عبدالرحمن منيف روائي مدهش

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-12-2024, 09:47 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-23-2005, 05:18 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عبدالرحمن منيف روائي مدهش

    عبد الرحمن منيف ومساءلة التاريخ


    فيصل دراج


    --------------------------------------------------------------------------------


    يحيل التاريخ على صعود الرواية مرتين: وجد كلاهما في القرن الثامن عشر مرجعا له, بعد أن اتخذ ت فلسفة الأنوار من الإنسان مبتدأ لقراءة التاريخ كله, وبعد أن اكتشف العقل التنويري معنى الزمن وتقص ى أبعاده في سـيرورة الإنسان. غدا الإنسان, في الحالين, أصل ذاته, يقتفي المؤرخ آثاره الماضية, ويتأمل الروائي حاضره وآفاقه القادمة. وعلى الرغم من تاريخية الرواية, إن صح القول, فقد اتخذ ت رواية <<الإنسان غير الأوروبي>> من التاريخ سؤالاً جوهريا, تتأمل فيه أسباب هزيمة طرف وانتصار آخر, وتوحد فيه اغتراب الإنسان عن مساره الذاتي واغتراب المهزوم عن التاريخي الكوني. وعبدالرحمن منيف, الروائي العربي المشدود إلى التاريخ الجماعي, آثر أن يكون روائيا من <<عالم الأطراف>> بامتياز, ساءل انتصار الوافد الأوروبي وهو يسائل وظيفة آلته المنتصرة, وأكثر من الأسئلة وهو يرى إلى مآل عربي, أخطأ زمن الآلة قبل أن يخطئ زمن الانتـصار. ولأن المآل الجـماعي كله, في زمن ما قبل حداثي, لا ينفصل عن سلطة سياسية, تحد ث آلة القمـع وتمنع تحديث ما خارجها, كان على عبدالرحمن منيف أن يقرأ أقدار الإنسان المهزوم في بنية سلطة تقليدية, وأن ينقب عن أسس خرابها في ماضيها القريب, الذي لم تتحرر منه أبدا.

    1ـ الحرية والفرد الطبيعي:

    ولد الإنسان في الطبيعة حرا, يفعل ما يل بي ميوله, يساوي غيره بلا مفاضلة ولا تمييز. فالطبيعة هي البراءة الأولى والإنسان الطبيعي هو البريء الجوهري الذي امتثل إلى قوانينها, ورأى في الحرية معطى بديهيا. لذا يظهر ما يعارض الطبيعة تشو ها يقترب من الإثم, ويغدو الإثم وباء حين يصدر عن السلطة المستبدة, كما لو كانت الأخيرة نقيضا للطبيعة بامتياز. ومع أن الجوهر الإنساني الذي لا اغتراب فيه لا يتحقق بالعودة إلى <<قوانين الطبيعة>>, وهي عودة مستحيلة على أية حال, فقد آمن عبدالرحمن منيف بـ<<الإنسان الطبيعي>>, وعمل على صياغة ما آمن به بمقولات تتضمن الحرية والعدل والمساواة... وما روايته <<النهايات>>, وتصورها مسكون بالشعر وبأطياف البراءة, إلا صـورة عن الطبيعة السمحاء, التي تنقضها السلطة القاتلة, وعن الإنسان الطبيعي, الذي إن لمسته السلطة انتهى إلى الموت.

    ت قيم <<النهايات >>تعارضـا بين سلطة لا عقلانية, تساوي بين الصيد والقتل, وطبيعة حكيمة, توازن بين الحاجة والتكاثر. وبسبب هذا الفرق يأخـذ اللقاء بين الطرفين شكل المأساة, تتكشف السلطة كيانا قاتلا, وتتحول الطبيعة إلى وجود ذبيح. ينقد منيف, الذي يند د باغتيال الطبيعة الموس ع, الحداثة السلطوية, التي ت ختزل إلى أدوات الجهاز الأمني, ويند د بالمدينة المشو هة, التي تحو لها السلطة إلى سجن كبير, يستنكر الحداثة وتستنكره في آن. يقف <<ابن الطبيعة>>, نقيضا للسلطة والمدينة والحداثة السلطوية, طرفان يعوزهما التكافؤ والتجانس ولا يلتقيان, فإن تم اللقاء حصد الهلاك البراءة واحتفظ بالدنس.

    تحكي <<النهايات>> عن صياد بريء يقود <<مسؤولين>> من المدينة في رحلة صيد مشؤومة, مسرحها صـحراء تحتقب <<عقلانية فطرية>>, توازن القحط بالخصب وتنكر القتل وتعف عن الصيد. والصحراء, كمـا يراها منيف, هي الطبيعة _ الأصل, التي تعالج مخلوقاتها بحكمة غامضة, تكفل تجد د المكان وتصد عن الإنسان المجاعة. ولأن الروائي يكره الكل الطاغي الذي لا يعترف بالأجزاء المستقلة, فإن <<صحراءه>> شخصية حية حرة واضحة التفاصيل, لها مواسم من الفرح والكآبة والغضب والاعتدال, كأنها مخلوق شاسع الأطراف يستفزه الأذى وينعشه الحنان. ولعل هذا التصور, الذي يجعل من الصحراء كيانا حيا جديرا بالرعاية, هو الذي يعي ن <<بطولة المكان>> مقولة جمالية _ إيديولوجية في تصور منيف للعالم, كما لو كان الروائي ي ؤ ن س ن المكان ويضع في المكان المؤنسن بطولة واسعة. لذا تكون شخصية الصياد, وهو ابن الطبيعة الخالص, امتدادا نوعيا للمكان المؤنسن, يقاسمه البطولة البريئة, ويشاطره عفوية هي شرط البطولة والوجود السوي. ومع أن القارئ يرى في الصحراء مكانا محتشدا بالرمال فإن منيف, الذي يحترم الحي ويبحث عن الجمالي فيه, يصير الصحراء وجودا نابضا, يعرف العزاء والاحتفال.

    تنطوي <<النهايات>> على أطروحتين متضافرتـين: جمالية الطبيعة التي تشتق منها الطبيعة الإنسانية, وحرية التجلي التي تحايث العلاقتين معا. بعد النقاء يأتي ما يدن سه, وبعد الصيد الأليف يأتي القتل الفاحش, وبعد البراءة الحرة تمثل السلطة, التي تقو ض البراءة والحرية. ولن تكون رحلة الصيد, التي يرافق فيـها <<ابن الطبيعة>> رموز السلطة والحداثة الشائهة والمدينة المقزمة, إلا رحلة إلى التهلكة, بسبب التناقض الكلي بين الطبيعة الأولى والطبيعة الثانية, أي السلطة, التي استبدلت بالتسامح العنف وبالكيف الكم وبالبطولة العفوية الاغتيال المنظم. سعى منيف, بحذق فني خصيب, إلى توطيد المعنى وتكثيف الدلالة, كاشفا عن الفرق بين تجليات الحياة ووجوه الموت, إذ في طوية الصياد مالا يتفق مع طوية السلطة, وإذ في رحابة الصحراء مالا يأتلف مع مدن الحداثة الخائبة. لذا تكون الصحراء مؤنسنة, بقـدر ما تكون المدينة السلطوية عدوا للإنسان, ويكون إنسان الصحراء نقدا لإنسان سلطوي مي ت الملامح.

    يحتضن الصياد كيف الطبيعة في وجوهه المتنوعة, فهو الحصان والفهد والغيمة, بريء يجهل المخادعة وكريم لا يعرف الأنانية, يتبادل مع الطبيعة الحراسة والرضا, ويتخذ من ظلالها ساعة لا تقبل بالخطأ. إنه الإنسان الغنائي, فلسفته في سعادته, وسعادته تجهل العسس وجيوش الظلام. وفي الجهة الأخرى طبيعة أخرى, قوامها الجشع والاحتفال بالكم والخلط بين المهارة وغزارة النيران. تقول الـرواية وهي تعر ض بأهل المدينة: <<تكلموا بتلك الطريقة الفخمة المليئة بالأكاذيب, التي لا يتقنها إلا المتعلمون وأبناء المدنس(1).

    تنقض المدينة المتسلطة الصحراء, وينقض الكذب السلطوي حقيقة الطبيعة. وفي هذا الفرق تكون السلطة طبيعة ثانية, توازي الطبيعة الأولى ولا تكتفي بها, إنها الخبث والمخادعة والكذب والجشع وكل ما هو غريب عن الفطرة الإنسانية الأولى. وواقع الأمر أن منيف, الذي يكره السلطة كرها لا مزيد عليه, يركن إلى مجازين يحقـق ان مقاصد الروائي: المجاز الأول هو الطبيعة - الأصل, الكاملة في نقائها, والـمجاز الثاني هو الصـيد الذي يغتال المكان المقدس وينتزع منه الحياة. بهذا المعنى, يكون الصيد السلطوي, وهـو تعبير عن جوهر السلطة, فعلا مرعبا يختلط فيه القتل بالكفر واغتيال الحياة. كأن السلطة شر مكتمل يهاجم الإنسان والحياة والطبائع المقدسة, طامعا ببناء عالم لا يعرف الأخلاق والمقدسات(2).

    حين تتحدث الرواية عن القادمين من <<المدينة>> تقول: <<أولئك الأغنياء الذين يملكون خيام الحديد ويتحركون بتلك الطريقة كأنهم أفواج الجراد بحثا عن الغزال>>. يكثف مجاز <<خيام الحديد>> معنى الحداثة الهجينة الصادرة عن سلطة أكثر هجنة, فليس في أدواتها خيمة عادية ولا بيتا من حديد, بل ذلك الشيء الذي لا هوية له, الذي يترجم العقل في أكثر أشكاله لا عقلانية. ولعل هذه الهجنة السلطوية القاتلة, هي التي تستنفر عاصفة رملية عاتية تعبيرا عن غربة الصحراء النقية عن سلطة الرجس والدنس, وهي التي تقود الصياد البريء إلى موت قاس, كما لو كان الذهاب إلى الموت هو شرط احتفاظ الإنسان ببراءته المهد دة: <<كان عساف مدفونا في الرمل, لم يكن يظهر إلا رأسه, وفوق الرأس تماما كان الكلب رابضا,...., لكن بطريقة غريبة للغاية: كان يشكل سياجا حول جسد عساف, خاصة رأسه, كان يحتضنه>>. في منظور بالغ التشاؤم والأسـى, وكما تظهر الرواية في فصلها الأخير, يعقد منيف مقارنة بين <<أبناء المدن>> وحيوانات الطبيعة, ويرى الحيوان أرقى من <<الإنسان المتسلط>> وأفضل منه, فالأخير امتـداد للطبيعـة وأفعاله وميوله مكتوبة في القوانين الطبيعية(3).

    أنتج منيف في رواياته المختلفة خطابا تحريضيا, ينقد الراهن العربي ويدعو إلى مدينة غائبة مؤمنا, رغم تداعي السياق, بالتقدم وأفكار التنوير الكلاسيكية. والتشاؤم الذي أغلق به رواية <<النهايات>> محدد وبالغ التحديد, مديد هو وشاسع في علاقته بالسلطة, ولا وجود له في علاقته بالإنسان العربي, الذي عليه أن يتحرر من السلطات الرابضة عليه. ليس غريبا أن يتحدث منيف عن <<الساسة>> بلغة شديدة العنف, يخالطها التنديد والاحتقار, كأن يتحدث عن: <<جو السياسة الأمية والمتقلبة التي تغمر الساحة العربية من أقصـاها إلى أقصـاها>>, وعن: <<سيطرة نمط من السياسيين الذين يتصـفون بالشطارة والقسوة والانتهازية وصـولا إلى الخـسة, في آن>>(4). إن جملة الصفات السلطـوية, التي تحتـقب السلـب في أكثر أشكاله شدة, هي التي تنتج سلطة مأخوذة بولع الكم والمصـادرة. وهذا ما يعطي مأساة الصياد شكل البداهة: فهو مفرد حر في فضاء سلطـوي لا يقبل بالفردية, وهو إنسان نزيه سوي في زمن سلطوي يطارد النـزاهة ويعتنق التشوه.

    2ـ سلطة التشوه والهزيمة:

    جاء لويس عوض, وهو ينقد موضوعيا فترة وطنية منقضية, بتشبيه مسكون بالمفارقة مؤد اهما يلي: كان البشري قادون إلى غايات وطنية كبيرة مقيدين بالسلاسل. إذا كانت الفترة الوطنية المنقضـية مزيجا من القـيود والغايات الكبيرة, فإن الفترة التي أعقبت هزيمة عـام 7691, وقد تركت جرحا لا يندمل في روح عبدالرحمن منـيف, استبقت القيود ووأدت الغايات الكبيرة. وعن تلك القيود الثقيلة المتناتجة وضع عبدالرحمن رواية <<شرق المتوسط>> التي تصر ح, وهي تقرأ واقع التداعي العربي, بأفكار أربع: السجن الصغير تلك الصناعة السلطوية المتألهة التي تعيد خلق السجين من جديد, كي لا يخرج كما جاء أبدا. السجن الكبير, أي المجتمع, الذي ضيق عليه وحجر على إمكانياته وقيدت حركاته حتى غدا ميتا أو اقترب من الموات. المنفى, الذي هـو الحيز المتاح الذي يفك الإنسان فيه قيوده الأولى, وينتظر أحزانا قادمة. والفكرة الأخيرة هي: الوطـن, الذي تختصـره السلطة إلى <<أرض>>, لا كرامة لها, وتعيد اختصاره إلى ملكية سلطـوية, تتحكم بالأرض وبالرزق والبشر.

    نددت <<شرق المتوسط>> بـ<<القمع السياسي>>, إن صح التعبير, منتهية إلى فضاء كابوسي خانق يحاصر القارئ ويطارده ويستفزه, كما لو كان يشاطر السجين زنزانته ويقاسمه عذابه. أغلق الروائي باب <<التعويض>> إغلاقا كاملا, فلا بطولة فردية متوهمة, والأبطال الوهمي ون الذين يمد ون الشعب بانتصار مرغوب لا وجود لهم, و<<تفاؤل النهايات>> الذي لازم <<الرواية الواقعية>> غائب الغياب كله, ذلك أن الروائي استبدل بـ<<التعويض>> تحريضا د فع إلى نهايته الأخيرة. جاء هذا الاستبدال عن إيمان منيـف بسلطة الكلمة التحريضية, وعن إيمان مواز بضرورة تمرد الإنسان على وضع يهين إنسانيته. وكانت هزيمة حزيران, في الحالين, هي المرجع الذي يقرر شكل الكلمة وموضوعها. ولهذا لا يمكن الفصل بين <<شرق المتوسط>> ورواية <<حين تركنا الجسر>>, رغم الفرق الظاهري بينهما, ذلك أن سلطة القمع هي تلك التي جاءت بالهزيمة.

    <<حين تركنا الجسر>> نص نموذجي عن المهزوم الذي خذل قضيته, وكتابة متوترة عن وعي شقي يتاخم الجنون. والقضية هي الجسر المهجور, والقضية - الجسر هي الوطن الذي لم يجد في <<حرب حزيران>> من يصون كرامته. لذا تقول الرواية: <<العجز يسري في الدم, وسيأتي يوم لا ينسل رجال هذه الأمة إلا الأقزام والمشوهين, والأقزام والمشوهين لا يعرفون إلا أن يموتوا رخيصين>>(5). يأتي القول غاضبا مباشرا منذرا بهزائم قادمة تحايثه, في إيقاع متصاعد, طبقات إشارية توطد تشاؤمه, تتحدث عن: <<العيون المهترئة, الرجل المخصي, القرد الأسود وأضواء تنصب على الشارع البارد برخاوة عاجزة..>>. يبوح الراوي, وهو جندي عادي مهزوم, بكوابيسه الثقيلة, دون أن يتهم, إلا بشكل ومضي, صناع الهزيمة, كأن الخوف الموسع يمنعه عن الكلام الصريح في <<الثكنة>> وفي الغابة الموحلة التي يطارد فيها طائرا أسطوريا لا وجود له. بهذا المعنى, فإن <<الخصاء>>, الذي تقاربه الرواية بإشارات مختلفة, يتوزع على المؤسسة المهزومة وعلى الجندي البائس الذي ينتسب إليها. إنه السجين الذي ي قاد مقيدا إلى معركة قرر مصيرها.

    إذا كان عبدالرحمن, الوطني المنغمس في قضايا الأمة انغماسا مرهقا, قد أنتج في <<شرق المتوسط>>, فضاء كابوسيا خانقا يحاصر القارئ ويثيره في آن, فإن ما جاء به في <<حين تركنا الجسر>>, وبفنية مدهشة, يستثير القارئ ويحضه على التأمل والمساءلة. لم تترك الرواية الأولى للتساؤل الطليق إلا حيزا محدودا, تاركة الكابوس اللاعقلاني يكتسح غيره, بينما جمعت الرواية الثانية بين الكابوس وفسحة التساؤل, منتظرة بشرا يردون على الهزيمة ولا يقبلون بتأييدها, ذلك أن الرد على الهزيمة متاح أن تحرر الإنسان من قيده والوعي المهزوم من أوهامه. ولهذا يعيد <<الطائر الأسطوري>>, بعد مطاردة طويلة شاقة, صياغة الصياد ووعيه, يحرره من <<عقد الخصاء>>, ويدلل على أن <<خصاء السلطة>> لا يقع, لزوما, على جميع الذين يأتمرون بأوامرها.

    صاغ عبدالرحمن رواية <<حين تركنا الجسر>> باقتصاد إشاري محسوب, ي ست هل بـ<<بنات آوى>> ويختتم ببشر ينتظرون أفقا مغايرا. تبدأ الرواية بصراخ حيواني وصياد معطوب وأرض موحلة ومناخ شتائي بارد وكلب ذليل, واضعة على لسان الصياد المخذول لغة فاحشة وبائسة في فحشها, تستدعي القرود والأفاعي والعناكب والجرذان والفأر القطبي. تصدر الكلمات عن مركز مأزوم, متوسلة <<مونولوجا>> عصابيا, يخلط الحاضر بالماضي والمخلوقات بالأشباح, كما لو كان زمن الذاكرة المثلومة هو الزمن الـوحيد الذي يقرر معنى العالم. من هذه العناصر المختلفة, التي تستولد فيها اللغة المتـدفقة الرموز والإشارات والحكايات, بنى منيف معنـى الهزيمة, ووضع في الهزيمة معنى السلطة, وقرأ الطرفين في معنى <<الخصاء الموسع>>.

    سردت <<حين تركنا الجسر>> سيرة جندي مهزوم وسردت, بشكل مضمر, سيرة سلطة تقمع الجندي وتنهار أمام العدو الخارجي. وإذا كان في سيرة الجندي ما يفصح عن هموم الإنسان العادي, فإن في السيرة المضمرة ما يحكي عن سلطة متداعية. يظهر سؤال الهزيمة من اختصاص الإنسان العادي, ويتجلى اختصاص السلطة في الدفاع عن الشروط التي تنتج الهزيمة. والسؤال الآن: ما العلاقة بين هذا كله وموضوع التاريخ الذي قاربه منيف في <<مدن الملح>> راجعا إلى بدايات القرن العشرين, وأعاد مقاربته في <<أرض السواد>> راجعا إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر? ما هي الأسباب التي أملت على الروائي أن ينصب ذاته مؤرخا مغايرا وأن يذيب في عمله الفني معلومات تاريخية واسعة? لم اعتقد المؤرخ أن في الحاضر نقطة عمياء وأن في الماضي ما يضيء الحاضر ويعيد تخليقه أكثر وضوحا ?.

    طرد منيف السؤال وبحث عن الإجابة مرتكنا إلى جملة من العلاقات متضافرة: في البدء كانت السلطة التي يعقبها فرد مقموع لا ذاتية له وتتلوها هزيمة لا هرب منها. وعلى هذه السلطة ردت روايات: <<شرق المتوسط, حين تركنا الجسر, النهايات, الأشجار واغتيال مرزوق, وصولا إلى <<الهنا والآن>> أو شرق المتوسط مرة أخرى..>>. بيد أن اتساع القمع وتمد د أطرافه بشكل غير مسبوق أربك السؤال وأضاف غموضا إلى السلطة, فبدت أحجية أو قريبة من الأحجية. وهذا التلغيز السلطوي, الذي يحتاج إلى ما يكشف عنه, دفع بعبد الرحمن إلى الرجوع إلى الماضي القريب, معتمدا على المعرفة الموثقة والتجربة الذاتية وتأمل المعيش العربي. ليس غريبا أن يكتب منيف <<سباق المسافات الطويلة>>, قبل أن يكتب <<مدن الملح>>, مبتدئا من <<النفط الإيراني>> ومتخذا من بلد مجاور لبلاد العرب مجالا لاختبار أسئلته. وبعد أن اختبر ما يود اختباره في <<أنموذج غير عربي>>, طب ق ما وصل إليه على <<النفط العربي>>, منتهيا إلى قضية شائكة دعاها المنظرون بـ: علائق الاستعمـار والتبعية. بدأ السؤال من وضع الذاتية الإنسانية الذي يستدعي موضوع السلطة, وانتـهى إلى سؤال الهوية الوطنية, الذي يستدعي السلطة والاستعمار. ومع أن الرواية, بالمعنى النظري, تدور حول <<الفرد المغترب>>, الذي شاء أمرا وأفضى به طريقه إلى أمر آخر, فإن عبدالرحمن منيف, الذي انشغل بهموم الأمة لا بمصائر الأفراد, اتخذ من <<الهوية القومية المغتربة>> موضوعـا له. توزع الموضوع, الذي يبحث عن معنى السلطة في تاريخها, على <<شرق المتوسط>> و<<بلاد النفط>> إلى أن وصل إلى <<عراق القرن التاسع عشر>>. <<لا نظرية في السياسة بلا نظرية في التاريخ>> يقول بعض الفلاسفة, و<<لا رواية عن الحاضر العربي بلا رواية عن ماضي السلطة التي تحكم الحاضر>> يقول منيف.

    لم يقبل منيف بما جاء به المؤرخ السـلطوي, الذي إن لم تحاصره الرقابة حاصرته منافع السلطة, فانتدب ذاته مؤرخا مغايرا, يراوغ السلطة ويتوجه إلى <<أطياف>> السلطة البديلة. وكان على منيف, وهو يراوغ سلطة تكره التحديد والمسميات الصريحة, أن يمحو الأسماء ويكتفي بـ<<شرق المتوسط>>, إذ المدن صريحة ومقنعة في آن, وأن يخلق <<موران>> مجازا شاسعا لـ<<العواصم العربية>>. ولعل سعيه إلى الوضوح, كما ميله إلى مقارنة حقبة تاريخية بحقبة تاريخية أخرى موازية أو قريبة, هو الذي أرسل به إلى عراق الربع الأول من القرن التاسع عشر, إذ المكان عار لا يحتاج إلى تمويه, وإذ ما يربض على الحاضر مربكا الجميع يتراءى أكثر وضوحا ولا يربك أحدا. كتب منيف مالا يكتبه المؤرخ السلطوي, أو كتبه بشكل ناقص ومجزوء, مازجا صحيح التاريخ بالكلمات الموحية, التي تضع في النص المكتوب نصا آخر ينهض من ذاكرة القراء وينتظر من يكتبه. وهذا التوتر بين نص وطني - أخلاقي تجب كتابته بلا تمهل ولا تقاعس وآخر غائب ينتظر كتابة محتملة, هو الذي خلق عقدا شفهيا بين الروائي وقارئه, وأقام بينهما حوارا صامتا قوامه <<اللغة الوسطى>> التي كتب بها عبدالرحمن منيف رواياته. تنكر <<اللغة الوسطى>> التصور التراتبي التقليـدي للعالم, الذي يضع إنسانا فوق آخر ولغة فوق غيرها ويقمع, لزوما, <<لغة العوام>> بـ<<لغة الخاصة>>. ولغة كهـذه, وهي تحتفي بالبشر لا بالقواميس, تصرح بتجانس منظور الكاتب والقارئ, الذي هو شـرط العقد والحوار وتعبير عن تجربة تاريخية واحدة. وبداهة فإن كاتبا, ينـكر المراتب ويستـنكر الطبقات الكتابية, يرفـض أن ينصب قراءته للتاريخ مرجعا للحقيقة, بل يرى أنه يضيف قـراءة جديدة إلى قراءات أخرى, تاركا القارئ يقارن ويصل إلى ما يريد حرا.

    3ـ السلطة ومعنى التاريخ:

    تتعي ن <<مدن الملح>> رواية عن السلطة المتنفطة ورواية عن السلطات العربية جميعا, محدودة النفط كانت أو لا يوجد فيها نفط على الإطلاق, فنمط الوجود النفطي, ومنذ بداية السبعينيات الماضية, لف المجتمعات العربية كلها. و<<الواقعة النفطية>>, كما كتبها منيف, تتحد د موضوعا وإشارة في آن: مادة خام هي معروضة للبيع والشراء, تعطي <<ريعا ماليا>> هائلا تتحكم به السلطة وتتصرف به من وجهة نظر سلطوية, بما يضمن استمرارية السلطة وديمومة احتكارها للريع النفطي. والنفط أيضا إشارة, تلت فورته هزيمة حزيران وانصرف إلى اجتثاث الزمـن العربي الذي سبق الهزيمة. بهذا المعنى تكون <<الواقعة النفطية>> واقعة تاريخية, لا بمعنى ظهور النفط وارتفاع عائداته, بل بمعنى استثمار الريع النفطي في هزيمة زمن عربي محدد ونصرة زمن جديد, يقطع مع الأول وينبت عنه. ليس غريبا, والـحال هذه, أن يتحول النفط إلى علاقة سياسية وثقافية ودينية, يتكون في حقولها المختلفة: السياسي النفطي, المتحالف مع السلطة المتنفطة, والشيخ النفطي الذي يعطي الدين تأويلا جديدا, والمثقف النفطي الذي يدمن التعميم ويبتعد عن التخصيص... انصرفت السياسة النفطية, المعمم ة عربيا, إلى إنجاز مهمات ثلاث: العبث بـ<<الجغرافيا الـتاريخية>>, التي تجعل <<النفط - العاصمة>> يسوس غيره من العواصم, مستبدلا بالتاريخ والثقافة والتقاليد الريع النفطي معيارا مسيطرا, يدعم ويقو ض وينشئ ويحاصر. التشكيك المتواتر بالزمن العربي الحديث, الذي امتد من نهايات القرن التاسع إلى هزيمة حزيران, اعتمادا على <<مقولات نفطية>> قوامها الكفر والمروق والاستبداد والتبعية للغرب والتعامل مع الأفكار والنظريات الوافدة. أما العنصر الثالث, وهو الأكثر أهمية وخطرا, فيتجلى في تمديد الفضاء السلطوي تمديدا غير مسبوق, وتقليص الفضاء الشعبي - المدني إلى حدود الإلغاء, ذلك أن الخطاب النفطي الجوهري, الذي ساوى بين المقدس والسلطة, رأى في الأحزاب السياسية والانتخابات والبرلمان والديمقراطية والإبداع الأدبي والفني كفرا صريحا, يحاكي <<الغرب الكافر>> ولا يستلهم الأصل الثابت القديم المفعم بـ<<الإيمان>>. هذه العناصر الثلاثة, التي تشكل نصا مستترا يحايث النص المعلن في <<مدن الملح>>, هي التي وضعت رؤية تاريخية في عمل منيف بمعنى مزدوج: فإذا كان في اكتشاف النفط, الذي استقدم قوى غربية وغريبة لا ترحل, فعل تاريخي لا مراء فيه, فـإن في آثـار النفط, بعد هزيمة عام 1967, فعلا تاريخيا أشد خطرا, نقل المجتمـع العربي من مفـردات الحداثة الاجتـماعية إلى إيـديولوجيا ماضوية بطرة, تعالج الحاضر العربي المهزوم بماض مخترع, حاجبة المعيش المشخص بطبقات بلاغية لا تنتهي.

