شيبون والجنيد وعبد الخالق .حضرنا للمرة الألف ولم نجدكم ..ع .ع.إبراهيم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 02:16 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-24-2005, 01:10 AM

محمد صلاح

تاريخ التسجيل: 12-07-2004
مجموع المشاركات: 1276

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
شيبون والجنيد وعبد الخالق .حضرنا للمرة الألف ولم نجدكم ..ع .ع.إبراهيم

    أرجو من الاخوان/ت المهتمين والعارفين بخلفيات القضية ان يفيدونا
    ------------------------------------------------------------

    شيبون وعبد الخالق: الشعر بفمه الأهتم . . وأنت بحفلات التأبين

    د. عبد الله على ابراهيم
    كتب أحدهم علي صفحات سودانيزأونلاين بالشبكة كلمة بعنوان «عبد الخالق محجوب ورفاقه أبطال من كرتون يحملون سيوفا من خشب» (12-4-05) قال فيها إن أستاذنا عبد الخالق محجوب ليس بشيء. وتوالت عليه تأكيدات الشيوعيين انه بشيء وأكثر. وأخذوا يسوقون في رثائه القصيدة بعد القصيدة في بيان ميزة الرجل. وهي قصائد أوسعوها المرحوم. وكأنما توقع كاتب سودانيزأونلاين منهم ذلك، فقال لهم انصرفوا بقصائدكم عني وقولوا لي «وبخشمكم الذي سيأكله الدود» من هو عبد الخالق في كلمتين أو ثلاتة. ويطلق أهل هذا المنبر بالانترنت على مثل سوق القصائد وكتب الزعماء من قبل اتباعهم مصطلحاً ذكياً هو «عتالة النصوص». واشتهر بها الجمهوريون من أنصار المرحوم محمود محمد طه، فما تغلط وتكتب ما لم يرضوه عن فكرهم، حتى عرضوا عليك نصوص الأستاذ كلها، بلا استثناء، حرفاً وشكلة.



    وهكذا لم يعد أستاذنا عند الجيل الشيوعي الذي لم يشهد مأثرته عياناً بياناً سوى قصائد مادحة بينما احتكر خصومه نثر هجائه: عدو الخالق، صانع الانقلابات ومنكرها ثلاثاً، المنبطح على النصوص الماركسية، العاطل المنعم باسم الشعب، المستبد صاحب النظرات المفخخة يديرها فيصيب ويصيد، وشيخ الطريقة ذو الغارات يحرق بها من خاف على نفسه من منافستهم: الجنيد وقاسم أمين وخلق كثير. لقد قتل الشعر بفمه الاهتم أستاذنا عبد الخالق وقتله الشيوعيون بحفلات التأبين كما ورد في عبارة جيدة لود المكي في رثاء صديقنا الشاعر علي عمر قاسم.



    ربما تأخرنا جداً في فك ارتباط مأثرة الشاعر الشيوعي محمد عبد الرحمن شيبون (1930- 1961م) عن مدونة المرحوم صلاح أحمد إبراهيم. فقد اقتصر علمنا بشيبون على ما كتبه صلاح عنه. وهي كتابة شحيحة و مغرضة. فلم يزد ما كتبه عنه من بيت شعر في قصيدة «أنانسي» (ديوان غضبة الهبباي) هجا بها صلاح أستاذنا عبد الخالق محجوب لدفعه شيبون للانتحار. واتصلت بالبيت تحشية اقتطف فيها فقرة من كلمة كان شيبون نشرها عام 1960م بجريدة «الأيام».



