السيرة الفكرية للناقد العراقي عبدالله ابراهيم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 07:09 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-21-2005, 08:14 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
السيرة الفكرية للناقد العراقي عبدالله ابراهيم

    مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية



    إنّ الحديث عن التجربة النقدية والفكرية بالنسبة لي، حديث مشوب بالحذر المعرفي، فكل حديث ينصرف إلى وصف التجارب الفكرية الذاتية يجد نفسه متورطاً في خضم سلسلة من الادعاءات التي لا تملك براهينها، وذلك حينما ينطلق من افتراض عام هو استقرار تلك التجارب وثباتها، وهذا أمر لا أستطيع أن أدعيه، كون التجارب الفكرية يجرى تشكيلها بفعل مؤثرات كثيرة، وهي مفتوحة على آفاق لا نهائية، وليس من الصواب حصرها ضمن مقولات ثابتة ونهائية.لأنها ستضيق بنفسها، وتتعطل فاعليتها المعرفية إذا ما قيدت إلى مرجعيات قارة، وادعت اليقين المطلق فيما تذهب إليه.فكل تجربة تغتني-رؤية ومنهجاً-من خلال الحوار والتفاعل والتواصل،ولا يصح أن نتحدث إلا عن مسار متحوّل وأطر عامة تريد تجديد ذاتها دائماً لتواكب بنفسها عمليات التحديث المعرفي في الفكر الإنساني. ولهذا يمتنع بالنسبة لي الحديث عن تجربة نهائية، فالأكثر موضوعية هو الالتفات إلى جملة من الأفكار والرؤى والموضوعات المتغيّرة التي انتظمت في نسق فكري معين، وتمّ من خلالها الكشف عن سلسلة من القضايا المتصلة بالأدب والفكر. وأقول- بكثير من التردد- إنّ الخيط الناظم للنشاط النقدي والفكري الذي مارسته هو العمل المنهجي بمعناه العام، فقد اهتديت به للتنقل بحرية بين التجارب الإبداعية ممثلة بالسرد العربي القديم والحديث من جهة، والفكر العالمي والعربي بجوانبه الفلسفية والنقدية من جهة أخرى. ولا أخفي أنّ هذا التنقل بين هاتين المنظومتين قد طوّر لديّ تصوراً للنقد من كونه ممارسة أدبية غايتها تحليل النصوص الأدبية واستنطاقها وتأوليها إلى ممارسة فكرية، غايتها كشف الظواهر الثقافية وتفكيكها، وبيان تعارضاتها الداخلية، وآثارها في الفكر والمعرفة. وسأحاول فيما يلي الحديث عن الممارسة النقدية والفكرية بوصفها عملاً منهجياً، وكيفية توظيفها في تحليل النصوص السردية والنصوص المعرفية كما تهيأ لي أن أقوم به، مستعيناً بجوانب من الآراء التي كنت عرضتها من قبل في بعض الكتب.


    الممارسة النقدية: القراءة والاتجاهات



    يمكن فهم الممارسة النقدية بوصفها حواراً مع النصوص الأدبيّة والمعرفية، ويأخذ مصطلح"الحوار" هنا دلالته من كونه نقطة تلتقي فيها مقاصد القارئ- الناقد بالمقاصد المضمرة للنصوص، بما يفضي إلى ضرب من التفاعل / الحوار الذي هو نتاج قطبين، ينطلق كل منهما صوب الآخر. وهذا التفاعل، هو ما يصطلح عليه الآن في الأدبيّات النقدية بـ" القراءة".ونقصد بها: استراتيجية تعويم المقاصد المضمرة والمتناثرة التي تنطوي عليها النصوص،استناداً إلى حيثيات منهجية منظمة يتوفر عليها القارئ- الناقد.

    إنّ هذه "القراءة" سواء أكانت أسلوبية أم بنائية أم دلالية،هي "جوهر" الممارسة النقدية بمفهومها الحديث.ولهذه "القراءة" اتجاهات متعددة:منها ما يقتصر على النصوص ذاتها محاولاً استكناه خصائصها الذاتية، ومنها ما يستنطق تلك النصوص بهدف استخلاص قيمة ثقافية واجتماعية محددة، ومنها ما ينطلق من مرجعيات النصوص الخارجية لتفسيرها وتأويلها، ومنها-أخيراً- ما يربط بين المكونات النصيّة والمرجعيات الخارجية التي تحتضنها في محاولة لرد الإيحاءات النصية إلى نُظم ثقافية.وقد اندرجت هذه الاتجاهات في مقتربين كبيرين، أولهما"المقترب الخارجي- External Approach وهو يعُنى بتحليل المرجعيات التي تغذّي النصوص بعناصرها،ساعياً إلى كشف الأثر الذي تتركه تلك المرجعيات في النصوص، وينضوي في إطار هذا المقترب عدد من المناهج مثل المنهج التاريخي والاجتماعي والنفسي وثانيهما"المقترب الداخلي- Internal approach وينصرف اهتمامه إلى استكشاف المزايا الخاصة للنصوص، وبيان نظمها الداخلية، ودلالاتها النصيّة. ويدخل ضمن هذا المقترب عدد من المناهج، مثل: المنهج الشكلي والبنيوي. ولم يعدم تاريخ النقد الأدبي محاولة الإفادة من كشوفات هذين المقتربين، والتوفيق بينهما، ومقاربة النصوص الأدبية في ضوء ذلك، وهو ما تجلّى في " نظرية القراءة والتلقي" ومنهج التفكيك. لقد عرفت هذه الاتجاهات على نطاق واسع، وشاعت في النقد العربي منذ مطلع القرن العشرين وبخاصة المقترب الخارجي الذي مثله نخبة من النقاد العرب في النصف الأول من القرن العشرين مثل : طه حسين والعقاد والمازني ومحمد مندور،فيما استأثر الاهتمام بالمقترب الداخلي في فترة الداخلي في فترة متأخرة،ابتدأت تقريباً منذ أوائل الثمانينيات من القرن العشرين،وازدهر على يد مجموعة من النقاد الطليعيين الذين اتجه اهتمامهم،مباشرة إلى النصوص الشعرية والسردية محاولين استنباط خصائصها "الشعرية" و"السردية". وذلك لحصر الخصائص الأدبية، وبيان أنساقها وتراكيبها ونظمها الدلالية. وكل ذلك بغية استخلاص أدبيّة تلك النصوص، وبيان الثوابت والمتغيرات فيها.

    تقوم أية "قراءة نقدية"- بوصفها فعالية منشطة للنصوص- على ركيزتين أساسيتين،هما: "الرؤية" التي يصدر عنها الناقد، و"المنهج" الذي يتبعه لتحقيق الأهداف التي يتوخاها من قراءاته. و"الرؤية" هي: خلاصة الفهم الشامل للفعالية الإبداعية، أما "المنهج" فهو: سلسلة العمليات المنظمة التي يهتدي بها الناقد وهو يباشر وصف النصوص الأدبية وتنشيطها واستنطاقها، شرط أن يكون"المنهج"مستخلصاً من آفاق تلك "الرؤية.ويبدو -في رأينا- أن أية قراءة لا تأخذ عن الاعتبار هاتين الركيزتين، بدرجة أو بأخرى، وهي تطمح لأن تكون قراءة نقدية، تصبح قراءة فاقدة لشرطها النقدي الأصيل، لأنها لم تتوفر على الثوابت الأساسية التي تقتضيها الممارسة النقدية والواعية.

    لقد أثارت قضية"الرؤية والمنهج"اهتمام نقاد الأدب ودارسيه،ويمكن التأكيد بصورة عامة على أنّ الجانب الخصب في الممارسة النقدية،تجلّى بأفضل صورة،حينما حصل اقتران بين هاتين الركيزتين،وفي غياب أي منهما،يصبح النقد نوعاً من التضليل والخداع والانطباعات الساذجة،وكل هذا تنكبّ عن جوهر النقد ووظيفته.إن غياب الوعي بأهمية النقد متأت من عدم إدراك أهمية الرؤية والمنهج، ذلك أن النقد نشاط فعّال يصل بين النص والمتلقي،فكما أنّ النص بحاجة إلى متلق غزير الإحساس،وقادر على تفجير مضمراته ودلالاته الخفيّة،فإنّ المتلقّي بحاجة إلى نص يدفعه لتحويل تصوراته الثقافية إلى نشاط تأملي وعقلي وجمالي، يمكّنه من بلوغ حالة الإحساس المشترك بالمتعة والمعرفة في آن واحد، وهذا التجاذب يكون أكثر أهمية إذا توسطته"قراءة" تُسهم في استكشاف القطبين المذكورين، ومن المؤكد أنّ من أبرز شروط القراءة الفعاّلة، هو صدورها عن " رؤية" خصبة وشاملة، وانتظامها في "منهج" كفء وفعّال.

    السرد والسردية



    كان هذا التصوّر النقدي، قد تبلورت ملامحه العامة لديّ في الثمانينيات، ووظفته في دراستي عن السرد العربي قديمه وحديثه، وضمنه جاء كتاب"المتخيّل السردي" وكتاب"السرديّة العربيّة " والأخير اهتم بمنحي محدد من مناحي الثقافة العربية وهو"السرد" بوصفه مظهراً تعبيرياً، تكوّن في حضن الثقافة العربية- الإسلاميّة، وتكيّف بفعل المواجهات الخارجيّة التي صاغت أنظمته الداخلية، على أنّ العناية انصرفت إلى سرديّة" ذلك المظهر، بهدف استنباط الأنساق والأبنية الخاصة به، لأن "السردية" لا تعنى بالمتون السردية في ذاتها، إنما بكيفيات ظهور مكوناتها سردياً Narrativity، أي بالممارسة التي اتخذتها مكونات السرد ضمن البنية السردية. وقد لازم البحث حرص دائم على عدم إخضاع السرديّة العربية" إلى معيار خارجي مستمد من موروث سردي آخر له مرجعياته الثقافية الخاصة به، والمتشكلة طبقاً لظروف تاريخية مختلفة؛ لأن الهدف كان تحديد طبيعة السردية العربية، كما تكونت واستقامت ضمن المحضن الثقافي العربي الذي تشكلّت فيه. كما لم ينظر إلى السرد العربي، بوصفه ركناً معرفياً محضاً من أركان الثقافة العربية، إنما نظر إليه، بوصفه مظهراً إبداعياً تمثيلياً، استجاب لمكونات تلك الثقافة، فتجلّت فيه على أنها مكونات خطابيّة، انزاحت إليه بسبب هيمنة موجهاتها الخارجية، وبخاصة الشفاهية والإسناد. فالسرد العربي، خلفيّة تتمرأى فيها الموجهات، وهو يقوم بــ"تمثيل Representation" خطابي لها، وليس عكسها Reflection" بصورة آلية.

