام والتقدير، لأنها وبكل المقاييس كانت جد عظيمة ولا يجروء عليها إلا شخص استثنائي مجبولة نفسه على التضحية ونكران الذات ، ومتى؟ في أزمان لم تنضج فيها بعد وبشكل ملموس مفاهيم العمل العام الذي يستوجب قدر من التضحية يضيع معها قدر من الخصوصية الباعثة على الطمأنينة ورضاء الذات المستمدان من الضمير العام الممثل الشرعي لقيم القبيلة.
من المؤكد أن شيبون قد مات مرتين قبل انتحاره الصاخب، مرة حين سلم بهزيمة مشروعه النهضوي أمام قوة الواقع المعاش وعنف جدليته المدمرة "الركون للإدمان" ، ومرة ثانية حين عمق "الرفاق" من إحساس الهزيمة بكيلهم له من الشماتة والسخرية ما يفوق طاقته المرهفة "الورقة التي وجدت بجيبه". إلا أن الموت الأكبر لشيبون يتجلى في ذلك الصمت الذي لف انتحاره لما يقارب النصف قرن في مؤامرة واضحة وتواطوء عظيم مع منظومة القيم الاجتماعية المتخلفة. وان كنا قد تعودنا بحكم التربية والمزاج أن ننفعل بالتاريخ الرسمي، فما لم نعطيه حقه أبدا هو الالتفات الواعي إلى التاريخ غير الرسمي والذي يحمل في طياته حقائق باهرة تتيح واقعا نموذجيا لقراءة التاريخ بشكل أشمل وأعمق، بحيث تكون نتائجه أكثر صدقاً وإنصافا للمغامرات الحياتية المتصلة ذات البعد الاجتماعي- الثقافي والسياسي الأعمق في حياتنا.
وإذا كنا نحن الذين أتينا إلى الوجود بعد عدة سنوات من حادثة شيبون قد قيض لنا أن نرى "الأفندي المضاد" قد أصبح قيمة اجتماعية يعتد بها وزهوا يتقمص صاحبه في حله وترحاله حد النرجسية البغيضة، فمن أقل الواجب إذن أن نثمن تلك التضحيات الفادحة التي رصفت هذا الطريق المفضي – في زماننا هذا- إلى الصيت والنخبوية و"الدون جوانية" كما يحدث في الجامعات والأحزاب السياسية!!!.
إن شيبون وأمثاله يستحقون الخلود والعرفان والتوغل عميقا في ذاكرة الأجيال بقدر ما أخلصوا النية والسعي حثيثا لدفع المجتمع خطوات مقدرة نحو الارتقاء، دافعهم في ذلك وعي خلاق وحبا عظيما لوطنهم أورثهم شقاءً ومأساوية وسمت حياتهم القصيرة في ظل واقع اجتماعي معقد وباهظ التكاليف.
عبد الخالق السر/ ملبورن
[email protected]
16/8/2..5م
|
|
|
|
|
|