    لم يكن غريبا, وقد غدا النفط مجازا موسعا, أن يشخص منيف الزمن العربي الجديد بشخصية روائية شاسعة, <<صبحي المحملجي>> جاءت إلى بلاد النفط من بلد لا نفط فيه. تمتد هذه الشخصية, في حيز الكتابة, من نهاية الجزء الأول إلى جزءين تاليين, وصولا إلى الصفحات الأخيرة من الجزء الأخير, كأنها تسرد في مسارها مسار السلطة النفطية. فهي على مستوى المكان تمر بلبنان ومصر وسوريا وأوروبا وأمريكا والخليج, وهي على مستوى القيم تعطي تعاريف جديدة للتجارة والصدق والكذب والدين والأدب, وهي على مستوى المهنة كثيرة الصفات: الطبيب, التاجر, الصيدلاني, الفيلسوف, ناصح الحاكم, رجل الإعلام ورجل الأمن وهي <<المفتي>>, الذي يضع الحدود بين المحلل والمحرم. يتراءى التاريخ في <<المجاز النفطي الموسع>> في اتجاهات ثلاثة على الأقل: تحقق <<العروبة المهزومة>>, بعد أن فات العرب تحقيق <<عروبتهم المنتصرة>>, التراجع المروع لـ<<المثقف الرسولي>> أمام <<كاتب>> رسالته الوحيدة نشر التضليل وتكثير الامتياز الذاتي, انحطام القيم التي تحو ل <<الربح>> إلى مرجع للحقيقة. لهذا يحيل <<المحملجي>>, بالمعـنى الروائي, على ذاته, فهو الشخصية الواضحة المحددة الشامية الأصول, التي مارست <<مهنها>> في بلاد النفط وخرجت بثروة هائلة, وهو المجاز المتعدد الأطراف الذي نقرأ فيه تحو لات المجتمع العربي من الهزيمة إلى التداعي والانحطام. يظهر <<الحكيم الشامي>>, في مستـوى منه, فردا مستقلا له عائلته وأفراحه وأحزانه, ويظهر, في مستوى آخر, وجودا مختلف الأقاليم لا وجه له, ذلك أنه علاقة داخلية في تكون السلطة النفطية, بقدر ما أن الأخيرة علاقة داخلية فيه, فما كان قطريا <<تعرب>>, بعد أن داست سنابك <<العروبة المهزومة>> بقايا العروبة التي كانت تبحث عن الانتصار.

    يتعين <<المحملجي>> علاقة داخلية في السلطة النفطـية وتتعين الأخـيرة علاقة داخلية فيه, فهي تحكي بدايته وصعوده وهو يحكي نهايتها المأساوية. ولـعل هذه الرؤية, وهـي فنية - تاريخية في آن, هي التي فرضت على <<الحكيم الشامي>> أن يسهم في <<إرشاد>> السلطة النفطية وأن يعمل في جهازها الأمني وأن يقترح سياستها الإعلامية, وأن يهجس بوضع <<سفر عظيم>> عن فضائلها اللامتناهية. ولعل هذه الرؤية أيضا, وهي منطقية وتاريخية, بلغة أخرى, هي التي أملت على الشخصية - المجاز أن توسع أعمالها التجارية في سوريا ولبنان, وأن تستقدم <<عقولا>> من مصر, وأن تنشى <<ولدا نجيبا>> أمريكي الهوى وشرقي الإيمان. تترابط العلاقات جميعا على المستويين المنطقي والتاريخي, من ناحية, وعلى مستوى التأويل ومستوى الرؤية, من ناحية ثانية. يظهر الوجه الأول في التحولات الاجتماعية العربية, التي تحتقب الهجرة واختلال المعايير وتنفيط الثقافة والسياسة والدين, ويستبين الوجه الثاني في المآل الأخير, حيث الشخصية - المجاز متهدمة متداعية مقو ضة, تتساقط وحيدة بلا ضجة ولا كبرياء. المآل المرتقب قائم في الرؤية الفنية, لأن جوهر النهاية ماثل في جوهر البداية, ولأن في البداية والنهاية عقم خادع المظهر, تذروه الرياح بيسر, بعد حين. في مسار الشخصية - المجاز, ولقبها الضيق هو <<المحملجي>>, ما يؤول المسار العربي, وما يخبر عن تاريخ مأمـول مضى وعن آخر ضنين التفاؤل. إذا كان نجيب محفوظ قد وضع في <<أحمد عبدالجواد>> = بطل الثلاثة, عبث الزمن وسطوة الأقدار, فقد وضع عبدالرحمن منيف في <<صبحي المحملجي>> - بطل مدن الملح - عبث العرب بمصائرهم وسطوة التخلف المستسلم, التي تجعل الزمن العربي يعيد إنتاج تخل فه, الذي لا يكف عن التوالد.

    يتبد ى معنى التاريخ في شخصية <<المحملجي>>, مرآة ذاته ومرآة الزمن العربي, في اتجاهات متعددة: إعادة خلق المهنة الإنسانية (الطب) بما يصير ها مدخلا إلى الشر ويحرر ها من طبيعتها الأولى الخيرة ويدرج فيها طبيعة شريرة منحطة... انحطاط الاستمرارية البيولوجية التي تعين <<ابن الطبيب>> عربيا صوريا يـرى في الأرض العربية مصـدرا للربح ويضع خبراته المهنية تحت تصرف أعداء العرب... الاتـجاه الثالث وهو الأكثر أهمية: أسهم <<المحملجي>>, المخادع الكاذب الجاهل, إسهاما كبيرا في توطيد السلطة الجديدة, مدللا على أن صفات السلطة من صفاته وأن فراغها القيمي - الأخلاقي انعكاس لفراغه اللامحدود... يتجلى الاتجاه الرابع في سرعة صعود <<الفراغ السلطوي>> وسرعة أفوله, كما لو كان كيانه <<ملحا>> يتداعى إن لامسته الأمطار ويتبد د إن عبثت به الرياح... تأخذ هذه الاتجاهات معنى محددا حين تفسيرها بمنظور العالم عند منيف: فإذا كان تقدم التاريخ في منظور الروائي هو ارتقاء الأخلاق وتقدم القيم, فإن في ظهور السلطة النفطية ما يدلل على تراجع التاريخ إلى الوراء, لأن ممارساتها نقض للأخلاق واعتداء على القيم.

    في الزمن العربي المخذول زمن تاريخي مختلف يلهو بالمخذول ويتقدم منتصرا. والزمن الآخر هو الزمن الأوربي, الذي يعرف الاكتـشاف والتقـنية, ويعرف أن احتكار العلم التطبيقي مدخل وحيد إلى احتكار الانتصار. وهذه التقنية المتطـورة التي تقلب طبيعة عذراء وتروع إنسانا أعزل هي التي جعلت منيف يضع في <<مدن الملح>> مشـهدا لا ينسى عن الأشجار المتوجعة الصارخة المتضرعة التي تجتثها الآلات وترمي بها جانبا. تتكـشف الآلة امتدادا نوعيا هائلا للجسد الإنساني تهيمن على الإنسان والطبيعة معا, كما لو كانت طبيعـة أخرى سواها العقل المبدع وغزا بها إنسانا لا يزال يكتـفي بأطرافه. غير أن الآلة, التي يراها الإنسان الأعزل مرآة لكل أرواح الأبالسة, تعلن في مهارتهـا اللامسبوقة عن <<تفاوت الأجناس البشرية>>, إذ الفعل والإدارة والقرار لـ<<إنسان الآلة>>, وإذ الخـضوع المندهـش لـ<<الإنسان البدائي>> المتد ثر بثقافة الأدعية. وإذا كانت <<مدن الملح>> قد عبر ت عن <<التفـاوت>> في اللقاء التراجيدي بين الطبيعة العذراء المستسلمة وذلك الحديد القاطع القارض الـهائل الصـوت, فقد أعادت المتواليات الحكائية إنتاج التعبير في ثنائية ثابتة متعددة الوجوه: الفاعل والمتفرج, المرجع والمحاكي, الأعلى والأدنى, الذهني واليدوي, التابع والمتبوع...

    صـاغ عبدالرحمن منيف <<التفاوت>>, من وجـهة نظر الإنسـان المغلوب, معتمدا على ثنائية: الآلة والإنسان الأعزل, دون أن يقع في فتنة المنتصر, التي تجعل المغلوب يرى في الغالب مرجعا له, ويرى إلى مستقبله في مستقبل <<إنسان الآلة>> الذي صادر مستقبله. ولهذا واجه منيف التاريخ التقني بتاريخ القيم, معلنا أن إبداع الآلة لا يعبر بالضرورة عن التقدم الإنساني, ذلك أن التقدم الجـوهري قائم في القيم, التي تأمر بالمساواة والعدل وعدم الاعتداء على الآخرين. فلكل شعب تاريخ خاص به, مثلما أن لكل مجتمع ثقافة أنتجتها بيئته, دون أن يقاس الاختلاف بمعايير الأعلى والأدنى, طالما أن جوهر التقدم الإنساني قيمي أولا. ولهذا لا يكون الإنسان التقني متفوقا على <<ابن الصحراء>>, بل أنه, وبالمعنى التاريخي, متخلف عنه, لأن <<ابن الصحراء>> يصر ف حياته مستقلا ولا يعتدي على أحد.

    يضيء التصور السابق, الذي ينقض الآلة بالقيم, معنى الشخصية - الأحجية: <<متعب الهذال>>, الذي لا ينتصر ولا ينهزم ولا يحضر ولا يغيب, لأنه يحتقب في وجوده دلالتين: فهو تكثيف نوعي للقيم الإنسانية من ناحية, يقول بالتضامن والخصب والتجدد والتمرد والكرامة, وهو إحالة على تاريخي قيمي مصادر, يتطلع إلى استئناف وجوده المستقل. يواجه منيف التصور الاستعماري للتاريخ, الذي يعطف القوة على الآلة والآلة القوية على الغزو, بتصور مغاير, ينقض الآلة بالجوهر الإنساني وينفي القوة العارية بمنظومة القيم السوية. وهو في تصوره هذا مشدود إلى فكرة التميز, التي تقبل بوحدة المجتمعات الإنسانية, دون أن تقبل بتماثل دروبها إلى التقدم. لذا يتحدث <<هاملتون>> عن ضرورة حوار البحر والصحراء, سعيا وراء التوازن الحكيم والأواصر الإنسانية المعتدلة, مختزلا الاستعمار إلى وسائط جغرافية محايدة, كما لو كان من صالح الصحراء أن تعانق البحر ومن فضائل البحر التلط ف مع الصحراء ومعانقتها. على مبعدة عن قول استعماري متغطرس يلتبس بالتواضع الزائف, يأتي <<متعب الهذال>> بحكمة بسيطة ترى كل إنسان في أرضه وترفع السلاح في وجه الذي كسر القاعدة. منظومتان من القيم مختلفتان, ترى الأولى في المساواة مرجعا, وتنص ب الثانية القوة مرجعا لكل المراجع. بيد أن عبدالرحمن لا يقول بالتمايز كي يظهر فقط الفرق الموضوعي بين وجهة نظر إنسان الأطراف وإنسان <<المركزية الأوربية>>, بل يقـول به أيضا ليفتح أمام المغلوبين أفقا ويمد هم بتفاؤل ضروري, فاعتناق الأمل ضروري لهؤلاء الذين لا أمل لهم. إن القول بتمايز الغالب عن المغلوب إشارة أولى إلى وضع إنساني شـاذ, بقدر ما هو إشارة إلى وضع إنساني قادم يهزم الشاذ ويستعيد السوي.

    أخذت <<مدن الملح>>, وهي تتأمل تاريخا كونيا يهزم التقني فيه القيمي, بوجهة نظر <<إنسان الجنوب>>. فقد كتب <<الشـمال>> المنتصر روايته الذاتية وكتب فيها أيضا رواية الطرف الذي هزمه, مبرهنا أن المنتصر يكتب سيرة الغالب والمغلوب كما يشاء. وجاء منيف ليحر ر تاريخ المغلوب من أسر كتابة المنتصر, ساردا حكاية الاستعمار وتقنياته السلطوية, التي تساوي النهب بالقدرة, وتقسم الأجناس البشرية إلى مراتب. تسرد <<مدن الملح>> حكاية المغلوب وتواجه الكتابة المنتصرة بكتابة أخرى, محدثة عن تعددية ثقافية وعن تعدد إنساني في الرؤى والتصورات والاختيارات. بهذا المعنى تنطوي <<مـدن الملح>> على روايتين: رواية أولى تواجه الرواية السلطوية بمنظور آخر, كتبـه راو نزيه نيابة عـن الذين لا يحسنون الكتابة, ورواية ثانية تواجه <<رواية الشمال>> بـ<<منظور جنوبي>> يندد باحتكـار الكتابة وتقنين وجهات النظر.

    بدأ عبدالرحمن منيف من الإنسان العربي المقيد وقرأ محنته في طبيعة السلطة المستبدة. وحين أثاره عنف المستبد وعسفه عاد إلى الوراء قليلا, مستجيرا بالمعرفة التاريخية والرؤى البصيرة, إلى أن وقع على ثنائية <<التخلف والاستبداد>> في موقع تاريخي حديث عنوانه: النفط والاستعمار. صاغ الروائي الراحل سيرة السلطة النفطية الموسعة من وجهة نظر غير سلطوية, فأعطى المغلوبين والمهمشين واللا ممثلين مكانا واسعا, وأفرد موقعا للترقب والانتظار والأمل. ولهذا فإن <<مدن الملح>> تنطوي على تاريخيين: تاريخ سلطوي صريح مليء بالنقاط العمياء, وتاريخ شعبي مضمر ومرغوب, قد يأتي وقد لا يأتي, دون أن يغيب. وعن هذا الوضع, الذي يحتمل التحقق وعدم التحقق, انبثقت شخصيات متكاثرة متوالدة, اختزل وجودها إلى أسمائها, إذ في الاسم ما يحترم المسمى, وإذ في غياب الملامح ما يعرب عن <<مستقبل قيمي>> هو احتمال لا أكثر. تعلن الشخصيات المتناسلة عن جمالية القيم ونسبيتها: فهي جميلة لأنها تحيل على صحراء نقية مسكونة بالبراءة, وهي نسبية الجمال لأنها ظلت رهينة زمن طبيعي معطوب, يقصر, رغم جماليته, عن مواجهة الزمن التقني الذي يساوي بين القيم والانتصار.

    4 - ذاكرة التاريخ أو التاريخ كذاكرة أخرى:

    قال <<بوركهارد>> ذات مرة: <<إن التاريخ ما تحكم حقبة أنه جدير بأن يحتفظ به من حقبة أخرى>>(6). يشير القول إلى التحول الذي لا يكون التاريخ إلا به, فالراكد لا يحتاج التاريخ ولا يحتاج الأخير إليه, ويشير أيضا إلى أحداث متناظرة تتوزع على حقب تاريخية متعددة. تأمل منيف مصير <<العراق>> الذاهب إلى الغرق وارتد من حقبة إلى أخرى, متأملا المأساوي المشترك في نهاية القرن العشرين ومطامع القرن التاسع عشر. وترجم هذا التأمل, الذي لا مسرة فيه, في رواية <<أرض السواد>>, الممتدة على ثلاثة أجزاء في ألف وخمسمائة صفحة تقريبا.

    وضع منيف في روايته هذه <<تاريخ المهزومين>>, الذي إن لم تحرسه الذاكرة سقط في النسيان وانفتح على هزيمة مفتوحة. ساءلت <<أرض السواد>> فترة محددة من تاريخ العراق الحديث, حدودها الربع الأول من القرن التاسع عشر, وما يزيد عليه قليلا. وهي في خيارها, المحدد المكان والزمـان والشخصيات, تتكئ على الوثيقة التاريخية, وتعطيها كتابة أخرى وتأويلا مختلفا. لكنها, وهـي تحول الوثائق المتعددة إلى رواية, تمحو الحدود بين الرواية والرواية التاريخية. فلا تكون الرواية تاريخية إلا حين لا تكون رواية على الإطلاق, ذلك أن الرواية, مهما كان لونها, تبدأ من الإنسان لا من غيره. توجه منيف إلى قارئه واضحا, راجعا به إلى الماضي وإلى مكان لا يخطئه أحد, له أنهاره وأقاليمه ومعتقداته وعاداته... تضيء الرواية موضوعها زمنيا حين تومئ إلى <<نابليون>> وهو يهرب من جزيرته ويعود إلى جزيرة أخرى لن يهرب منها أبدا. وإضافة إلى الإمبراطور الفرنسي المخلوع الذي استقر في منفاه عام 1815, تأتي أصداء محمد علي العالية, التي توقظ في ذاكرة موظف عثماني في بغداد, جورجي الأصل اسمه <<داود>>, أحلاما كثيرة.

    إذا كان عبدالرحمن قد وزع الزمن الكوني اللامتجانس في <<مدن الملح>> على <<متعب الهذال>> الذي استجار بصحراء أجارته, وعلى <<هاملتون>> المشغول باكتشاف ما تبطنه الأرض لا بما يسعى فوقها, فإنه يوزع الزمن في <<أرض السواد>> على <<داود باشا>> الموظف العثماني الذي ولي أمور بغداد بين 1816 - 1832, وعلى القنصل الإنجليزي <<ريتش>>, الذي عمل على <<اكتشاف>> ما يرقد تحت الأرض وما يجري فوقها. والنـزال بين الطرفين, وهو قوام التراجيديا التاريخية, ضروري, ومآل النـزال واضح, فالوسائل التي يأخذ بها القنصل أكثر ملائمة وموافقة وفاعلية من تلك التي يأخذ بها الموظف العثماني. فقد حمل <<داود>> طموحه معزولا ومنعزلا, بعد أن فتنته شخصية نابليون وأعجب بمنجزات محمد علي باشا, أي أنه أخذ بنموذج جديد من خارج بيئته, على خلاف القنصل الذي ينحدر من نسق من القناصل أحسنت هندسته وأتقن تعليمه. لهذا يحمل الموظف العثـماني طموحا مفردا, كلما تقدم أثقلت حركته حاشية بليدة, فإن أحسن التقدم اصطدم بجماعات متنافرة لم تصبح بعد مجتمعا. على خلاف ذلك يأتي الموظف الإنجليزي مرتاحا, فقد أتقن اللغة العربية, كي لا يحتاج إلى وسيط, وانتسب إلى علم جليل هو <<علم الآثار>>, الذي يمك ن <<الحضارات الحديثة>> من اكتشاف <<الحضارات البائدة>>. ينتصر الإنجليزي بالنسق الذي ينتمي إليه, سواء كان قنصلا لامعا أو قليل اللمعان, وينهزم الموظف العثماني بنسقه أيضا, سواء كان موظفا بليدا أو تصادت في مخيلته أطياف نابليون ومحمد علي باشا. والفرق بين الطرفين يتجلى, إشاريا, بالطفلة الجميلة المعوقة, التي حاول والدها <<داود>> علاجها بكل الوسائل دون أن يفلح, حالها كحال والدها, الذي ك تبت عليه الهزيمة منذ البداية, لأنه حاول مشروعا تحديثيا في مجتمع تقليدي, متكئ على أدوات سلطوية صدئة ونخرة.

    يقدم ريتش, ممثل الإمبراطورية البريطانية, ذاته بأشكال متصاعدة متلاحقة, تقنع <<الإنسان العثماني>> بضرورة الخنوع والامتثال, وتخبره أنه مهزوم إن قبل وإنه أشد هزيمة إن رفض وتمرد. لذا يعرض أولاً مهارته الذاتية, فهو <<عالم الآثار>> وهو <<الغربي>> الذي يتكلم العربية والتركية والفارسية. يلي <<العرض اللغوي>> عرض أكثر غرابة, يتضمن العربة القنصلية والطواويس الملونة والفيلة الهائلة الأقرب إلى <<الجبال المتحركة>>. لكن جوهر العرض الحقيقي هو <<قطع الأسطول البريطاني التي شاركت في هزيمة نابليون>>, والتي بإمكانها أن تلحق هزيمة ساحقة بـ<<الموظف العثماني>> الذي يهجـس بسلطة حديثة. إن مأساة الأخيرة مزدوجة: فهو يواجه زمنا أوروبيا متفوقا, وهو يعتمد على جهاز متداع ومجتمع فقير أدمن <<ثقافة الأدعية>>. وهذان العنصران يجعلان من <<داود باشا>> بطلا تراجيديا, يتدثر بعزلته ويذهب إلى مآله المشبع بالإخفاق والخيبة. ولذلك يكتب عبدالرحمن, في الجزء الثالث, صفحات بالغة الجمال عن فيضان عنيف لا تمكن مجابهته, يستنفذ طاقة الشعب القليلة, ويعلن عن قدوم فيضان أشد خطرا, قوامه الأوامر الإنجليزية الظالمة المحصنة بالمدافع الحديثة.

    تحدثت <<أرض السواد>> عن تراجيديا العقل التحديثي في بلد متخلف, وسردت أولا وجوها من ذلك النـزال القديم بين الغرب المنتصر والشرق المهزوم, الذي يفرض على المنتصر أن يؤبد هزيمة المهزوم, كما لو كانت ديمومة انتصار طرف لا تستوي إلا بديمومة هزيمة الطرف الآخر. ليس غريبا, إذن, أن تكون <<أرض السواد>> رواية - ذاكرة ورواية من أجل الذاكرة ورواية تاريخية في آن: رواية تاريخية هي لا بسبب موضوعها الذي يقـع في ماض ذهب, بل لأنها تتأمل سياقات تاريخية متعددة, متوسلة فعلا استعماريا لا يتغير, يرى ديـمومة تفوق <<المركز>> في ديمومة هزيمة <<الأطراف>>. وهي رواية - ذاكرة, لأنها تضع القارئ أمام الـسلطة التي تمكر بـ<<ابن الشعب الطيب>>, وقد جسده منيف في شخصية <<بدري>>, الذي تمثل فنيا في <<رواية في رواية>>, كما قال المؤلف, وأمام حـاشية السلـطة التي تمـكر بالسلطة, وأمام <<القنصل الأجنبي>> الذي يمكر بالجميع. بهذا المعنى, فإن منيـف يره ن الذاكـرة, ويؤكد أن التاريخ ذاكرة أخرى, وأن الرواية تعيد كتابة التاريخ كي تصبح ذاكرة شعبية أخرى. فإذا كان التاريخ ذاكرة أخـرى, يعبث المنتصر بسطورها ويشوه المتسلـط المهزوم سطورها ثانية, فإن الرواية, من حيث هي منظور ينصر المقموعين ويـندد بنقائضهم, هي التي تشتق من التاريخ ذاكرة شعبية صحيحة, ترى إلى مستقبل لا مكر فيه ولا اغتراب. انشغل عبدالرحمن منيف, الذي روعه التداعي العـربي بعد الاحتلال الإسرائيلي لبيروت عام 1982, بتأمل <<الذاكرة الوطنية>>, مقارنا بين الأمس واليوم, وناقدا الموجود بما هو واجب الوجود. وكان في ذلك يكتب عن المهمشين والمحرومـين والمغبونين واللا ممثلين, بلغة إدوارد سعيد, مساويا بين انتصار الاستعمار وانتصار <<الذاكرة السلطوية>>.

    5- التاريخ والتقنية الحكائية:

    أنهى عبدالرحمن روايته <<النـهايات>> بحكايات عن طبائع الحيوانات, تحيل على موروث عربي, احتقب كتبا كثيرة أكثرها شهرة كتاب الجاحظ: <<الحيوان>>, مثلما أنه أدرج في <<مدن الملح>> حكايات عن السلطة والحاكم, مستمدة بدورها من كتب عربية قديمة. وواقع الأمر أن منيف, الذي انتقل من <<السياسة>> إلى سياسة الأدب, كتب حرا ما شاء أن يكتب, مكتفيا بثقافة عربية واسعة, دون أن يهجس بمحاكاة <<الرواية الأخرى>>, أو أن يرى في الإبداع الأوروبي نموذجا له. ويعطي عمله الكبـير <<مدن الملح>>, كـما روايته <<أرض السواد>>, مجالا واسعا لتأمل تقنيته الفنية, التي يستظهر فيها موروثا ثقافيا عربيا, والتي تعمل أيضا على إدراج هذا الموروث في البنية الروائية, دون تعمل أو تكلف.

    اتخذ منيف من الحكاية خلية فنية أولى وأقام روايته على متواليات حكائية, تتوزع على المكان والمواضيع والبشر, إذ لكل موضـوع حكايته, وإذ مجموع المواضيع جملة من الحكايات المتلاحقة. تلعب الحكاية, وهي موروث عربي بامتياز, ثلاث وظائف: فهي موقع توليدي مفتوح كل حكاية فيه تفضي إلى حكاية لاحقة, كما لو كان في الحكاية ما يعبر عن النماء والتطور والتشجر, وهي فعل يـندفع زمنيا إلى المستقبل ويرى مآله وتحققه في المستقبل لا في الماضي, وهي حوار مع جمهور الحكاية الذي يأتلف مع العقل الشفهي أكثر مما ي قبل على العقل الكتابي. وقد يقال إن في كتابة منيف تقنية شهيرة هي: <<حكاية في حكاية>>, التي يرى فيها البعض خصوصية عربية. غير أن هذا الكلام لا يحمل كثيرا من المعنى, فحكاية منيف تشتق من حكاية الجمهور, لأن الروائي لم يفصل أبدا بين <<قوة الحكاية>> و<<قوة الجمهور>>, ولم يتخل أبدا عن شعاره المستمر عن <<الهنا والآن>>. ولهذا لم يذهب منيف إلى التراث, بالمعني الشكلاني, بل حمل التراث إلى الراهن وأدرجه في بنية كتابية حداثية هي: الرواية.

    ومع أن ما كتبه منيف يحتمل اجتهادات كثيرة, تتحدث عن التصور السياسي للأدب والتصور الأدبي للسياسة والتحريض والتعويض, فإن الجوهري في هذا كله هو: الذاكرة التي تواجه الموت, حيث الكتابة ذاكرة وفعـل مـادي يواجه الموت ويغالب النسيان. ما العلاقة بين الكتابة والذاكرة, وما دور الذاكرة المكـتوبة في التاريـخ? يستيقظ مرة أخرى سؤال عبدالرحمن القديم عن الفرد المغترب الذي أرهقته السلطة, والذي عليه أن يبتكر أكثر من ذاكرة ليصبح حرا, وأن يقارن بين حقبة تاريخية وأخرى, قبل أن يطرح سؤالا ...

    واجه عبدالرحمن الذاكرة العربية الراهنة بتاريخ قريب, محرضا القارئ على قراءة حاضره في ماضيه, وعلى اقتفاء الآثار الواصلة بين زمنيين مستمرين إلى تخوم التجانس. غير أنه, وفي مستوى آخر, واجه الحكاية العربية بالرواية, مبرهنا أن الحكاية القديمة <<تـترهن>> حين ت درج في منظور للعالم جديد. تفسر المعرفة الحديثة ما سبقها ويزهر القديم إن عولج بوسائل حديثة, على خلاف الحديث الذي يمتثل إلى إرادة الماضي ويموت.

    إشـارات:

    1- النهايات: المؤسسة العربية للدراسات والنشر, الطبعة العاشرة, 1999.

    2- فيصل دراج: الرواية وتأويل التاريخ, المركز الثقافي العربي, بيروت, 2004. (انظر الفصل الخاص بعبدالرحمن منيف ص: 211ـ 287).

    3- حين تركنا الجسر: المركز الثقافي العـربي - المؤسـسة العربـية, الطبعـة السابعة, 1999.

    4- مدن الملح: المؤسسة العربية, 1985.

    5- كارل بي. شورسكه: فيينا أواخر القرن التاسع عشر, دمشق 1999, ص:12.

    6- عبدالرحمن منيف: أرض السواد, المركز الثقافي العربي, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بـيروت, 1999
                  

05-23-2005, 06:39 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    المكان-السرد في مدن الملح



    مريم خلفان- الامارات


    --------------------------------------------------------------------------------


    عبر التشرف المطروح في النص ، لما يجب أن تستوعبه الرواية ، وكيف تكون صوتا لمجاميع من البشر ينبنى السرد في "مدن الملح " مفسحا المجال لجميع الأطراف ان تقول شهادتها.

    ويتدفق السرد ، معريا الأحداث ، لا صانعا لها ، لآن الرواية تعتمد الحدث التاريخي ، ولا تصطنع أحداثا خاصة سوى تلك التي يمكن أن تنجم عن الحدث الأساسي وتتجاوب معه، وقد سبق رصد الحدث الأساسي من خلال مقارنة الزمن الروائي بالزمن التاريخي.