    استدعت هذه الرؤية للموروث السردي الحاجة إلى عملية منهجيّة تعوّمها، وتعبّر عنها، فاعتمد على نوع من "الاستقراء الفني" الذي يستند إلى الاستنطاق تارة، والوصف والتحليل تارة أخرى. فشخصت الثوابت والمتغيرات، واستنطقت الأصول، ثم استخلصت الهياكل العامة التي تؤطر بنية المرويات السردية، وتوج التحليل، بكشف مستويات التماثيل بين بنية الموجهات الخارجية وبنية السرد، الأمر الذي يؤكد أنّ الاتصال كان قائماً بينهما، على نحو تمثيلي، في أشد الركائز أهمية، وهو: الإرسال بأركانه من راوٍ ومروي ومروي له. وكان الحرص قائماً على ضرورة استنطاق الأصول المعرفية واستنطاقاً يبتعد عن "التقويل" ويترك لها أن تكشف عمًا تغيبه دونما تعسف، سوى توفير "الظروف المنهجية" التي تسهل، بوساطة القراءة، عملية كشف المقاصد والمرامي التي تنطوي عليها الأصول، ذلك أنّ الهدف لا يتجه إلى كشف تناقضات الأصول بذاتها، إنما استنطاقها، بما يجعلها تسفر عمّا تكنّه، لتتضح طبيعة الموجهات الخارجية التي كانت تمارس سلطتها في الخطاب السردي، إلى ذلك فلم نهدف بمصطلح "السردية العربية" إلى أي مقصد عرقي، إنما الإشارة إلى المرويات السردية التي تكونت أغراضاً وبُني، ضمن الثقافة التي أنتجتها اللغة العربية، والتي كان التفكير والتعبير فيها، يترتب بتوجيـــه من الخصائص الأسلوبية والتركيبية والدلالية لتلك اللغة التي أسهمت فيها أعراق متعددة .

    ضمن هذا الأفق العام الذي ترتب فيه عملي على السرد العربي القديم، ترتب عملي اللاحق على السرد العربي الحديث، مع الإفادة الواضحة من الكشوفات المستمرة والخصبة التي تشهدها البحوث السردية، والتوسع في المنظور العام للأدب ووظيفته. والحال أنني وجدت أنّ الرواية العربية إحدى أهم الظواهر الأدبية في ثقافتنا الحديثة، وإنها موضوع قابل للبحث وإعادة البحث مجدداً بصورة مستمرة. لأنها انبثقت من خضمّ التداخلات الثقافية القديمة والحديثة، ومن تفاعل المرجعيات العربية والأجنبية، وأنها دمجت فيها عناصر كثيرة؛ أدبية وتاريخية واجتماعية ونفسية.. الخ، وقامت بعملية تمثيل رمزي لأشد القضايا أهمية في تاريخنا الحديث. فضلاً عن ذلك فإنّ الاهتمام بتقنيات السرد وأساليبه وأبنيته ودلالته استأثر بالأهمية الأساسية لدي، ومن خلال هذه الموضوعات يمكن الإشارة إلى ما يتصل بوظائف السرد ومهامه. وعلى هذا فإن السرد العربي الحديث، يعتبر ظاهرة ملفتة للنظر، وينبغي دراسته أسلوبياً وبنيوياً ودلالياً، ضمن ضوابط منهجية واضحة وقادرة على استنباط أهم الركائز التي يقوم عليها بهدف استكناه طبيعته وانساقه الداخلية من جهة، ووظائفه من جهة ثانية وعلاقته التمثيليّة بمرجعياته من جهة ثالثة.

    الممارسة المعرفية والفلسفية



    في وقت مبكر ومتزامن مع الاهتمام بالسرد الأدبي، اتجه اهتمامي إلى المنظومة المعرفيّة الحديثة في الثقافتين العربيّة والغربيّة، وشمل ذلك الاهتمام الجوانب الفلسفيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة، ومن الطبيعي أن تثير اهتمامي العلاقة الملتبسة من ناحية التأثر والتأثير بين الثقافتين الغربيّة والعربيّة، ذلك أنها علاقة أنها علاقة حددت أنظمة التفكير ومرجعياته وأنساقه في ثقافتنا الحديثة، وعولجت بمنظورات مختلفة وأحياناً متناقضة. وتبيّن أن اتجاهاً واحداً يحكم تلك المنظومات بشكل عام، ومؤدّاه التطابق مع معطيات الثقافة الغربيّة. وهو في حقيقته لا يختلف عن الاتجاه الآخر الذي يقول بالتطابق مع الماضي ومرجعياته. ومن هنا ظهرت فكرة"الاختلاف" عن الاتجاهين. وحول هذه القضية خصصت كتابي"المطابقة والاختلاف" الذي صدرت منه إلى الآن ثلاثة أجزاء، وطرحت فيه فكرة " الاختلاف" بوصفها بديلاً عن فكرة"المطابقة" مع"الآخر" المتمركز حول ذاته. و"الذات" المنكفئة على نفسها في اتجاه يفضي إلى الماضي ويحاكي معطياته، وقد ظهرت الفكرة بسبب المراجعة التي تعتمد المنظور النقدي لمعطيات الثقافة العربية الحديثة. وعلى هذا، فإنّ نقد الذات ونقد الآخر أمر فرضته حالة الالتباس والحيرة من جانب، وحالة الولاء والامتثال للآخر من جانب آخر. وهكذا انصرف اهتمامي إلى نقد التمركز الغربي والإسلامي على حد سواء، وكشف ظروفه التاريخية ونقد الثقافة العربية الامتثالية. وسأحاول تقديم مخطط عام للأفكار والقضايا التي كانت موضوعاً للبحث دون أن أغفل الإطار الفكري- النقدي الذي يتنزل فيه الكتاب بالنسبة لي، كونه يندرج ضمن محاولات نقدية- تحليلية تحاول أن تدمج بين منظورين متلازمين هما: المنظور التاريخي والمنظور النقدي؛ الأول يكشف ملابسات ظروف التمركز وتشكّلاته، والثاني يفضح اقصاءاته واختزالاته لـ(الآخر)، وتهمّني الإشارة إلى هذا الأمر، لأن الكتاب ليس مخصصاً لتاريخ ظاهرة التمركز، إنما للظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية والتاريخية، التي أفرزت تلك الظاهرة والتي أنتجتها حاجات الفكر الغربي الحديث والإسلامي الوسيط، واصطنعت لها تاريخاً يوافق رؤيتها لنفسها وللعالم. فالنقد هنا لا يقرّ بحكم القيمة، إنما يسعى، بتوفير ظروف منهجيّة، إلى كشف تعارضات الفكر المتمركز حول نفسه، وتعرية ممارساته الاقصائية. على أنّ ذلك النقد لم يتم بمعزل عن واقع الثقافة العربية الحديثة، التي أراها ثقافة امتثالية وولائية، يتجاذبها قطبان بعنف وقسوة؛ قطب يمثل الغرب بمركزيته الثقافية، وقطب يمثل النموذج الفكري المتصل بتجربة تاريخية- دينيّة تجاوزها الواقع. ووسط هذا التجاذب الدائم والمستمر، تحولت الثقافة العربية إلى "ثقافة مطابقة"، لأنها في جانب منها تتطابق مع الآخر رؤية ومنهجاً، فتحاكيه في منظوراته ومفاهيمه وأهدافه، دون الأخذ بالاعتبار الاختلافات السياقيّة بينهما. وفي جانب آخر تتطابق مع الماضي ونموذجه اللاهوتي، فتقع في أسر سحره الخاص،وجاذبيته الشفافة بفعل تقادم الزمن، وذوبان الزخم التاريخي المرافق له. في المرة الأولى تتماهى الثقافة العربية مع "الآخر"، وفي المرة الثانية تعتصم بـ"الذات" في نوع من التمركز الذاتي المنكفئ على نفسه، بحثاً عن أصل يمكن الاتصال به دون مراعاة عامل الزمن، وهكذا فما يحكم واقع الثقافة العربية الحديثة منذ عصر النهضة إلى الآن، إنما هو نوعان من "المطابقة" مطابقة الآخر وهو اغتراب في المكان، ومطابقة الماضي وهو اغتراب في الزمان. ولهذا فانّ دعوة لـ"الاختلاف" عن الاثنين، دون الانقطاع الطبيعي عنهما، تصبح حاجة ملحّة تفرضها حالة التوتر الذي لم يمزق نسيج الثقافة العربيّة الحديثة فحسب، إنما لم يسمح له بالتكوّن على نحو طبيعي، فثمة انهيارات عميقة وغامضة، وردود فعل مفاجئة ومباغتة، ورغبة مزدوجة في التحديث والتخلّف، وممارسات متعارضة، وانقسام في الوعي، وتشنجات عرقيّة ودينيّة وطائفيّة وثقافيّة وسياسيّة واقتصادية، لا سبيل إلى حلها، فالانتماء العقلي المزدوج إلى قطبيّن، دمّر وسيدمّر كل شيء، ولا بد من إدراج كل تلك الظواهر ومسبباتها ضمن منظور يستكشف أسبابها الحقيقيّة. ولعلّ أهم تلك الأسباب- دون أن تكون الوحيدة- هو ما أسميناه"المطابقة" بكل ملابساتها واتصالاتها الخفيّة ونتائجها، وإزاء كل ذلك لا بد من وضع مسافة، تمكّن التي من ممارسة نقدها لنفسها ولغيرها، مساقة تفصل الذات فصلاً رمزياً عن ماضيها الذي مضى، وعن الآخر الذي له سياقات ثقافية خاصة به. تلك المسافات الطبيعية والضرورية أول خطوة لـ"الاختلاف" الذي يحوّل الانتماء الأعمى المزدوج الذي ذكرناه إلى نوع من الحوار والتفاعل والتمثّل والاختلاف، وليس التماهي والاندماج والتطابق.