    وظل هذا الاتهام لأستاذنا معلقاً فوق رؤوس الشيوعيين لا يملكون له صرفاً ولا عدلا. وهذا من سحر الشعر ووقعه. وقد ذكرني الأستاذ غازي صلاح الدين بالأمس بقول المتنبىء في التحريج من عداء الشعراء: «فإن عداوة الشعراء بئس المقتني». وبلغ بالشيوعيين الخزى من الأمر انهم لا يريدون لأمر شيبون أن «ينبش» في عبارة لأحدهم سألته في الأسبوع الماضي أن يدلي بما عرف عن شيبون. ولم يترك شيبون مجالاً لمستزيد حول هوية الذين ساقوه سوقاً إلى الانتحار، فقد كتب أسماء الشيوعيين الثلاثة أو العاطفين على الشيوعيين من زملائه المدرسين على مذكرة احتجاجه على الحياة التي وجدتها شرطة الحصاحيصا في جيبه على جسده المتأرجح من السقف. بل قال لي عبد الوهاب سليمان أنه كان قد بعث له رسالة في هذا المعني رسخت له منها عبارة جاء فيها: «بعنا لهم أنضر سنوات العمر بتراب الجحود». وقد كتب نفس الشيء لزميله الأمين أبو ممن تشرد معه من كلية الخرطوم الجامعية عام 1952م.



    أريد في «جرد حساب» محنة شيبون الذي انشغلت به منذ أسابيع أن افرق بين تبعة مزعومة لأستاذنا عبد الخالق في انتحار الشاعر وتبعة حزبه. وهي تفرقة قصدنا منها أن تعين على الفهم الحسن لهذه المسألة المعقدة لا طمسها وتفريق دم شيبون بين القبائل. وسنرى كيف ميز شيبون نفسه بين من أحسن إليه من الشيوعيين ومن أساء.



    اتفق الرفيق حسن سلامة والأستاذ عبد الوهاب سليمان أن أستاذنا عبد الخالق محجوب لم يكن يرتح لشيبون. بل ألمح لي الإنسان الشيوعي الحبيب حسن سلامة (طال عمره وخيره ونبله) من أن شيبون ربما دخل في مواجهات مع أستاذنا بحكم كتاباته الأدبية. ويرى حسن سلامة أن قصيدة «تذكر يا أخي» المنشورة بجريدة «الصراحة» هي موجهة إلى أستاذنا تذكرة له بوثاق القضية التي جمعت بينهما. ومن أسف إننا لم نقع بعد لا على القصيدة ولا ردة فعل أستاذنا لها. وسنترك مناقشة الأمر هنا حتى يتوفر لي أو لغيرى الوقوف على جلية الأمر. ووجب التنبيه مع ذلك الى أن ما يكتبه الكاتب مرة ليس هو رأيه في كل مرة. فقد نشرت أنا نفسي كلمة جافية بحق أستاذنا في عام 1968م ثم ما لبثت أن وجدتني أخطو خلفه في السكة الخطرة. وأحبه جداً.
    ربما طمع أهل الفضل في دور أميز لأستاذنا في استنقاذ شيبون. ولكن الواقعية تقتضي أن نحاسبه على ما تمليه مسؤوليته في قيادة حركة سياسية آخذة في الاتساع وفي ملابسات نظام عسكري قيد من طلاقته.
    تسنى لي لقاء الأستاذ محمد إبراهيم نقد خلال غملته الثالثة. ورميت له سؤالاً عن شيبون زميله على عهد حنتوب (1948م) وكلية الخرطوم الجامعية حتى فصلا معاً في 1952م بعد إضراب 17 نوفمبر من نفس السنة احتجاجاً على مناورات إنجليزية أتينا بطرفها في كلمة مضت. وقد استفاد نقد من بعثة عرضت للحزب من بلغاريا، بينما تفرغ شيبون لعمل الحزب. ثم أخذ شيبون للشراب مما لا يستغرب في ثقافة «القعدة» الوطنية والشيوعية مما سيكون موضوع حديث قادم. وافرط شيبون في الشرب. وخشي الناس عليه خاصة بعد فترة قضاها معتقلاً. وتدارس مركز الحزب مسألته واستقر الرأي على رفع تبعة التفرغ عن كاهله. وأوفد المركز استاذنا والمرحوم الشفيع أحمد الشيخ (أو المرحوم إبراهيم زكريا) لمناقشته في الأمر. وقال نقد أنهما عرضا عليه أن يذهب في بعثة دراسية إلى دولة بالمعسكر الاشتراكي أو يشتغل بالتدريس. وقد جاء شيبون بهذه الواقعة حرفياً في كلمته بجريدة «الأ يام» (1960م) التي أخذ منها المرحوم صلاح أحمد إبراهيم ما ناسبه في هامشه من قصيدة «انانسي» (غضبة الهبباي) وترك الباقي. وفي هذا الباقي المتروك يصف شيبون أستاذنا وزميله من المركز بالفضل لأخذه بعيداً عن مدرج سكة الأفندي المضاد الخطرة، وهي سكة إدارة الظهر لشغل الأفندية المأمون، ونذر النفس لقضية العدالة الاجتماعية. فقال: «ولن نعدم سلاحاً إذا كنا نحارب عواطف إنسان. ومن بعيد جاء الأهل بدافع من حرصهم وأجبروني على أمور روضت نفسي على قبولها. وكما ينحسر ماء النهر في فصل الجفاف تلاشت حماستي وتدثرت بحكمة الجيوش المنهزمة وبدأت أتراجع بانتظام. وتفضل ضابط مباحث فأجهز على البقية الباقية باسم القانون، واجتزت آخر المراحل بعون رجلين فاضلين. وكان ثاني اثنين منهما إذا هما في وفد مركز الحزب هو أستاذنا عبد الخالق.