    فكل الأحداث هي أحداث تاريخية تتم تعريتها في النص وكشف مختلف جوانبها بالحوار، بالوثيقة بالقصة ، تمهيدا لاعادة الرؤية .

    نتوقف عند العنوان ، والعناوين الفرعية ، والبدايات والنهايات ، لنستعين بها في الدخول إلى فضاء السرد.

    العنوان الرئيسي "مدن الملح " يستدعى في أذهاننا الهشاشة وسرعة التلاشي أمام أي اختلال طفيف في مقومات وجود هذه المدن .

    "فالعنوان يعلو انص ويمنحه النور اللازم لتتبعه " . وتظهر في ثنايا النص إشارات كثيرة الى العنوان الرئيسي . يقول مالك الفريج المستشار المال لخزعل ، عن مدينة فنر المزمع انشاؤها في الصحراء والتي تعكس صورة بقية المدن . "وتقول مدن الملح ترتفع تكبر إذا جاءها الماء فش ولا كأنها قامت " اما العناوين الفرعية فتفنى العنوان الرئيسي . فعنوان الجزء الأول “التيه" تبدأ معه الهشاشه ويبدأ معه الضياع “واتيه المفازة يتاه فيها والجمع اتياه ".

    ونجتاز عتبة العنوان “التيه " لنفاجأ بالألفة ألفة وادى العيون ، لنعرف ونخبر طعم الألفة ، وليتسنى لنا كقراء أن نعرفها ، ثم نعرف بعد ذلك حرقة التيه واغترابه ذلك التيه الذي سيبتلع المكان كله، وليس وادى العيون فقط .

    في الجزء الثاني "الأخدود" تدخل موران الضيقة، صيغة المبالغة من "مور" بعد الاخدود نجتاز عتبة أخرى “تقاسيم الليل والنهار" وهي عزف من ذاكرة الراوي على كليهما ، عود الى البدايات الأولى ، التداخل الأول مع العالم الخارجي، فشهوة المكان سيطرت على خريبط" سنة بعد أخرى يزداد خريبط قوة ونفوذا ويزداد ع” أولاده وعدد زوجاته ، كما أن البلدان الأخرى المحيطة به تثير شهيته ، وتحرضه على أن يضمها".

    ومع التقاء هذا بالمطامع الغريبة ، والسيطرة وظهور النفط في المنطقة ، تنتج عن ذلك كله هشاشه المدن القائمة .

    ثم “المنبت “ وهو المقطوع من جذوره ، الزائد غير المرغوب فيه تنويع على العدائية وهي عدائية المنفى ، الذي يتسع كل يوم ويزداد.

    بعد ذلك نستقر في آخر الرحلة في “بادية الظلمات“ ورغم كل هذا التحول ظلت ملامح الصحراء ثابتة ، لكنها ليست صحراء فسيحة ومشرقة كما كان حالها ، بل مظلمة بالخراب الذي حل بها ومن خلال الشهادات والأصوات التي يضج بها النص ينفتح الزمن على المستقبل. كتب روبرت يونغ في مذكراته:

    “ماذا يفعلون بناطحات السحاب الزجاجية اذا أصبحوا عاجزين عن تأمين التبريد لها ؟ هل يريدون أفرانا اضافية زيادة على الجحيم الذي يعيشون فيه ؟ هل يريدون مزيدا من مصائد الغبار اذا راكموا ذلك الفرش والاثاث المصمم للمناطق الباردة ؟ وماذا يفعلون بهذا الكم الهائل من الاجهزة اذا عجزوا عن اصلاحها؟”.

    وثمة إشارات أخرى ، الى جانب العنوان تعني فضاء السرد امامنا الا وهى الأقوال التي تعقب العنوان ، وتشير إلى انفتاح النص على نصوص أخرى، ويتم هذا في "تقاسيم الليل والنهار" وفي المنبت ".

    في "تقاسيم الليل والنهار" هناك صفحة كاملة تمتلىء بالأقوال :

    -المثل البدوى : ذاك الغيم جاب هذا المطر.

    -قول أحد أبطال مسرحية تشيخون "الأخوات الثلاثة ".

    كل الأقوال السابقة تشير الى أن ما حدث كان له أسبابه وهاكم الأسباب ، لكن يجب التذكر انه وحتى في هذا الوضع القائم تكمن احتمالات المستقبل التي تريدونها . والسود يقوم باضاءة هذه الاحتمالات ويدفع القارىء ال العمل من أجل حياة قادمة مغايرة لما هو حاصل .

    أما الحديث الشريف في المنبت ، فمنه يأخذ الجزء عنوانه ، وهو اشارة الى أن كل مكان منبت ومقطوع عن أصله ومنشئه تماما كما حدث لخزعل .

    * البداية والنهاية .

    يبدأ السرد في "مدن الملح " من تقديم وادى العيون ، من تقديم المكان ، أو بالأحرى من تهيئته للدور الذي سيلعبه في النص ، بألفته وقسوته ، وحيث يفرد وادى العيون على أول سطر في الرواية :

    "إنه وادى العيون ..."

    وينتهى بالجزء الخامس ، بمقتل فنر وتعيين مانع حاكما جديدا ، وليس ثمة غير الوعود التي تقدم وتظل مجرد وعود :

    -البدء باعداد الدستور.

    -تنفيذ عدد كبير من المشاريع .

    -وعد بالعفو عن المساجين .

    ويختتم بالأقوال ، بحوار هدله الفرحان جاره بيت عمير خال فنر، مع زوجها. وذلك بعد أن خمد صوت رأس الماعز في بيت عمير وبعد أن أخذ كل من في البيت الى السجن .

    "شنهوا اللى بلا الناس ، مايشوفون ، ما يسمعون ؟ ما يمشون بين القبور؟ رد حمد الدولعي :

    الناس شايفين كل شيء يا هدلة ، بس يلزم غيرهم يشرف ويسمع ويمشى بين القبور حتى يتعلم.

    وغرق الاثنان في الصمت والتأمل .

    وبدأت موران تتصنت وتتلفت وتترقب .. من جديد.

    إن السرد كله عود من تلك النهاية ، مقتل فنر ، إن نهاية السرد تؤثر في كل شيء موجود، إنها والبداية عمودا الحبكة الروائية .

    أما البدايات الداخلية للتقسيمات غير المحددة أو المرقمة ، فانها تتابع تقدم انهيار المكان الأول بزمانه الطبيعي ، وترصد تقدم الزمن التاريخي وتحول الشخصيات في ظل الزمن المتحول .

    * بنية النص :

    تقوم "مدن الملح " على التحام الرواية بالتاريخ ومن خلال تغلفها به . ان التاريخ يأتي الينا بملابس الرواية ، حاملا معه ملامحها متقنعا بها ، ولذلك فان السرد الروائي هو في الاصل سرد تاريخي يكتب التاريخ من خلال الرواية ، يكتب ما لم تحفل به كتب التاريخ الممزوقة والمصقوله ، تاريخ الناس البسطاء في معاناتهم اليومية . إن الرواية تصبح الوجه الآخر للتاريخ الرسمي "تاريخ من لا تاريخ له " تاريخ امة وتاريخ قطاع كبير من البشر.

    يتوزع السود في الأجزاء الخمسة للرواية ، حيث ينقسم كل جزء الى فصول صغيرة غير مرقمة ، متقاربة في الحجم تصل الى 258 فصلا ، إن هذا التقسيم اقرب الى تلال الصحراء المتشابهة المتقاربة . يبدأ السرد من التيه ، من الوسط ، ويتقدم الى الامام في الاخدود ثم يعود الى الوراء في "تقاسيم الليل والنهار" والقسم الاول من بادية المظلمات ، ثم يعود الى الزمن القريب بادية المظلمات القسم الثاني والذي ينتهى به النص .

    يستمد هذا البناء شكله من المكان حيث ان هذا البناء يشبه خيمه البدوى ويتردد هذا القول كثيرا في النص . يقول متعب الهذال وهو يدعو للوادى "يارب يا صحب الخيمة الزرقاء" وشعر ان في موران يردد نفس الدعاء" يأرب يا صاحب الخيمة الرزقاء".

    وخيمة البدوي تشبه الصحراء، واسعة ومفتوحة وغير محددة بدقة ، في نفس الوقت تسمح للاشياه بالعبور من جميع الاتجاهات . إن ذاكرة الراوي تشبه الريح التي تتخلل الخيمة . الريح ذاكرة الراوي التي تهب فتحرك الأشياء والحوادث وذاكرة الراوي لا تترتب زمنيا . وهو اختلاط مقصود تفرضه الرؤية التي ترصد الالفة والعدائية فالسرد يبدأ من الحاضر ليغوص في الماضي . يبدأ من الالفة الصافية من وادى العيون ويتابع الانتقال من الالفة الى العدائية .

    ولنلمس البناء الروائي عن كثب فاننا نعيد تفكيك الحكاية -لنقوم بالقراءة العالمة .

    إن الراوي يعيد صياغة الحكاية وهو يبدأ من لحظة قائمة في الحاضر، لينطلق الى الماضي، انها قراءة حذرة محفوفة بأشواك الكذب والتزوير والقصص المختلقة . وهو هنا يدفعنا معه للبحث وسط ركام الأكاذيب .

    "يمكن أن نفكر بتحرك سام ، دقيق ومحدد ، فيصبح القارىء مسؤولا عما يحدث في نواة العمل الادبي الذي هو مرآة وضعنا البشري، وذلك بالتأكيد على غير علم منه كما هو الحال في الواقع ".

    فاذا ما استجبنا للقراءة العالمة لنفكك وحدات السرد، تنتهي الرواية بمقتل فنر على يد ابن اخيه ضاري بن عمير، ولم يحدد الراوي سبب القتل ، فضاري زوج لابنة الحاكم المخلوع خزعل، كذلك هو عاد قريبا من أمريكا، ويترك الراوي التساؤلات بلا اجوبة .

    وقد تم خلع خزعل نتيجة المنافسة الشديدة بينه وبين فنر، هذه المنافسة تعود لأيام خريبط الذي أراد أن تكون له قبيلة من الأبناء والأحفاد ، لذلك كثرت زوجاته ، وكثر اولاده ، ، وقد أراد أن تكون له هذه القبيلة ، لأنه سبق وأن طرد أبوه مرخان من موران ولجأ الى الفراهيد، وقد قام خريبط باستردادها والاستيلاء على حصنها المنيع ، وقد تسنى له ذلك بمساعدة الانجليز، لأنه لجأ اليهم في وقت ظهور مطامعهم للسيطرة على المنطقة ، في حين لجأ منافسه مزهر بن سحيم إلى تركيا ، الدولة الآفلة في ذلك الوقت ، لذلك كان خريبط هو الرابح .

    والبنية الروائية تتجه كلها نحو الكشف عن تلك التحولات .

    والراوي في النص راو تاريخي يبدو عليما بكل شيء لأنه يعيد قصة خبرها وعرفها من قبل، وعاش بعضا من أحداثها وعالم يعشه بنفسه سمع به على الاقل ، وبعد ذلك يكتشف ان الحكاية كلها زورت وكتبت بشكل آخر فيكتشف اهمية خاصة لاعادة القراءة لذلك يحاول التذكر ، ومن هنا تقوم بنية السرد على ذاكرته التي تحاول ان تستجمع الملامح الهاربة للأمكنة والبشر، في زمن مضى وكاد ينسى إن هذا النسيان هو مايعمل الراوي ضده فهو يحاول انتزاع صور الاشياء ملامحها ويحاول ان يعيد اليها طزاجتها الأولى ، لعل من يقرأ يفهم ما حدث .. يفهم كيف زور التاريخ وشوه الواقع .

    "تذوي التفاصيل " تتراجع ثم تغيب وحتى تلك التي لا تزال عالقة بالذاكرة ولدتها الرغبة او ولدها الخيال الجامح ، لأن أية محاولة لاستعادة صور الأشياء والأماكن والملامح تصطدم بالنسيان الذي يتمدد كالهواء الساخن ، يجعل كل ما جرى أقرب الى الحلم ".

    والراوي هنا يكتب على طريقة كتاب التاريخ الاسلامي ، وهي إحدى المميزات المرتبطة بالرؤية حيث أن موقع الراوي وهذه المسافة التي تفصله عن الحدث تناسب انبناء النص القائم على تعدد المحكي والسماح لشتى الانواع الحوارية بالدخول الى النص ، فيظهر النص وكأنه سيرة ذاتية للمكان .

    "وبعبارة أخرى فان المنطقة التي تحصل فيها الوقائع هي التي تروى ما جرى بلغة منتظمة متزنة هادئة تذكر بالاساليب المشهورة فى روائع الروايات العالمية وتقترب ، ايما اقتراب ، من أسلوب رواة التاريخ الاسلامي، يذكرون الكوارث تعقب الكوارث فلا تثير لهم جارحة ويبقى الكلام على حظه الوافر من الاتزان الموضوعي.

    إلا أن هذه الحيادية خادعة ، ذلك أنه من خلال الوصف والذي يبدو هو الاخر في بعض الاحيان حياديا وتقريرا من خلال الوصف المبطن بالسخرية تظهر رؤى الراوي غير الحيادية، والمنحازة أبدا للألفة ، يظهر ذلك وبشكل خاص في وصف الشخصيات .

    وقد تمت الاشارة الى ذلك في فصل "المكان / الشخصية " كما أنه يظهر في بداية السرد ، ذلك انه لم ينطلق من بداية الحدث وانما بدأ من انهيار الألفة في وادى العيون .

    وترتبط هذه الطريقة في السرد، طريقة الراوي العليم بكل شىء أو الرؤية من خلف كما يسميها النقاد، بضمير الغائب . فالراوي العليم بكل شي ء هو الذي يروى الحكاية "أن أبسط الصيغ الاساسية للراوية هي صيغة الغائب ".

    والراوي من هذا الموقع ، موقع العليم بكل شي ء كثيرا ما يغير مواقعه ليستطيع أن يلم بهذه المساحة الشاسعة من الزمان ومع هذا العدد الهائل من الشخصيات .

    فأحيانا يقرر الحالة التي ستقع فيما بعد كأن يصف رحلة صويلح الهديب وفواز الهذال الى عجرة حيث يلتقيان بابن الراشد وحيث تتغير الاحداث .

    "ان فراقا من نوع ما كان يرفرف فوق الرؤوس ، كان يصرخ في الظلمة في ساعات الليل الأخيرة او في ساعات الفجر، إن هذا المجهول الذي بدآ يفرقان فيه خطوة بعد أخرى ما ابتعدا عن الحدرة، لن يستطيعا النجاة منه ولن يفارقاه حتى النهاية ".

    كذلك الاشارة التي جاءت في "الأخدود" الى مصير سلمى ابنة المحملجى ، والتي تكشف في آخر "الاخدود" وفي المنبت ".

    لكنه أحيانا يراقب من بعيد، كأن يصف مرور ابن الراشد بهاجم وخاله دون أن يشير إلى أن الذي مر هو ابن الراشد، وانما يشير الى ذلك من خلال الابتسامة الذاهلة على وجه هاجم .

    أحيانا يكون الراوي في موقع المراقب فقط ، العين المشهدية المفتوحة على المدى الرحب ، تمر عبرها مختلف التغيرات ، والصور بحيادية مطلقة ، فها هو يصف جهاز الراديو الذي وصل أول مرة الى حران كهدية من حسن رضائي الى الأمير خالد، امير حران .

    "كان اثنان منهما يتعاونان على حمل كيس متوسط الحجم ، ويبدو أن عافي الكيس ثقيل وثمين لأن طريقتهما في حمله ، ثم عندما انزلاه على الارض ، أوحت بذلك ، أما الثالث فكان يحمل قطعة مكعبة من حجر أسود يشبه الفحم ".

    لم يقل بطارية ولم يسم شيئا ، وانما وصفه بعين ترى الاشياء لأول مرة دون أن تعرف عنها أكثر مما يبدو في مظهرها الخارجي.

    أما عثمان الاصقي ، الذي حضر السهرة عند الأمير، ورأى الراديو فقد حاول ان يصفه بعد الحاح الناس في المقهى عليه :

    "أما حين حاول، وقد حصل هذا بعد الحاح وانتظار وبعد تردد طويل ، فقد قال إن لدى الامير شيئا عجيبا: صندوق لكن ليس كأي صندوق . مثل سحارة الشاي.

    ورغم هذه الهيمنة الواضحة على كل شىء ، فاننا نكتشف كثيرا من الأصوات المتعددة والتي يفسح لها الراوي المجال لتدخل في سرده ولتكون شهادة على عصرها ، أنه يستعين بعدد كبير من الرواه ومدوني الحوادث ، أحيانا باسمائهم ، وأحيانا أخرى، حسب جنسهم أو وظائفهم : قالت النسوة قال المسنون ، قال التجار في السوق .

    "إن سيطرة أحادية الراوي العالم بكل شي ء أصبحت غير محتملة في العصر الحديث مع التطور الثقافي العريض للعقل البشري، بينما أصبحت النسبية المتشعبة في النص القصصي اكثر ملاءمة ".

    * الحوار :

    تكتسب كلمة البطل ، والمتمثلة في الحوار ، اهمية استثنائية في "مدن الملح " ذلك ان هذه الكلمة شهادة على عصرها، شهادة على الانسان "ووظيفة البطل الاساسية هنا ان يتكلم وان يقول : "فما يتصف به الجنس الروائي ويتميز به ليس صورة الانسان بحد ذاته ، بل هي صورة اللغة ولكن على اللغة، كيما تصبح صورة فنية ، أن تصبح كلاما على شفاه متكلمة وتقترن بصورة الانسان المتكلم ".

    والراوي كلى الحضور ، يعلق على الحوار بين المتحاورين وينقله بينهم ، لكن رغم ذلك يبقى للشخصية استقلالها الكامل عنه وعن لفته تنطلق من رؤى ومواقف يفرضها دورها وموقفها من التغير.

    "كان متعب الهذال في حالة من الغضب والانفعال الى درجة قد يفعل شيئا غير عادى ، أحس هديب بذلك اكثر من الآخرين ، قال في محاولة لان يغير الجو :

    -يا أبو ثويني ، أردنا أو لا العفاريت ستصل ديرتنا ، والقضية ما منها حيلة .

    رد متعب بعصبية :

    "العفاريت وصلت ياهديب .. وصلت .. وصلت ".

    وتقوم الرواية على المشاهد الكبرى سواء كان ذلك في تقديم الانسان في مكانه أو في تقديم الأحداث ، لأن الحدث يتم في الفضاء المفتوح أو فضاء «العتبة» ويتم ذلك من خلال الحوار المشهدي.

    وهنا يسمح الراوي للغة العلوم ، اللغة الشفهية بالدخول الى الرواية ويستخدم لهجات ورطانات مختلفة ، ويتم في نفس الوقت الكشف عن مواقف الشخصيات من التغير، من الحدث وتعليقها عليه، وعلاقتها به ، خصوصا أن الحدث ، هو حدث عام يهم كل الشخصيات الروائية والذي يخلق الفرق بين شخصية واخري هو موقفها منه .

    وتختتم أجزاء الرواية الخمسة بالحوار المشهدي الذي يوضح موقف الشخصيات .

    ففي التيه .. ينتهى الجزء بحوار ابن نفاع وخزنة الحسن ، رغم أن كلمة ابن نفاع تنهى السرد تفاءلوا بالخير ... لكن لا أحد يعلم الغيب ".

    إلا أن السياق يشى بأنهما لا يتوقعان اي خير.

    في الأخدود ينتهى الجزء بزيارة شمران لحماد المطوع مع شداد بخصوص ابنيه نجم وبدر الا ان وزير الداخلية يرفض الافراج عن نجم لأن نجم "سالفة ثانية " ويرفض شمران الافراج عن نمر ويفضل بقاءه مع اخيه في السجن ويقول "كل واحد له حق يصله ، وخلى نمر يونس اخوه يا حماد .. ونشوف ".

    وتستمر موران تسمع وتنتظر وتتوقع من ذلك الكثير.

    كذلك تنتهي تقاسيم الليل والنهار بأقوال شمران ، وفي المنبت بجوار شايع السحيمى مع زيد الهريدي عن الخيل .

    وقد سبقت الاشارة الى نهاية بادية الظلمات في حوار بين هالة الفرحان وزوجها حمد الدولعى.

    وتأتى اللهجات ، بما فيها اللهجة المحلية ، أو كلام العوام كما يسميه منيف ، لتكمل السرد وتنفتح عليه ، ان الابطال هنا يدخلون مميزين بلغاتهم والتي تحمل رائحة المكان الذي جاءت منه الشخصية .

    ان هذا التعدد في اللجهات ، وهذا الامتزاج ، وبهذه الطريقة الحوارية يعبر عن تعدد الأصوات الكامنه خلف هيمنة الراوي العليم بكل شي ء، ويعبر كذلك عما حل بالمكان من تغير وكيف عبرت اليه أمكنة أخرى ، بواسطة الشخصيات الأخرى، من غير المكان وسواء كانت هذه الشخصية مع التغير ام ضده . إن توزيع الأصوات من خلال كلمات الأبطال ، وتنوع هذه الكلمات بتنوع القائلين ومواقعهم من التغيير ، هو بالضبط ما يهم منيف لكي تكون الرواية شاهدة على عصرها - ص 167- مبلله بالتفاعل ألحى بين الانسان والاحداث التي تغير حياته، وهذه الكلمة مرتبطة اساسا بالحدث الخارجي.

    وغالبا ما يميز كلمات الشخصيات حسب العلاقة بالمكان وحسب تطور الزمن وتغير الاحداث ، فالشخصيات المعارضة يتم حديثها في الخارج في فضاء العتبة اما الشخصيات القابلة فان حديثها يتم فى الداخل ، القصر ، الصالة ، جهاز الأمن والسلامة .

    كذلك نلاحظ أن الشخصيات المعارضة يتغير حديثها مابين الرواية ونهايتها ففي البداية كان حديث الرفض مع الحيرة ، لكنه في آخر النص يصبح حديث الرفض مع الفهم ومع ذلك فان هذه الشخصيات لا تملك سوى كلماتها ، لا تملك سوى شهادتها "البطل فيه هو الانسان العاجز عن الفعل ، المحكوم عليه بالكلمة المجردة : بالحلم بالوعظ الباطل ، بالاستاذية بالتأمل العقيم الخ ".

    وعلاقة السرد بالأجناس المدخلة ، إلى جانب كونها موقفا خاصا من الروائي في معالجة موضوعة تعكس طريقة خاصة في القص ، وفي رؤية الروائي للتراث والاستفادة منه فإنها هنا ومن جانب آخر تعمل كمعادل لعلاقة المكان بأصله وجذوره ، فإذا كان الناس قد اقتطعوا من جذورهم وقذف بهم في تيه مظلم وأصبح مكانهم مشوها ، فإن السرد يعيد الصلة بجذوره سواء كانت جذورا شعبية أو غير ذلك ، وذلك عن طريق استلهام التراث وخلق التواصل معه وبعث القديم من خلال الجديد، ويتم ذلك تبعا لرؤية الروائي وتوظيف التراث في الأعمال العربية الروائية رهين الى حد كبير بوعى الكاتب ، بموقعه التاريخي، وخلع قناع القدسية عنه والتعامل معه كأداة وليس كهدف .

    وتنقسم الاجناس المدخلة فى الرواية الى ثلاثة اقسام :

    - التراث الشعبي ويشمل : المعتقدات والأساطير ، والأمثال ، والشعر العامي.

    - التراث العربي ويشمل : ألف ليلة وليلة ، القصص ، الأهزوجة الشعبية في التراث ، الأقوال المأثورة ، الآيات القرآنية ، الشعر بالاضافة إلى المقال الصحفي ، والكلمة والرسالة ، والخطبة.

    وسيتم البدأ بالتراث الشعبي ، لأنه الأقرب إلى الحوار والحوارية في السرد ويمثل التراث الشعبي روح المكان والانسان وتفاعلهما ألحى ، ويأتي كرد على ذلك التحول الهائل الذي يقض مضجع الأشياء ، ويرمى بالانسان في متاهات لا حدود لها ، ولا مخرج منها ، ويأتي هذا التراث وبمختلف أشكاله كرد فعل ، كمقاومة لما يحدث من قطع لجذور الانسان فمن خلال ذلك العدد الهائل من الأمثال والأقوال والمعتقدات والأساطير والأشعار تنشأ علاقة قوية بالمكان بالشخصية المحلية ، والتي بدأت تفقد ملامحها تتشوه ولذلك نجد ان التراث الشعبي يمثل الرصيد الثقافى الاساسي الذي تعتمد عليه الشخصيات الرافضة للتغير والذي باستخدامه طوال الوقت تجد فيه مددا وقوة ويقينا في مواجهة هذه التغيرات التي تخلع الانسان من جذوره ونشوة ملامحه . ومن هنا ، فان التراث الشعبي الذي يرد بكثرة في الرواية وخاصة في اجزاء معينة ، كما يحدث اثناء عمل العمال مع الامريكان في الصحراء وكورواه في مظاهرات العمال في حران وفي موقف موران من اتفاقية السلاح الذي احتفل به الحكيم في فندق الرابية، وفي مواقف مختلفة من الرواية ويلعب التراث دور الحفاظ على الهوية والمكان .

    * المعتقدات والأساطير الشعبية :

    توظف الأسطورة الشعبية والمعتقدات الخاصة ، والطقوس والعادات لاعطاء خصوصية لملامح المكان وعلاقته بالانسان به وما يميز هذه العلاقة خصوصا في حالة الأماكن النائية المعزولة كحال الناس في الصحراء .. وحيث تظهر علاقة خاصة بالطبيعة وحيث يحفل النص الكثير من العادات والطقوس والتقاليد التي تميز حياة الناس ، كايلام الولائم في المناسبات السعيدة ، واختيار الليل كوقت لها ، الذبح واراقة الدهاء على عتبة البيوت ، خصوصا الجديدة، لطرد الأرواح الشريرة والعين الحاسدة والإيمان بالجن والعفاريت ، وتفسير الكثير من الاحداث من خلالهم ، كاصابة متعب ووضحة بالحمى تفسير تصرفات الامريكان واعمالهم وآلاتهم التي يصعب على الناس فهمها فيتم ارجاعها الى الجن والسحرة ، تماما كفعل الانسان الأول في تفسيره للعالم من خلال الاسطورة .

    فقد ظل شمران مرابطا ثلاثة أيام وثلاث ليال في سوق الحلال ، وكان خلال هذه المدة صامتا، حزينا وغاضبا، ولا يفعل شيئا سوى إيقاد نار كبيرة تعبيرا عن الحزن والغضب لغياب الكحلة. أولا لأنه الذي باعها للحاكم ، وثانيا لأن فرسا مثل الكحلة لا يمكن ان تذهب هدرا هكذا".

    * المثل:

    يأتي المثل في ثنايا الحوار ، تلخيصا لمواقف مختلفة ، وتمتلىء حوارات الشخصيات بكثير من الامثال .

    إن الأمثال من التراكيب المسكوكة التي تدخل في صياغة النص الروائي والأمثال مقولات تصلح للتعبير عن عدد لا يحصى من المقامات المتكررة عبر العصور".

    وتنعكس من خلال استخدام المثل علاقة الناس بالمكان عبر التفاعل تطلق تلك الأقوال التي تصبح مثلا يلخص حياتهم ، ومن الامثال التي ترد في النص:

    - اذا تصادقت الرعيان ضاعت الغنم .

    - ذاك الغيم خلف هذا المطر.

    - ابو الحصين في بلاده سبع .

    * الشعر العامى :

    أما الشعر باللهجة الدارجة فهو لصيق بحياة الناس ، يحمل إيقاع المكان بشكل مباشر ، فيتناقله الناس بيسر وسهولة ، إنه تراثهم اللصيق بحياتهم ، وكثيرا ما ترد الأبيات في أوقات السمر أو حينما يحدث موقف يستدعى تلك الابيات .

    فلو قوله ياليت تطفى عن الحشى

    سعير الضماير قلت ليته تهيالى

    فكل ماقضى وما فات عنا وما انقضى

    غدا طرق ريح واسمر الليل جلجال

    * الاهزوجة :

    وقريبا من الشعر العامي تأتى الأهزوجة ، وهى ما يخترع في التو والحال ، وباللغة الدارجة او لغة العوام كما يسميهم الكاتب ، وهى في الغالب تعبير واضح عن الموقف من الحدث العام.