    المركزية الغربية



    ضمن هذا التصور يأتي حديثنا عن"المطابقة والاختلاف" ومن الواضح أنّ الجزء الأول"المركزية الغربيّة" يُعنى فقط بالكيفيّة التي تشكلت بها تلك الظاهرة، بوصفها إحدى المؤثرات في ظهور"ثقافة المطابقة"،أما تجليّات تلك الثقافة في ميادين المناهج والمفاهيم والرؤى والتصورات فيُعنى بها كتاب"المرجعيات المستعارة"، وكل هذا لا يغيّب أمراً أساسياً، وهو: إن نقد الذات أهم من نقد الآخر، أي نقد ثقافة المطابقة من جانبها المتصل بالذات وليس بالآخر، فهو كما نرى، الممارسة الأكثر أهمية، إذا ما توفرت له الأسباب المناسبة منهجاً ورؤية، وذلك أمر أمسُّ ما نحتاج إليه في عصرنا. ولا يمكن الحديث عنه الآن إنْ لم يصبح أمراً واقعاً.أودّ التأكيد على أنّ نقد "المركزية الغربيّة" لا يعني إصدار حكم بحق ظاهرة ثقافية لها شروطها العامة الخاصة بها، وهو نقد لا يدّعي تقديم بدائل جاهزة، وليس بمقدوره استبدال معطى بآخر مباشرة، فهو من هذه الناحية نقد لا يقرُّ بالمفاضلة إنما هو ممارسة فكرية تحليلية استنطاقية كشفيّة، غايتها توفير سياقات تمكّن من إظهار تناقضات الفكر المتمركز حول نفسه، وإبراز تعارضاته الداخلية، ومصادراته، واختزالاته للثقافات الأخرى، وهو لا يدّعي القدرة على الإجهاز فوراً على كتلة ضخمة ومتصلبة من الممارسات المتمركزة، فالنقد هنا أبعد ما يكون عن كل هذا، فلا يصار أبداً الإجهاز على الظاهرة من خلال إبداء الرغبة في ذلك، فـ" التفكير الرغبوي" انفصالي بطبيعته عن موضوعاته، لأنه يكيّف نظرياً مسار الوقائع للرغبة دون الأخذ بالاعتبار الهوّة التي تفصل الرغبة عن موضوعها، إنما يريد النقد أن يمارس فعله عبر الدخول إلى صلب ظاهرة ثقافية كبيرة، والتفكير فيها ولكن ليس التفكير بها. إذن هو نوع من العمل المنهجي الذي يتصل بموضوعه وينفصل عنه في الوقت ذاته، إنه يتصل بالمركزية الغربيّة على مستوى اشتغال مفاهيمها وفروضها وقضاياها وإشكالياتها بهدف استكناه طبيعتها الداخلية، لكنه انفصال واضح عنها، لأنه يهدف إلى ضبط مصادراتها، وإقصاءاتها، وإبراز تناقضاتها الضمنيّة.وبعبارة أخرى، فالنقد هنا، لا يقبل لنفسه، بوصفه ممارسة واعية، أن يتهرّب من الاقتراب الحقيقي إلى الظاهرة التي يدرسها، إنما هو مدفوع للوقوف تفصيلاً على التشكّلات الداخليّة لتلك الظاهرة، والارتباطات الخفيّة بين المفاهيم المكونّة لظاهرة التمركز، وهو لا يصدر عن مرجعيّات تجريدية ثابتة ترتبط بهذه الثقافة أو تلك- ناهيك عن المرجعيات الدينية والعرقيّة- إنه في الواقع ممارسة معرفية، تتوغل في تلافيف الظاهرة، وتضئ الأنوار في عتمتها الداخلية، لتكشف ماهيتها. والهدف من ذلك توسيع مديات الوعي فيما يخص الظواهر الثقافية القائمة في عالمنا المعاصر، وإعطاء أهمية للبعد التاريخي للثقافات الإنسانية دون أسرها في نطاق النزعات التاريخية، إن النقد هنا، ممارسة حرة واعية بشرط حريتها، وهو التفكير في موضوع التمركز، من أجل إبطال نزعة التمركز وتكسير مقوماتها الداخلية شيئاً فشيئاً. وهو يريد إعادة ترتيب العلاقات بين "الذات"و"الآخر" على أسس تحاوريه وتواصلية، بهدف إيجاد معرفة الآخر مفيدة إلاّ إذا تم التفكير فيها نقدياً، والاشتغال بها بعيداً عن سيطرة مفاهيم الولاء والإذعان والتبعيّة، وبعيداً عن إحساس الطهرانية الذاتية وتقديس الأنا، وأخيراً فإنّ من الأهداف الأساسية لهذا النقد، تغيير مسار التلقّي، الذي نقصد به الطريق الذي تأخذه الأفكار الأخرى للدخول في وعي الذات، إذا تتشكّل ضمن تلك الذات، وهي حاملة معها دلالاتها، دون أن تخضع لمراجعة، بحيث تحتفظ بمحمولاتها وسياقاتها الأصلية، وهو ما يُحدث انقساماً شديداً في الذات الثقافية، لأنها لم تُكيّف تلك العناصر، بسبب غياب الإطار النقدي والمُنظّْم والمكيّف القادر على إعادة إنتاج تلك العناصر، بحيث تصبح مكونات في هذه الذات، وما يحصل أن تلك العناصر، ستمارس ٍأفعالها كأنها ضمن نسقها الثقافي الأصلي، وهو ما يقود إلى تعريض مكونات الذات إلى انهيارات داخلية، لأنّ تلك العناصر نضِّدت جنباً إلى جنب، ولم تُركَّب محمولاتها وفقاً للشروط التاريخية للذات الثقافية. وظيفة النقد إذن يُسهم في تغيير مسار التلقّي، ويقترح كيفيات لاندراج عناصر الثقافات الأخرى في الذات الثقافية التي أصبحت حقل صدمات لا نهائية بين المفاهيم والمقولات والرؤى والتصورات.

    مفهوم التمركز



    يمكن تعريف التمركز بأنه نسق ثقافي مُحمَّل بمجموعة من المعاني الثقافية (الدينيّة، الفكرية، العرقيّة) تكّونت تحت شروط تاريخيّة، إلا أنّ ذلك النسق سرعان ما تعالى على بُعده التاريخي، فاختزل أصوله ومقوماته إلى مجموعة من المفاهيم المجردة التي تتجاوز ذلك البُعد إلى نوع من اللاهوت غير التاريخي، وعلى هذا التمركز تكثُّف مجموعة من الرؤى في مجال شعوري محدد، يؤدي إلى تشكيل كتلة متجانسة من التصورات المتصلّبة، التي تنتج الذات المفكرة ومعطياتها الثقافية، على أنها الأفضل، استناداً إلى معنى محدد للهوية، قوامه الثبات، والديمومة، والتطابق، بحيث تكون الذات هي المرجعية الفاعلة والوحيدة في أي فعل، سواء باستكشاف ذاتها أو بمعرفة الآخر، ولا يقتصر الأمر في التمركز على إنتاج ذات مطلقة النقاء، وخالية من الشوائب، إنما – وهذا هو الوجه الآخر لكلّ تمركز- لابد أن يتأدى عن ذلك تركيب صورة مشوهة لآخر. وبين الذات الصافية والآخر الملتبس بالتشوّه الثقافي(الديني، والفكري، والعرقي) ينتج التمركز أيديولوجيا إقصائية استبعادية ضد الآخر، وأيديولوجيا طهرانية مقدسة خاصة بالذات، فينقسم الوعي معرفياً على ذاته، لكنه أيديولوجيا يمارس فعله المزدوج بوصفه كتلة موحدة لها منظور واحد.

    إنّ النقد هو الذي يكشف هذه التناقضات الكامنة في صُلب الثقافة المتمركزة حول ذاتها، وهو الذي يدفع بها إلى أن تُفصح عن مضمراتها، لأنه يتتبّع بدقة الممارسات الملتوية للمفاهيم التي تكونها، ولا تقف مهمة النقد عند إظهار أخطار التمركز، إنما يهيئ الأمر لهوية ثقافية جديدة قائمة على مسار متحول ومتعدّد ومتشعّب الموارد من المنظورات والمكونات الثقافية المنتجة أو المعاد إنتاجها في ضوء الشروط الثقافية والتاريخية للذات، وبما أنّ هوية التمركز تظهر مجردة عن بعدها التاريخي بوصفها هوية قارة وكونيّة في آن واحد، فانّ الهوية الثقافية المتمركزة أصولاً عرقية ودينيّة وفكرية توافق مضمونها وحاجاتها، فإنّ هوية الاختلاف تتجنب إنتاج أيديولوجيا لها صلة بهذه الركائز، فاتصالها بها تاريخي طبيعي وليس له بعد أيديولوجي متصل بمعنى الهوية، وأخيراً فيما تقوم الهوية المتمركزة بطمس واستبعاد كل العناصر التي تتعارض مع مفهوم الهوية، كما أنتجتها تلك الثقافة، بحيث تجعل الهوية أسيرة شبكة من المفاهيم التي تحميها من المتغيرات التاريخية، فانّ هوية الاختلاف تجعل من تلك العناصر مكونات فاعلة فيها، وهي تُمثل جانباً من جدلها الذاتي مع نفسها ومع غيرها.

    المركزية الغربية



    تبلورت معالم المركزية الغربيّة في العصر الحديث. وهي من نتاج فلسفة التاريخ التي بدأت تفرض تصوراً خاصاً لتاريخ أوربا والغرب عموماً منذ القرن الثامن عشر، ثم وفي خطوة ثانية، بدأت تعيد إنتاج الماضي بكل مكوناته الثقافية والدينّية والعرقيّة ليوافق ذلك التصور بما يجعل الغرب هو الأسمى في ثقافته وانتمائه الديني والعرقي، وذلك قبل الانتقال أخيراً إلى تركيب صورة مشوهة للآخر. وهنا تمّ اصطناع خرافة الأصل النقي، والمعجزة الإغريقية، والمسؤولية الدينيّة الكونية للمسيحيّة ببُعدها الكنسي وليس الأخلاقي. وفلسفة التاريخ هذه، التي جعلت الحتميّة الغربية هي سرّ الكون، أدت إلى ظهور منهج الوحدة والاستمرارية الذي يقول بوحدة الفكر الغربي وتماسكه وخصوصيته واطّراده،ويقول في الوقت نفسه بفرادته وكونيته بوصفه نموذجاً صالحاً لكل زمان ومكان، وقد أسهمت جهود فيكو وهردر وكوندرسيّه في المرحلة الأولى، وجهود كانتْ وهيغل وماركس وكونت في المرحلة اللاحقة في إنضاج هذا التصوّر وبلورته، ثم تهيئة الأسباب لقبوله، ثم تعميمه ليكون إحدى المسلّمات في الفكر الغربي الحديث.

    لم يكن هذا التصوّر وبلورته، ثم تعميمه ليكون إحدى المسلّمات في الفكر الغربي الحديث ،قد تمّ بمعزل عن الحركة الاجتماعية التي بدأت تتضح معالمها منذ القرن الخامس عشر، والتي مثلها الحراك الاجتماعي المتصل بتغيير الترتيب الطبقي والسيادة السياسية ونشوء الدولة الحديثة وتطلعات الطبقة المثقفة وأصحاب رؤوس الأموال، وحركات التبشير الديني، وكل ما يتصل بالبحث عن دور جديد لأوربا في العالم،سواء بالكشف الجغرافي والاستيطان أو بالاحتلال أو بفرض الرؤية والنموذج الغربي على الآخرين. كان الغرب قد أصبح بحاجة ماسة لفكرة جديدة تجعل منه الأسمى والأقوى في العالم، وهذا يقتضي إنتاج ماضٍ يوافق تلك الفكرة، وانتداب نفسه لأداء رسالة حضارية على مستوى العالم واتباع كل الوسائل المتاحة لتحقيق ذلك، والاختلاق فيما يخص الماضي، والعنف والإكراه فيما يخص نشر تلك الرسالة. وهكذا تشكّلت هياكل التمركز الغربي.