    ولم يعرض أمر شيبون على أستاذنا إلا القي السمع وهو شهيد. فقد حدثني الرفيق حسن سلامة عن انزعاجه لما آل إليه حال شيبون من انصراف إلى الشراب واعتكاف بالمنزل. وقد تقدم قولنا أنه كان بين سلامة و شيبون ود عظيم. وكان شيبون يتخذ سلامة قدوة ومثلاً. وقال سلامة أنه قابل استاذنا عبد الخالق بشأن شيبون، وطلب أن يصطحبه إلى الأبيض التي هي مقره كالسكرتير السياسى للحزب الشيوعي بمديرية كردفان. واستحسن أستاذنا الفكرة وأجازها. وأضاف الأستاذ عبد الوهاب سليمان أن شيبون أقام بمنزل السيد مكي عبيد الموظف بشركة مركنتايل بشرط أن يكف عن الشراب. وبملاحقة من سلامة دقيقة ورؤوفة. واستعاد شيبون نفسه السياسية والشاعرة في الأبيض. وما لبث أن تسلل عائداً إلى الخرطوم في ملابسات نأتي عليها في حديث قادم. وقال سلامة أنه لم يعلم برجوعه ولكنه أخذ يتفادى لقاءه متي كان بالخرطوم.

    وصف شيبون لأستاذنا بالفضل كلمة صادفت أهلها. فأستاذنا، على نفاذ عقله ومتانته، رجل رقيق الحاشية يصغي للعوجة ويسد الفرقة. وهذا بعض تربيته. فقد توفيت والدته، أم النصر الحسن في عام 1944م، وهو في السابعة عشرة من عمره. وتركت صغاراً بين من هو في الرابعة ( المرحومة هدى) ومن هو في السابعة (محمد). وكان رحيل الوالدة الأميرة الدبيرة هزة لم يسلم البيت بعدها، وبخاصة والده الذي قطعت رأسه أبداً حتى وفاته في 1956م. وتولي عبد الخالق مع اخته آمنة رعاية الزغب والوالد. فكان يأخذ هدى إلي مدرسة الراهبات في طريقه لمدرستة هو، ثم يعود بها بعد الظهر. وكان هو الذي ردف محمد على العجلة وأدخله المدرسة الوسطى في حي العرب بمعرفة الرفيق آدم ابو سنينة وآخرين.



    وعرف استاذنا عن كثب ما يجره خيار الأفندي المضاد، أي من تفرغ للعمل السياسي الشعبي وعمل في السكة الخطرة، على أسرة أملت أن يرفع من شأنها بأجر الأفندي الجزيل. فقد صبر والده على قراراته في السفر إلى مصر وهجران كلية الخرطوم الجامعية، ثم قراره الذي فاتح فيه الأسرة وهو تبني الشيوعية خطة في حياته، ثم اعتقاله في مصر. وآزاره الوالد بوجع لم يخف على أحد. ولما عاد مصمماً للتفرغ للعمل الحزبي زاد الأمر ضغثاً علي إبالة. واضطر أن يعمل بجريدة «سودان هيرلد» لفترة محدودة إرضاءً للوالد. وقالت السيدة فاطمة محجوب: «ولا انسي اول ماهية لعبد الخالق وكيف صرفت على كسوة العيد وشراء راديو وادخال الكهرباء للبيت».



