|
كلابيش - جزء من نص روائى - على حمد ابراهيم
|
كان حامد العود هو المعلم الوحيد فى قريتنا الذى تراه يوميا شاخصا امامك مثل القدر النافذ . سبعون عاما حملها على كاهله النحيل وهو يتقلب بها مع تقلب دهور و احوال كلابيش ، قريتنا التى ولدت فى اليوم الاول من الشهر الذى تطلع نجومه من ناحية الشرق مثلما ولد حامد العود فى ذلك اليوم - يوم الجمعة بالتحديد . قالوا أن عشيرة سيارة جاءت الى هذه الناحية من بطن الوادى فاعجبها المكان بهوائه الطلق ومياهه العذبة تخرخر من فم النهر الصغير ، فاقامت فيه من باب التجريب أولا حتى اذا استقرت بصفة دائمة اسمت المكان كلابيش. والكلابيش فى لغة أهل تلك الناحية هى القيود الحديدية او الاغلال التى تمنع الحركة الحرة. وقد قصد أهل كلابيش بهذا الاسم الغريب أن قريتهم من جمالها ونقاء هوائها ورغيد عيشها تكلبش من يأتى اليها عابرا وتجبره على الاقامة الدائمة فيها . قالو ا نفيسة بت حاج قابلة الناحية حملت حامد العود بين يديها وانتبذت به ركنا قصيا من كوخ الاسرة المتواضع واخذت تزغرد وتزغرد وتزغرد حتى وصل والد ه فرحان جزلا ونثر على رأسها بعض النقود ثمنا للبشارة ، فتحولت من نثر الزغاريد الى نثر الاوصاف الجميلة على المولود الجميل : وجهه المشرق مثل برق القبلة الشيال ، وجبينه الوضاح مثل ضى الرتاين وعيونه النفاذة الدالة على ذكاء قادم . لقد اشتهرت بت حاج بمبالغاتها فى تمجيد المواليد الذين ياتون الى الحياة على يديها طمعا فى عطية مجزية من المولود له والمولودة لها. فى يوم مولد حامد العود كانت بت حاج تعيد الشريط ذاته عند بواح الفجر الصادق . وعندما تناثرت عليها نفحات الحاضرين هاجت قرائحها المبدعة واخذت ترقص طربا وهى تردد يلحقنى أبوى الشيخ ، يسترنى أبوى الشيخ ، يعيش أبوى الشيخ ، الكرم كدى ، الجود كدى ، الكلام كدى ، كدى ، كدى . نشأ حامد العود شابا قويا ، بزّ أقرانه جميعا فى فنون أهل تلك الناحية من الوادى الذى كان مجتمعا وسطا بين تقاليد البادية وتقاليد حضرية وليدة تحبو ببطء شديد. كان أول ما يتعلمه الشباب فى بطن الوادى فنون الصيد الخلوى وفنون المطارحة فى شعر الغزل الشعبى وفنون الفروسية من سباق ومصارعة وركوب خيل ، حتى اذا جوّد الشاب هذه الفنون انتقل باهتماماته الى مجالات ارحب مثل التباهى بفعل الخير من اسناد للضعفاء والمحتاجين ومساندة للمظلومين والمقهورين ورد الحقوق ورفع الضرر والضرار . وكان الفوز بالفتاة الجميلة يتسابق عليها الخطاب الشبان معقودا لمن يتفوق فى هذه المجالات . قالوا كان حامد العود عالما قائما بذاته فى كل هذه المجالات جميعا :، لا يحاكيه و لا يجاريه منافس : كيف يعدو ، كيف يصارع ، كيف يطارح فى شعر الغزل ، كيف يغنى القصيد الذى هو غير الغناء الذى يعرفه أهل الحضر . كان ذلك العالم حكرا على حامد العود . قالوا ان اقرانه منحوه لقب حامد العود لرشاقته وخفته فى يوم السباق الكبير. وتحكى كلابيش ولا تنسى يوم زواج حامد العود . قالوا نحر والده النوق البيض ، وعجلا له خوار ، وعشرات من خراف الصعيد التى ترعى من خشاش الاودية الطبيعية ولا تأكل من علف المدينة الممزوج . ثم دوى المكان برزيم الرصاص الحى حتى أحمرت أعين الناس من غيوم الدخان وعندما طلب خفير العمد وقف رطين السلاح الحى رفضت أم العريس وقالت العريس هو ابن الشيخ والشيخ فوق القانون والماعجبو يشرب من الترعة الكبيرة . يوم زواج حامد العود اصبح معلما تاريخيا تؤرخ به كلابيش للاحداث الكبيرة التى مرت بها فيقول قائل هذه واقعة حدثت قبل زواج حامد العود أو هذه واقعة حدثت فى سنة زواج حامد العود . ولكن كلابيش وجدت فى حامد العود مغنما آخر أكبر أهمية من قصص الفروسية والشباب. فعندما تقدم به السن ، وجدت كلابيش فى حامد العود رجلا حكيما وحكما عدلا فى مجادلات ومنازعات كلابيش التى لا تكاد تنتهى . فاختارته قاضيا لمحكمتها الأهلية . قالوا كان حامد العود يصدر الحكم وينفذه بالتى هى أحسن وأحيانا ينفذه بالتى هى أسوأ اذا رفض المحكوم القبول بالحكم الذى صدر ضده . فعندها يمارس حامد العود مع المحكوم قدراته القديمة ، فيصارعه ويصرعه ويدخله السجن الذى هو كوخ صغير ابتناه حامد العود من حر ماله يحفظ فيه مجرمى الناحية . وهكذا نظف حامد العود مجتمع كلابيش الصغير من المجرمين بكل اشكالهم ومستوياتهم حتى أنه حول الكوخ الذى شيده يكون سجنا للمجرمين ، الى الى خلوة يتعلم فيها صغار الناحية مبادئ القراءة والكتابة وقليلا من القرآن يعلمه الفكى صالح تاجر الناحية المتجول الذى كان يبيع للناس البضائع والحكايات الجميلة حسب وصف حاجة السرة التى لم تحج ابدا ولكنها لا ترحم الذى يناديها بغير ذلك اللقب المحبب اليها .
|
|
|
|
|
|