    أعاد منهج الوحدة والاستمرارية صياغة الوقائع طبقاً لمقتضيات رؤية فلسفة التاريخ، وقدّم معطيات جديدة خاصة بتاريخ الغرب،مستبعداً كلّ ما يمكن اعتباره يشكّل نقطة ضعف ووهن في ذلك التاريخ،ورسّخ رؤية بديلة؛ تقول إنّ ذلك التاريخ محكوم بصيرورة تشدّهُ إلى تطوّر مستديم،وان التمعّن في رحلته منذ الحقبة الإغريقيّة إلى الآن يكشف عن المركز الذي يؤلّف قوام وحدته،ويكشف عن الغاية التي يتمثل علّة تطوره، وانتج رؤية مزدوجة لموضوعاته. ففيما يخص الفكر الغربي، فشروط التطوّر وأسباب التماسك حاضرة، أما غيره فما زال يفتقر إلى ذلك.مازال تاريخ العالم خارج الغرب يعيش انكسارات متواصلة،مازال بعيداً عن الاطّراد الذي يدرجه في سلم التطّور.ومن أبرز ما حققه هذا المنهج في ثقافة الغرب،أنه أصّل مقومات الغرب الفكرية، والدينيّة والعرقيّة،وثبتتها انطلاقاً من لحظة تاريخيّة معينة.ولمّا كان المقوّم الفكري من الأسس التي وجدها ذلك المنهج غاية في الأهمية، فقد اهتم به،وراح ينظّم الممارسات العقلية الأولى،ليجعل منها مركزاً ومنطلقاً لذلك الفكر،وما إن عثر على قضية المبدأ في التأملات الإغريقية، إلا وعدت هذه القضيّة، ممثلة بشخص طاليس الأيوني اللحظة الأولى والحقيقة الولادة الفلسفة،ورتّبت الممارسات اللاحقة جميعها، انتهاء بالفلسفة الغربية الحديثة، على أنها نسغ حي يغذّي بعضه بعضاً، ومن الطبيعي أنه سيهمل- مادام يبحث عن التماسك والاطّراد- تكلّ المعطيات التي لا توافق معاييره، وهكذا رُسخت فكرة خطيرة وهي أن كل فلسفة لا تشغل بالمفاهيم التي أنتجتها الفلسفة الإغريقية ومن ثمّ الغربية، لا بد أن تُستبعد من ميدان الفلسفة الحقّة، لأنها غير مؤهلة لأن تكسب مشروعيتها الفكرية، وبذلك فرضت ولادة قيصرية للفلسفة، باعتبار أنّ أباها طاليس، وانّ موطنها الجزر الأيونية ثم الأرض اليونانية، وتمّ لهذا قطع أواصر التي تربط تلك التأملات الأولى بالموروث الفكري الذي كان يمور به الشرق قبل ذلك بمدة طويلة، واعتبرت المعجزة الإغريقية أروع أحداث التاريخ. وأقام منهج الوحدة والاستمرارية بعملية "تغريب"ضخمة للمسيحيّة بما يجعلها، وحسب إرادة الكنسية، ديانة كونيّة شاملة بحيث أصبحت"أوربا" تعرّف بكونها مسيحيّة، وأنها حاملة لواء الدين إلى العالم الوثني خارجها، ذلك العالم الذي اعتبر خاملاً، وبحاجة إلى قيم دينيّة لتطهيره من فساده الوثني. ومعروف أنّ رسالة الرجل الأبيض، في أهم وجوهها، كانت تتم تحت ستار التبشير، أما فيما يخص التفوّق العرقي،فقد تمّ استثمار نظرية "الكيوف الأرسطية" وتوسيعها من جانب، ثم اختزالها من جوانب أخرى،بما يجعلها تدعم الفكرة القائلة بتفوق العرق الغربي، وجرت دراسات هائلة، وظهرت نظريات كثيرة، تبرهن على أهلية ذلك العرق وتفوقه على الأعراق الأخرى.وبهذه الطريقة تم إنتاج غرب متميز بتفوقه الثقافي والديني والعرقي، وكانت فلسفة التاريخ الأوربية قد بلورت هذه الصورة الرغوية ودعت إليها، وادرجت معظم جهود الفلسفة الغربية الحديثة لتعزير تلك الفكرة.وكانت فلسفة هيغل ذروة توجّت حقبة طويلة من السعي لتحقيق هذا الأمر، فتلك الفلسفة إنما هي منظومة شاملة تقوم على أساس التمركز، وبقدر تعلّق الأمر بجانب فلسفة الروح فيها، فانّ الغرب هو المرفأ الأخير لأفضل تجليات الروح- العقل في مجالات الفن والدين والفلسفة. ولكن الأمر الذي يكتشف أهمية قصوى هنا، هو أن تمركز الفكر الغربي حول نفسه، عبر رحلة شاقة من الفرضيات والمحاولات والمستندات الفلسفية والتاريخية والدينية والعرقية، كان قد أدى إلى تركيب صورة مشوهة للآخر، فالعالم خارج نطاق أوربا، نظر إليه بوصفه سديماً غامضاً،وبدائياً، وملتبساً، وخاضعاً لعلاقات اجتماعية تحتاج إلى تهشيم قبل أن يتم نشر الفضيلة والأخلاق والعقل فيه.

    ويقدّم خطاب "هيغل"-باعتباره نموذجاً ليس إلا- صورة بشعة للآخر يصعب تصور أبعادها إلا بقراءة ذلك الخطاب مباشرة. فالأفريقيون والآسيويون أشد التصاقاً، بالنسبة له، بالدونيّة التي تميزهم في كل شيء عن الغربييّن، أما سكان"العالم الجديد-أمريكا"،فقد اعتبر هشاشة التكوين الطبيعي لبلادهم كافية للترفّع عن الحديث عنهم، وعلى هذا النحو، جرى تثبيت نظرة دونيّة للآخر، استمدت مضمونها من أيديولوجيا التفاوت التي رتبت جملة فروض لخفض الآخر،وإعلاء الذات.وسرعان ما أصبحت فكرة التفاوت فلسفة لها بُعد اجتماعي وسلوكي، أدّت إلى انقسام عميق في الفكر الإنساني، فثمة عرق مُنح التفوق والرفعة والسمو، واحتكر الحقيقة بكل أبعادها، وثمة عرق أُختزل إلى الحضيض والدونيّة، واستبعد طويلاً إلى أن حولته إيديولوجيا التفاوت إلى مجموعة بشرية شبه عاجزة وفاقدة للمشاركة، لأن تلك الأيديولوجيا، كرست لمدة طويلة فكراً تربوياً واجتماعياً وسياسياً، اختزل هذا العرق إلى مرتبة دونية تجعله يعيش دائماً تحت إحساس بمديونية أخلاقية وثقافية ودينيّة للآخر، أفضي ذلك إلى المزيد من اليأس والخذلان وإفراغ الأنساق الثقافية من مضامينها، والإجهاز عليها وغزوها بمضامين أنتجتها ظروف تاريخية مختلفة.

    يكشف الخطاب الثقافي الغربي، باستثناءات متناثرة في تضاعيفه، أنه يمارس فعالية مزدوجة؛ فهو من جانب يُضيف على الذات سمواًّ ورفعة، دون ٍأن ينتبه إلى الاشتباكات الحاصلة في المرجعيات التاريخيّة والاجتماعيّة، وهو من جانب آخر يبخس الآخر حالته الطبيعية،ويدرجه ضمن وضعيات دونية من خلال تركيزه على بعض الظواهر، ومعارضتها بما يجعلها ممارسات بدائية ومتخلّفة. ذلك أن كل شيء بالنسبة للآخر يُعرض من خلال منظور تحكمه رؤية مشتقة من المركزية الغربية. ولقد لعب الخطاب الثقافي دوراً كبيراً في تثبيت صور ذهنيّة للآخر، والحرص على إشاعتها، بل والامتناع عن إدراج المتغيرات التي تتدخل على نحو طبيعي لتغير الصور النمطيّة التي ينتجها ذلك الخطاب،بما يوافق آليته ومنظوراته. ومن الواضح أن ذلك الخطاب قد غُذّي بمجموعة من التصورات القبليّة التي أنتجتها بنية ثقافية معينة لها شرطها التاريخي، بحيث ظهرت الموضوعات الخاصة بالآخر في كل المجالات: الدينيّة والثقافية والتاريخية والعرقيّة..الخ، وهي أكثر صلة برغبات الخطاب من الصلة بحالتها الحقيقيّة ضمن مرجعياتها الأصلية، وهذا الأمر يستدعي ممارسة نقدية لتفكيك النسيج الداخلي لذلك الخطاب وكشف بؤر التمركز فيه، بما يُسهم في أبطال تلك النزعة، وامتصاص الغلواء المكينة فيه.

    من التمركز إلى العولمة



    لقد تطورت نزعة التمركز حول الذات،فطرحت مفهوماً متصلاً بها، وهو مفهوم "العولمة".وبهذا امتد الطموح ليشمل العالم بأجمعه،ويدرجه ضمن رؤية غربيّة مستمدة من أيديولوجيا التمركز مع مراعاة شرط التراتب والتفاضل والتمايز بين ما هو غربي وما ليس كذلك.كثيراً ما يصار التأكيد على أنّ الغاية الأساسية لنزعة العولمة هي:تركيب عالم متجانس تحلُّ فيه وحدة القيم والتصورات والغايات والرؤى والأهداف محل التشتت والناقض،ولكن هذه النزعة تختزل العالم إلى مفهوم،بدل أن تتعامل معه على أنه تشكيل متنوع من القوى والإرادات والانتماءات والثقافات والتطلّعات،والحقيقة فانّ وحدة لا تقرُّ بالتنوع ستؤدي إلى تفجير نزعات التعصب المغلقة والمطالبة بالخصوصيات الضيقة.فالعولمة بتعميمها النموذج الغربي على مستوى العالم، واستبعادها التشكيلات الثقافية الأصيلة، إنما توقد شرارة التفرّد الأعمى. إن هيمنة نموذج ثقافي، لا يؤدي إلى حلّ المشكلات الخاصة بالهوية والانتماء، إنما على العكس يؤدي إلى ظهور أيديولوجيات تضخ مفاهيم جديدة حول نقاء الأصل وصفاء الهوية، إلى ذلك فانّ عملية محاكاة النموذج الكوني الغربي ستقود إلى سلسلة لا نهائية من التقليد المفتعل الذي تصطرع فيه التصورات،وهو يصطدم بالنماذج المو######## التي ستبعث على أنها نُظم رمزية تمثل رأسمال قابل للاستثمار الأيديولوجي عرقياً وثقافياً ودينياً.

    لا يمكن إجراء رصد ختامي لما أفضت إليه العولمة سواء أكانت ممارسات متنوعة ظهرت منذ أن استقام أمر التمركز الغربي أم منذ ظهرت حديثاً على أنها نزعة فكرية نظرية، ولكن الأمر الذي يمكن رصده والبرهنة عليه هو؛ أن العولمة قد خلقت إمكانيات واسعة لسيادة الولاء للآخر، وهيمنة الفكر الامتثالي، واختزال الذات إلى عنصر هامشي، واستبعاد المكونات القابلة للتطور والنمو، ولكل ذلك أدى إلى انهيارات متعاقبة في الأنساق الثقافية غير الغربية.وبقدر تعلق الأمر بالثقافة العربية الحديثة، فانّ حصر النتائج أمر لا يمكن تحقيقه،فالمؤثرات الغربية وموجهاتها ومحمولاتها ومرجعياتها تغذّي باستمرار، ومنذ مدة طويلة،كثيراً من الممارسات الثقافية،في المناهج والمفاهيم والرؤى.