    وكان الانتحار بعض عاصفات حياة أستاذنا المركزية. فقد انتحرت أخته هدى في 1960م وهو رهين كوبر وأخوه محمد قعيد سجن الروصيرص. وحرموه أن يزورها في المستشفى وهي تلفظ انفاسها بين حرائق جسدها الفاقعة. وخرج من السجن لفراش البكاء. وكتب لأختيه، آمنة وفاطمة، رسالة من السجن يقويهما على نائبة الدهر ويستوحي من صبرهما قائلاً: «وإنني في هذه الظروف الشديدة الحساسية، أود ان اؤكد لكما عزمي المصمم على المضي في طريق الاستقامة والشرف. ولكنني ايضاً أؤكد لكما اننا سنشهد بزوغ الشمس في منعطف الطريق وسيبتسم محمد وهدي والجميع من حولنا». وقالت فاطمة لقد صدق واحتفل الحي كله معنا بثورة اكتوبر 1964م وخروج محمد من السجن. واتفق أهله أنه لم يبلع غصة هدى حتى فارق الدنيا.



    وأستاذنا بكاء.. بكى يوم حمل نعي الرفيق خليل لإخوته في البيت في عام 1951م وقال أخوه محمد إنه لم يره يشرق بالدمع لا قبل ذلك ولا بعده. وتلك حكاية ترد.

    شيبون والجنيد وعبد الخالق: حضرنا للمرة الألف ولم نجدكم

    د. عبد الله على ابراهيم
    في عصر يوم من أيام سبتمبر 1953 طرق الزميلان سليمان علي ومحمد الهادئ باب الأستاذ أحمد سليمان بأبي رووف بأم درمان مبعوثين من أستاذنا عبد الخالق محجوب لينقلا إليه وفاة الرفيق خليل نصر الدين. وسليمان والهادئ من متفرغي الحزب بالمدينة وسكنا مع المرحوم محمد عبد الرحمن شيبون، بمنزل بحي البوستة. وأسلم خليل، الموظف بالثروة الحيوانية، الروح بمنزل الزميل جعفر أبو جبل ببيت المال. وكان الحزب قد نقله لذلك البيت للعناية به من داء الصدر الذي كان قد أصابه. واصبح هذا المنزل داراً للحزب الشيوعي بعد ثورة اكتوبر 1964، وكان أستاذنا يزور خليلاً بينما يشرف على علاجه وعلى إجراءات سفره بالخارج المرحوم إبراهيم زكريا السكرتير التنظيمي للحزب. وتقرر نقل جثمانه لبيت أقرباء له بالعرضة. وتساءل الناس عن أهل آخرين له. فقالوا إن منهم المرحوم الرشيد الطاهر بكر الطالب بكلية الخرطوم الجامعية آنذاك. ولم يكن بين الرفاق من يعرف الرشيد. فدلهم عليه الأستاذ عبد الوهاب سليمان الذي كان تعرف على عبدالله شقيق الرشيد في المدرسة. وعاد أستاذنا لبيته يستعد للفراش نحو مغرب ذلك اليوم. وأخبر أهله بوفاة خليل. ثم بكى طويلاً. وقال الأستاذ محمد محجوب عثمان إنه لم يره يبك لا قبلها ولا بعدها. ودفن خليل بمقابر البكري. وسمي إبراهيم ولده من زميلتنا فاطمة النعيم خليلاً في ذكرى الرفيق المات. ومات خليل الابن الذكرى في ملابسات حزينة أخرى. رحمه الله.
    ليس أستاذنا عبد الخالق ممن يتنصل عن رفاقه وقت الشدة ناهيك عن اغتيالهم كما زعم المرحوم صلاح احمد إبراهيم في قصيدته «أنانسي». وهي القصيدة التي حمَّله فيها انتحار الزميل محمد عبد الرحمن شيبون في 1961، ومن عرف أستاذنا عرف فارساً ملتزماً بخلق الفروسية السودانية في الشهامة والنجدة. ولهذه الزينة نحو واضح وصعب. ومن ذلك الجلوس على فروة الصلاة متى ما أدرك الواحد خسرانه للخصم ودنو أجله. وقد فعلها الخليفة عبد الله في أم دبيكرات حتى لغزاة الإنجليز الأنجاس. وقد قضى أستاذنا معنا ليلة الأحد الدامي بعد ثورة اكتوبر في 1964 بطولها بدكان بحي بري اللاماب نفض اشتباكات حذرناها بين أهل الحي وأبناء الجنوب من سكانه. وظللنا نأكل بلحاً من الدكان طول الليل حتى جاء الصباح. وكنا نحف بمن خرج من الجنوبيين من منزله للشغل حتى يأمن إلى نفسه.