    وأول أهزوجة في الرواية كانت لمجلى السرحان ، عشية الاحتفال بالانتهاء من بناء خط أنابيب حران /وادى العيون ، وتعكس الأهزوجة موقف العمال من الأمر مكان والذي سيتضح بشكل اكبر في مظاهرات العمال في حران . وفي اثناء هذه المظاهرات ضد قتل مفضى الجد عان وضد تسريح عدد منهم دون أية أسباب أو ضمانات وتعكس هذه الأهازيج وجهة نظر العمال ورؤيتهم الفكرية المتبلورة ومطالبهم الواضحة من الحكومة ومن الشركة .

    * التراث العربي :

    يأتي التراث العربي فى النص كمعادل للتغير الذي حدث للمكان ، والانسان قطع جذورهما ، إنه محاولة لوصل ما انقطع بفعل التغير . إن أول نص تراثي، في "التيه " يأتي الينا عبر المذياع الذي يصل لأول مرة إلى حران ، فبرغم أن المذياع الة صدمت الناس وحيرتهم لوقت طويل ، الا أنه معها وعبرها يتسلل التراث الينا والى الشخصيات في الرواية في نفس الوقت الذي تحدث فيه الخلخلة والقطع يمد السرد جذوره في تراثه ، يعود اليها ، والناس فى حران العرب ترقب حران الامريكان وما تمثله من تحد مشوب بالحيرة في بادية الظلمات حيث بلغ التغير حدا كبيرا وحيث انقطع كل شي ء عن اصله ، بما في ذلك الكثير من الشخصيات ، فهنا تكثر النصوص التراثية والاشعار وكأنها رد على ذلك الانقطاع والانبهار بالغرب .

    ومن أهم النصوص الحاضرة في "مدن الملح " وان كان ذلك بشكل غير مباشر "الف ليلة وليلة " من خلال البناء والقصة داخل القصة ، ومن خلال انتقال الحدث وتداخل الشخصيات . ومن خلال تردد اسم "شهريار" في النص . وتتمثل "ألف ليلة وليلة " على مستوى البناء الاعتماد على الليالي حيث هي زمن مهم في النص ، زمن للتوقف والاستيعاب للحدث الخارجي المباغت والليالي كفضاء تبدو في اول النص مقاربة لفضاء "الف ليلة وليلة " حيث هي فضاء مؤانسة وسهر، وسمر بالحديث وحيث هي فضاء لنقل التراث الانساني عبر العصور ، عن طريق الحكاية، والمثل والاغنية .

    من هذه الفضاءات الليلية :

    - فضاء الليل والسمر في وادى العيون .

    - فضاء الليل بالنسبة لنفر في "عين فضة ".

    لكن وبعد دخول الزمن التاريخي أخذت الليال شكلا مختلفا ومفارقا فأصبح الليل فضاء السكون، حيث يتم تأمل أحداث النهار ومحاولة استيعابها وحيث يكبر الهم ويزداد.

    وفي الزمن الجديد يتحول معظم الأبطال إلى رواة ، خصوصا أولئك الذين يجيدون الحديث عن الأماكن الغائبة ، وحدهم يستطيعون مد الجذور في الأماكن الغائبة . تماما كما يفعل الراوي ، إنه بهؤلاء يوسع عمله في الرواية .

    وفي الليل وحيث يصبح البوح حاجة ملحة ، ويتحول الحديث الى حديث شجي وحزين ويحاول الناس عقلنة واستيعاب احداث النهار وفهمها من هدم للبيوت واقتلاع للاشجار وظهور للآلات، وللبشر الغرباء وموت كثير من الناس كضحايا لهذا التغير.

    كذلك يظهر الليل كفضاء غرائبي تتألق فيه الاشياء الغريبة ، باخرة الامريكان التي وصلت حران مساء وجعلت حران الامر يكان تشتعل بهجة وأصواتا وأضواء وغناء وجعلت حران العرب تشتعل حيرة وحزنا.

    وحين عرض الأمير خالد الجهاز (الراديو) على أهل حران في الليل ، صفعتهم الحيرة من الأصوات ومن الموسيقى والحديث .

    إن ليالي "مدن الملح " وان شابهت ليال "الف ليله وليله" بوصفها فضاء سهر وغرابة ، وحتى فضاء غناء ، فانها تفارقها في الاتجاه ، فشهرزاد تحكي لتحمى نفسها من الموت ، ولتخلص شهريار من ظلمه وقسوته وتعيد اليه انسانيته أما الحديث هنا في "مدن الملح " فيتم لاستيعاب الحدث الخارجي المحمل بمزيد من الحيرة . في كل يوم جديد ، ويمتلىء أكثر من سابقه بالأحداث الكبيرة والصغيرة ، في رحلة التحول إن الليل المظلم يصبح مرآة يرى فيها الناس حالهم ، وليس الليل هو المظلم ، وانما حياة الناس هي التي أظلمت بفعل التحول .

    وفي العلاقة مع "الف ليلة وليله " تظهر القصة كأداة مهمة في بناء النص ، حيث تأخذنا الحكاية إلى أخرى وكل شخصية تدور حولها اكثر من حكاية ، وأحيانا تكون الحكايات متضاربة ، حيث يجرى الصراع ، وحيث الخبر الواحد يروى بأكثر من طريقه .

    وتقوم القصة بدور مزدوج في السرد، حيث تبنى شكل السرد ومساره ، وفي نفس الوقت قد تضلل القصة او الحكاية السرد، حين تتضارب القصص والروايات . والليل هو الفضاء الأربح للقمة ، بل هو فضاؤها الأساسي ، وحين تتألق القصص مع السهر والسمر ، وحين تنام عين النهار، وتبدأ لواعج البشر في صوغ وسرد الحكاية . وفي هذا الوجه تتشابه "مدن الملح" مع "الف ليلة وليلة " فالقصة داخل القصة ، والحكاية تسلمنا الى حكاية أخرى.

    وتقوم القصة في "مدن الملح " بوظيفة أخرى وهى خلق علاقة بالمكان . ومد الجذور فيه ، فمتعب الهذال يروى عن "وادى العيون " قصصا تعود لأيام نوح . وأهم الأشخاص في معسكر العمال أولئك الذين يجيدون الحديث عن الأماكن الغائبة ، حيث يعيدون التواصل معها ويجعلون الأرواح تحلق فوقها وتتواصل بطريقة حية . كما تقوم القصة باعطاء الحيوية لحياة الناس الرتيبة ، فهي تنتقل من مكان إلى آخر ، حاملة صوت الحياة المتغيرة من خلال امتزاج الإنسان بالمكان .

    هذا بالاضافة الى دور القصة في بناء عالم بديل لهذا العالم المتهاوى المنهار.

    "والنساء المسنات " وهن ينمن الاطفال ، لا يجدن حديثا أمتع من حديث الذين مروا من الحكام، والشيوخ والذين اغتنموا فجأة ."

    كان الخيال يحمل الأطفال والعجائز بعيدا، يعطيهم القدرة على إعادة تشكيل العالم ، بحيث يبدو كل شىء هنا ومؤقتا ، ولابد أن يسقط نتيجة أول هبة ريح ، أو إذا ما رفع الرجال في وجوه بعضهم السيوف !".

    * القصة :

    إن النص التراثي ، القصة والقول والخبر، يتخلل الرواية ، ويدخل كل نص بصوته الخاص . يفضح الحاضر في نفس الوقت الذي يخلق معه علاقة .هذه النصوص القديمة التي تتخلل النص المعا هو ، وتحاوره ليقول النص من خلالها مالا يستطيع أن يقوله مباشرة ، وبايجاز شديد ودون أن يقع في المباشرة والخطابية ، وتتنوع مصادر التراث وتتنوع كلمته : امرؤ القيس ، السيرافي ، ابن المقنع ، المدائنى ، الاسكافى ، «كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك» رسائل الجاحظ ، أبو حيان التوحيدي.

    ان القصة الأولى التي تأتى الينا عبر فضاء الليل العجائبي ، وعبر المذياع الذي يسمعه أهل حران ولأول مرة عند الأمير.

    وعبر نفس الجهاز نسمع مقولة عمر بن الخطاب حين فتحت عليه كنوز كسرى «ما الفقر أخشى عليكم» إن كنوز كسرى فى النص هي النفط وأن الخشية الآن أشد وأقوى .

    حديث امرىء القيس ووصفه للمرأة .. إن هذا النص يصل الينا عبر ابن البخيت ، أهم نوافذ النص على التراث وأهم رواته ، يحفظ الغزوات والفتوحات ، يحفظ الأمالى للقالى عن ظهر قلب.

    ثم إن هذا الوصف للمرأة يعكس نظرة الأمراء اليها وانشغالهم بها.

    وقصة الملك الذي يشرب وأهل ناحيته من ماء السماء.

    ولا يكف خريبط عن ترديد هذه القصة على مسامع أبنائه ليبين لهم ضرورة السيطرة على عقول الناس ، واقناعهم بكل ما يريد وبكل السبل ، وهذا ما فعله خريبط ، وان كانت القصة لا تقول ذلك مباشرة وانما استخدامها هنا وفي هذا الموضع يقول ذلك ويتبعها بهذا المثل . "إذا جن قومك فعقلك ما يفيدك ".

    كذلك قصة المنصور وانشغاله بأمور رعيته ، تشير الى انشغال خريبط عن رعيته فالقصة المدخله ، تفارق القصة في النص وتكشفها ، كذلك تتم المفارقة في الشخصيات عبر استحضار شخصيات مشرقة في التاريخ عمر بن الخطاب ، المنصور، عمر بن عبد العزيز، ابن سينا.

    الرسالة التي كتبها ابن البخيت للعجرمى ، نزولا عند رغبته في كتابة رسالة الى علماء العوالى لينبههم إلى خطر الساحر الذي ذاع صيته في العوالى ، وكان خريبط من ضحاياه ، وكانت من احد الكتب التي احضرها من مصر.

    رسالة ابن البخيت الى العجمرى وقد أخذها من كتاب ايضا ، وكانت حول تسمية ثروة زوجه فنر ملكه .

    والقصة التي قرأها ابن البخيت لشداد عن الحاكم الذي أنفق أهواله على جارية في حين كان شعبه يعانى من الفقر، فاجتمع الأمراء عليه وتتلوه ، وفي المفارقة تقول القصة ان حكام موران الذين يفعلون كما فعل الحاكم في القصة الا يستحقون نفس المصير:

    والى جانب القصص هناك الاقوال المأثورة والتي يأتي معظمها عبر ابن البخيت ايضا :

    - قول مسلمة حول ممن تطلب الحاجة .

    - قول عمر بن عبد العزيز عن أهمية حديث عبدالله بن عتبة بن مسعود.

    «إن في المحادثة تلقينا للعقول وترويحا للقلوب وتسريحا للهم وتنقيحا للأدب ».

    والأقوال التي وردت في رسالة ابن البخيت للعجرمى . وتوصيته له ان يحفظ سره .

    كذلك قول ابي بكر عن الملوك وكونهم أشقى الناس .

    إن الاقوال تقوم بنفس وظيفة القصة ، تعبر عن المواقف المختلفة من خلال لفة التراث ومن خلال أقوال تفارق الواقع وتكشفه .

    ومن الوظائف الهامة التي تؤديها هذه القصص والأخبار لربط النص الروائي بالتراث ويقسم خاص منه هو الفن القصصي الذي يمثل نوعا من الخبرة الجماعية ، تلجأ الشخصيات الى هذا الكرد الجماعي للتعبير عن رغبتها الخاصة .

    * النصوص الدينية :

    كذلك يتم إدراج الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة ، إما بالنص أو بالمعنى ويظهر النص الديني كجزء من ذاكرة الناس الحية ، وغالبا ما يظهر في لغة الحوار ، ولموا جهة مواقف الحياة الصعبة مع دخول الزمن التاريخي ، ففي اليوم الذي وصلت فيه اكبر باخرة امريكية الى حران ، حاملة عصرا بأكمله اليها .. فان عبدالله الزامل يذكر الناس بالصوم وبالحديث الشريف الذي يعتبر الصوم وسيلة للعصمة من الغواية والمتمثلة في السفينة الامريكية ونسائها المتبرجات . تلاوة ابن الراشد لأية قرآنية عند خوفه من ركوب البحر مع الأمير في حران الأمريكية .

    ويحفل النص بالكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، تقال خلال المواقف المختلفة،. كذلك لغة الراوي، تحفل أيضا بهذه المعاني . كأن يصف حران العرب في مكانها الجديد بعد أن طردت من مكانها الأساسي قرب البحر ، بأنها انتبذت مكانا قصيا لتهرب مما يراد لها.

    ووصفه لموران بأنها كانت قبل ذلك نسيا منسيا.

    إن هذين التعبيرين مشتقان من سورة "مريم ".

    "فحملته فانتبذت به مكانا قصيا . فأجآءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا".

    * الشعر:

    يقول منيف عن الشعر في الرواية:

    "فهذا الرصيد الشعري عند العرب يثقل ذاكرتها ويقتحم عليهم حياتهم اليومية ولذلك لابد من الوصول إلى معادلة جديدة تأخذ بعين الاعتبار طريقة البيان اللغوى والذاكرة التاريخية ، إضافة الى لفة العوام كما أسميهم ".

    فالشعر يوحى بالجو العام ويختزل الكثير من الكلام ، فأم حسنى وهى تقرأ الفنجان لزهرة تردد الكثير من الأشعار التي تحفظها لتحقيق غرضها والايحاء بما تريد. ويحفل النص بالكثير من الأشعار ، تأتى على لسان الشخصيات ، خاصة ابن البخيت رواية التراث في النص .

    هذه الأشعار تتخلل لغة الناس اليومية ، تلخص مواقف حياتهم ، فالموقف يتضح فور ربطه بالموقف الذي يعبر عنه الشعر والذي أصبح خبرة عامة ، وتجربة مكتملة مشابهة وسابقة .

    كان زيدان صاحب مقهى الأصدقاء يردد ليخفف عن نفسه وعمن حوله واقعهم المظلم وحياتهم الصعبة ، فرغبوا أن تكون عابرة ولا تدوم :

    مأ بين غمضة عين وانتباهتها

    يغير الله من حال الى حال

    كذلك الابيات الشعرية التي يترنم بها

    مغنى العوالى عمر زيدان ومساعده رضا الجاوي إن الفناء يعبر عن المعاناة من قسوة السلطة، والغناء والشعر كشف لحالة الشخصية وموقفها من الحدث العام ، وفي الغالب ليست هناك مشكلة شخصية تؤرق الناس ، إنما هو الحدث العام الذي يهدم حياتهم ويجعلها لا إنسانية ، كما أن الشعر يربط الناس بتراثهم الثقافي .

    * الشخصيات التراثية :

    يتردد في النص كثير من أسماء الأنبياء والشخصيات التاريخية : سيدنا الخضر ، وموسى ، يوسف ويعقوب ، الأعور الدجال ، المهدى المنتظر.

    تستحضر هذه الأسماء في المواقف المشابهة والقصص التي ميزت حياة هذه الشخصيات لكن من أهم هذه الشخصيات ، شخصية المهدى المنتظر، والذي كثيرا ما يتردد اسما في النص ، ويظمر متعب الهذال وكأنه المهدى المنتظر، يظهر كروح للثروة والتمرد وينتظره الجميع من عرفه ومن لم يعرفه ، وتؤكد نبؤة نجمة المثقال ذلك .

    "نجمة المثقال ، عرافة الحدوة وما جاورها ، قالت لما سئلت عن متعب الهذال انه لابد عائد، وقالت انه يتجول في الصحراء ، ينتقل من مكان الى آخر ، لكنه ينام في مكان بعيد ، وهذا المكان قريب من البحر ، سيبقى هكذا سنين لكنه سيعود ، وحين يعود ستكون عودته كريح السموم ، قوية كاسحة ، لا يمكن لأحد أن يردها أو يقف في وجهها".

    كذلك يحضر مشهد استشهاد الحسن والحسين من خلال مشهد الاعدام في ساحات البلاد كلها ، حيث يهوى سيف الجلاد على رأس الضحية ليتدحرج الرأس على الأرض وتفور نافورة الدهاء.

    " ما كاد يقول ذلك حتى استعدت صورة كدت أنساها : الجلاد الاسود ، الممتلىء ،يهز سيفه، كأنه يلعب به ، والناس كأنهم يشهدون تمثيلية ساخرة ، من جملة مشاهدها : ذلك الأسود المرح، المختال بقوته ، وهو يدور ويصوب نظراته الى الناس ، ثم فجأة يتحرك بطريقة مختلفة، إعلانا عن بدء فصل جديد، فيخيم الصمت ، وخلال دقائق قليلة يؤدى دوره باتقان، يهوي على الرأس ، وغالبا ما ينفصل بضربة واحدة ، وتنفر الدهاء ، ثم تغور في الرمال ، بعد فترة قصيرة تهرول مجموعة من الحرس لكي تجمع الأجزاء وينتهى المشهد ويسدل الستار ويتفوق الناس ".

    *التراث الغربي :

    يظهر التراث الغربي كتدعيم وتعبير عن الوجود الغربي وعن ثقافته ، ويظهر مع أول أجزاء الخماسية حسب الترتيب الزمني " تقاسيم الليل والنهار" وفي آخر جزء " بادية الظلمات " وحيث تنصرف اليه الشخصيات الممثلة للسلطة . ففي مجلس الحل والربط حيث يجتمع فنر واخرته كثيرا ما يردد على مسامعهم أجزاء من كتاب " الأمير" لميكافللى . وإذا كان خريبط يطبق بعض تعليمات الأمير بسليقته ودون ان يعرفه ، فان فنر يصبح تلميذا مخلصا لميكافللى ، وذلك ومن خلال هاملتون رسول الغرب في الصحراء.

    ويعتبر كتاب "الأمير" من أطول المقتبسات في الرواية، حوالي ست صفحات بالاضافة الى تكرار مقاطع عديدة من هذه الصفحات في مواضع متفرقة من الرواية .

    يأتي كتاب "الأمير" الى فضاء السرد عن طريق هاملتون ، الذي كان يحلم بتشييد مملكة من طراز خاص .

    في البداية حاول تحقيق الحلم من خلال خريبط نقل اليه بعض وصايا "الأمير" خصوصا وخريبط يحاول توسيع حدود سلكته ، وذلك بعد استيلائه على العوالى ، فقد قال له هاملتون مرة :

    "لدينا مفكر نعتز به ، يا سموكم ، وقد قال عن بناء الدولة والسيطرة على الشعب كلاما حكيما، ولديه رأى لمعالجة وضع مثل وضع العوالى . وأرى أن تسمعه ".

    وقد قدم هاملتون لخريبط تلك النصائح والوصايا .. لكن هاملتون وجد في شخص فنر الأمير الاقرب الى احلاله فانصرف الى تعليمه وتهيئته ، فقدم له الكثير من وصايا "الأمير" بعد أن ترجمها الى العربية لتنفير حياة فنر بشكل حاسم .

    تشير هذه الوصايا الى العلاقة الأساسية بين الغرب وبين السلطة في "مدن الملح" هذه المدن التي أوجدها الغرب تظهر مقاطع كثيرة منها وتتردد في السرد بعد ذلك يتذكرها فنر في "بادية الظلمات " في مجلس الحل والربط ويرددها على مسامع اخرته ، وصار يسميه بالصاحب صاحبنا.

    "حتى صاحبنا، قال بكتابه ، ولابد قربتوه " تتخذ التدابير اللازمة لارتكاب العنف والقسوة فورا ومرة واحدة . ويجب ان لا يعاد اليها من يوم لأخر وهكذا يتمكن الامير عن طريق عدم القيام بتبدلات جديدة من خلق الطمأنينة عند شعبه واكتسابه الى جانبه عن طريق القيام بالمشاريع النافعة له ".

    والحقيقة أن هاملتون قد اختار لننر من الوصايا ما يناسب وضعه تماما ، ويناسب الدور المطلوب منه ، وتنعكس الوصايا خلال الدور ، الذي لعبه فنر في موران .

    * الاجناس الاخرى

    إلى جانب الأجناس المدخلة السابقة ، والتي تعبر عن غنى النص وانفتاحه على النصوص الأخرى، فان هناك اجناسا غير ادبية تدخل السرد مضيفة مزيدا من تعدد الاصوات في الرواية هذه الاجناس هي : الرسالة ، المقالات الصحفية ، المذكرات ، اليوميات ، أصوات متعددة تتجاوب فيما بينها ، وقيما بينها وبين مختلف مكونات السرد الأخرى ، بما في ذلك الاجناس السابقة معبرة عن الصوت المعاصر للرواية ، صوت اليومى والمعاش ، دونما أي حلية أدبية ودونما اي تزويق لفظي ، وتعبر عن المواقع المختلفة للشخصيات ، من رفض او قبول او محايدة من هذا الواقع المتغير، وهذه الأجناس هي :

    - الرسالة . تظهر الرسالة ككشف للشخصية ، وفي نفس الوقت شهادة على عصرها وكثيرا ما تكشف الرسالة حقيقة الشخصية وموقفها ، ومن الرسائل المهمة في النص :

    رسالة الدكتور المحملجى لابنه غزوان ، وهو مسافر إلى أمريكا ، ورد غزوان عليه تكشف عن شخصية الحكيم وكذلك تكشف شخصية غزوان واهتمامه بالمال والدور الذي لعبه في صفقة الأسلحة ، ويظهر ذلك في رسالة بعث بها الى أبيه ليمهد لزيارة الوفد الأمريكي.

    والرسالة "بعث بها غزوان الى الحكيم وهو مع الحاكم المعزول خزعل في بادن بادن .

    "ولذلك فان السؤال الذي أطرحه على نفسي صباح مساء هو كيف أستطيع أن أصل الى الثروة، وكيف أصبح ثريا".

    رسائل حماد ، رئيس جهاز الامن ، من أمريكا ، أثناء فترة التدريب والتي بعث بها الى الحكيم ومطيع ، تكشف مقدار الانبهار الذي أصيب به ، وصدمة الحضارة الأمريكية التي أصابته .

    "وإمريكا يا أخ مطيع عظمة لا توازيها عظمة أخرى".

    أما في بادية الظلمات وبعد التبدلات الكثيرة في موران ، وحين اصبح حماد سفيرا لبلده في طوكيو، فان رسالته الى صديقه سفير بلاده في برن ، تكشف مقدار خيبة الامل التي منس بها بعد ان نبذ الى طوكيو.

    رسالة مس ماركو عمة هاملتون الى فنر تكشف ولعها وعلاقتها بالشرق .

    وهناك رسائل كثيرة في الرواية رسالة فنر الى ابن مشعان ، رسالة خريبط الى فنر وهو في العوالى .

    رسالة ابن مباح الى ابن مشعان حول <خلافهما مع خريبط ، وهى باللهجة الدارجة وقد كانت رسالة شفوية .

    وبعث اليه ابن صباح يقول: وإذا مقامك بالعوالى صار صعب ، فمن رأي أن ترجع إلى الأهل والحمولة، لأن حسابنا مع خريبط ما يكون ولا ينحسم الا بموران ، وأنت أدري منى بأهل العوالى، أهل العوالى مطبلين بالدنيا مزهرين بالاخرة ، وأبدا ما يتأمنون ، أمس كانوا مع ابن ماضي ، واليوم مع خريبط ، وما تدري باكر مع من . جماعة يريدون ويدرون مصلحتهم وهو البحر غيرهم ، فالرأي ان ترجع وتحضر نفسك ، ويلزم تطرش لنا مراسيل بين يوم والثاني ، وحنا ، هنا ، شاغلين الدنيا والآخرة وخريبط ما يقدر يتقرب ، وابنه خزعل ترك الحويزة من شهور ، وانشاء الله ينصرنا على خريبط .

    الرسالة السابقة ، هي الرسالة الوحيدة باللهجة الدارجة ، وهى رسالة شفوية لكنها تعكس موقف ابن مياح من خريبط والصراع على السلطة والرسائل السابقة بشكل عام تعكس مواقع الشخصيات وعلاقتها بالحدث الاساسي، التغير في تعدد حالاته ، انها تنويع على الأصوات وتعميق للتعددية التي يسعى اليها الروائي.

    وإلى جانب الرسائل ، هناك المذكرات واليوميات والمقالات الصحفية ، وكل هذه الأجناس شهادات على عصرها ، تتنوع وتختلف مواقع من يكتبها إما قريب من السلطة ، يشاهد عن كثب واما غريب يراقب من بعيد وينقل ما يرده بحياد ومن هؤلاء القناصل مستشارو السفارات والمؤرخون ، الصحفيون ، الزائرون للمكان ، وكل هؤلاء يقدمون شهاداتهم . وما يفرق بين واحد وآخر هو تقديما ضمن السرد، الحكاية الأساسية .

    وهؤلاء الرواة الذين يوظفهم الراوي العليم ، ضمن حكايته الأساسية يستفيد من تعددية أصواتهم ومواقعهم التي يرون منها.

    ويتم تقديم هؤلاء الرواة بصوت الراوي العليم "أحد الذين كتبوا سيرة الحاكم ورغم أن رسائل القناصل كانت تفيض بالعاطفة وتمتلىء بالتفاصيل / كتب رأفت شيخ الصاغة في مذكراته / كتب مؤرخ خريبط بعد سنين / كتب يونس شاهين في يومياته عن تلك الفترة / قال يونس شاهين في أحدى الافتتاحيات التي كتبها / كتب هاملتون في مذكراته / كتب روبرت يونغ في يومياته / كتب ديفد الى جريدته / كتب زائر أجنبي / كتب طالب يعد أطروحة جامعية ، كتب السفير الامريكي في أحد التقارير.

    إن الراوي لا يترك كلمة تمر دون أن يغنى بها سرده وحكا يته ، الخطب والبلاغات . الحكومية ، والتعليمات ، كلها تخدم تعدد الأصوات الذي يسعى اليه الروائي.

    * الأسلوب أو شاعرية اللغة :

    يقصد بالأسلوب جمالية السرد وجمالية السرد في "مدن الملح " تأتى من جهات عديدة : تناغم اجزاء السرد ، حكاية وحوارا ووصفا ، اضافة الى الأجناس المدخلة والمختلفة أشكالها ثم تلك العلاقة المتبادلة فيما بينها وبين الحكاية الأساسية من مفارقة واقتراب إن الراوي يرتب تلك الأجناس والحوارات حول المحور الأساسي : التغير والانقلاب ويصلها به ، لذلك يصبح السرد وحدة متكاملة ، ويصبح جمال أجز ائه آتيا من ذلك التناغم مع بقية الأجزاء :إن الرواية لا تكون شعرية بالمقاطع فحسب بل بمجموعها".

    كذلك تأتى شاعرية السرد وجماله من نضوحه بالمكان حتى لكأن المكان يتشكل من خلال الوصف ومن خلال تلك التشبيهات اللصيقة به .

    فالأخبار "تدور مثل زوبعة الصحراء" والكلمات "تتساقط كما يتساقط المطر" والراوي وهو يصف صدمة ذلك الصوت الذي يقطع سكون الصحراء لأول مرة ، بنضح أيما نضوح بالمكان وكان دويا يشبه الرعد البعيد ، أو يشبه سقوط أعداد كبيرة وهائلة من قرب الماء الممتلئة على أرض سبخة ، فيرتج الهواء ، وتصطحب الآذان حتى يصعب تمييز الصوت أو مكانه ".

    كذلك صوت أم الخواش وهي نائمة في آخر ليلة للناس في الوادي وقبل ان تموت ادانها تشبه ولولة ريح مقبلة او استغاثة من بعيد " والبدوى يشبه طائر الصحراء القمري وصالح الراشدان حين يستثار يرتد نحو الناس كالزوبعة ويصف السرد عويد المشعان " سهل مثل الثمر الناضج " هذا بالاضافة الى تشبيهات أخرى كثيرة : نهض مثل جمل ، ضحك كحصان نهض مثل قط ومشت كالبطة «أو قولهم ، اذا تكلمت بالليل فاخفت وان تكلمت بالنهار فالتفت».