                  

05-21-2005, 08:16 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السيرة الفكرية للناقد العراقي عبدالله ابراهيم (Re: Sabri Elshareef)

    مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية




    المركزية الإسلامية



    ينبغي أن نؤكد على أن كل مركزية تقوم على فكرة الاختلاق السردي الخاص لماض مرغوب يشبع تطلعات آنية، ويوافق رغبات قائمة،فهذه سُنن المركزيات ،وبمواجهة الحاجة إلى توازن ما تُصطنع ذاكرة توافق تلك التطلّعات، أو يتم تعويم صور من الماضي ،لغايات خاصة.وقد ذهب "إدوارد سعيد" إلى مضمون هذه الفكرة،حينما أكد أن "ثمة منهجا لاستخدام الذاكرة بشكل انتقائي من خلال التلاعب بقطع معينة من الماضي ،وذلك بطمس بعضها وإبراز بعضها الآخر بأسلوب يؤدي وظيفة من نوع ما ..ومن هنا ليست الذاكرة بالضرورة أصيلة،بل هي على الأصح، ذاكرة نافعة...وذلك يعود إلى أن الاهتمام بالذاكرة من أجل ماض مرغوب فيه يمكن استعادته هي ظاهرة محمّلة مشحونة،وقد برزت إلى الوجود حديثا نتيجة التغيرات المربكة في مجتمعات كبيرة تفوق التصور ،مجتمعات بشرية ضخمة،واسعة الانتشار،وقوميات متنافسة،ولعل الأمر الأكثر أهمية،فيما يخص ظهور الذاكرة التي يمكن الانتفاع بها لأداء وظائف تحتاجها الأمم والمجتمعات،في واقعها المعاصر، هو تناقص فعالية الأواصر الدينية والعائلية والروابط السلالية،ويتطلع الناس الآن إلى هذه الذاكرة المتجدّدة، سيما في شكلها الجمعي، ليمنحوا أنفسهم هوية متماسكة ،وسرد قومي ،ومكان في العالم"

    إنّ الأمثلة في عالمنا المعاصر أكثر من أن تحصى في مجال اختلاق ذاكرات تاريخية وعرقية ودينية، والبحث المسكون بأوهام كبرى للانتساب إلى ماض عريق كمعادل موضوعي لوهن قائم، أو لانتزاع شرعية في عالم محتدم بصراع الهويات والتطلعات والآمال،ومشبع في الوقت نفسه بحالات انكسار للقيم التقليدية المو########،وانهيار لنسق العلاقات القديمة،وهذا التوتر يضخّ رغبات دائمة تريد استخدام الماضي استخداما أيدلوجيا بما يضفي على الأنا سموّا ورفعة،والآخر خفضا ودونية.وإعادة قراءة المرويات في ضوء هذه الحاجات،يسهم في هذا الضرب من الصراعات،فالأمم تتساجل فيما بينها-أيضا- عبر الصور الاكراهية التي تشكلها بواسطة السرود لغيرها.وقوامها إن هو إلا نسيج متشابك من التصورات والمرويات الخاصة بها عن نفسها،وعن الأمم الأخرى.وغالبا ما تحمل تلك التصورات عبر التاريخ مدونات وصفية أو تخيلية،تتوارى فيها الصور الكلية للمشاعر والتطلعات والتجارب،والقيم الدينية والنفسية والأخلاقية.واستنطاق تلك المتون إنما هو استنطاق لذاكرة.ونقدها إنما هو محاولة لوقف استخدامها كأيدلوجيا حيّة في نزاعات معاصرة،ولم يكن تشويه الآخر،قد أثمر عن فائدة حقيقية ،ولن يكون ممكنا وقف ذلك إلا استنادا إلى رؤية نقدية تكشف ذلك النسغ المتصاعد في الفكر والسلوك المعاصرين.

    إن النظر إلى المركزيات الكبرى في التاريخ الإنساني من زاوية كونها نتاج مرويات ثقافية متنافسة يوسع المجال أمام الدراسات المخيالية التي استبعدت بتأثير من فكرة الحداثة الغربية،الحداثة التي لا تعدو أن تكون رواية من نوع خاص للتاريخ أنتجها المخيال الغربي المتخفّي تحت غطاء العقلانية في ظل ظروف خاصة،وهذه النظرة إلى المركزيات تسعى لإعادة الاعتبار إلى المرويات الثقافية التي تتوارى أحيانا وراء الستار السميك للمفاهيم والمناهج فتأخذ شكل تحليلات موضوعية، وتتجرد غالبا عن ذلك فتكون مرويات سردية،فيما هي تخفي دائما درجات من التمثيل السردي الذي يتدخل في صوغ العلاقات الإنسانية،والمفاهيم الفكرية،والتصورات الخاصة بالأنا والآخر. فالمركزيات تصاغ استنادا إلى نوع من التمثيل الذي تقدمه المرويات الثقافية(=الدينية والأدبية والتاريخية والجغرافية والفلسفية والأنثروبولوجية) للذات المعتصمة بوهم النقاء الكامل،والآخر المدنّس بالدونية الدائمة، فالتمركز – كما أشرنا-هو نوع من التعلق بتصوّر مزدوج عن الذات والآخر،تصوّر يقوم على التمايز والتراتب والتعالي يتشكّل عبر الزمن بناء على ترداف متواصل ومتماثل لمرويات تلوح فيها بوضوح صورة انتقيت بدقة لمواجهة ضغوط كثيرة.وفي كل تتكشف الطريقة البارعة للسرود التي تنتظم حول حبكة دينية أو ثقافية أو عرقية مخصوصة، فتخضع كل عناصر السرد لخدمة تلك الحبكة التي تظل يقظة في إثراء تمجيدي للذات،وخفض تبخيسي للآخر.وهذا يسوغ لنا أهمية الانطلاق من واقع العالم اليوم من أجل كشف الأسباب التي تتبلور فيها أفكار التمركز، كما هو الأمر بالنسبة للمركزية الغربية،أو الأسباب التي يعاد في ضوئها أمر توظيف المركزية الإسلامية في الرهانات والسجالات القائمة في عصرنا.

    أنتجت القرون الوسطى مرويات ثقافية تضمنت تصورات شبه ثابتة للأعراق والثقافات والعقائد،وكانت تلك التصورات تمثّل معيارا يتدخّل في رفع قيمة ما أو خفضها لدى أي مجتمع أو ثقافة.وليس خافيا أن الحكم المسبق على ظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو دينية سيؤدي إلى نتيجة تضفي مكانة رفيعة عليها أو تسلبها مكانتها الحقيقية، والصور التخيلية المتشكّلة في أذهان المجتمعات،بفعل الخلافات الدينية،والصراعات السياسية،وتباين المنظومات القيمية،والأنساق الثقافية،أدّت خلال تلك الحقبة الطويلة إلى ترسيخ صور منقوصة لبعضها.ومادامت تلك المرويات توجّه أفكار المؤرّخين والجغرافيين والرحّالة والمفكّرين والفقهاء،وكل مَنْ يصوغ الصور الجماعية الذهنية الخاصة بالآخر،وبخاصة المدونات الوصفية والسردية والعجائبية،فمن المنتظر الحصول على سلسلة متواصلة من الأحكام غير المنصفة بحق الآخر المختلف.

    إنّ العودة إلى مرويات الثقافة الإسلامية( نقصد بالمرويات هنا على كل تعبير يقوم بوظيفة تمثيلية للمرجعيات الثقافية والعرقية، بغض النظر عن الصيغة )،وبخاصة الجغرافية والتاريخية والدينية والتخيلية،وكتب الرحلات،طوال القرون الوسطى تبين بجلاء أن صورة الآخر مشوّشة،ومركّبة بدرجة كبيرة من التشويه الذي يحيل على أن المخيال الإسلامي المعبّر رمزيا وتمثيليا عن تصور المسلمين للعالم،قد أنتج صورا تبخيسية للآخر.فالعالم خارج دار الإسلام-كما قامت تلك المرويات بتمثيله- غفل،مبهم،بعيد عن الحق،وهو بانتظار عقيدة صحيحة لإنقاذه من ضلاله ،ولا تخفى التحيّزات الخاصة بذلك التمثيل،فهي مكشوفة وواضحة،وكانت صورة الآخر الدونية مثار قبول واحتفاء في كثير من الأحيان لدى المؤرخين والجغرافيين،ولم يجر –في حدود علمنا- نقد معمّق لها، ولا كشف التنميطات الثقافية الجاهزة للآخر .

    لم يكن الأمر خاصا بتلك المرويات في دار الإسلام وحدها؛فالقرون الوسطى تميزت بأنها تعنى بثبات المعايير وتكرارها،والنظام الفكري الشائع خلالها ينظر إلى الظواهر الطبيعية والبشرية والثقافية نظرة قارّة،فالإحساس بالتغيّر محدود جدا،وثمة ثقة شبه كاملة بضرورة خضوع الظواهر البشرية والثقافية والدينية لتفسيرات مركزية مطلقة، وغير خاضعة للتغيرات الزمنية،وكان ذلك النظام يستعين بطرائق تحليل تقليدية تفتقر إلى قوة التعليل،الأمر الذي جعل المعرفة الخاصة بتلك الحقبة هشّة،وضعيفة،وتنطوي على تناقضات كثيرة،لم تصمد بوجه النقد ؛لأنها قائمة على التنميط غير المعلّل،أو الذي يفتقر إلى تعليل يأخذ في الاعتبار العناصر الحقيقية للظاهرة في سياقاتها الثقافية والتاريخية،وليس في حالة تجريد تام كما كان التصور القديم يفترض ذلك،ولما كانت تلك المعرفة تقوم على ركائز ناقصة،وغير متكاملة،ومتعالية على شرطها التاريخي،فمن الطبيعي أن تتّصف عموما بالنقص وعدم الإحاطة بموضوعاتها،والاختزال الواضح في الأسس التي تقوم عليها.

    كان هذا التصور التقليدي للآخر إبان تلك الحقبة يقيم معرفة تخيلية ملتبسة مع نفسها،يتم تعميمها وفرضها استنادا إلى السجال،وليس التجربة والمعاينة والاكتشاف المباشر،وقد لا تراعى في كل ذلك الجدوى المستخلصة منها، ولا الهدف المراد تحقيقه،سوى الامتثال للفكرة الراسخة القائلة بالتفاضل،فالأنا مفعمة بقيم سامية،والآخر يفتقر إليها،الأنا فاعل،والآخر منفعل.حينما تصهر معا كل العناصر المكونة لظاهرة ما،يمكن الحديث عن اقتراب إلى حقيقة الشيء.