    التزم أستاذنا بأعراف تلك الفروسية والموت قد نصب على بروج المدينة في يوليو 1971، فبينما تمرغ الجبناء المايويون السكارى في الدنس كان أستاذنا يلح أن يأتوه بغيار من الملابس حتى يرفع زينته أنيقاً في لقاء الموت الشائن والقتلة الذين بلا أعراف. وهذا من أخص قيم الفروسية. فقد صام الشيخ التوم علي التوم، زعيم قبيلة الكبابيش، عن الطعام حين علم دنو شنقه بواسطة المهدية الثائرة في مدينة الأبيض. فقد خشي أن يعيب وهو بين أيدي قاتليه. وسمعت من جنود من جيراني في حي جبرة بالخرطوم اشتركوا في قتل سياسيين على عهد نميري عن ضروب من مثل هذا العيب. وهى فروسية لم يمارسها أستاذنا فحسب بل حلل عناصرها في ما كتب. فقد فخر بها في دفاعه أمام المحكمة في 1959 قائلاً إنه لم يقبل بأمر ما لأن «لي وازع من مبادئي ورجولتي». وقال إنه خلافاً لمن يحصر التقاليد السودانية في حرب الشيوعية فإنه يراها «متركزة في حب الحرية والكرامة والصراحة والشهامة، وفوق ذلك، في قولة الحق». وهذه زبدة الشيوعية عنده لا أكلت ولا شربت. وعاد إلى هذه القيم في كتابه (إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير، 1963) ليقول لزملائه إننا نحن الذين في امتحان الإجازة والقبول أمام شعبنا وحسابه لا الشيوعيين الأندنوسيين أو السوفيات. وبالنظر للروابط القبلية والقروية التي تشد الناس بعضهم إلى بعض فهم يتوقعون منا التزاماً بقيم النجدة والاستقامة والأمانة. وقال في دفاعه أمام المحكمة إن هذه القيم انحدرت إلينا من المجتمع القائم على الملكية الجماعية للقبيلة. وهي إرث عربي «ضمته أرض افريقيا وغذته». وقال إنها قيم ستؤول للانهيار متى سلكنا الطريق الرأسمالي، طريق الأنانية والفردية.