    هذا القول ينطبق على الانسان في الصحراء والمفتوحة كراحة اليد ولذلك فان الوصف ، وصف الاشياء ووصف الأشخاص ، ينطلق من هذه العلاقة بالمكان ، ويشترك في ذلك السارد والشخصيات ، فها هو غافل السويد الأمير السابق لحران ، يصطدم حين يعود الى حران بوجود الأمريكان - إذ يرى أشكالهم المغايرة لأول مرة ، فيخلع عليهم أوصافا فاضحة بالمكان، قال لمساعده ميمون "وكدتهم ؟ شفت وجوه ؟ مثل الجرابيع أو مثل خبز الفطير مبقعين وعيونهم خرز ، اذا تحملوا الشتاء ما اظنهم يتحملون الصيف ".

    ومما يضفى جمالية على السرد تلك النبوءات التي ترد على لسان الشخصيات وتبدو نسيجا خاصة ، وصوتا مختلفا ضمن الأصوات التي تتردد فى النص ومن هذه النبوءات نبوءة نجمة المثقال ، قبل أن تموت ، في ذلك الطقس من الضحك الذي استولى عليها ثم انتقل الى بقية النسوة من حولها ، واذا كان موت نجمة قد ترك فراغا ، لأن الناس تعودوا أن يلجأ وا اليها ويستضيئوا بأقوالها ونبواءتها ، فان نبوءتها الأخيرة قد تركت الحيرة وما يشبه الفزع لأنها تنذر بخراب المكان ومن وادى الجناح حتى الضالع ومن السارحة حتى المطالق ، النار تلهم النار والصفير يموت قبل الكبير ، أولها عد وآخرها مد الولد لا يعرف أبوه والاخ لا يعرف اخوه وتبدأ كل فقرة من فقرات نجمة بالازمة السابقة من وادى الجناح حتى الضالع ومن السارحة حتى المطالق تحدد المكان الذي ستتحقق فيه النبوءة .

    كل أجزاء السرد السابقة بتناغمها وشاعر يتها ، يربطها ايقاع متوار خفى في أغلب الأحوال ، ومن خلال "لغة الراوي إنه ايقاع الفقد، فلولا افتقاد الراوي لعالم بأكمله ، لما كان لنا أن نسمع الحكاية ، إنه يذكرنا بوقوف الشاعر الجاهل امام الطلل الدارس يسائله ويناجيه ويعيد اليه الحياة التي يتذكرها ويتمثلها من خلال الذكرى "والطل ذكرى ، هذه تصل الشاعر بحياة انصرمت ، أو بحضارة انقرضت ، الحياة والذكرى فترتا خصب ونما، وعيش .. إنهما الماء حين كان يهب الحياة ".

    هذا الوقوف الذي يقفه الراوي امام المكان في وادى العيون حران " "موران" وغيرها من الأماكن ، التي يرحل بنا اليها يجعلنا امام لفة حزينة شفيقة ، تأتى من خارج المكان الواقعي تنحدر من لفة الملحمة والأسطورة ، وهى لفة تزيد مقاطع الوصف شفافية وجمالا تختفي وتظهر حتى لكأن الفضاء كله يعتلى ء بها لآخر مرة ففي لفة تقترب من الشعر او تكونه يصف الصحراء في اندماجها الكامل مع كل عناصر الكون وكل عناصر النص "الشمس وهي تداعب حبات الرمل وتغسلها من ندى الليل ورطوبته ، تفعل ذلك بحياء أقرب الى الكسل لكن بتقدم النهار ، وارتفاع الشمس تتحول الدعابة الى عناق دافىء بين عشيقين ولدا معا منذ الأزل فتنفعل خبات الرمل ، تتغير ، يميل لونها تدريجيا الى الصفرة المقتولة الى البياض الشمعي ، ثم تلتحم بالزرقة الكلية ، والهواء الاغبش فيصبح اللون كله أقرب الى لون الملح لحظة استخراجه ، أو إلى لون الصمغ السائل ، فإذا هبت ريح تهتز الصورة ، ويرى اهتزازها على شكل رجات مائية تبدأ من أقصى الأفق وتنتهي في بؤرة العين" .

    يستمر الراوي بالوصف ، لكن قبل ان نهنأبه يعلمنا أن هذا كان قبل أن تصلها مئات السيارات ومئات اكثر من الخواف ، وعدد محدود من المدعوين ، اثناء الحفلة التي اقامها المحملجى لخزعل في بادية المليحة .

    أما الوصف الآخر الشفيق والذي يبدو أقرب الى رثاء الذات أو رثاء عزيز فهو وصف المنفى، ورغم ان من فى المنفى هم خزعل ورجاله ومهما كان النفى معاديا لهم ، فان الوصف الذي يقدمه الراوي يتجاوز حالهم بان يمتد ليصل حال المثقفين المطاردين من مدنهم المطرودين من اماكنهم .

    وفي وصف المنفى يفرده الراوي على السطر ، اظهارا لتفرد» وأهميته كما أفرد من قبل وادى العيون وكما أفرد القحط .

    * النفى:

    المكان البارد الموحش ، الذي يشعرك دائما أنك غريب ، زائد وغير مرغوب فيه المكان الذي تفترضه محطة ، أو مؤقتا ، فيصبح لاصقا بك كالعلامة الغارقة ، وربما لانه مؤقت يصحب وحده الأيدى ، كالقبر ، لا يمكن الهروب منه او مغادرته .

    حتى الفرح والمسرات الصغيرة ، وأيضا الانتصارات العابرة أو الموهومة ، إن لها في المنفى مذاقا مختلفا . إنها ليست لك ، انها مؤقتة ، هشة ، وتتحول بسرعة الى حزن كاو، والى بكاء لا يعرف التوقف .

    أما كيف تذوب وتتراجع كالحلم ، ولا تشبه مثيلاتها التي تحدث في الوطن فإن في الامر سرا يستعصى على الفهم أو التفسير.



    مريم خلفان: كاتبة من دولة الامارات.

                  

05-23-2005, 09:39 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    آركيولوجيا الفرح والحداد
    في <<أرض السواد>>


    سعيد الغانمي


    --------------------------------------------------------------------------------


    حين كان على الروائي الكبير عبد الرحمن منيف أن يكتب روايات عن الواقع العربي الحاضر, فقد كانت رواياته بلا أماكن محددة, وكانت المدن فيها مدنا بلا أسماء. كانت المدن مفاهيم ثقافية, أكثر منها مواضع جغرافية أو تاريخية. كانت مناخا لتبادل الفعل الثقافي السائد في أي مدينة عربية, وكان الروائي ينتظر أن يضع القارئ نفسه اسم المدينة العربية التي يشاء. في <<أرض السواد>> يكتب عبد الرحمن منيف رواية تاريخية, منشطرة كما سنرى إلى روايتين إحداهما تاريخية وصفية والثانية قصصية خيالية, وقد اضطره الجزء التاريخي من الرواية إلى تأطيرها بمكان محدد, هو مدينة بغداد في بداية القرن التاسع عشر, وفي عهد داود باشا تحديدا . غير أن هذا الانحياز للتاريخ, لا يحدد المكان ويؤطره بفضاء واقعي وحسب, بل هو يحدده لغويا وأسلوبيا أيضا . من هنا يجعل عبد الرحمن منيف شخصيات الرواية تتحدث باللهجة البغدادية, خلافا لما كان يحدث في رواياته السابقة, حيث تتحدث شخصياته العربية الفصحى أو اللهجة القريبة من البدوية شبه الفصيحة.

    في المقدمة التاريخية المعنونة (حديث بعض ما جرى) يمهد الروائي لروايته بفرشة تاريخية, تعر ف القارئ بتفاصيل الوقائع التي تشكل مهاد الرواية. وكما أن الهدف من المدخل القائم على قصائد رثاء المدن هو إشعار القارئ بالطابع الدوري لتاريخ أرض السواد منذ أقدم عصورها حتى زمن الرواية, فإن هدف هذه المقدمة هو إدخال القارئ في مناخ الرواية التاريخية المتعلقة بالسراي. وتستغرق هذه المقدمة من ص 15-24, لتبدأ بعدها فصول الرواية. وبوسع القارئ أن يعرف أن هذه المقدمة تاريخ خالص, حين يقارن بين النصوص الواردة فيها ووثائق تاريخية أخرى. على سبيل المثال, يستفيد المقطع الذي تستدعي فيه نابي خانم, زوجة سليمان باشا الكبير, وأم سعيد باشا, الحاج عبد الله ظاهري, كهية الوالي السابق, لإعادته إلى منصبه الذي تخلى عنه بعد تقريب سعيد باشا لحمادي العلوجي, لأسباب لا تليق بوال , من نصوص تاريخية معروفة لعل أشهرها كتاب <<تذكرة الشعراء>>, وهو نص مطبوع في بغداد عام 1936, حيث يرد فيه نص اعتذار عبد الله ظاهري ووصفه لسليمان باشا بكونه <<أفلاطون زمانه>>, بل إن هذا الاعتذار بكامله منقول من الكتاب المذكور.

    وظيفة هذا التقديم, إذا , هو أن يكون مقدمة للجزء التاريخي من الرواية, وقد حرص فيه الروائي على أن يكون مجرد ناسخ للأحداث التاريخية كما حصلت تماما , دون زيادة أو نقصان إلا في حدود التعديلات الأسلوبية. ولكن ما أن يمضي القارئ في الرواية, ومتابعة أحداثها الأولى حتى يحس بأنه يقرأ نصا هو أقرب إلى الرواية التاريخية. فجميع شخوص السراي شخوص تاريخية حقيقية, وجميع الأحداث المتعلقة بالسراي أحداث تاريخية. مغامرة سيد عليوي, رئيس الإنكشارية, بالدخول إلى القلعة وبحثه المحموم عن سعيد باشا, وقطعه رأسه وهو في حضن أمه برغم الصراخ الذي أطلقته نابي خانم, مشهد تاريخي معروف رواه مؤرخون كثر. وكذلك الحال مع رفض داود باشا لهذا العمل. جاء في تاريخ سليمان فائق المؤرخ المعاصر للأحداث: <<كان كل من يسمع بهذه الفاجعة يتملكه الحزن والأسف والألم العميق. حتى أني على الرغم من كوني فتى حينذاك كان يتملكني الحزن والاكتئاب لذكرى هذه الحادثة. وعلى الرغم من سفري إلى الأستانة واصطحابي لداود باشا فإني لم أتمكن من إخفاء استيائي وتأثري حتى في حضوره. وذات مرة ذكرت الحادثة التي نحن بصددها في مجلس داود باشا, وكان يضم أحد وجهاء بغداد من آل الربيعي, فلم يتمالك كل من كان في المجلس نفسه وانخرط الجميع في البكاء. وقد حاول داود باشا أن يتصدى للدفاع عن نفسه وتبرير ما قام به, فلم يسعفه النطق وسكت. وكان سكوته دليلا على تقصيره في هذا الشأن>>.

    أما حملات داود باشا على القبائل العراقية, فقد عرض لها بالتفصيل مؤرخ السراي في عصره, عثمان بن سند في كتابه <<مطالع السعود في أخبار الوالي داود>>, دون أن ينسى إضافة قصيدة مطولة في الثناء على الوالي وفعله بعد سرد وقائع كل حملة. ووصلنا فيما يتعلق بشعراء السراي في عصر داود باشا كتاب <<تذكرة الشعراء>> لمؤلف مجهول. وهنا ينبغي أن نلاحظ أن <<أرض السواد>> وإن أبرزت وقائع تاريخية, فإنها لم تكتف بالتاريخ كما هو, بل عدلت فيه وكيفته لمقتضيات السياق السردي. فأشهر شاعرين في <<سراي الرواية>> هما الصفوي والأخرس. والواقع أن أكثر الشعراء التصاقا بسراي داود باشا كانوا عبد الغفار الأخرس وعبد الباقي العمري وصالح التميمي (أطلقت الرواية على المفتي اسم خالد التميمي) وعثمان بن سند البصري.

    وإذ أن جميع شخصيات السراي الفاعلين والمؤثرين هم شخصيات تاريخية, فإننا نستطيع أن نسمي رواية الأحداث الخاصة بالسراي بأنها رواية تاريخية. ومن الواضح أن الحبكة فيها تتعلق بصراع السراي مع الباليوز من جهة, وصراعه مع الإنكشارية من جهة أخرى. وكلمة (الباليوز) كلمة إيطالية كانت تطلق على القنصلية الإنجليزية في بغداد. هناك قطبان متضادان هما: داود باشا في السراي, والمستر ريتش في الباليوز, وهما معا يتسابقان في تحريك بقية شخصيات الرواية, ويحاول كل منهما ممارسة نفوذه على الشخصيات الأخرى والتحكم بها ضد الآخر. هكذا تكثر المؤامرات والدسائس وتتعقد. فالباليوز يتصل بسيد عليوي أغا, رئيس الإنكشارية, للحد من نفوذ داود باشا, أو للقضاء عليه. لكن الباشا يتمكن من كشف مؤامرة الباليوز وإعدام سيد عليوي. فيتحول النزاع بينهما بعد ذلك إلى نزاع مسلح, يتخذ فيه الباليوز وضع الدفاع عسكريا , بعد أن كان يتخذ وضع الهجوم دبلوماسيا . وأخيرا , يوجه داود باشا مدفعا باتجاه القنصلية الإنجليزية, لكي يملي شروطه على المستر ريتش كما سنرى.

    مقابل رواية السراي التاريخية هذه هناك رواية أخرى نستطيع أن نصفها بأنها رواية شعبية يومية. وهي رواية تجري وقائعها في المقاهي والبيوت والمحلات الشعبية. ولذلك سنطلق عليها اسم رواية المحلة. والملاحظ أنه ما من شخصية من شخصيات المحلة دخلت السراي على الإطلاق, باستثناء بدري. وبدري هذا هو محور رواية المحلة, التي تدور وقائعها عنه وعن عائلته وأصدقائه وأبناء محلته: سيفو والحاج صالح العلو وإسماعيل وذنون ..الخ. وإذا كانت رواية السراي تمتاز بالكثافة التاريخية, فإن رواية المحلة تمتاز بانفتاح الخيال السردي والروائي. رواية السراي ذات شخصيات فعلية معروفة في التاريخ الحقيقي لأرض السواد, وهي ذات أدوار فاعلة ومؤثرة, ورواية المحلة ذات شخصيات خيالية مجهولة, وأدوار مأساوية مهملة. كلما ارتفعت كفة رواية السراي هبطت الأحداث بكفة رواية المحلة. هكذا تجري الروايتان في خطوط متوازية لا تعترضها سوى شخصية واحدة. فبدري هو الشخصية الوحيدة من رواية المحلة التي وصلت إلى السراي وعملت فيه. وبدري شاب عسكري التحق بالسراي, وعمل في حماية داود باشا. غير أن لهفته إلى رؤية نجمة, تلك الراقصة الصغيرة التي شاركت في الحفلة التي أقامها الجيش احتفالا بالانتصار على عشائر الفرات, دفعته إلى زيارة بيت روجينا المشبوه. وبما أن هذه المرأة ذات علاقة وطيدة بسيد عليوي, فقد أخبرته, واجتهد هذا في إيصال الخبر إلى داود باشا. كان سيد عليوي يأمل في إحداث الوقيعة بين داود باشا وأعوانه, ليستغلهم ضده, ويكسبهم إلى جانبه في نهاية المطاف. وفعلا لم يتردد داود باشا في نقل بدري إلى كركوك, كعقوبة مؤقتة له. ولم تكن لدى داود باشا أية نية في الانتقام من بدري, بل بالعكس فك ر في أن يسترده بعد حين ويعيده إلى جواره في السراي. لكن انشغال داود في صراعاته مع الانكشارية والباليوز أنسته إياه. ومن سوء حظ بدري, فقد ن ق ل سيد عليوي أغا إلى قلعة كركوك أيضا . هكذا تشاء الأحداث أن تقاطع رواية السراي رواية المحلة, وتقرر مصيرها. حين عرف بدري أن الراقصة نجمة قد استأثر بها رفعت بك, فقد ملت منها نفسه, وقرر الزواج من إحدى فتيات المحلة. وفي أثناء العودة إلى بغداد, في الإجازة, يتفق مع أهله على أن يأتوا بها إليه في كركوك. يستعد لذلك, ويؤجر بيتا خاصا لزفافه. وفي الوقت نفسه, كان سيد عليوي يعمل مع أتباعه على ضم بدري إلى جوقة المتآمرين ضد داود باشا. لكن بدري ظل يصر باستمرار على النأي بنفسه عن هذه المؤامرات. لذلك أوصى سيد عليوي جماعته بالخلاص منه. وتشاء المصادفات أن يكون اغتياله متزامنا مع لحظة وصول موكب عروسه قادما من بغداد. وبذلك يقضى بالموت على الشخصية الوحيدة من المحلة التي ارتبطت بالسراي. ومن خلال مصير بدري نعرف نحن القراء أن شخصيات رواية المحلة هم دائما ضحايا رواية السراي المهملون والمنسيون والمهم شون.

    عندما نقول إن رواية السراي تاريخية, فإن هذا لا يعني أنها رواية توثيقية يكتفي فيها الروائي عبد الرحمن منيف بنقل التاريخ كما هو. بل يعني فقط أن الشخصيات تاريخية, والوقائع والأفعال تاريخية, لكن ترتيب الوقائع والأفعال وإضافة التفاصيل السردية خاضعة لمتطلبات بناء السياق السردي ومفاجآت الأحداث في الرواية. فقد يضيف الروائي فعلا تاريخيا حقيقيا لكنه متأخر عن عصر داود باشا مثلا . أو ينسب إلى شخصية ما فعلته شخصية تاريخية أخرى. على سبيل المثال, تجعل <<أرض السواد>> داود باشا يبدأ حملته على العشائر العراقية في الحرب على عشائر الفرات الأعلى في السنة الأولى من حكمه. وكانت الحملة بقيادة سيد عليوي (ج1, ص323-440). أما الحملة على قبائل الفرات الأوسط, فمتأخرة عنها في الرواية بسنوات, وكانت بقيادة الكيخيا يحيى (ج2, ص467-492). من الناحية التاريخية, تولى داود باشا ولاية بغداد في أواخر شباط (فبراير) من عام 1817. وقد استغلت عشائر الفرات الأوسط الفراغ الأمني الحاصل نتيجة تنازع الولاة, لفرض سيطرتها على طرق القوافل, بقصد الغزو والإغارة واغتصاب الإتاوة. فاضطر داود باشا إلى تجريد ثلاث حملات على قبائل المسيب والمحمودية جنوب بغداد. وفي أواخر سنة 1818 أرسل الكيخيا محمد أغا بقوات لمحاربة قبائل الفرات الأوسط. وقد أوقع الكيخيا محمد بين القبائل خسائر فادحة, بتحريض بعضها على بعض. مثال ذلك أنه حرض الخزاعل على آل غانم وآل فتلة. فانضموا إلى قواته ضد إخوانهم من القبائل. وقد جرت معارك طاحنة حول <<قلعة شخير آل غانم>>, غنمت فيها قوات السراي ألف طغار من الحبوب, وفرضت عليهم خمسين ألف قرش غرامة. وبسبب وقيعة الخزاعل بإخوانهم من العشائر وانضمامهم إلى قوات الحكومة, فقد أطلق على ذلك <<دكة الخزاعل>>, بمعنى وقيعة الخزاعل وخيانتهم, وهو تعبير صار مثلا يتكرر في الأغاني والقصائد الشعبية, كما في الأغنية الشهيرة (يا دكة المحبوب دكة خزعلية). والجدير بالذكر أن آل غانم هؤلاء هم أجداد كاتب السطور. في المقابل لم تتحرك قوات محمد أغا نحو قبائل الدليم والفرات الأعلى إلا في سنة 1820, وهي السنة التي جعل فيها الوالي داود فرحه مضاعفا بانتصاره على قبائل الفرات الأعلى وختانه ابنه <<طورسون يوسف بك>> معا .

    ويصح الشيء نفسه على سفر مستر ريتش إلى الموصل, والتنافس بين الإنجليز والفرنسيين حول نهب آثار العراق. فالمعروف أن ريتش لم يتجه في سفرته شمالا , بل اتجه إلى جنوب إيران الغربي نحو آثار جمشيد. والتنافس بين القنصليتين الفرنسية والإنجليزية, وإن كان واقعة تاريخية حقيقية, لكنه لم يبدأ إلا في عام 1848 حتى عام 1876, أي أنه متأخر عن ولاية داود باشا بعقدين من الزمن تقريبا .

    إذا لم تقبل الرواية التاريخية في <<أرض السواد>> بالتاريخ كما هو, بل عدلته, وغيرت في أحداثه, وقدمت فيها وأخرت, لتبني منه حبكة روائية مختلفة, وإن كانت ذات أساس تاريخي صحيح. ولهذا أسندت لسيد عليوي أن يكون قائد قوات السراي في محاربة القبائل, لتجعل منه البطل المضاد الذي يرتفع نجمه ليكون القطب النقيض الموازن لقطب داود باشا. غير أن داود باشا لا يمكن أن يكون نقيضا لسيد عليوي. والسبب أنه لا يفكر في مصيره الشخصي, كما يفكر سيد عليوي, بل في مصير المجتمع ككل. وإذا كنا قد لاحظنا أن بدري كان الجسر الوحيد الذي يمتد من المحلة إلى السراي, فإننا نستطيع أن نلاحظ هنا أن داود باشا أيضا هو الجسر الوحيد الآخر الذي حاول أن يمتد من السراي إلى المحلة.

    وليس أدل على وجود انقطاع بين رواية المحلة ورواية السراي من قصة زينب كوشان, المرأة العجوز التي بقيت طوال الجزءين الأولين من الرواية تحمل لفائفها من الأوراق القديمة, وهي تحلم باللحظة التي تقابل فيها الوالي لعرض التماسها باسترداد قطعة أرض في محلة الشيخ بشار تريد إثبات ملكيتها. غير أن زينب كوشان لم تتمكن أبدا من رؤية أية شخصية من شخصيات السراي تستطيع عرض شكواها عليه, برغم ما تعرضت له من مواقف السخرية والاستهزاء. وفي الجزء الثالث فقط التحقت زينب كوشان بزمرة النساء المهلهلات للمدفع الموجه صوب الباليوز(ج3, ص276).

    ولو نحن بحثنا عن قطب مقابل لسيد عليوي لرأينا أن هذا القطب لا يتوفر في رواية السراي, بل في رواية المحلة, وفي شخص سيفو تحديدا . ولا يقتصر الاستقطاب بينهما على كون سيفو يريد تزويج بدري, ويريد سيد عليوي قتله, بل يمتد ليشمل الطبيعة النفسية لكل منهما من جهة, ونوع علاقاتهما بالآخرين من جهة أخرى. إذا كان سيد عليوي عسكريا مفرغا من العواطف, فإن كل علاقة في رأي سيفو هي علاقة إنسانية مليئة بالعاطفة. وإذا كان سيفو متبسطا مع الناس, منفتحا عليهم في البيوت والمقاهي, فإن سيد عليوي لا يمكن الوصول إليه إلا بعد قطع سلسلة من التحقيقات والحراسات, التي لا تنتهي إلا بشق الأنفس. وهذا ما حصل مع بدري نفسه حين أوفده الباشا لتكريم سيد عليوي بالنياشين, حين كان مشغولا في حربه مع الدليم (ج1, ص334). لكن الاختلاف الرمزي الصارخ بينهما يتمثل في كون سيد عليوي يريد موت حتى أقرب المقربين إليه في الحروب أو العطش والتيه في الصحراء (ص332), وكون سيفو هو سقاء المحلة الذي يوزع على الجميع ماء الحياة (ص415).

    هناك إذا تناظر بين رواية المحلة ورواية السراي. بقدر ما يمتاز أهل المحلة بالتلقائية والعواطف الجياشة والمشاعر الدافئة, يمتاز أهل السراي بالعقلية التآمرية وغياب العواطف أو تزييفها, بغية الوصول إلى أهداف أخرى, تلتقي في نهاية المطاف عند هدف الصراع على السلطة. سيد عليوي, مثلا , يتآمر على داود باشا, ويتظاهر في الوقت نفسه بمحبته. والباشا حريص على إرضاء الباليوز ومستر ريتش, لكنه لا يتردد في تصويب مدفع نحوه, حين يشعر بالحاجة إلى ذلك. كل شخصيات السراي-باستثناء داود باشا- معدومة العواطف, لأنها مندفعة صوب هدف واحد لا محيد عنه هو السلطة. من هنا يصبح الصراع على السلطة صراعا يجرد الإنسان من إنسانيته, ويحوله إلى <<آلة>> عمياء في ماكنة الخراب التي تنتجها السلطة.

    لقد ظلت دار روجينا مفتوحة باستمرار لسيد عليوي وحاشيته من الضباط الإنكشاريين في بغداد. وظلت روجينا تكن ودا خالصا لسيد عليوي, برغم زهده في إقامة أية علاقة مشبوهة معها, وإصراره على تأجيلها دائما . بل بلغ تهو رها حدا أنها سافرت بصحبة فتياتها للترويح عن الضباط إلى قلعة كركوك طمعا في نيل رضاه. لكنها ما أن أحست أن السراي يعلم بعلاقتها الدفينة معه, وأن سيد عليوي كان يستغلها لإيصال رسائله إلى الباليوز, حتى استدرجت هي نفسها سيد عليوي إلى بغداد, مما سيترتب عليه إلقاء القبض عليه ومحاكمته وإعدامه. روجينا مثل سيد عليوي تماما . كلاهما بلا عواطف بل بأهداف مرسومة رسما آليا , لأنها أهداف غير إنسانية وغير مشروعة. ويصح الشئ نفسه على عباس أسطنبولي, الذي أوكل إليه الباشا مهمة إشغال صادق أفندي, ابن سليمان الكبير, بألعاب شطرنج لا تنتهي. وكان عباس أسطنبولي يمثل دور المتلهف لهذه الألعاب, لا حب ا بها, بل طمعا بما تدر عليه من مكاسب نفعية غير مشروعة من السراي, ومن صادق أفندي نفسه. هكذا يتضح أن الشخصيات المرتبطة بالسراي بلا عواطف, ولكن بأهداف, وهي مضطرة لذلك إلى المراءاة بعواطف مزيفة, بغية الوصول إلى أهداف مرسومة.

    المفارقة أن بدري بدأ يعد الأيام مستعجلا وصول خطيبته. هيأ له دارا في كركوك. وبدأ يستعلم من القوافل عن موعد وصول قافلة أهله وموكب عرسه. ومن باب استعجال الأيام, صار يضع عددا من الحصى بقدر الأيام المتبقية على وصولهم في صحن, ليتخلص منها كما يتخلص من اليوم الذي يقضيه وحيدا . مع الحصاة الأخيرة, وحين لم يعد يفصله عن خطيبته سوى دقائق معدودة, تمتد إليه بندقية أحد رجال عليوي لتغتاله. وكان سيفو أول الواصلين إليه بين الحياة والموت. المفارقة أن بدري كان يستعجل اقتراب لحظة موته, وهو يستعجل اقتراب لحظة زفافه. كان يرمي الحصى من أجل وداع الحياة, لا من أجل الإقبال عليها. عاش بدري حياته من أجل رواية المحلة, ومات بدسائس رواية السراي. وبموت بدري يسقط الجسر الوحيد الذي يصل بين المحلة والسراي.

    غير أن موت بدري إذ يغلق رواية السراي على مزيد من الرياء والنفاق, فإنه يعمق الشعور بالحداد والمأساوية في رواية المحلة. فبموته تسقط شخصيات المحلة في وهدة الإحباط والضياع. الحاج صالح العلو, والده, يصيبه الخرس. وتنقطع جدته عن الثرثرة والكلام لتنطوي على ذاتها. ولا تكتفي قادرية, والدته, بلبس السواد حدادا عليه, بل تمسح البيت بكامله بالعتمة والسواد. هناك شعور ما بالخرس يصيب الجميع, شلل روحي يدب في مفاصلهم. تذوي الكلمات على شفاههم مهما حاولوا لوكها. هنا نحس باختلاف آخر لرواية السراي عن رواية المحلة. فإذ تضج الأولى بأصوات الشعراء وقصائدهم, وتتباهى ببلاغة العبارات الكبيرة على لسان الباشا, وحفلات الصخب التي يقيمها الجنود حيثما ذهبوا, وحوارات الثقافة العالية التي يتبادلها رجال الباليوز, تذوي الكلمات في رواية المحلة وتتساقط. فصاحة رواية السراي, يقابلها الخرس في رواية المحلة. ولا ينجلي هذا الخرس إلا حين تتم معاقبة من تسبب به. بعد إعدام سيد عليوي فقط, يبدأ صالح العلو باسترداد القدرة على الكلام, وتعلم اللغة من جديد.