    تضافرت المرويات من أجل تمثيل الذات والآخر استناداً إلى آلية مزدوجة الفاعلية أخذت شكلين:ففيما يخص الذات أنتج "التمثيل" ذاتاً نقيّة،وحيويّة،ومتعالية،ومتضمّنة الصواب المطلق، والقيم الرفيعة،والحق الدائم؛ فضخّ مجموعة من المعاني الأخلاقية المنتقاة على كل الأفعال الخاصة بها،وفيما يخص الآخر أنتج "التمثيل" "آخر"يشوبه التوتر والالتباس والانفعال أحياناً،والخمول والكسل أحياناً أخرى،وذهب فيما يخص الأقوام في المناطق النائية إلى ما هو أكثر من ذلك،حينما وصفهم بالضلال والحيوانية والتوحش والبوهيمية،وبذلك أقصى كل المعاني الأخلاقية المقبولة عنده،واستبعد أمر تقبّل النسق الثقافي له،فحُمّل الآخر، من خلال تفسير خاص،بقيم رتّبت بتدرّج لتكون في تعارض مع القيم الإسلامية.وبذلك اصطنع "التمثيل" تمايزاً بين الذات والآخر ،أفضى إلى متوالية من التعارضات والتراتبيات التي تسهّل إمكانية أن يقوم الطرف الأول في اختراق الثاني،وتخليصه من خموله وضلاله وبوهيميته ووحشيته،وإدراجه في عالم الحق.وباستثناء حالات محدودة خاصة بالعالم الشرقي،فمن النادر الحديث عن تمثيل محايد،فالمرويات الكبرى لا تنقطع عن مرجعياتها الثقافية، وهي سرود شاملة لا تعرف البراءة في التمثيل،وليست شفافة،إنما تشتبك مع مرجعياتها في نوع من التمثيل الكثيف،وتصوغها صوغا رمزيا،فترشح من تضاعيفها كل المواقف القيمية والثقافية.

    هذه الآلية التي وفرت اعتصاماً بالذات وتحصناً وراء أسوارها المنيعة،وإقصاء للآخر وتشويه حالته الإنسانية،هي من نتائج ثقافة التمركز حول الذات داخل دار الإسلام،والتمركز نمط من التفكير المترفّع الذي ينغلق على الذات،ويحصر نفسه في منهج معين ،ينحبس فيه ولا يقارب الأشياء إلا عبر رؤيته ومقولاته.ويوظف كل المعطيات من أجل تأكيد صحة مقولاته.ويحتاج هذا النمط من التفكير إلى نقد متحرر من أية مرجعية ثابتة،سواء كانت عرقية أو دينية أو ثقافية،فالمرجعية التي يمكن اعتبارها الموجّه لعمله هي الممارسة النقدية التحليلية الجريئة التي تتعرّض لفك التداخل بين الظواهر التي تلازمت فأوجدت هذا التفكير الذي يقوم على الرغبة والحاجة،وليس على جمع المعطيات الكلية التي توفر له درجة من الموضوعية والحياد والصدق.

    لقد كان هذا النموذج الفكري مهيمنا في القرون الوسطى ،وتغلغل في تضاعيف التصورات العامة،وتحكّم في توجيه الأفكار وصوغها،وركد مطمورا،ولكن بفاعلية كبيرة ،تحت أكداس الخطابات والتصورات والتخيّلات،فحجب ولمدة طويلة ،كل إمكانية للبحث في أمر تعديلها.وهو أمر يوجب إعادة النظر مجدداً في كثير مما اعتبر من المسلّمات الثقافية في ذلك العصر،من أجل كشف فداحة الأوهام،وخطورة المصادرات،ثم القيام ،وبكيفية جديدة،بطرح القضية الملتبسة دائماً،قضية"الأنا"و"الآخر"ليس بوصفها قضية تاريخية انقضى عصرها،إنما باعتبارها ممارسة فكرية نقدية متجدّدة، تقوم بتحرير الذات من أوهام التمركز والتفوّق والأفضلية،عبر نقدها من أصولها، وفكّ الالتباس الناشئ من علاقة غير صحيحة مع الآخر،تشكّلت في ظروف أخرى،وفي ظل موجهات لم تعد قائمة بصورتها المو########.تمارس الأصول ضغطا شديدا في تحديد مجال الأفكار،ونمط المواقف،ونوع التصورات.

    تمثل تلك المرويات ذاكرة يصار إلى استعادتها طبقا لحاجات متصلة بالوعي الجماعي في ظروف معينة من أجل أهداف مشتركة،والبحث في الصور المتشكّلة في المخيال الإسلامي للآخر ليست موضوعا أغلق عليه كتاب الماضي، إنما هي قضية تتصاعد بفعل الظروف المعاصرة، ويتم استخدامها نفسيا لإعادة التوازن،فالماضي يدفع به ليكون جزءا من صراعات الحاضر،وهذا الاستخدام لمعطيات الماضي، يجعله مباحا،وقابلا للاختلاق في كل موضوع يستعصي على الحل، وهو،فيما نرى،يحجب النظر عن القضايا الحساسة، ويتسبب في عماء دائم، يحول دون التفكير الموضوعي بالواقع .

    كشف صورة الآخر في أعين المسلمين،خلال القرون الوسطى(هنالك اختلاف حول الدلالة الزمنية لهذا المفهوم بين المؤرخين بحسب الأمم والثقافات،كما هو معروف) لا يراد منه سوى تفريغ الأوهام المستبدة بنا،والتأكيد على ضرورة النظر إلى الماضي،وصورته في أذهاننا،نظرة تستبعد أية إمكانية لإغفال التدرج التاريخي الطبيعي للأمم،وهو يسهم، كما نرى، في وضع مسافة نقدية تمكن من كشف انخراط فهمنا التقليدي في عمل خطير،وهو يريد ألا نظل أسرى التطابق مع صور بعينها من الماضي ،إنما التفكير في نوع من الاختلاف،وهذا الاختلاف يقتضي النظر للذات والأخر بعيدا عن التحيّزات الأيدلوجية الجاهزة.

    الحديث عن الصورة التي ارتسمت للعالم في المخيال الإسلامي خلال القرون الوسطى يوجب،بداية،البحث في مركزية دار الإسلام خلال تلك الحقبة المشبعة بالسجالات الدينية؛فالمركزية الإسلامية،ومفهوم"دار الإسلام" سيقومان بتشكيل ملامح خاصة،ومتوقّعة،لصورة الآخر، تلك الصورة التي ستلوح في أفق انتظارنا طبقا للحدود التي تسمح بها مفاهيم التمركز.ومن المهم أن نتحرّر من ضغط المفاهيم،ودلالاتها المو######## والمملوءة بثقافة عصرها،وذلك لن يتم إلا بتداولها في حقل المعرفة النقدية الهادفة إلى امتصاص شحن الغلواء الكامنة فيها، فالموجّهات الفكرية لمصطلح "دار الإسلام" تتدخّل في ترتيب رؤيتنا لمن هم خارج تلك الدار،لأنها مجال ثقافي مشبع بمنظومة عقائدية متجانسة،تختلف عن المنظومة الخاصة بالآخر، إنها تدفع بنا إلى موقف منه أكثر مما تسهل لنا استخلاص صورة حقيقية له،فالمخيال مكوّن ثقافي يتشكّل عبر التجارب التاريخية والعلاقات المتنوعة،ويصدر أحكامه عن الآخر ضمن شبـكة محكمة ومتلازمة من تلك التصورات الخاصة به.

    يلاحظ أن مصطلح "العالم الإسلامي" قد بدأ يحل محل" دار الإسلام" وهذا يتسبب في نشأة وضع آخر ،وهو التفكير في البحث عن المصطلح الذي يمكن إطلاقه على "العوالم الأخرى"،فمادام قد غُطي هذا العالم بغطاء ديني، فما الذي يمنع من خلع أغطية مماثلة على العوالم الأخرى التي تشترك بالعقائد والثقافات واللغات؟إلى ذلك فالمصطلح الجديد إنما هو تشكيل رمزي له القيمة الثقافية ذاتها التي كانت اللب المكوّن للمصطلح القديم، فشأن هذا شأن ذاك، لايمكن أن يُعبّأ بغير الأبعاد الثقافية.ومادام التفكير في ( الأنا) يتمّ في ضوء سلّم محكم من القيم الدينية،فمن الطبيعي أن يظهر (الأخر) المختلف.ولكن هل يمكن أن نكون أكثر دقة لو استخدمنا مصطلح" العالم الإسلامي" ؟ الواقع ينبغي التحسّب أيضا عند استخدام هذا المصطلح ؛ فهذا الوصف يشوبه نوع من عدم الدقّة من جهة، والتعميم من جهة أخرى.فهو لا يأخذ في الاعتبار ما تمور به هذه المناطق الشاسعة التي استوطنها المسلمون كأغلبية، أو شكلّوا في بعضها أقليات ضخمة،لها خصوصيات عرقية، ولغوية، وتاريخية.

    كان القدماء قد استخدموا مصطلح "دار الإسلام" كنقيض لـ"دار الحرب".أما "العالم الإسلامي" فاستعماله في الوقت الحاضر يوجب بحثاً عن نقيض ،وهو أمر أصبح محاطا بالحذر في عالم تداخلت مصالحه وعلاقاته وأفكاره وشعوبه،وتخلّص جزء كبير منه من سجالات القرون الوسطى التي يقوم نموذجها الفكري على الثنائيات الضدية، وإن كانت بعض أمشاج الماضي مازالت حاضرة في صلب التفكير المعاصر،إذ لم تندثر تماما الحساسيات العقائدية والثقافية بين الشرق والغرب أو الشمال والجنوب على سبيل المثال،ولابين المجالات المؤممّة من هذه العقيدة أو تلك، أو هذه الثقافة أو تلك.

    يشير مصطلح" العالم الإسلامي"الآن إلى ذلك المجال الشعوري الذي تتراسل فيه منظومة من القيم الروحية والأخلاقية والعقائدية التي انبثقت عن القرآن،وعزّزت بفهم المسلمين لطبيعة الرسالة التي يتضمنها،وهو تراسل يتجاوز الانتماءات العرقية والثقافية والجغرافية،ولكنه لا يهملها ولا يتقاطع معها،ذلك أن الإسلام لم يضع أية شروط محددة للتوفيق بين العرق والعقيدة ،فهما انتماءان لا تعارض بينهما في المنظومات الدينية،يتوازيان ويلتقيان ويتماسان دون أن يلغي أي منهما الآخر،وهذا الأمر بذاته هو الذي يظهر إلى الوجود إسلاماً متعدد الأبعاد،يتم تلقيه وإنتاجه والتفكير به طبقاً للخصوصيات الثقافية والاجتماعية،لكن الإسلام كمنظومة قيم روحية وعقائدية عامة ينتظم في نسق واحد شامل، فهو يضم هذه التصورات،ويهضم الاختلافات والخصائص الثانوية،وذلك أمر شائع يفرضه واقع حال المسلمين المتصلين بأعراقهم الكثيرة،والمنتمين إلى هويات ثقافية متعددة،داخل إطار الثقافة الإسلامية العامة.وهذه الحقيقة دفعت محمد أركون لأن يحتج على برنارد لويس الذي يستخدم في كتبه مصطلح "العالم الإسلامي"ومؤدى اعتراض أركون يتمثل في أن هذا المصطلح إنما هو مفهوم شمولي وضبابي يغطي تحته عدداً كبيراً من المجتمعات والمجموعات البشرية المختلفة.وهذه الفئات والمجتمعات شديدة التنوع والابتعاد عن بعضها في الزمان والمكان.إنها من التباعد والاختلاف بحيث أن مفهوم "العالم الإسلامي"يفقد كل فعالية حقيقية،وبالتالي فيصعب استخدامه دون أخذ احتياطات كثيرة .