    وقد جربت بنفسي شفقة الرجل الفارسة. سبق أن كتبت عن جلستنا معه على عشاء لحم من جزارة الرفيق المرحوم محجوب حمد وبنت حان قبرصية المنشأ. جئناه والزميل عثمان جعفر النصيري نحتج على اجتياح السوفيات لربيع براغ في 1968، وقد استسخفنا الغزو جداً وغالطناه فيه حتى انتصف الليل. وحين انفض المجلس أذكر أنه لم يقبل أن نودعه عند الباب بل أخذ يقدمنا ونحن نطلبه أن يرجع توقيراً له وحرصاً عليه. ولما استنفدناه قال عن جيرانه مضطراً: هذه شوارع خطرة في مثل هذا الوقت من الليل. فبيته كان يقع في «زقاق» مقصود لطلاب الشهوة من النساء إياهن. وربما لاحظ فينا شيئاً من تخليط السكر وخشي علينا من أنفسنا أو من آخرين. وأخذنا بالزقاق يساراً ثم يميناً حتى هلت محطة البنزين على شارع الاسفلت. وأوقف عربة الأجرة بنفسه، ودفع ما تيسر. واستدار الرجل عائداً وحده إلى الشوارع الخطرة... كعادته.
    كان أستاذنا أريحياً. وسبق أن تعرضنا إلى كيف رتب مقابلة للزميل المرحوم الأمين، المتفرغ الحزبي ممن سكن مع المرحوم شيبون بحي البوستة، بعيادة المرحوم الدكتور التيجاني الماحي ليبدأ علاجاً لحالة نفسية اعترته. وأستاذنا كان يعلم مع ذلك علم اليقين عسر استرداد الرفيق القيادي متى غيب وعيه بالإفراط في الشرب أو متى انحل زمام نفسه. فقد كان يعتقد في قرارة نفسه أن النضال من اجل قضية الكادحين فيه شفاء للناس. فقد كرر أستاذنا في اكثر من موضع أن اكتشافه للماركسية أخرجه من تناقض أن يكون من أهل الرجعة إلى التراث أو الانكباب على الحداثة لأنها زاوجت بين النازعين الفكريين مزاوجة «طاب مراحها والمشرب». وقد وجد فيها «بلسماً شافياً للتناقضات التي عشنا فيها وعاملاً حاسماً للتكامل الشخصي والارتواء العاطفي والفكري ورابطة شديدة بين نمو الفرد والمجموعة، تلك المشكلة التي وقف دونها الكثير حيارى وسلكوا فيها دروباً وعرة دامية».

    وقد علمت مقدار قناعته بذلك في موقفين له معي. في الموقف الأول سألته يوماً عما فعل الحزب للرفيق الجنيد علي عمر. وقد رأينا بأسى وحزن الرفيق يشق تلك الدروب الوعرة الخطرة في رابعة نهار الخرطوم ونحن على العتبة الأولى في الحزب والمدينة عام 1960، وأحصى لي أستاذنا المرات التي بعث فيها الحزب الرفيق الجنيد إلى مصحات بأوربا الاشتراكية بغير عائد. وحدثني عن التقارير الصحية التي نصحتهم بلا جدوى تطبيبه بالخارج وأن علاجه في أن يعزم ويسترد عنان نفسه في بيئته وبين صحبة عاطفة. أما الموقف الثاني فقد كان خلال لقاء لأستاذنا بالسيدين بكري وجعفر محي الدين شقيقي رفيقنا الراحل عبد الله من سكان المنزل 187 بالداخلة الجديدة كما كان يقدم الرفيق المليح نفسه. وكان عبد الله متى جاء الخرطوم نزل أولاً بمنزل أستاذنا ليفرغ ما بنفسه ثم يأتني في عربة رفيق مكلَّف بتوصيله إلى بيتي. وكان عبد الله عانى من صداع غامض أودى به في 1989، رحمه الله وأنزله داراً للشهداء والصديقين. جاء بكري وجعفر لمقابلة أستاذنا بخصوص تفاقم ذلك الصداع ورغبة الأسرة في أن يرتب الحزب بعثة علاجية له. واستمع أستاذنا لهم جيداً حتى قال بكري إن مرد صداع شقيقهم هو إفراطه في النشاط الشيوعي. وهنا قال له أستاذنا إن الزميل عبد الله عزيز علينا جميعاً ونحن نعرف ما يسديه للحزب والطبقة في عطبرة وقد شرعنا فعلاً في ترتيب البعثة له بعد زيارته الأخيرة لنا. ثم ألقى من بعد ذلك عليهما محاضرة عن أن النضال بلسم تبرأ به الجراح ويزول السقم وأنه صحة وعافية. ولاحظت أنه لم يقبل بتشخيص بكري لسقم أخيه بالمرة بقدر ما ردده عليه. وسافر المرحوم عبد الله إلى بلد من بلاد الله الاشتراكية.