    على العكس من مشاعر أهل السراي المزيفة دائما , هناك مشاعر فياضة دائما لدى أهل المحلة. سيفو يقترح على ذنون, الفنان, أن يترك بستان الأعظمية الذي غرق وأغرق تماثيله بعد الفيضان, ويعود إلى ممارسة إبداعه في بستان الحاج صالح العلو. كأن فيضان دجلة, في الجزء الثالث من الرواية, جاء ليطهر المحلة من أخطاء السراي. وقد رأينا أن أهل المحلة يتضامنون عند حلول الكوارث. غالبا ما يكونون متفرقين مشتتين في الظروف الاعتيادية, لكنهم يلتحمون عند نزول المصائب بهم. كلما ازداد هول الكارثة الطبيعية, توثقت عرى الرحمة والتكافل الإنساني بينهم. بعد أن التهم الفيضان تماثيل السيد ذنون, ذهب سيفو وعرض عليه أن يعمل معه, ولكن ليس في بستان الأعظمية, بل في بستان الحاج صالح العلو, وليس هناك أكثر من الطين في بغداد. لكن الفيضان لم يصالح أهل المحلة مع بعضهم فقط, بل هو صالح بين رواية المحلة ورواية السراي. فبعد انكشاف جرم سيد عليوي, واتضاح تآمره مع الباليوز وكرمنشاه, اتضح أيضا أنه هو الذي أمر بقتل بدري. وبإعدامه نال قاتل بدري جزاءه العادل. لم يتأخر وصول الخبر إلى المحلة. الحاج صالح العلو, الذي أصابه الخرس طوال الجزء الثاني من الرواية, بدأ يتعلم اللغة من جديد, ويتمتم بكلمات قليلة. لقد زال الخرس عن المحلة, واستردت قدرتها على الكلام مع الفيضان. كما عاد ذنون إلى نحت تماثيله وفخرها في بستان الحاج صالح العلو. هكذا يكون الفيضان أيضا علامة على مصالحة, ولو ضمنية, بين المحلة والسراي.

    لكنه في المقابل أوقد نيران العداء الصريح بين السراي والباليوز. أدرك المستر ريتش أنه يواجه مع داود واليا من طراز آخر. لقد أفشل جميع خططه في إخضاع رجال السراي لتأثير بريطانيا. كأن كل شيء في أرض السواد يتجه إلى أن يكون صراعا : صراع مع النفس والطبيعة والجيران, صراع مع القرباء والبعداء, صراع بين الماضي والمستقبل. ضاعف داود باشا الرسوم المفروضة على الصادرات والواردات من بريطانيا, فبادر المستر ريتش باتخاذ إجراء مضاد, وهو منع السفن الخارجة من الدخول إلى ميناء البصرة, ومنع السفن الداخلة من الخروج منه. فارتفعت الأسعار في بغداد أضعافا مضاعفة. حاول الباشا تخفيف حدة الأسعار بإكراه التجار على تخفيضها, وعمل في الوقت نفسه على توفير بعض البضائع عن طريق البر من حلب وماردين. لكن الباليوز كان قد أحكم الحصار. أدرك الباشا خطة الباليوز, وحاول إجباره بتسديد مدفع نحوه. ومن ناحيته أصر ريتش على المدافعة عن القنصلية. هكذا صار السراي يواجه حصار الباليوز التجاري بحصار عسكري. وفي الوقت نفسه أرسل داود وفدا للتفاوض مع المستر ريتش. وحين أدرك هذا الأخير أن مقاومته عبث لا طائل منه, طلب السفر إلى الهند. وافق السراي بشرط أن يترك ريتش ورقة يثبت فيها أنه يغادر العراق دون اضطرار وبرغبته. برحيل ريتش تنطوي صفحة الصراع مع الباليوز, كما انتهت من قبل صفحة الصراع مع الإنكشارية, متمثلة بسيد عليوي. حتى اليهودية روجينا تركت السمسرة, وتابت في كنيس. ضغط عليها رجال السراي لاستحصال المعلومات منها عن عزرا, فأجابتهم بأنها <<تركت تلك الشغلة>> وتابت, دون أن تستطيع تسميتها بصراحة. روجينا بعد الفيضان, لم تعد كما كانت. أصبحت أقل كلاما , بعد أن كانت أكثر صخبا . هنا نلاحظ تبادل الأدوار الذي أحدثه الفيضان. كان الحاج صالح العلو وعائلته مصابين بالخرس, وروجينا وجماعتها مصابين بالصخب. بعد الفيضان, استرد صالح العلو قدرته على النطق وفقدتها روجينا.

    في إطار ثنائية رواية المحلة المتخيلة ورواية السراي التاريخية, يصبح العنوان: <<أرض السواد>> عنوانا منقسما بالتورية التي يتوزعها <<سوادان>>. فأرض السواد هي أرض العطاء والربيع والخضرة التي يتنازع حول امتلاكها الحكام والمتنفذون والعساكر وقناصل الدول القوية, ولكنها بالنسبة لفئات الشعب المخنوقة والمغلوبة على أمرها والمنسية تحت ركام الحروب والأوبئة والفيضانات الأرض الملفعة بالحزن الدائم والحداد الأسود المقيم. هناك إذا سوادان: سواد الرواية التاريخية, وهو رمز العطاء والخير والربيع, وسواد الرواية الشعبية المتخيلة, وهو لون الحزن والحداد الذي يستولي على تاريخ هذه الأرض الطويل.

    وحين يضع عبد الرحمن منيف في المفتتح فقرات من رثاء المدن العراقية القديمة سومر وأكد وأور في أطوار تاريخية متعاقبة, في رواية عن تاريخ هذه المدن نفسها ولكن في عصر المماليك من العهد العثماني الأخير, فذلك لكي يوحي للقارئ بالتاريخ الدوري المتكرر لهذه الأرض. هكذا يكون من طبيعة أرض السواد أن تعيد اجترار تاريخها في حلقات دورية متكررة. فهذه الأرض التي بدأت فيها الحضارات, وتنفست منها رئة الدنيا نسمات المدنية الأولى, ظلت باستمرار تكرر تاريخها في دورات من الهدم والبناء, والحياة والموت, والإشراق والأفول, والسواد بمعنى الربيع والسواد بمعنى الحداد. وربما لا تكون هناك منطقة على وجه الأرض عرفت جنسا أدبيا اسمه <<رثاء المدن>> مثلما عرفته <<أرض السواد>>. والغريب أن تتغير الحقب التاريخية على أرض السواد, وتتعاقب عليها الأجيال والشعوب واللغات المختلفة, لكنها تظل دائما محافظة على طبيعتها المأساوية المنقسمة بين <<سوادين>>. كأنما تتغير عليها الشخوص ليعيدوا تكرار المأساة نفسها, فيقولوا الكلام نفسه بلغة أو لهجة أخرى. كتب أحد شعراء بابل في رثاء إحدى المدن:

    إيلشا إيلو يبكو عنى ماتم

    (جلس) الآلهة معها يبكون على البلاد.

    وذهب زمن هذا الشاعر البابلي, واندثرت لغته, وجاء شاعر عربي في عصر الحجاج, ليعيد قوله بلغة أخرى:

    ذهب الرجال, فلا أحس رجالا

    وأرى الإقامة في العراق ضلالا

    وأرى المقيم على العراق وذلّـه

    ظمـآن هاجـرة يؤمّـل آلا

    وتعاقبت أجيال أخرى ليرثي شاعر آخر المدينة التي خرّبها

    المغول:

    لسائل الدمع عن بغداد أخبار

    فما وقوفك والأحباب قد ساروا

    وانطفأ زمن هذا الشاعر, وجاءت أزمنة شعراء آخرين أعادوا الكلام نفسه وكرروا رثاء المدينة بتقاليد شعرية أخرى. وإن القارئ ليشعر أن بوسعه استبدال أية قصيدة من هذه القصائد بأخرى, لأنها جميعا تعبر عن مضمون واحد, هو رثاء مدينة تنهض من أنقاض الرماد, وتتجدد لتخبو ثانية وتنهدم, كأنما هي طائر العنقاء. أرض السواد التي يرثيها الشاعر السومري أو البابلي أو الأموي أو العباسي أو العثماني هي هي لم تتغير في طبيعتها المزدوجة التي ما أن تتألق حتى تخبو, وما أن ترتفع حتى تهبط, وما أن تزدهي بالربيع والعطاء حتى تتلفع بالحداد والحزن. تتغير الحضارات واللغات والشعوب التي تتعاور على مسرحها, لكنها تظل دائما تمث ل <<الدور>> المأساوي المنقسم نفسه. وهذا هو بالضبط ما تريد نقله الفقرات الافتتاحية في الرواية المنقولة عن قصائد رثاء المدن السومرية والأكدية القديم
                  

05-23-2005, 10:32 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    رحل, إذن, عبدالرحمن منيف, لكنه لن يغيب.. سوف يبقى طويلا في ضمير أمته: مناضلا خاض في العمل السياسي, علنا وسرا , من أول الشباب كانت فترة عاصفة, حبلى بكل الاحتمالات: بطش وقمع من ناحية, واشتداد حركات المعارضة الراديكالية من الناحية الاخرى, ولم يكن لكل الحالمين بمستقبل أفضل سوى أن يحددوا مواقعهم وينغمسوا في النضال, وهكذا فعل عبدالرحمن منذ قدومه من عم ان الى بغداد نهاية الاربعينيات حتى أبعدته حكومة نوري السعيد منتصف الخمسينيات ليتابع النضال من مواقع أخرى. في 1958 سافر لاستكمال دراسته في جامعة بلغراد, وفي 1961 حصل على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية (كان موضوع رسالته <<اقتصاديات النفط- الاسعار والأسواق>>), ثم عاد ليعمل في صناعة النفط في سوريا, وفي 1973 غادرها الى بيروت للعمل بالصحافة, وفي 1975رجع الى بغداد حيث أصدر مجلة متخصصة هي <<النفط والتنمية>>, وفي 1981 خرج من بغداد ثانية الى باريس حيث تفرغ للكتابة, وفي 1986 رجع الى دمشق التي ق در لها أن تكون منفاه الأخير.

    ورغم صعوبة معرفة التفاصيل حول ممارسته العمل السياسي والحزبي حتى منتصف الستينيات على وجه التقريب, حين توقف عنها, فقد قمت بتحقيق صغير مع من يمكن أن يكون لهم قدر من المعرفة بهذه الممارسة, واستطعت أن أصل لبعض ملامح الصورة: كان منيف مثالا <<للكادر>> الحزبي الملتزم والمنضبط (يرتفع صوته بالجدل والنقاش في الاجتماعات الحزبية ويلتزم الصمت خارجها), وكان ينحاز دائما الى جانب المواقف والأفكار الأكثر جذرية وراديكالية داخل التنظيم وخارجه, كما كان مثالا للتعفف والنأي عن السعي لتحقيق أهداف او مطالب خاصة, ومن ثم لقي الاحترام من المخالفين له والمتفقين معه على السواء, وكان قارئا نهما ومثقفا عارفا بالتاريخ والتراث. وثمة تفاصيل كثيرة في هذا السياق تتردد فيها أسماء <<الجناح اليساري>> أو <<جماعة الدكاترة>> في البعث السوري. والموقف من الانفصال, ومؤتمر حمص في 1963. المهم هنا ان عبدالرحمن أسقطت عنه جنسيته (السعودية) بعد هذا المؤتمر, فعاش حياة المنفى حتى الرمق الأخير.

    ليس في حياة عبدالرحمن منيف, إذن, ما يخفض جبينه الشامخ, لم يقف يوما في ظل حاكم أو نظام, وقد كان الحكام- في اكثر من بلد عربي, وفي ظل أكثر من فترة في هذا الزمان العربي المضطرب- رفاقا له او مريدين, يتمنى كل منهم أن يجتذبه لجانبه, لكنه عف عنهم جميعا , وعاش حياته فقيرا أو كالفقير, لكنه متشح بالنبل, مزدان بالكبرياء, لهذا قلت انه سوف يبقى في ضمير أمته مناضلا .

    وسوف يبقى في وجدان أمته مبدعا عظيما كذلك. قال- أكثر من مرة- انه رأى الاستغراق في العمل السياسي <<خدعة كبيرة. كان الواحد منا يتصور أن المؤسسة السياسية يمكن أن تكون أمينة في قناعاتها ومقولاتها السياسية, ومن خلال التجربة رأينا ان هناك فارقا كبيرا بين الافكار التي كان يؤمن بها ويدعو لها, والممارسات الفعلية في الواقع...>>, ومن ثم كان لابد من البحث عن أشكال أخرى لمواجهة الواقع وتغييره, ووجد منيف في فن الرواية: أداة تعبير وتغيير, أداة جميلة للمعرفة والمتعة.

    صدرت روايته الأولى <<الأشجار واغتيال مرزوق>> وهو في الأربعين, ورحل وهو في السبعين, لكنه كان قد أصبح أهم روائي عربي معاصر. قلت وأعيد: ان شروطا موضوعية وذاتية قد تحالفت لتجعل منه <<المواطن العربي>> بامتياز. وأضيف: إنه استطاع- ببذل الجهد, والكدح, والعكوف على العمل رغم مشقة الحياة وتغير المنافي- أن يجعل من نفسه <<الروائي العربي>> بامتياز كذلك.

    بعد <<الأشجار..>> تتابعت الأعمال: <<قصة حب مجوسية, 1974>>, <<شرق المتوسط, 1975>>, <<حين تركنا الجسر, 1976>>/ <<النهايات, 1977>>, <<سباق المسافات الطويلة, 1979>> (بين قوسين: <<عالم بلا خرائط>>- مع جبرا ابراهيم جبرا, 1982). وكان عقد الثمانينيات هو عقد <<مدن الملح>>: صدر جزؤها الأول <<التيه>> في 1984, والثاني <<الأخدود>> في 1985, والثلاثة الباقيات <<تقاسيم الليل والنهار>> و<<المنبت>> و<<بادية الظلمات>> في 1989. ثم عاد الى <<شرق المتوسط>> ليكتب <<الآن هنا, أو شرق المتوسط مرة أخرى>> في 1992, وأخيرا ثلاثية <<أرض السواد>> في 2000.

    فلنلق نظرة طائر الى عالمه, وأرجو الا أثقل أو أطيل.

    على خلاف كثير من الروايات الاولى, جاءت <<الأشجار..>> صلبة متماسكة, خالية من التزيد والترهل, وراء كل التفاصيل المختارة بعناية والمبذولة بسخاء, تبقى رواية شخصيتين, التقيتا مصادفة في قطار يقطع أرضا عربية لا ي سميها (ولم ي سم بعدها أرضا أخرى, فلا أهمية عنده للاسم, طالما بقي الاختلاف بين أرض عربية وأخرى خلافا في الدرجة لا في النوع), مع الحديث ورشفات العرق يتقارب الرجلان, يتشاركان الطعام والشراب والحديث وخبرات الحياة.

    إلياس نخلة هو <<الرجل الصغير>>, ابن بيئته وزمانه ومكانه, ومكانه هو تلك القرية التي تقع على أطراف المدينة والبادية: <<الطيبة>> (منها سيخرج أبطال أعمال تالية), إنه يرى نفسه منحوسا تطارده اللعنة, ولعنته انه قامر بما لا يملك, قامر بالأشجار التي لا يملكها أحد, تقلب في مهن عديدة وها هو الآن يعمل بتهريب الملابس عبر الحدود, لكنه يبقى متمسكا بالحلم. يقول لصاحبه وقد تدفأ وانتشى: <<لولا الحلم لما تمكنت من الحياة لحظة واحدة>>!

    في مواجهته كان منصور عبدالسلام: الظهور الأول للمثقف صاحب الماضي السياسي المثقل بالنضال والسجن والملاحقة ثم الطرد من العمل, وها هو يركب القطار المتجه الى الجنوب كي يعبر الحدود ويعمل مترجما لبعثة آثار فرنسية. بعد أن تركه إلياس انفتح أمامه باب الحديث عن نفسه, الى نفسه وإلينا, لكن الروائي يحذرنا: <<لا تصدقوا ما يقوله, لأن الهلوسات تختلط بالوقائع الصغيرة, بالاحلام, وأحيانا بالأكاذيب..>>, ولهذا السبب عليك بعد أن تفرغ من سماع حديثه وقراءة يومياته ومعرفة ما انتهى إليه, أن تعيد بناء التفاصيل وتجعل لها الاتساق الضروري. اذا كانت لعنة إلياس هي الأشجار, جاز أن نقول ان لعنة منصور كانت التاريخ. نعم. التاريخ الذي درسه وي درسه. ولكن: أي تاريخ? لنكتف بنص واحد: <<قطعا لن يكون تاريخ الملوك والسماسرة والقوادين الذين يشبهون الديوك. سيكون تاريخ الناس الذين مروا دون أن يتذكر أسماءهم كتاب او قطعة من الرخام, سيكون تاريخ الأحداث التي غيرت الحياة دون أن تكتشف..>>. ولأنه يعمل ويقيم في احدى المدن <<شرق المتوسط>> (القرائن والشواهد والأمثلة تحددها أكثر) فقد كان من الطبيعي أن يتم استدعاؤه ومساءلت ه والتحقيق معه, ثم تسريحه من عمله في الجامعة. تبط ل منصور وجاع وتشرد واستدان وأدمن العرق والطواف على مكاتب المسؤولين لعلهم يوافقون على أن يعمل أو يسافر وبعد ثلاث سنوات تجر ع فيها المهانات الكبيرة والصغيرة منحوه جواز سفر وسمحوا له بالخروج. إن شخصية منصور تتكامل من خلال مستدعياته المنتقاة بحساسية وحرص: السنوات التي قضاها في التجنيد وعجزه عن فهم الهزيمة. كان يقول لطلابه: <<لماذا ه زمنا أول مرة وكانت لدينا جيوش وكانوا, هم, عصابات? ولماذا هزمنا للمرة الثانية وكانت لدينا جيوش وعصابات وليس لديهم إلا الجيوش?..), أضف لذلك خيباته الشخصية المتتالية خاصة مع الاوروبية التي دامت علاقته بها طوال فترة دراسته في بلادها, ثم لم يجرؤ على أن يعود بها الى بلاده, ورفض ان يبقى معها في بلادها.

    أليس معقولا أن يطلق منصور الرصاص على صورته في المرآة, ثم ي حمل الى مستشفى الأمراض العقلية?

    وهل كان مصيره أفضل من مصير <<رجب اسماعيل>> بطل <<شرق المتوسط>>? اذا كانت هذيانات منصور واختلاط أفكاره قد يجعل من العسير وصول رسالته بالوضوح الكافي, خاصة ما يتعلق برمزه الرئيس: <<مرزوق>> الذي اغتاله الطغاة لكنه واثق انه سينهض, فان <<رجب>> يكتب أفكاره وعناءه بوضوح ناصع: واحد من غمار الناس, غاص في العمل السياسي السر ي وهو طالب, ما ان تخرج حتى قبضوا عليه, وحكموا عليه باحدى عشرة سنة. في سجنه لقي كل ألوان التعذيب كي يعترف, لكنه احتمل أقساها دون كلمة واحدة, وبعد خمس سنوات دب ت إليه الرغبة في الخروج مثل دبيب الملال: داهمه <<روماتيزم الدم>>, وماتت أمه التي كانت تعينه على الصمود, وضاعت حبيبته, و<<أنيسة>>: أخته الكبرى وحاضنته لا تكف عن إغرائه بنقل صور الحياة في الخارج. وق ع رجب على الورقة التي طلبوا منه التوقيع عليها, ثم خرج.

    وبناء الرواية بسيط متقشف: ستة فصول متتالية, تروي أنيسة فصلا ويروي هو التالي. لقد خرج رجب للعلاج (لم يسمحوا له بالخروج إلا بشرط التعاون معهم), ومع الطبيب الفرنسي العجوز أيقن رجب معنى النضال. كان الطبيب مناضلا قديما , شارك في مقاومة النازيين وفقد عائلته كلها. قال له: <<أريدك أن تكون حاقدا وأنت تحارب.. اذا استسلمت للحزن فسوف ت هزم وتنتهي, سوف ت هزم كانسان وتنتهي كقضية...). لاحت فرصة لرجب كي يستعيد براءته الضائعة ويتطهر: لابد من فضح ما يحدث في هذه البلاد المرمية شرق المتوسط, وقرر أن يتخذ هذا الفضح شكلين: أن يكتب رواية, يقول عنها: <<أريدها أن تكون جديدة في كل شيء, أن يكتبها أكثر من واحد وفيها أكثر من مستوى..>>, الشكل الثاني هو السفر الى الصليب الأحمر في جنيف وتقديم مذكرة أو لوحة عن العذاب اللا إنساني الذي يلقاه المسجونون السياسيون في الوطن. كتب رجب أوراقا كثيرة (توحي لنا أنيسة انها هذه الرواية), أما بعد أن تلقى رسالة من صديق بأن زوج أخته قد اعتقل بدله, قرر أن يعود, أرسل التقرير الى جنيف ثم عاد.

    ماذا تتوقع?. كانوا بانتظاره. أعادوه بعد ثلاثة أسابيع مهدما أعمى, وبعدها بثلاثة أيام مات رجب. والآن? تروي أنيسة: في الاسبوع الثاني لموت رجب اخذوا زوجها ولا يزال وراء الجدران, وتروي أيضا أنها شهدت ابنها الصبي يجمع الزجاجات الفارغة في البيت, وعجبت حين رأته يملأها بالزيت والبنزين ثم زال عجبها حين قال لها: اريد أن أهدم السجن وأخرج أبي!

    هل كان رجب هو من يتمنى كتابة الرواية أم صاحبه وخالقه? على أي حال رجع منيف ليكتب <<شرق المتوسط مرة أخرى>>. صدرت الرواية الأولى في 5791, آنذاك: كان الحزب الذي تركه منيف يحكم في أكثر من بلد عربي, فهل ثمة سبيل للتشكيك في أهمية شهادته? ألم ينجز وعده بأن تصبح الرواية <<أداة>> من أدوات النضال?

    ثمة ما يجمع بين <<حين تركنا الجسر>> و<<النهايات>>. البطل في كل من الروايتين صياد, ولابد لكل صياد من كلب. أما بعد ذلك فما أشد الاختلاف بين <<زكي نداوي>> بطل الأولى, <<وعساف>> بطل الثانية. <<النهايات>> رواية البادية بامتياز, شهادة بدوي يعرف الصحراء والمواسم, والخصب والمطر, والقحط والجفاف, والحيوان والطير, يتشمم رائحة الغيم ويعرف نذر العاصفة, ثم هو نموذج الصياد, هو أعرف أهل <<الطيبة>> بمواسم الصيد وأماكنه وطرائقه ووسائله, لكن الأهم انه يعرف وظيفته ودوره في الابقاء على حياة الجماعة حين يتهددها القحط والجوع. ومرة واحدة انفجر في وجوه أهل الطيبة وقال لهم ما كان يجب أن يقال. قال: <<لم يخلق الصيد للأغنياء الذين يقتلهم الزهق والشبع, لقد خلق للفقراء, الذين لا يملكون خبز يومهم..>>, غير أن كلماته, غاضبة الصدق, لم تثن سامعيها عن التلهي بالصيد, وحين جاء بعض ابناء الطيبة من العاملين في المدينة وبعض اصحابهم, خجل عساف أن يرفض طلبهم بالخروج معهم, فخرج معهم ليموت دونهم!

    أما السهرة التي قضاها أهل الطيبة وجثة عساف مسجاة بينهم, فقد جاءت حكاياتها كلها تنويعات وتفريعات عن العلاقة بين الانسان والحيوان والطير, وعلى لحن النهاية, نهاية البشر والحيوانات والأشجار, ولأن عساف كان الفرد الذي تمث ل اصفى قيم الجماعة, وتقدم ليفديها ساعة الخطر, فقد خرجت الطيبة كلها لوداعه حتى النساء. ليس هذا فقط, بل إن موت عساف جاء انبثاقا لصحوة أهل الطيبة, ولأن يتكاتفوا ليفعلوا شيئا بدل انتظار الموت.

    وسوف نلتقي بأشباه ونظائر لعساف في أعمال منيف التالية.

    أما <<حين تركنا الجسر>> فلعل ها أكثر أعماله استعصاء. لا شيء سوى مونولوج طويل في اكثر من مائتي صفحة, يتحدث فيه زكي نداوي الى نفسه أو الى كلبه, ونحن نصحبهما في الغابة. وفي الغابة كل ما يمكن أن تزخر به من أدغال وأحراش ومستنقعات وسب حات وأشجار ونهر وجسر, وفي سمائها كل أنواع الطيور: السنونو والقطا والترغل وديوك السمن والحبارى والبط والزرازير ودجاج الأرض وسواها. ونحن نصحبهما عبر تغير الفصول والأجواء: في الريح والثلج والمطر وصحو السماء وتلبدها وسطوع القمر وغيابه. وما يشغل زكي أكثر من سواه أن يصيد تلك البطة الخرافية التي يسميها <<الملكة>>. وحين صادها أخيرا وخاض الأوحال والمستنقعات ليلتقطها عن له أن ينظر إليها. وكانت خيبة أمل كاملة الشروط. يقول: <<رفعت ها باجلال نحو القمر, ولأول مرة رأيتها.. كانت أقبح بومة تراها العين.. كانت باردة وميتة..>>.

    لم تكن هذه غير هزيمة طازجة, أو هي بعث وتجديد للهزيمة القديمة. <<حين تركنا الجسر>> كلها تهدف الى خلق عالم مواز للهزيمة, محوره الجسر: بناه الرجال ثم لم يعبروه ولا هم نسفوه وراءهم. والبطل يحمل وق ر هذه الهزيمة من البداية, وهو أيضا يحمل الاحتقار لنفسه لأنه مهزوم. وسط سيل مستدعياته وهذره وملاحاته مع كلبه علينا أن نتلمس عناصر الهزيمة. انها تأتي متباعدة مثل نقاط صلبة وسط تيار دافق. هذه واحدة, يقول: <<قالوا لنا بقسوة أقرب الى السب ى: تسمروا ولا تتحركوا.. التقدم ممنوع حتى تأتي الأوامر.. ولم تأت الأوامر(ص125-126). وهذه أخرى لعلها أكثر وضوحا : <<يجب أن تعرف كيف حصلت الهزيمة.. كان الوقت عصرا .. مرت سيارة الضابط بسرعة بعد أن انقطعت عنا الأخبار أربعة أيام.. دون أية مقدمات قال الضابط: انسحبوا.. سيكون الانسحاب غير منظم.. وعلى كل واحد أن يدبر نفسه..>>.(ص174)

    تلك النقاط القليلة الصلبة المتباعدة تضيء ما قبلها وما بعدها, وتفسر الشعور الفادح بالذنب واحتقار الذات عند البطل, وتفسر كذلك النهاية التي ينتهي اليها العمل. مرة ثانية: من الموت تنبثق صحوة. بعد موت الشاهد الوحيد على كل ما قال زكي, اتخذ قرارا ولم ينسه صباح اليوم التالي: قبل أن تغيب شمس اليوم التالي كنت قد ضعت في زحام البشر.. تأكدت أن جميع الرجال يعرفون شيئا كثيرا عن الجسر.. وأنهم ينتظرون.. ينتظرون ليفعلوا شيئا ..>>.

    لعلهم ما زالوا ينتظرون!