    ولئن ذوبت نزعات الحداثة والعولمة بعض التخوم الرمزية الفاصلة بين التجمعات القومية والعقائدية،وفكّت الانحباس التقليدي المتوارث فيها،فأنها بذرت خلافا جديدا تمثله مفاهيم التمركز والتفوق والتفكير بسيطرة نموذج ثقافي على حساب آخر،وهو أمر نشّط مرة أخرى المفاهيم التناقضية-السجالية التي تخمّرت في طيّات القرون الوسطى،وصارت تُبعث اليوم بصورة إشكاليات الهوية والخصوصية والأصالة.وينبغي التأكيد على أمر يكاد يصبح قانونا ثقافيا،وهو أن البطانة الشعورية-العقائدية،وهي تشكيل متنوّع من تجارب الماضي والتاريخ والتخيّل والاعتقاد واللغة والتفكير والانتماءات والتطلعات،تؤلّف جوهر الرأسمال الرمزي للتجمّعات المتشاركة بها،أقول إن تلك البطانة المركّبة تعمل على جذب التجمعات البشرية الخاصة بها إلى بعضها،وتدفع بها إلى قضايا حساسة وشائكة لها صلة بوجودها،وقيمها،وآمالها، وقد تتراجع فاعليتها التأثيرية في حقبة بسب ضمور فاعلية عناصرها، لكنها قابلة للإنبعاث مجددا في حالة التحدّيات والتطلّعات الحضارية الكبرى .ولا يُستبعد أن تُغذّى بمفاهيم جديدة تدرج فيها من أجل موافقة العصر الذي تتجدّد فيه.وهذا هو الذي يبعث التفكير ثانية في الماضي الذي يصبح حضوره ملحّا حينما تشرف المجتمعات على حالات تغيير جذرية في قيمها وأخلاقياتها وتصوراتها عن نفسها وعن غيرها.ينبثق تفكير ملح بالماضي حينما يكون الحاضر مشوّشا،وعلى عتبة تحولات كبيرة أما بسبب مخاضات تغيير داخلي أو بفعل مؤثرات خارجية.

    تعيش المجتمعات الإسلامية حالياً ازدواجاً خطيراً تختلط فيه قيم روحية رفيعة وقيم مادية منحطّة،ولم تفلح أبداً في فك الاشتباك بين الاثنين على أسس عقلية واضحة.فالقيم الأولى حبيسة النصوص المقدّسة وحواشيها،وقد آلت إلى نموذج أخلاقي متعال يمارس نفوذاً يوجّه الحاضر انطلاقاً من الماضي،أما القيم الثانية فقد غزت الحياة بشتى جوانبها،باعتبارها إفرازات مباشرة لنمط العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في العصر الحديث، وبالتحديد بفعل المؤثر الغربي.وهكذا فقد اصطدمت وتداخلت جملة من القيم المختلفة في مرجعياتها ووظائفها، فلم تعد تلك المجتمعات قادرة لا على الدخول إلى قلب الحداثة ولا الانفصال عن الماضي.

    يصعب من ناحية تاريخية تحديد اللحظة التي بدأ يتداول فيها مصطلح "دار الإسلام"ليس لأن هذا المصطلح غير قادر على الإفصاح عن مضمونه،إنما لأن قيمته الحقيقية تكمن في دلالته الثقافية،فدار الإسلام لم ترتهن أبدا لمعنى جغرافي مباشر.كانت تتمدّد وتنحسر على وفق درجة حرارة البعد الثقافي للإسلام كمنظومة ثقافية يوجهها بعد ديني لتفسير العالم.فوحدة دار الإسلام كانت ثقافية بالدرجة الأولى،وجرى باستمرار تهميش للعوامل العرقية والجغرافية.ولكن هذا لا يقصد منه طمسها،إنما هي انتماء طبيعي، فيما العقيدة انتماء ثقافي.

    لم تكن دار الإسلام في أي وقت من الأوقات أرضا تحتكر السيطرة عليها دولة واحدة.بل يبدو لنا- وهذا أمر يحتاج إلى اختبار خاص- أن هناك تعارضا شبه دائم بين المفهومين السياسي والثقافي لـدار الإسلام.ففي حدود علمنا نشأ المفهوم الذي ينطوي على أبعاد ثقافية لايمكن تجاهلها بعد موجة انحسار السيطرة العربية على جزء كبير من العالم؛فمنذ العقد الأخير من القرن الأول الهجري(=بداية القرن الثامن) حصل أمران ملفتان للنظر: أولهما توقف الفتوحات في أقاصي الشرق داخل الأراضي الصينية عند (كاشغر) وظهور بوادر تقهقر دائم في تلك النواحي، انتهى بعد أكثر من خمسة قرون بوصول الأقوام المغولية إلى بغداد،القلب الثقافي النابض لـدار الإسلام آنذاك ،وثانيهما اندفاع الفتوحات الغربية إلى أوربا عن طريق الأندلس،ثم توقفها شبه المفاجئ،بعد فترة قصيرة. ولعلّ العقد الأخير من ذلك القرن،والعقد الأول من القرن الذي يليه،هما البداية التي شهدت اللحظة الفاصلة بين اندفاعين يصعب تفسيرهما،وبداية تقهقرين لا يقلان عنهما غموضا، هذان الأمران كانا دائما مثار خلاف في التفسير،وتتقاطع حولهما المواقف، وبخاصة حينما يخلع عليهما الغطاء الديني،فيكون المفسّر الوحيد لصعود الممالك وانهيارها.

    كان الحديث عن دار الحرب قد احتل مكانا بارزا في الأدبيات الفقهية الإسلامية منذ القرن الثاني الهجري،وزاد الاهتمام به في القرون اللاحقة،وأسهم فيه نخبة من الفقهاء،إذ كان العالم حسب المفهوم الإسلامي ينقسم إلى قسمين:دار الإسلام التي تضمّ المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية التي رضخت للسيادة الإسلامية،ودار الحرب.أما دار الإسلام فتشمل فئة المؤمنين،والفئات التي حالفت المسلمين من أهل الكتاب الذي آثروا البقاء على ديانتهم مقابل دفع الجزية،وجميع الساكنين في دار الإسلام يعتبرون من رعايا الإمام أو الخليفة،ولهم حق الحماية في الداخل وحق الدفاع عنهم في حال اعتداء خارجي.أما دار الحرب فكانت تضمّ العالم المحيط بدار الإسلام،وتضم جميع الشعوب والأقاليم غير الخاضعة للسيادة الإسلامية.وكانت دار الحرب هي الهدف الذي كان الشرع يسعى إلى ضمّه إليه،ومن واجب كل حاكم مسلم أن يسعى لإخضاع دار الحرب للسيادة الإسلامية عندما تتوافر له القوة الضرورية لذلك، وسكان دار الحرب يُعتبرون أنهم لا يزالون على سجيتهم الأولى البدائية،وكانت تنقصهم الكفاءة الشرعية التي تؤهلهم للدخول في مفاوضات مع المسلمين على قدم المساواة،وعلى مبدأ العدالة بالمثل،لأنهم يعجزون عن الانسجام مع المستوى الخلقي والشرعي لدى المسلمين،وعلى هذا فالمعاهدات معهم لم يكن معترفا بها ضمنا طبقا للشرع الإسلامي . وقع خلاف بين الفقهاء المسلمين فيما يخص هذا التقسيم للعالم ،ومع أن الغالبية قبلته كأمر واقع فإنّ فئة منهم،ولاسيما فقهاء المذهب الشافعي،افترضوا وجود عالم آخر هو دار الصلح أو دار العهد.وحسب هذا المذهب فإن الإسلام قد اعترف اعترافا محدودا ومشروطا بالشعوب غير الإسلامية التي تكون قد أبرمت معاهدة أو حلفا مع المسلمين على شروط متفق عليها من قبل الطرفين المتعاقدين على أن يدفعوا الجزية، لكن فقهاء الحنفية لم يقبلوا بهذا، وما اعترفوا أبدا بالصلح، وحجتهم في ذلك إنه متى عقد سكان الإقليم معاهدة سلام، ودفعوا الجزية ؛فأنهم يصبحون بذلك ضمن دار الإسلام،وعلى الإسلام أن يضمن لهم الحماية.

    إن دار الإسلام من ناحية نظرية هي في حالة حرب مع دار الحرب،لأن الهدف الأخير للإسلام هو العالم بأسره،وإذا أفلح في ذلك، فإن حالة السلم التي يفرضها الإسلام تحلّ محل كل تدبير سلمي آخر،وتصبح الشعوب غير المسلمة إمّا جزءا من الدولة الإسلامية،أو خاضعة لسيادتها كأقليات دينية معترف بها،أو كوحدت ذات استقلال ذاتي تربطها بالدولة الإسلامية معاهدات تنظّم العلاقات بينهما.طبقا لهذا التصور فإن الفكر السياسي الإسلامي أوجد دولة بمقتضى عقد مقدّس قائم على الشريعة،ولا انفصال بين الدولة والمجتمع ولا بين الدولة والدين.وكما يذهب شاخت فإن الشريعة هي نموذج للقانون الديني ،وكان الخليفة أو الإمام هو الشخص المسؤول مباشرة عن حماية الشريعة،ومسؤول أيضا ليس فقط عن الحفاظ على حدود دار الإسلام وصيانتها،إنما توسيعها لتهيئة العالم لقبول الشريعة بما يجعل العالم كله معتنقا للإسلام ؛فالله هو المصدر النهائي للسلطة،والجماعة الإسلامية أمّة الله،وممتلكاتها مال الله، بما في ذلك الغنائم،وأعداؤها هم أيضا أعداء الله. .