    والشئ بالشئ يذكر. فقد تحوَّل بكري وجعفر في هجراتهما الروحية الكبرى إلى العلاج النبوي. وراج سوقهما بعطبرة حتى بالغا وزعما علاجات للسرطان وغيرها. فعلق رفيقنا المرحوم أحمد عجيب، المشاغب المرح شديد الهمة في خدمة الناس، أن طبهما هو طب الأطباء بلا حدود. وأسرة المرحوم أحمد لا تزال تشكو أنه مات متأثراً بضربات تلقاها على رأسه خلال اعتقال ما. آمل أن تعينهما السلطات لكشف جلية الأمر. فمن عرف احمد وقف على بؤرة الشغف في الدنيا. مات في ريعانه. رحمه الله.

    لم يكن أستاذنا عقدياً في قناعته أن النضال شفاء. فلم يحتج بها ليغلق بابه في وجه متاعب الرفاق... وكانت يا عرب. فقد سبق أن كتبت عن ملابسات صدور كتاب «الماركسية والثقافة» للمفكر الإيطالي أنطونينو قرامشي (1891-1937) بترجمة للزميل الجنيد علي عمر من دار الفكر الاشتراكي التي كنت محررها في 1969-1971، فقد جاءني المرحوم الجنيد بالنص المترجم. واعترف بأنني فوجئت بالكراسات وأناقة خطها وهوامشها من رجل سلك الدروب الوعرة الدامية. ومن يومها لم أشفق على الجنيد فعل آخرين. فلقد رأيت منه صحواً عجيباً لا يراه المشفقون العجالى. ولم يسفر إشفاقهم مع ذلك عن شئ جدي سوى البحث عن «المجرم» الذي ساقه في طريق الإدمان. وربما ظلموا قوماً من فرط العجلة.

    وظللت أتساءل بعد أن تعرفت أكثر وأكثر على منزلة قرامشي من الماركسية والثقافة كيف اهتدى الجنيد الى قرامشي عام 1968 في نفس الوقت الذي كانت أوربا قد بدأت تفيق لخطر الرجل. وقد خلصت من طول التفكير إلى أنه ربما كان أستاذنا عبد الخالق محجوب هو الذي نبه الجنيد الى مؤلف قرامشي. فقد كان أستاذنا بعامة أكثر متابعة لما ينشر بالخارج. وكان أصدقاؤه يهادونه الكتب التي يعشقها كقارئ نهم. أما اقوى حيثياتي فهو تعلق أستاذنا بمفهوم «المثقف العضوي» الذي هو اصطلاح من وضع قرامشي. وتلك قصة أخرى. ولكن لو صح أن أستاذنا هو الذي دلَّ الجنيد على قرامشي يكون قد واده وبره بما هو موقن أن به العافية والشفاء. وهذا خلاف أهل الشفقة العقيم بالجنيد الذين فرغوا من إدانة أستاذنا عبد الخالق بتضييعه. ويستثقل هؤلاء المشفقون الكتب ولا يظنون التهادي بها من آيات الحب والمودة.

    قال المرحوم خالد الكد إن الجنيد طلب منه يوماً ما بعد اغتيال أستاذنا في يوليو 1971 أن يغشى بالسيارة منزل آل محجوب بالشهداء. وهى دار كان أحد أهلها حين سكن حيناً بها مع أستاذنا. ولما بلغ الدار نزل واخذ قطعة فحم وكتب على الباب: «الأخ عبد الخالق: حضرنا للمرة الألف ولم نجدكم». وعاد للسيارة وركب بهدوء كأن لم يحدث شئ. كأن لم يمت أحد. كأن القتلة مجرد أدعياء. كأن الصديق عبد الخالق قد خرج لعقد زواج أو عزاء أو لحديث الأربعاء في دار للحزب. وسيعود.
    تصويب:
    ورد اسم الحاج عبد الله القطي: «محمد عبد الله القطي». وقلت إن شيبون هو عم صلاح شيبون المقيم بكندا وصحيحه هو أنه ابن عمه. وصوبنا تاريخ وفاة المرحوم خليل نصر الدين بفضل ما قاله لنا الأستاذ عبد الوهاب سليمان.









                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de