    <<قصة حب مجوسية>> هي نزوة عبدالرحمن منيف الأوروبية. عمل لا يشبه عملا آخر في ابداعه, لعلها بقية متلكئة عن ايام دراسته واقامته في أوروبا. قصة حب يرويها صاحبها وهو ممتلئ بالتحدي لسامعيه واللامبالاة بعدم تصديقهم لما يروي. لماذا يرويها إذن? يقول: <<إن الكنيسة الكاثوليكية, رحيمة القلب, جعلت للانسان طريقا للخلاص عندما كلفت الآباء المقدسين بتلقي الاعتراف, كما ان علم النفس المعاصر بالضوء الخافت في غرفة الطبيب, والمقعد الوثير الذي يستلقي عليه المريض, أوجد طريقا لإذابة العذاب تمهيدا للشفاء..>>. إذا لم تكن من هؤلاء ولا من أولئك , فاذا يمكنك سوى ان تستمع?... الراوي في مدينة اوروبية يتابع دراسته ويعرف من نسائها عددا لا بأس به, وفي منتجع جبلي مطل على البحيرة يقع في هوى امرأة ما أن تلتقي عيناه بعينيها: <<آه! ما أشد رعب العيون التي أراها, وما أشد فتنتها! كانت تقول لي بهمس: ايها الغريب الذي لا مأوى له, مأواك في عيني ... الخ>> وتصبح <<ليليان>> - عرف اسمها حين ناداها زوجها وهما على مقربة- هوسه الدائم, في صحوه ونومه, ويشتد هذا الهوس حين يرجعون الى المدينة, فيلوذ باحثا عنها في الشوارع والمقاهي والمسارح ودور السينما والباصات والترامات, يراها مرتين, وفي كل مرة يستحيل اللقاء, ويتدخل هذا الهوس في افساد علاقاته بالأخريات, وبعد أن يئس تماما من اللقاء يراها في محطة القطار, وهو محاط بأصدقاء وصديقات جاءوا يودعونه بعد أن أنهى دراسته واقامته في المدينة,ورغم ج مل الحوار القليلة التي يتبادلانها إلا أنه كان لقاء مستحيلا كذلك!

    لسنا من الآباء المقدسين ولا من أطباء النفس, لكننا نعرف ان هذا النوع من الحب يمكن أن يقع, هنا يكون الحب- بتعبير جارودي- <<صوتا ملحاحا كأنه يأتي من وراء الغيب>>. وأسبابه كامنة عند أصحابه, قد تشق معرفتها عليهم وعلى سواهم. وبحذق واضح ي فسد الراوي أية تفسيرات محتملة, فيتطوع بتقديمها ويسخر منها خاصة من يقول انه يلتمس حنان امرأة لأن أمه ماتت وهو صغير, لكنه يغفل عن مفتاح ملائم لتفسير آخر: انه يقول أكثر من مرة انه لا يشتهيها, ويفزع إن راوده هذا الخاطر!

    ولماذا هي مجوسية? ذلك يعني انها صابئة, كافرة, مهرطقة, متحدية للسماء والأرض. هذا راويها يتحدث الى آباء الكنيسة: <<أنتم أيها الأساقفة, يجب أن تتسامحوا, لأني مسيح مجوسي يحترق آلاف المرات كل ثانية..>>, ويناجي ليليان: <<ليليان.. دعيني أقول شيئا مجوسيا .. النار التي اشتعلت في قلبي يوما لن تنطفئ..>>!

    قطعة من القص العاطفي الغنائي اللاهث, يلقيها إلينا راو لا نعرف اسمه ولا هويته, وقد لا نستطيع ان نتعاطف مع احتراقه في هذا الأتون!

    قلت إن <<مدن الملح>> كانت رواية عقد الثمانينيات, لكن, <<سباق لمسافات الطويلة>> كانت التمهيد الضروري لها.

    هي متفردة من حيث انها ذات مضمون سياسي, تدور أحداثها في هاتين السنتين المهمتين في تاريخ ايران الحديث: 1951- 1953, أي منذ قيام رئيس الوزراء, الدكتور محمد مصدق, بتأميم صناعة النفط الذي كانت تسيطر عليه شركة <<انجلو- ايرانية>> تملكها انجلترا, حتى سقوطه. كان مصدق على رأس تحالف <<الجبهة الوطنية>>, لكن كان تحالفا هشا أكثر منه حزبا صلبا ومتماسكا . وكان عليه ان يواجه الشاه, ومن ورائه أمريكا, اضافة لانجلترا بحكم مصالحها المباشرة, ونشب الصراع الذي دام حوالي العامين وانتهى باسقاط مصدق في اغسطس 1953, ومن المؤكد الآن - كما أثبت كتاب كثيرون- أن المخابرات المركزية الامريكية لعبت الدور الاساسي في الاعداد للانقلاب الذي أسقط مصدق, ومن المؤكد كذلك ان المخابرات الانجليزية لم تكن غائبة عما يحدث أو بعيدة عنه, ومن المؤكد أخيرا , أن الامريكيين هم الذين فازوا في <<سباق المسافات الطويلة>>.

    أقول إنها متفردة لأنك لن تجد تحديدا دقيقا لأسماء الاعلام او الاماكن. ان اسم <<مصدق>> لا يرد أبدا في طول الرواية, بل يتم الحديث عنه بوصف <<العجوز>>, ولن تجد اسم طهران رغم انك ترى شوارعها وتمشي في أسواقها وتشم روائحها وتشهد حشودها المتظاهرة صباح مساء, والحديث دائما يدور عن <<الشرق>> و<<الشرقيين>>, وأقسام الرواية تتصدرها كلمات <<لورانس>> و<<تشرشل>>, والبطل, الراوي, الشخصية الرئيسة في العمل هو بيتر ماكدونالد, الموظف في شركة النفط, ومن سيصبح مسؤول المخابرات الانجليزية في خضم هذه الاحداث.

    وقلب الرواية صراع أساسي, لنقل: تسابق الى احراز الانتصار بين قوتين كبيرتين: انجلترا, بعلاقاتها السابقة بالمنطقة كلها كدولة مستعمرة, وامبراطورية لا تغرب عنها الشمس, وامريكا: الأكثر قوة وفتوة وقدرة على تحديد أهدافها دون أوهام, والعمل على تحقيقها بكل الوسائل وعلى رأسها الدولار العتيد. وما أكثر ما نطالع آراء الانجليز في حلفائهم- الأدق ان نقول : وارثيهم- وما أقل ما نعرف وجهات نظر الامريكيين لكننا نرى آثار أفعالهم التي يحققون بها النصر في النهاية, عن الامريكيين يقول ماكدونالد لنفسه: انهم حمقى هؤلاء الامريكيون.. مجرد خنازير في رقابهم أطواق من الذهب, لكنهم حلفاؤهم لا مفر فالسباق يدور في وجود الآخرين المتربصين وراء الحدود مباشرة, ولهم تاريخهم ورجالهم هنا, أي الروس. غير ان الحليفين يتفقان في النظرة الى <<الشرق>>: نظرة متعالية متأففة, من فوق والشرقيون عند الانجليز جاحدون لأفضالهم, وعند الامريكيين متخلفون يجب أن يتعلموا الحضارة, ولو بقوة السلاح!

    بأحداثها وشخصياتها تنهي <<سباق المسافات...>> عهد الاستعمار القديم وعصر الامبراطورية, ليبدأ عصر جديد واستعمار من نوع مختلف. والحفل الباذخ الذي اقامته <<شيرين>>: المرأة الايرانية الجميلة الذكية الشبقة للمنتصرين, فيه تودع عشيقها القديم قبل عودته لانجلترا, وبه تنتهي الرواية, إنما يعني التأهب لاستقبال السيد الجديد, والارتماء في أحضانه لو كان هذا ضروريا ومفيدا .

    وجوه الامتياز عديدة: توسيع أفق الرواية العربية والخروج بها لأرض جديدة, والنجاح في تقديم عالم روائي متكامل, شخوصه وأحداثه وطريقته في القص, يكافئ الواقع القديم ويلتزم محاوره الرئيسة لكنه ينطلق حرا في مساحات كبيرة من الابداع الخالص, ثم الوعي الصحيح وحسن قراءة الواقع السياسي, والارتفاع منه لأفق أرحب هو موقف القوى الاستعمارية في الغرب من الشرق وشعوبه بوجه عام.

    وما أكثر ما ك تب, وما سوف يكتب لسنوات طويلة قادمة عن <<مدن الملح>>: د رة عبدالرحمن منيف الفريدة, واحدة من أهم الروايات المكتوبة بالعربية, إن لم تكن أهمها على الاطلاق. قاربت صفحاتها الألفين والخمسمائة صفحة, وامتدت في الزمان من السنوات الأولى للقرن العشرين حتى منتصف سبعينياته. خل الآن امتداداتها الأكثر عمقا في التراث والمأثور والممارسات والطقوس, تنقلت أحداثها ما بين <<موران>>- اقرأ: نجد, واقرأ كذلك: الرياض- ووادي العيون وعجرة وحر ان والحويزة والعوالي وعشرات الأماكن, الصغيرة والكبيرة, في الجزيرة العربية. وانطلق أبطالها الى أماكن كثيرة خارجها, الى دمشق وعم ان وبيروت والاسكندرية, الى بادن - بادن وجنيف وباريس ونيويورك وسان فرانسيسكو, وحفلت صفحاتها بقائمة غنية ومنوعة من الشخصيات, بدوا وحضرا , وعربا : شواما ولبنانيين ومصريين, وأجانب أمريكيين وانجليز وسويسريين وألمان. ورغم المساحات المتباينة التي تشغلها الشخصيات في هذه البانوراما الهائلة إلا أنها تتمايز تمايزا تاما , فلا تشتبه واحدة بالأخرى.

    حين صدر الجزآن الأولان: <<التيه>> في 1984 و<<الاخدود>> في 1985, كان تصوري- الذي أكده الروائي لي ولغيري وأثبته الناشر في نهاية الجزء الثاني- ان الباقي جزء ثالث فقط هو <<تقاسيم الليل والنهار>>. ثم صدرت أجزاء ثلاثة معا في 9891: <<تقاسيم الليل والنهار>> و<<المنبت>> و<<بادية الظلمات>>. وفي ظني ان الجزء الاخير هو الذي كان يمكن أن يشكل الجزء الثالث, وعنوانه <<تقاسيم الليل والنهار>> اكثر انطباقا على مضمونه وصياغته منه على الجزء الثالث من الخماسية الجديدة, ربما أكد هذا الظن عندي ان الجزءين الثالث والرابع يشكلان انطلاقتين من المسار الذي يتخذه العمل, احداهما في الزمان والأخرى في المكان. صحيح انهما مرتبطان بالمشروع الروائي في مجمله, وانهما يضيفان قدرا من الانفساح لعالم هذا المشروع, بتعميق رؤيته الافقية والرأسية, لكن الصحيح كذلك انهما يكتسبان قدرا من الاستقلال النسبي لا يتوفر للأجزاء الثلاثة الأخرى: الأول والثاني والأخير.

    هذا المشروع الروائي كله يمكن ايجازه في عبارة واحدة: انه لون من <<التاريخ الفني>> لظهور النفط في الجزيرة العربية, من ناحية, ثم قيام الدولة وترسيخ قواعدها في هذه المنطقة من العالم, من ناحية ثانية. هنا لن يجدينا أن نصرف النظر عن التزام الروائي بالحقيقة التاريخية المتمثلة في الاشخاص والقوى التي قامت بأهم الأدوار في الحقبة التي يعرض لها, على العكس تماما : إن معرفتنا بهذه الحقيقة سييسر لنا الدخول الى عالم <<مدن الملح>>, وسيتيح لنا ان ننظر للشخصيات الروائية من حيث علاقتها بأصولها الواقعية: كيف استند الروائي الى هذه الصلة, ثم انطلق يعيد صياغتها وخلق شروط وجودها دون ان يمسخ جوهرها التاريخي أو يزي ف دلالاتها.

    وهذا لا يعني - بطبيعة الفن الروائي ذاته- أن العمل قد تحول لشفرة ساذجة, تصبح فيها كل شخصية في المشروع الروائي مقابلة لأخرى في التاريخ الواقعي, أو واقفة بديلا عنها, فثمة مساحات واسعة للابداع الخالص, ينطلق فيها خيال الروائي حرا جسورا , يبدع الشخصيات ويقيم بينها العلاقات, ائتلافا واختلافا , ويطلق لها حرية الفعل والقول, يقيده, فقط, التزام عام واحد: ان يبقى صادقا - بالمعنى الفني أولا , ثم التاريخي بعد ذلك- مع شروط المرحلة التي يعرض لها, والقوى الفاعلة فيها, في ذلك المدى الواسع الممتد من مطالع القرن الماضي لمنتصف سبعينياته, ثم ان يبقى على اتساق مع مجمل الرسالة التي يود ان ينقلها لقارئه باكتمال عمله.

    بايجاز: ان قارئ العمل كله يفيد كثيرا لو وضع في اعتباره أن <<السلطنة الهديبية>> انما هي المملكة العربية السعودية>> وان <<موران>> هي نجد وهي <<الرياض>> ولو رت ب على هذا الفهم ما يمكن أن يترتب عليه.

    وبضمير مرتاح يمكن القول ان عبدالرحمن منيف قد حقق مشروعا روائيا بالغ الاهمية والطموح. تنبع أهميته من القضية الأساسية التي يتصدى لها, وهي واحدة من أخطر قضايا الوجود العربي المعاصر: النفط وظهوره في المنطقة العربية, وما أحدثه في الداخل والخارج. وهو: بحكم انه من أهل الجزيرة أولا, ودارس لهذه القضية دراسة علمية متخصصة, ثانيا , ولقدرته الفائقة على الدراسة والعكوف على العمل, ثالثا , هو أقدر روائي عربي على الخوض في هذا <<التيه>> (أو الغوص في مدن الملح كما كان يحب أن يقول). أما طموح المشروع فيتمثل في انه لم يهدف الى تصوير حاكم باطش وحاشية فاسدة وشعب مقهور, ولم يهدف لكتابة <<رواية أجيال>> تصور اختلاف وجه الحياة في ملامحه <<الثقافية>>- بالمعنى الأوسع للكلمة- من جيل لجيل, ولم يهدف لابتعاث صورة قديمة للحياة في تلك البادية المترامية قبل أن تد ب فوقها آلات القادمين وتشق أديمها..

    لم يهدف منيف الى شيء من هذا فقط, كان هدفه يشمل هذا كله ويتجاوزه في آن: لا أقل من صورة الحياة كاملة: بأضوائها وظلالها وظلامها, ما يدور منها في العلن وما تخفيه أسوار القصور وأقفاص الصدور. وما أحفل قائمة الشخصيات في عمله: من الرجال والنساء, أهل البلاد والوافدين والأجانب, الأمراء والسوقة, التجار ورجال الدين, حاشية الحاكم, ومناهضي الحاكم, قادة الجند وخدم القصور, السماسرة ورجال الاعمال والأفاقين, العرافين والمنجمين وقارئي الطالع, عشاق المال وعشاق السلطة وعشاق المتعة وعشاق الخيل وعشاق الكلمات وعشاق قولة الحق. وقارئ <<مدن الملح>> قد لا يستطيع أن يخلص من اثر عدد كبير من هذه الشخصيات, كلها مستديرة, كاملة الوجود, لها حق غير منقوص في ان تحيا غير مختلطة بسواها. لعل أبقاها تلك التي ت عد تجسيدا لثقافة المجتمع القديم, التي تمثلت أصفى قيمه وممارسته في التواؤم مع الطبيعة وحسن استغلال مصادرها, والعيش في ظل العدل والحرية. ان هذه شخصيات تتواتر على طول الملحمة الروائية, تبدأ بمتعب الهذال وم فضي الجدع ان وتنتهي الى شمران العتيبي وصالح الرشدان وشداد المطو ع, وتواصل وجودها- في سياقات متغيرة- في أبناء شمران وع مي ر, وآخرين لا نعرفهم, لكننا نحدس حدسا قويا أنهم موجودون في موران التي تعودت ان تصبر وتنتظر!

    تلك كلها شخصيات قوية صلبة, كارهة للظلم والاستبداد, معارضة الحاكم والطغيان, مطالبة بالعدل والحرية. لم ي غرها المال وإن زاد, ولم ترهبها السلطة وإن بطشت, وهم يتحملون- بطبيعة مواقفهم- نصيبا موفورا من هذا البطش: ي سجن مفضى الجدعان ثم ي قتل, وتقطع يد صالح الرشدان ثم ي عدم, أما أبناء رشدان فهم من حبس الى حبس, كذلك ع مي ر: لم يشفع له انه خال أحد الحكام, وبعد أن قضى في السجون معظم سنوات عمره, أعدم أحد أبنائه, لكن ابنه الثاني أطلق النار على الحاكم, ودو ت طلقاته بأصوات كل الفقراء والمقهورين, مسلوبي الحق في الحياة وابداء الرأي في أمور بلادهم, والحصول على نصيب عادل من ثروتها.

    وذلك هو الأفق النبيل الذي تتوجه نحوه <<مدن الملح>>.

    مستعيرا لسان <<رجب اسماعيل>> يقول <<عادل الخالدي>> لصاحبه: <<لا يمكن ان نعدم السجون إلا إذا ألغينا حالة الخوف, وهذا لن يكون إلا بالفضح والتحدي.. والخطوة الاولى في هذا السبيل ان نقول الحقيقة..>>. كان عادل الخالدي يحر ض صاحبه <<طالع العريفي>> على أن يكتب ما رأى وشهد. من <<موران>>: عاصمة <<مدن الملح>> ورمزها واسم الجزء الدال على الكل, جاء طالع ومن <<عمورية>>: مدينة <<عالم بلا خرائط>>, ورمز المدن العربية دون تخصيص, جاء عادل. وراء كل منهما ماض مثقل, كلاهما خاض تجربة العمل السياسي السر ي, وكلاهما قضى في سجون بلاده أزهى سنوات العمر, خاض فيها أهوالا دونها أهوال الجحيم, وكلاهما أبعدته سلطات بلاده كي يموت بعيدا وقد اصبح حطاما شبه عاجز. التقيا في مستشفى <<كارلوف>> بمدينة <<براغ>> يلتمسان الشفاء لعلل الجسد وأوجاع الروح.

    بعد أن اقتنع طالع بأهمية أن يثبت شهادته. كتب في صفحتها الأولى: <<إن جحيم العذاب الذي قد يلمسه من يقرأ هذه الاوراق.. يجب ألا يخلق الخوف والتردد, بل يجب أن يخلق موقفا معاكسا , أي أن يحفزنا على استثمار هذا الحق وتوجيهه في الاتجاه الصحيح, ليس ضد أفراد, إنما ضد حالة..>>, بهذا الهدف, إذن, رجع منيف الى <<شرق المتوسط>>: الرواية والموقع معا , ليكتب <<الآن هنا.. أو شرق المتوسط مرة أخرى>>.

    اكثر من خمسمائة صفحة تمتلئ بتفاصيل الهول والعذاب في سجون عمورية وموران, وسط هذا الجحيم الخانق يتألق الصمود الانساني مثل جوهرة تضيء في الظلام, فلا معنى لكل هذا الكم من العذاب دون تألق هذا الصمود, جوهر الإنسان الذي يأبى أن ي سحق: ويظل الكائن الذي حوله الجلادون كتلة شائهة م دماة, مرمية وسط فضلات الجسد, عاجزة عن أن ترفع يدا او تحرك إصبعا , قادرا على الاحتمال ومواصلة الرفض, قادرا على ان يرى نهاية النفق: الموت, في سياق مختلف: هناك لحظات وحالات يصبح الموت فيها شغفا ورغبة. وراء موقفه يقين ثابت بصحة قضيته: إنه يدافع عن قضية عادلة وبسيطة: حقه وحق الآخرين في الحياة والحرية, وهم يدافعون عن امتيازاتهم وعن الحكام والشيوخ الفاسدين, لذا يجب أن يكون الأقوى.

    وتطرح الرواية قضية مهمة من قضايا <<الآن هنا>> هي قضية أولئك المناضلين في المنافي, التي افرزتها العقود الأخيرة بوجه خاص, ففي عالمنا العربي نتيجة الانقلابات المتتالية بين نظم الحكم وجماعاته, عرف الواقع أولئك الذين خرجوا- أو أخرجوا- من بلادهم, وصو رت لهم أوهامهم إمكان مواصلة النضال بعيدا عن مواقعهم وقواعدهم, وعن الأرض التي يتحتم أن يدور فوقها, ومن أجلها, هذا النضال.

    وليس وهم النضال في المنفى غير سبب واحد من أسباب انحسار النضال الثوري- لو لم تزعج هذه الكلمة أحدا - وتناثر الحلم شظايا. وتلك هي التيمة المهمة الثالثة في رواية منيف. ولأن هؤلاء جميعا يدفعون الثمن الفادح لنضالهم, فمن الطبيعي ان يتساءلوا عن جدواه, وان تدور النقاشات حوله المرة بعد المرة. ولن يتسع لنا المجال لتفصيل وجهات النظر حول هذه القضية: نكتفي باشارات قليلة: لأن عادل الخالدي هو راوية القسمين الأول والثالث, وهو من يبقى معنا حتى الصفحة الأخيرة, بعد أن ترك له صاحبه أوراقه, ثم أدار وجهه للجدار, ومات, فانه هو الذي يقول بضرورة أن تتغير النظرة الى العمل السياسي, وان يتغير العاملون به أيضا, كيف وفي أي اتجاه?

    قد نجد مؤشرات الاجابة في الحوار الذي يدور بين عادل ومسؤولي التنظيم الذين جاءوا لزيارته فسخر بهم, واستعان عليهم بالساخر الأكبر: لوقيانوس. يقول عادل ان لديه ثوابت ثلاثة أساسية: الديمقراطية حقا , ايمانا وممارسة, للجميع وبالمستوى نفسه. ثانيا: سيادة مفهوم النقد, لا بمعنى حريتي في شتم الآخرين, انما مدى مسؤوليتي عن الاخطاء التي حصلت, ولماذا حصلت, وكيف يمكن تجاوزها في المستقبل. عن الثابت الثالث يقول عادل الخالدي: <<إنني مع الحزب وضد الكتل, مع الديمقراطية وضد الحقوق المكتسبة والإرث التاريخي, مع النزاهة والاستقامة وضد الشطارة والتلفيق, مع المنطق وضد الارهاب والتشهير.. مع الانسان وضد الغول والبهلوان والصنم..>>.

    وفي كل الأحوال, فان البدء بخصوصية الواقع لا عمومية التصورات والأفكار, والارتباط الحميم بالناس لا النزول اليهم, وممارسة الديمقراطية وإعمال النقد: نقد الذات والآخرين, هي جميعا ما يمكن أن تكون سبل التجاوز, وهذا ما يهب المعنى لكل نضالات المناضلين, من قضى نحبه ومن ينتظر, ولكل ما لقوا من أهوال, وما اصاب الأجساد والأرواح من وهن وجراح.

    في ضوء هذا العمل الكبير تبدو <<شرق المتوسط 5791>> تخطيطا أوليا , لقد وسع منيف من آفاقه, وغاص عميقا في أغواره, وارتفع بقضية النضال السياسي الى مستوياتها الانسانية الشاملة, كما ارتفع بأدب السجون العربية الى ذروة لم يبلغها فيما أعرف من هذا الأدب.

    <<أرض السواد>> هو الاسم الذي أطلقه العرب على العراق حين أتموا فتحه في سنة 156م. قيل: لأنهم دخلوه قبيل الغروب, وكانت ظلال آلاف النخيل ترتمي على الأرض فتكاد كثافتها ان تحيلها الى السواد. وقيل إنهم- وهم أبناء البادية بامتياز- أطلقوا هذا الاسم على العراق لخصوبة أراضيه التي يرويها نهران كبيران, وعديد من الأنهار الصغيرة.

    ولكن.. أي عراق اختار منيف ان يحكي عنه في ثلاثيته بهذا العنوان, آخر أعماله الابداعية? أبادر للقول انها رواية واحدة متصلة, وليس تقسيمها لأجزاء ثلاثة إلا لاعتبارات النشر وحدها, فعدد صفحاتها يقارب الخمسمائة والألف صفحة. بعبارة أخرى: بعد فصل تمهيدي بعنوان <<حديث بعض ما جرى>>, يوجز فيه الروائي الأحداث السابقة على ظهور بطله <<داود باشا>>, تحمل فصول الرواية المتتالية أرقاما تنتهي الى الثالث والثلاثين بعد المائة. والشخصية الرئيسة في العمل- وعلى هذا الوصف أكثر من تحفظ- هي والي بغداد الشهير داود باشا: ولد حوالي 1774م, وتولى ولاية بغداد في 1817م, وهزمته قوات السلطان العثماني محمود الثاني واخرجته منها في 1831م, ومات مبعدا في 1850م. ربما كان الأدق ان نقول ان رواية منيف تتناول العراق خلال السنوات الأولى من ولاية داود, فهي لا تمضي لنهاية تلك الولاية, بل تتوقف عند 1821م, عندما خرج القنصل البريطاني كلاديوس جيمس ريتش شبه مطرود من بغداد, بعد تصاعد الخلاف بينه وبين الوالي, هي, اذن, رواية تاريخية تتناول بضع سنوات متصلة من القرن التاسع عشر في أرض السواد, ومن ثم فان التساؤل الاول يكون عن التزام الروائي بالحقائق الموضوعية للفترة التاريخية التي تدور فيها أحداث روايته, وأبادر للقول كذلك بأن منيف قد التزم التزاما صارما بتلك الحقائق كما تكشف عنها الدراسة المستندة الى الوثائق والمراجع.

    تلك الحقائق تتحدث عن ثلاث من قائمة الشخصيات الحافلة في <<أرض السواد>>: والي بغداد والقنصل البريطاني وأغا الانكشارية. والرواية تتابع الصراعات الدائرة بين ثلاثتهم, ومن حولهم يبدع الروائي شخوصه التي ينطلق فيها حرا , لا يقي ده سوى أن تبقى هذه الشخوص نتاجا طبيعيا للفترة المعنية. على رأسها يأتي <<بدري>>: ابن واحد من تجار بغداد, مرافق الباشا العسكري حتى غضب منه فأبعده الى كركوك, وهناك دخل في صدام مع الأغا انتهى نهاية دامية, ثم هناك <<قهوة الشط>> وروادها الدائمون: الأسطى اسماعيل, م زين المحلة, وسيفو: سقاء المحلة حتى ضاق بهذا العمل فانصرف عنه, والأسطى عواد صاحب القهوة, وحسون: الفتى الضائع الملقى في قاع القاع, والم لا حمادي إمام جامع المحلة. من حول هؤلاء يتغير الرواد ويتبدلون, وهم لا يتركون حدثا يحدث, أو أحدا يروح أو يجيئ دون أن يصبح محط حواراتهم وتعليقاتهم التي لا تنتهي.

    كان داود يحلم بعراق قوي موحد, مستقل عن النفوذ الأجنبي, سواء من جانب اسطنبول أو الدول التي يمثلها القناصل الموجودون في بلاده, وكان النموذج والمثال الذي يتراءى له في صحوه ومنامه هو محمد علي, باشا مصر من 1805م الى 1848م, لكنه ليس غافلا عن الاختلافات القائمة بينهما. يقول لواحد من رفاقه بعض أحلامه: <<مثل ما سو ى والي مصر راح نسوي, الجيش, السلاح, المعامل, المدارس, الجوامع...>>, وينبئنا التاريخ انه كان مصلحا كبيرا , وانه بذل جهودا هائلة لكي يضع أحلامه موضع التنفيذ في مشروعات الزراعة والصناعة, وحقق العراق في عهده قدرا من الازدهار الاقتصادي, كما ي عد داود من رعاة النهضة التي تقوم على نشر الثقافة العربية والتوجه العربي, فقد كان للثقافتين الفارسية والتركية حضور قوي في عراق القرن السابع عشر: اهتم بالتعليم , فزادت المدارس في عهده زيادة كبيرة, الى جانبها نشط التعليم في الجوامع وفي البيوت للفتيات. لهذا كله يعتبر المؤرخون ان ما تم في عهد داود من إحياء وتدعيم للثقافة العربية انما كان التمهيد القوي للنهضة العلمية والأدبية التي عرفها العراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

    ولهذا كله أيضا اختار عبدالرحمن منيف هذه الصفحة المشرقة من تاريخ العراق ليجلوها... <<الآن.. هنا..>>, <<أرض السواد>> أغنية حب طويلة دافئة للعراق, لأهله أولا , ثم لطبيعته القاسية الحنون: حين يفيض دجلة فيغرق كل قائم, حين تتفتح الطبيعة بألوانها الساحرة في الموصل, أم الربيعي ن, حين تتدفق ينابيع الماء صافية في جبال الشمال, حين يلتهب القيظ في البادية ثم يهطل المطر فيصفو الجو ويعبق بروائح تحار كيف تتجمع وسط هذه الصحراء المترامية, ما أشبه طبيعة العراق بأهله: وراء الجهامة والغلظة البادية تترقرق انسانية دافئة خصبة, كأمواه دجلة الدفاقة بين الرصافة والكرخ.

    وهو اذا كان قد اختار صفحة من ماضي بغداد, أو ماضي العراق, ليجلوها, فهي صفحة مشرقة مضيئة, لكن دلالاتها في الحاضر لا تخفى: سيبقى العراق دائما محط المطامع والتآمر, وستتحالف ضده القوى الراغبة في محاصرته واستنزافه والحيلولة دون أن يصبح قوة قادرة ومستقلة, تلعب دورها في رخاء الشعب وحماية المنطقة على السواء, ومهما خاض العراق من أهوال, فان في نهاية النفق ضوءا , ومن ضفاف العناء والعذاب يشرق الأمل.

    تلك كانت نظرة الى رحلة عبدالرحمن منيف الابداعية, وانني أراها, حقا , رحلة صعبة ورحلة خصبة. لكن هناك جانبا آخر من مشروعه, لعله يستحق نظرة أخرى, هو أعماله الفكرية, صدر أولها: <<الكاتب والمنفى- هموم وآفاق الرواية العربية>>, في 2991م, وآخرها <<العراق, هوامش من التاريخ والمقاومة>>, الذي صدر نهاية العام الماضي, وهو وثيق الصلة بأرض السواد, وفيما بينهما: <<.. سيرة مدينة>>, في 1994م, و<<عروة الزمان الباهي>>, 1997م, <<بين الثقافة والسياسة, 1887م>>, <<لوعة الغياب, 1998م>>, وفي عام واحد أصدر ثلاثة من هذه الأعمال هي <<رحلة ضوء>> و<<ذاكرة للمستقبل>>, ثم <<الديمقراطية أولا..الديمقراطية دائما>> وكلها صدرت في 2001م, وهي كلها تعبر عن اهتماماته وتعكس جانبا مهما من قراءاته وتأملاته.

    أقرب هذه الاعمال الى ما يشي بوجه الروائي اكثر من سواه, هنا يأتي- على الفور- <<عروة الزمان الباهي>>, وتفسير عنوان الكتاب, الذي يبدو ملغزا, هو الكتاب ذاته, انه عن حياة المناضل والكاتب المغربي الراحل الباهي محمد (1930م- 1996م), ندب منيف نفسه لكتابته عقب رحيله, ورغم انه يقول انه آثر تجنب أسلوب الرواية, رغم اغرائه <<واستبعدت حشد الوقائع والاستشهادات, واكتفيت برسم الملامح العامة لهذا الانسان ومسيرته من خلال التوقف في عدد من محطات حياته..>>, رغم انه يقول هذا إلا ان صنعة الروائي لا تفارقه, وأشير في هذا السياق لملاحظتين: الاولى, ان الروائي يضع بطله دائما في اطار تاريخي او اجتماعي او سياسي بعينه, وهو ما يفعله منيف هنا: انه يقدم الباهي من خلال واقعه المتمثل في تحولات الواقع العربي من الخمسينيات, وتفاصيل النضال المغربي منذ نهاية الحرب العالمية, وصولا الى تحولات الثورة الجزائرية التي ارتبط بها الباهي أوثق ارتباط, الى الواقع الفرنسي بعد نهاية الحرب, وعلاقة فرنسا بمستعمراتها. بعبارة أخرى: انه لا ينفرد ببطله وحيدا معزولا عن سياقه, بل يضعه في مكانه الصحيح من هذا السياق, ثم هناك أيضا تلك الأناة في الوصف والسرد والتحليل, والتي هي سمة اساسية في ابداع منيف الروائي (راجع مشاهد مقاهي بيروت وتفاصيل الحياة في باريس على سبيل المثال). الملاحظة الثانية ان الصياغة الكلية لشخصية الباهي تميل بها للاقتراب من بعض أبطال منيف الذين عرفناهم في أعمال سابقة, واكتفي بالاشارة السريعة لاثنين منهم:: <<عساف>> بطل <<النهايات>>: البدوي بامتياز, الذي يعيش في قريته على أطراف البادية, محتضنا قيمها وأنماطها الثقافية, و<<مفضي الجدعان>> بطل <<التيه>>- الجزء الاول من الخماسية: <<م لبي الحاجات>> و<<أبواليتامى>>. هو كذلك تمث ل أنقى قيم ثقافة البادية- بالمعنى الانثروبولوجي للكلمة, وفيه تجسدت تلك القيم المهددة بالزوال بعد أن جاء الغرباء.

    لا عجب ولا غرابة, هو ذات المبدع في كل الاعمال, وتلك أفضل الفضائل في أعماله.

    العمل الثاني <<لوعة الغياب>>. هي تلك التي يتمثلها في رحيل عدد من أصدقائه المبدعين, وكلمة <<الأصدقاء>> هنا لا تعني المستوى الشخصي وحده, وان كان جل الكتاب ينصرف إليه, لكنها تتسع لتشمل بعض من أحبهم الكاتب, ووجد في أعماله شيئا يعنيه أن يقف عنده ويقدمه لقارئه: الشاعر والمسرحي والرسام الاسباني جارثيا لوركا, والروائي والقاص وكاتب الدراسات والرسائل اليوغسلافي ايفو أندريتش, وتبقى الموضوعات المكتوبة عن الأصدقاء الذين عرفهم الكاتب على المستوى الشخصي الأقرب للقلب والعقل, هنا يمتزج التحليل الدقيق والنفاذ لابداع الكاتب الراحل بدفء المشاعر الخاصة تجاهه. هنا تتجسد- حقا وصدقا - لوعة الغياب, وهنا, ايضا , يتقدم على الفور سعدالله ونوس (إليه يهدي منيف كتابه كله): اربعة موضوعات عن سعد تشغل حوالي المائة صفحة (الكتاب كله لا يبلغ الثلاثمائة) تختلف من حيث زاوية النظر الى اعمال المسرحي الراحل.

    بعد سعدالله يأتي جبرا ابراهيم جبرا, صديق منيف وشريكه في كتابة <<عالم بلا خرائط>>, بعدهما يأتي <<المنفي الأبدي>>, الروائي العراقي غائب طعمة فرمان, هذا الروائي الكبير الذي عاش منفيا ومات مقهورا . أكثر من سبب, إذن, يوح د بين الكاتب وموضوعه, بين منيف وغائب: كلاهما منفى, وكلاهما روائي, وكلاهما عاشق لبغداد والعراق, يكتب منيف: <<لا أعتقد أن كاتبا عراقيا كتب عن بغداد كما كتب عنها غائب, كتب عنها من الداخل, في جميع الفصول وفي كل الأوقات..>>, ويتحدث منيف عن مشكلة قد لا يحسها إلا من يعانيها, لا يعرفها ك ت اب السلطة, أية سلطة, والنظام, أي نظام, مشكلة اسمها <<جواز السفر>>, يقول: <<ربما كنت, وغائب, من أقدم او قدامى الذين عانوا من مشكلة اسمها <<جواز السفر>> (...) هذه المشكلة طالت غائب من وقت مبكر, وربما كان من أوائل العراقيين الذين ن زعت عنهم الجنسية, وظلت هذه المشكلة تطارده حتى نهاية العمر تقريبا , ومع ذلك احتمل, لم ي سل م, ولم يتنازل..>>.

    هل كان منيف يتحدث عن غائب طعمة فرمان, حقا?

    ) عبدالرحمن منيف كان صديقي, عرفت اعماله الابداعية وكتبت عن بعضها قبل أن أراه. التقينا حول منتصف الثمانينيات, لم نلتق خارج القاهرة, ولم تبلغ لقاءاتنا عدد أصابع اليد الواحدة, لكنها كانت حافلة وخصبة. توطدت الصداقة واستقرت عبر التراسل والمتابعة, أكدتها الهموم المشتركة والعناء الواحد. وسوف أفتقده طويلا.

    كان أمة وحده.. عليه سلام الله.
                  

05-24-2005, 08:46 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    صــلاةُ الوثــنِــيّ
    " إلى عبد الرحمن منيف "



    يا رَبَّ النهــرِ ، لكَ الحمدُ :

    امْـنَـحْــني نِــعْـمةَ أن أدخلَ في المــاءِ …

    لقد جفَّ دمي

    ونشِــفتُ ؛ قميصي رملٌ ، وشفاهي خشبٌ

    حتى حُلمي صار طوافاً في مَـذأبةٍ صفراءَ …

    امنَحْـني ، ياربَّ النهرِ

    كِـســاءَ النهرِ ،

    لكَ الشكرُ

    لكَ الحمدُ

    فـمَـنْ لي غيرُكَ ، يا عارفَ سِــرِّ الماءْ ؟

    …………...

    ……………

    ……………



    يا ربَّ الطيرِ ، لكَ الحمدُ :

    امنَـحْـني أنْ أتَـقـرّى بين يديكَ جناحَ الطيرِ

    امنحْـني نِـعمـةَ أن أعرفَ نبضَ قوادمِـهِ وخوافيــهِ

    وأنْ أدخلَ فيهِ …

    لقد أُوثِقْـتُ ، سنينَ ، إلى هذي الصخرةِ ، يا ربَّ الطيــرِ :

    أدِبُّ دبيباً

    وأرى كلَّ خلائقِـكَ ارتفعتْ نحوَكَ تحملُـها أجنحةٌ

    إلآّيَ …

    امنَـحْـني ، يا ربَّ الطيرِ ، جناحينِ !

    لكَ الشّــكر …

    ……………

    ……………

    ……………

    يا ربَّ النخلِ ، لكَ الحمدُ :



    امنَــحْــني ، يا ربَّ النخلِ ، رضاكَ ، وعفوَكَ :

    إني أُبصِـرُ حولي قاماتٍ تتقاصَــرُ

    أُبصرُ حولي أمْـطاءً تَحدودِبُ ،

    أُبصرُ من كانوا يمشونَ على قدمينِ انقلبوا حـيّـاتٍ تســعى …

    يا ربَّ النخلِ ، رضاكَ وعفوَكَ

    لا تتركْـني في هذي المحنةِ

    أرجوكَ !

    امنَـحْـني ، يا ربَّ النخلةِ

    قامةَ نخلةْ …



    لندن 26/1/2004

    ـــــــــــــــــــــــــ

    * أمطاء : جمعُ مَـطا ، وهو الظَّــهر .

    العودة إلى الأعلى


    الليلةَ … لن أنتظرَ شـيـئاً
    أنا لن أنتظرَ الليلةَ شيئاً :

    هو ذا القطنُ الشتائيُّ يغطي ساحةَ القريةِ

    والطيرُ الذي ظلَّ يزورُ الكستناءَ ارتحلَ…

    الأشجارُ لا تهتــزُّ ،

    والنافذةُ الوسطى التي تمنحُـني إطلالةَ الـبُــرجِ ، تغــيمُ

    ……….....

    …………..

    …………..

    الآنَ تأتي عدنٌ بالبحرِ

    تأتي عدنٌ بالـسَّـيـسَـبانِ الـحُـرِّ والأسماكِ

    تأتي بالأفاويــهِ …

    وتأتيني بما يجعلُ هذا الكونَ ملتـفّـاً على جمــرتــهِ ؛

    أنـظـرُ في المـرآةِ :

    كانَ الشخصُ يدعوني إلى شــاطئهِ

    مثلَ الغريــق …
                  

05-24-2005, 09:21 PM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    الأخ صبري

    ياخي ألف شكر على هذا المجهود المتميز، أتمنى أن أعود فلي خواطر حول عبد الرحمن منيف لابد أن تسجل في هذا البوست المتميز



    ودي و إحترامي




    مرتضى جعفر
                  

05-25-2005, 06:08 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    uo up up
                  

05-26-2005, 04:03 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    up and up
                  

05-26-2005, 07:52 PM

Ehab Eltayeb
<aEhab Eltayeb
تاريخ التسجيل: 11-25-2003
مجموع المشاركات: 2850

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    الاخ صبري .........

    شكرا علي هذا الزخم العلوماتي عن عبد الرحمن منيف..والاستعراض لبعض اعماله

    كنت قد انتهيت لتوي من القراءة الثانيه -بعد اكثر من عشرة سنوات من االقراءة الاولي -

    لروايته شرق المتوسط ,,,

    لك تحاتي ..وودي,,,
                  

05-27-2005, 05:37 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    شكرا ايهاب

    منتظرين وشرق المتوسط مدهشة تقرا بنفس بيت

    اشباح الجبهة وسنين ظلامهم


    انا اقرا في ثلاثيته ارض السواد
                  

05-27-2005, 07:17 PM

Ibrahim Adlan
<aIbrahim Adlan
تاريخ التسجيل: 08-22-2004
مجموع المشاركات: 1200

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    إن إشكالية العلاقة بين الغرب المتحضر والشرق المتخلف ليست جديدة في أدبنا المعاصر، فقد ظهرت بكثافة في كتابات الأدباء، منذ القرن التاسع عشر، نذكر منها، على سبيل المثال: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» لرفاعة الطهطاوي (1834)، و«عصفور الشرق» لتوفيق الحكيم (193، و«الحي اللاتيني» لسهيل إدريس (1954)، و«موسم الهجرة الى الشمال» لطيب صالح (1966)، وغيرهم كثيرون على صعيد الإبداع الروائي.

    وإن صورة العلاقة في هذه الآثار، ليست من نمط واحد، بل اتخذت انماطاً ذات أبعاد متعددة، حسب السياقات التاريخية والمنابع الفكرية والثقافية والسياسية المتضاربة، وهذا ما نجد أشباهاً له ونظائر في الآداب الإنسانية كلّها. ‏

    وقد طرح الكاتب عبد الرحمن منيف هذه الإشكالية في العديد من رواياته.. ففي رواية، «الأشجار واغتيال مرزوق» (1973)، يدين الشرق، وينوه بالغرب الديمقراطي من خلال شخصية منصور عبد السلام ـ الأستاذ الجامعي، الذي توقف عن التدريس، بسب مواقفه السياسية المعارضة، فاضطر الى العمل مترجماً في بعثة الآثار الفرنسية، وتعرف على فتاة مجرية، اسمها كاترين، كانت تعمل في البعثة، يخاطبها: «والملوك عندنا يا كاترين لا يشبهون ملوككم أبداً، كل رجل عندنا ملك، والممالك صغيرة لدرجة أنها متجاورة ومتراصة مثل مراحيض المقاهي والفنادق...» (ص24. ‏

    ثم يمعن في تصوير اضطهاد الحاكم لشعبه: «كاترين لا تغضبي، فأنا لا أقول سوى الحقيقة، وهذا الملك الذي أتحدث عنه قاسٍ حتى إن الشرر يتطاير من عينيه دائماً، وكل يوم يقتل مئات من الناس، يقطع أيديهم ورؤوسهم ويجلدهم في الميدان الكبير، ويسرق كل قمحة تنبت في أي شبرٍ من الأرض، ويلقي للناس بالفتات، والناس يهزون رؤوسهم شكراً واعترافاً بالجميل» (ص249). ‏

    ويعتقد أن اللقاء بين الشرق والغرب مستحيل، ولذلك يرفض الارتباط بصديقته البلجيكية والعودة بها الى موطنه لقناعته بعدم تكيفها مع المجتمع الشرقي المختلف والمناقض تماماً للبيئة الغربية المتطورة، كما يتضح من الحوار التالي: «كاترين!.. نحن عالمان، التقيا صدفة.. وبعد قليل سوف نفترق.. لأننا من عالمين مختلفين التقينا في نقطة، ولكن كل عالم منا سيواصل رحلته الى آخر الحياة دون أن نلتقي مرة أخرى» (247)، ثم يسخر من أعمال بعثة الآثار وهي تنقب عن الألواح المسمارية ومظاهر الحضارة البابلية، لأن تلك الحضارة قمعية قامت على جماجم الشعوب، فهي تاريخ أفراد، ومعرفته بهذا التاريخ في نظره ـ لا تقدم ولا تؤخر شيئاً بالنسبة للإنسان: «وأنت يا مسيو «دونال»، هل وصلت إلى الموقع؟ هل حضرت كل شيء لاستقبال الرجال الذين سيبحثون عن ألواح الطين؟ وإذا وجدناها يا مسيو «دونال»، ماذا سنفعل بها؟ لنعرف التاريخ القديم بشكل أفضل؟ وإذا عرفناه هل يتغير شيء في حياة الناس الذين يعيشون الآن؟! إن ما نفكر به مجرد عبث أخرق» (ص189). ‏

    إنه ينظر إلى تلك الحضارات القديمة من زاوية أيديولوجية اشتراكية، وهي حصيلة قراءات منيف في الفكر الماركسي. والحقيقة إنه لم يضف إلى الكتّاب الذين سبقوه في هذا الموضوع شيئاً سوى التشاؤم والطرح ا لحاد. ‏

    وفي قصة «حب مجوسية» يطرح منيف العلاقة بين حضارة الشرق، وحضارة الغرب طرحاً ضمنياً مقتصراً على الأبعاد الوجودية، وكأنه يشيد بالإمكانات المتوافرة في فضاء الغرب الملائم لاكتشاف الذات الإنسانية، وإن بطل الرواية المجرد من الاسم واللقب، يكتشف من خلال علاقته بـ «ليليان» اغترابه عن العالم، ليس بسبب التباين الثقافي والحضاري والروحي، وإنما كان ناتجاً عن التأثر بالفكر الوجودي كما يتجلى في الاقتباس التالي: «لو قلت لكم إن حياة البشر تشبه خطوط السكك الحديدية، فهل تفهمون ما عنيته؟ منذ البداية نفتقد اللغة المشتركة، ليس بيننا شيء مشترك، ليس لديكم تجاهي حتى الرغبة في أن تفهموا...! لا يهمني، بدأت الرحلة وحيداً وسأنتهي وحيداً» (ص4 وما يزيد هذا الاحساس بالاغتراب قوةً، أن البطل يكتشف في نهاية الرواية عبثية الحياة ذاتها، فقد ظل يبحث عن ليليان مدة طويلة، ولكنه لم يستطع أن يجدها إلا في محطة القطار، وهي تهمّ بركوب قطار غير القطار الذي يستعد لركوبه. ‏

    أما في رواية «شرق المتوسط» فهو مبهور بحضارة الغرب، بوصفها المأمن والمنقذ للهاربين من سجون الشرق وإرهابها، وعندما سافر إلى فرنسا للعلاج من الأمراض والعاهات التي أصابته جرّاء التعذيب على أيدي الجلادين، ونزل في مرسيليا ثم انتقل إلى باريس، عبّر عن ولعه بمظاهر الحضارة وحرية الفكر وحقوق المواطنة، وحقوق الإنسان، متذكراً صورة «شرق المتوسط» الممتهن لكرامة الإنسان، ولكنه في النهاية يقرر العودة إلى الشرق، مبرزاً التناقض الصارخ الذي يسود حضارة الغرب، عندما يحاور طبيبه «فالي» مذكراً إياه بـ: «باريس المشانق والمقاصل والحصاد»، ‏

    ويرى أن الشرق والحرية ضدان لايجتمعان، ولهذا نجد البطل يستحث السفينة اليونانية الدالة الاسم «أسخيلوس» للوصول بجسده الى الغرب، حيث يلتقي برومثيوس العربي بروحه الليبرالي، المقيم على ضفة غرب المتوسط! «أسخيلوس أنت سفينة الحرية، سفينة لها مئة باب. لاترجعي، اقفزي دائما الى الامام، ويلٌ لك اذا أمسكوا بك يوما». هذا التماهي مع السفينة المنطلقة من اليونان أصلا والمنتهية الى الغرب حكماً: «احذري يا أسخيلوس إن عدت يوما الى الشاطىء الشرقي، سيجدون لك سرداباً أصغر من القبر». ‏

    وإذا كانت العلاقة بين حضارة الغرب والشرق في روايات منيف السابقة غير متكافئة، لأن المغلوب مفتتن بحضارة الغالب الموسومة بالديمقراطية والليبرالية.. ومع ذلك فالشرق شرق والغرب غرب في منظور الكاتب. ‏

    أما في الروايات اللاحقة التي تبدأ برواية «سباق المسافات الطويلة»، وتنتهي بـ «أرض السواد» فإنها صورة مختلفة تماما. ‏

    ـ في «سباق المسافات الطويلة» تبدو الحضارة الغربية في أعلى مراحلها الاستعمارية، استغلالاً وهيمنة واستعلاء واحتقاراً للشرق، وذلك من خلال «بيتر» عميل الاستخبارات البريطانية الذي يتظاهر بالمستشرق، كي يرعى مصالح بلده في إيران، مستفيداً من الاضطرابات الداخلية في ظل حكومة «محمد مصدق»، ويسجل ذلك في يومياته على النحو التالي «إن تحركنا لتحريض الأطراف ضد بعضها يمكن ان يؤدي الى نتائج ايجابية مهمة وسريعة». ص (109) ‏

    وهذا التحريض ما كان يتم إلا بوساطة الاغتيالات السياسية التي تعمق هذه الخلافات بين الاطراف المتنازعة، ثم يسجل انطباعاته السلبية عن سكان الشرق وطبائعهم وعاداتهم وطرق معيشتهم وانغماسهم في الاوهام» ص76، إن «بيتر» يسخر من كل شيء في الشرق حتى من الحيوانات: «فهي حيوانات شرقية، كسولة، بليدة.. يقف الحمار ساعات طويلة تحت الشمس المحرقة ولايتحرك» ص128. هذه الرواية تصور لؤم الغرب الامبريالي الذي يغزو الشرق في داره، ويجعله مجالاً حيوياً له، الى جانب ذلك انه يسخر من نمطه الحضاري ومن ثقافته في تعالٍ وغطرسة مقيتة، وتجب الاشارة الى ان أميركا في هذه الرواية أزاحت انكلترا عن طريقها، وسيطرت على المنطقة كُلياً. ‏

    وفي رواية (مدن الملح)، يظهر الغزو الحضاري العالمي ممثلا بأميركا، بكل ثقله، حيث تحل شركة نفطية أميركية بوادي العيون، منقّبة عن النفط، فتغيّر معالم المنطقة جغرافياً وسكانياً وحضارياً وثقافياً، تشرّد بعضهم، وتتخذ من بعضهم الآخر عبيداً، يقومون بالأعمال الشاقة، وبمرور الزمن تستطيع هذه الشركة ان تمارس تأثيراً قوياً في المجتمع على المستوى الثقافي والسياسي، وذلك من خلال المستشرق الانكليزي «هاملتون»، الذي كان يخطط للإطاحة بأنظمة حكم، كما فعل مع السلطان «خزعل» ويضع من يريد لاستلام السلطة، مثلما فعل مع الامير «فنر» ويرسم الخريطة السياسية في «حران» و «موران». ‏

    أما في «أرض السواد» فهي أكثر رواياته خصوصية وتميزاً، لأنها تجعل من الشكل الروائي، تاريخاً آخر ولأنها تجعل من المكان ساحة لصراع الحضارات والثقافات، فإذا كانت الروايات السابقة التي كتبها منيف تصور العلاقة بين الحضارات في أنماط مختلفة تتأرجح بين التوافق والشك والاستعلاء والتفوق، فإن رواية «أرض السواد» تجسد الصدام الحضاري بين الغرب والشرق في أبرز تجلياته، من خلال الصراع بين «داود باشا» والي بغداد، الطامح الى بناء عراق قوي في وجه الاطماع والتحديات، هذا الذي يحمل رأساً مستنيراً تحت الطربوش العثماني الفارغ، وبين القنصل الانكليزي ريتش ممثل الامبراطورية الكبرى في الربع الاول من القرن التاسع عشر أو يزيد ـ العلاقة بين هاتين الشخصيتين تتخذ طابع الندية ولاسيما من قبل المصلح «داود» والمتأثر بنموذج محمد علي حاكم مصر، وطموح نابليون. أما موقف ريتش المزهو بحضارة الغرب، والمثقف بعلم الآثار، والمجيد للغات العربية والتركية والفارسية، والذي ينظر الى حضارة الشرق نظرة استصغار، وفي الآن نفسه كان معجباً بآثار الحضارات الشرقية القديمة التي تزخر بها العراق، فإذا كان عبد الرحمن منيف يقلل من قيمة الحضارة الشرقية والآثار الشاهدة عليها في «الاشجار واغتيال مرزوق»، فإنه في «أرض السواد» يصف تهافت الانكليز والفرنسيين على هذه المعالم، ويثمنها عاليا من خلال «انبهار «ماري» زوجة القنصل الانكليزي «ريتش» بلوحة: العربة الملكية «لسرجون» وهي رمز للقوة والمهابة بالنسبة الى ماري التي كانت تتساءل عن جبروت هؤلاء الملوك البابليين.. ‏

    هذا التطور الذي طرأ على رؤية الشخصية للحضارات القديمة في روايات منيف تعبير واضح عن مدى تغيّر الموقف الواضح تجاه هذه الحضارات، وكأن عبد الرحمن منيف يريد ان يقول: إن عندنا ما يضاهي حضارة الغرب. كما أنه اكتشف الوجه الآخر القاتم للغرب الامبريالي، وطبيعته العدوانية. ‏



    د. فرحان اليحيى
                  

05-28-2005, 01:06 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    شكرا

    ابراهيم عدلان ولنفتح مزيد من النوافذ لمنيف
                  

05-28-2005, 01:15 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    شكرا

    ابراهيم عدلان ولنفتح مزيد من النوافذ لمنيف
                  

06-11-2005, 10:53 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    upupupupupupup
                  

06-12-2005, 01:44 AM

salah elamin
<asalah elamin
تاريخ التسجيل: 04-07-2005
مجموع المشاركات: 1423

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    الاخ صبري
    شكرا لامتاعك لنا
    بالمبدع الراحل عبدالرحمن منيف
    ذاك الشخص الملتزم ابداعيا
    وكان همه الاساسي
    الفن الجميل والراقي
    وهو بلا شك في مقعد
    واحد من الابداع مع الطيب صالح وماركيز وخورخي امادو
    وصنع الله ابراهيم
    فلازلنا نطلب حق اللجؤ(الابداعي )عند هؤلاء

    ادهشني منيف بتصويره التعذيب
    في هنا الان او شرق المتوسط مرة اخري
    وهناك قصة (والعهدة علي الرواة)
    انه في قمة التعذيب في
    بيوت الاشباح في السودان
    في بداية التسعينات وعندما صدرت هذه الرواية

    قام شخص ما بقراءة هذه الرواية
    وبمجرد ان انتهي منهاولسؤ حظه في اليوم
    الثاني تم اعتقاله
    وادخلوه بيوت الاشباح

    فلك ان تتخيل حالته في تلك اللحظة
    وطيف (طالع العريفي )امامه

    لك الود
                  

06-12-2005, 10:30 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    صلاح الامين

    تشكر علي المرور لا شك ان منيف يسحرك بكتاباته التي تشبه

    ما بداخلنا واكتر


    عالم دولتنا وحامية اسلامنا تحيرك ولا تمر بخاطر اي انسان

    هذه العمايل في بيوت اشباح ومعتقلات الجبهة يا للهول

    اك شكري
                  

06-12-2005, 10:47 AM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    في بلده يمكنك شراء كل شئ عدا رائعته مدن الملح!!
    جني
                  

06-12-2005, 11:06 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    جني

    سلام وكتر خيرهم في كل كتبه ما عدا خماسية مدن الملح

    وان شاء الله يسمحوا لقدام بدخولها داخلا وين تصور كم كتاب

    ممنوع من السفر والنشر قبل سنين واحد حاول اغتيال نجيب محفوظ


    لانو كافر حسب فتوي الجماعات الاسلامية لانو كتب اولاد حارتنا

    وكذلك كفروا طه حسين وللان لا يحبون سيرتهما عين والله
                  

06-24-2005, 09:48 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    for all
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de