    ُنظر إلى الشعوب المقيمة خارج دار الإسلام باعتبارها شعوبا ضالة ينبغي أن تمتثل للشريعة الإلهية،ويجب أن يبسط الإسلام فيها قيمه الأخلاقية.هناك حرب قائمة بين دار الإسلام ودار الحرب،حرب معلنة أو مضمرة،وهي لا تنتهي إلا حينما يدخل الجميع إلى الإسلام أو يخضعون له؛فالسلام بين الدارين غير ممكن من ناحية شرعية لأنه مصالحة بين نقيضين:حق وباطل، هدى وضلالة،ووجود هدنة لايعني أن تضع الحرب أوزارها دائما،فالهدنة مؤقتة لا تزيد على عشر سنوات،وللمسلمين حق نقضها من طرف واحد،ومواصلة الجهاد،متى وجـدوا ذلك ممـكنا وضــروريا.وكان هذا يشمل كل الممالك المتاخمة لدار الإسلام،باستثناء الحبشة التي استثنيت من ذلك لأسباب تتصل بموقفها من الإسلام في مرحلته الأولى.يتضح مما سبق أن النظرة إلى الآخر كانت تقوم على أسس دينية وقيمية،فالدين هو الذي يمنح المعنى للأشياء،وللظواهر وللبشر،لذلك فإن البحث عن ملامح الآخر يفترض العودة، بكيفية ما إلى النص المرجعي الأول،إلى القرآن،الذي يزود النظر ببعض عناصر الإدراك والوعي،ويطعّم المتخيّل بما يحتاج إليه من صور وأشكال ورموز،ومادام الإسلام يحمل تصورا للعالم وللإنسان،ويمثل النص القرآني تكثيفا للكلام الرباني،وتعبيرا عن تجلّيات المقدّس، فإنه يشكل مصدرا للرؤية،وقاعدة معيارية للجماعة..

    لقد فرضت المفاهيم القديمة للعالم تباينا في التصورات،أدت إلى تركيب صور اكراهيّة للأخر،صور سادت لفترة طويلة توجهها منظومات قيم متباينة.إن الأخر في الفكر القديم هو المختلف قيميا بالدرجة الأولى.وتثير قضية الآخر في أذهان المسلمين موضوع القيم الإسلامية وضرورة تعميمها على العالم بأجمعه.الآخر هو موضوع ينبغي أن يُغزى بالقيم الإسلامية لكي يصلح أمره.كان التصور الشائع عن الذات والآخر يستمد حيويته من المركزية الدينية،أي تلك البؤرة التي تنبثق منها قيم الحق إلى الأبد.وبالنظر إلى أن التصور يذهب إلى اعتبار أن الله هو مصدرها،وأنه قد حلّ هنا"دار الإسلام"ولم يحل هناك"دار الحرب"فينبغي إذا الوصول إلى نتيجة واحدة:قيم دار الإسلام هي الحقيقية،وهي الشاملة،وهي المطلقة الصواب.وقيم الآخر مثار استغراب،واستهجان؛فهي وثنية، محقّرة،مدنّسة،يلزم تطهيرها من النجاسة الوثنية.قيم الآخر هي موضوع لحكم القيمة وقليلا ما استأثرت بوصف موضوعي.وفي عصر يتصدّر فيه الشعور الديني أي شعور آخر،لا مكان للمصالحة والشراكة في القيم والأخلاقيات.ولكي يظلّ ذلك الشعور حيّا، متوهجا،ومتّقدا بالتنازع القيمي لابد من تفريق حاسم قائم على ثنائية الحق والباطل بين قيمـ(نا) وقيمـ(هم).هذه الثنائية تصوغ وعي لاوعي المجموع،وتجعله يبني تخيلاته ومواقفه وأحكامه واختياراته على أساس فكرة التفاضل والتراتب التي تقود إلى الإعلاء من شأن الذات وخفض قيمة الآخر.لقد تم تخطّي الإنسان كذات،وصار التركيز عليه كموضوع للقيم،وأهميته لا تتحدّد من كونه بشرا،إنما في اعتناقه ضربا من القيم دون غيره.

    سلّم القيم الذي صاغه الإسلام،وتحوّل إلى جزء مكمّل من الفكر الديني حسب الفهم الشائع له سيتدخّل في تركيب صور مشوّهة واكراهية للآخر.وبالإجمال فصور الأخر منتقصة،يشمل الانتقاص بالدرجة الأساس القيم الشائعة لديه،ويمتد ليشمل الإنسان حامل تلك القيم،هنالك تشويه لحقيقة الآخر ذهنيا وجسديا وعقائديا،ففضلا عن البلادة والجهل والضلال والسفه والبوهيمية،يتراوح الأخر بين تصغير يشوش إنسانيته،كما هو الأمر بالنسبة لأقوام أقصى الشمال حيث يفترض أن تكون بلاد يأجوج ومأجوج ،أو تضخيم مقصود كما هو الأمر في حالة الزنوج والصقالبة وكثير من الأقوام الشمالية.

    تتصف القيم الدينية بالثبات،وكان الفهم الديني للحياة يقوم دائما بمراجعات دقيقة كيلا يخرم الزمن ثبات القيم،فتصاب بالفساد بسبب التحوّل، بعبارة أخرى فالقيم الدينية تتخطّى البعد التاريخي،ولها قدرة الشمول والديمومة والثبات؛ لأنها قيم مكانية وليست زمانية.فهي لاتقرّ بالتحول،ثابتة،ساكنة، دائمة الصحة، تريد للإنسان أن يتكيّف معها،فيظل في حالة تصحيح دائم لمساره،لكي يمتثل لها،هي المركز المشع الدائم،وهو يدور في فلكها،قربه وبعده عنها هو الذي يحدد قيمته. مادامت القيم الدينية هي التي تحدد أهمية الإنسان فمن الطبيعي أن تجرد قواها كاملة لتضمّه إلى عالم الحق.فحيثما تكون ثمة حقيقة مطلقة الصواب ينبغي نشرها،يسود العنف والقسوة كوسيلتين لذلك.أصبحت القيم جوهرا ،وصار الإنسان عرضا.

    تُستمد القيم من طبيعة المجتمع الذي رسمه الإسلام، تلك القيم هي المعيار الوحيد لصواب المسار الذي ينبغي على المرء أن يسلكه،ذلك سيؤدي لا محالة إلى وجود نقيض؛النقيض يسوغ صيانة القيم من جهة،والعمل على نشرها لتعمّ العالم من جهة ثانية،ففي المجتمع النصّي القرآني تمثل الثنائيات الضدّية دوراً حاسماً في شطر العالم إلى عالمين،ثمة تعارض ثابت ودائم بين الحق والباطل،والخير والشر، والإيمان والكفر.ولا يمكن أن يظل الصراع منحبساً في المصحف،واستناداً إلى مركزية كلام الله بوصفه المرجعية الكلية والشاملة والدائمة لكل شيء،فإن العالم بتناقضاته قد صيغ على غراره.المجتمع الأرضي المنشود إنما هو محاكاة للمجتمع النصي،كما قرر ذلك علم الكلام ثم الشريعة الإسلامية.في نهاية المطاف،لا بد من انتصار وظفر،فكل من أهل الباطل والشر والكفر يتآكلون؛لأنهم زاغوا عن الحق والخير والإيمان،والصراع محكوم بالثبات والديمومة،وأهل الحق هؤلاء أنيطت بهم مهمة خالدة:نشر كلمة الله في أرجاء الأرض،إذ ليس ثمة حدود نهائية تحول دون ذلك،وبالنظر إلى اختلاف العقائد والأديان والثقافات.فمن المنتظر أن يتعثر أهل الحق في مهمتهم،ولكن ينبغي عليهم الالتفاف حول كلمة الله، والتمسك بها،ونشرها، وذلك هو الجهاد.فالجهاد إذن وسيلة لحسم التناقض العقائدي، وإحلال الوحدة محل التعدد،وما دام نسق الثنائيات الضدية قائماً في صلب التفكير الديني فالجهاد لن يتوقف.إنه فعل محكوم بنظام لاهوتي عام.والحق فإن فعل الجهاد كممارسة تهدف إلى تحويل البشر إلى عقيدة واحدة،سيصطدم مع فرضية انشطار العالم إلى عالمين:دار الإسلام ودار الحرب.ولمّا كان الصراع يُعبّر عنه بتجليات مباشرة،فالمؤمنون يوضعون دائماً في تضاد مع الكافرين،وبينهم يتحرك المنافقون حركة مكوكية خادعة.

    لقد أشار جاك بيرك إلى هذا التضاد الذي يحكم هذه الأطراف بالصورة الآتية "المؤمنون يتعارضون مع مختلف أجناس الخصوم،ويتعارضون حسب أنماط الغيرية.ويقف المؤمنون إزاء الوثنيين والمشركين موقف التضاد المنطقي،وتنخفض حدة هذا التناقض إلى تعاكس بسيط.في حال المنافقين الذين يظهرون وكأنهم مؤمنون،لكنهم ليسوا كذلك في الحقيقة .تتحرك سلوكياتهم المراوغة بين جميع اللايقينيات والتقسيمات الناجمة عن ازدواج الوجود والفعل والكلام، وفي النهاية فهم ينضمون إلى جانب الباطل ،غير أن هنالك خصوماً آخرين سبق أن لمسهم الحق و بُلّغوا به،لكنهم يرفضونه ويخفونه.إنهم الكفار، هؤلاء الكفار لا يقدمون أنفسهم إذن كمنافقين،وإنما كتضمين للاعتقاد من ناحية الباطل.

    العالم طبقا للتصور العقائدي يحتاج إلى الانقسام أولا من أجل أن تكون الوحدة هي الهدف المنشود فيما بعد،ومادام الحق ينبثق من دار الإسلام فلابد أن تكون تلك الدار هي المركز،بكل المعاني الثقافية والدينية والجغرافية والأخلاقية.وهذا فيما نرى الدافع وراء مركزية دار الإسلام طوال القرون الوسطى حسب التصورات الإسلامية.من الصحيح أنها تمدّدت جغرافيا في قلب العالم القديم،ولكن اعتبارها مركز الحق فاق المكون الجغرافي في تثبيت مركزيتها.ظهرت الجغرافيا لتسوغ كل ذلك.من الطبيعي أن تجد المنظومات الثقافية تعبيرا لها في التواريخ والآداب والفلسفات،وفي نظُم التفكير والمواقف،وفي كل هذه تتجلّى المركزية الإسلامية بدرجة أو بأخرى،ولكن من الواضح أن الجغرافيا هي الوسيلة الأكثر فاعلية في تحديد الأطر العامة للحدود الرمزية لتلك المركزية الإسلامية."دار الإسلام"-كمصطلح-كانت الأدبيات الجغرافية قد لعبت دورا مباشرا في صوغه،مع أنها تدرك بوضوح أن الحدود السياسية كانت مثار تنازع وعدم استقرار.فكرة دار الإسلام هي التعبير الأكثر وضوحا لمفهوم المركزية الإسلامية.وقد سلّم الجغرافيون بهذه الحقيقة،وجعلوها موجها لتصوراتهم.لم ينج أحد من ضغطها الواعي وغير الواعي في بناء فرضياته،وتحديد منطلقاته في النظر إلى الذات والآخر.
                  

05-23-2005, 01:37 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السيرة الفكرية للناقد العراقي عبدالله ابراهيم (Re: Sabri Elshareef)

    upp
                  

11-11-2005, 11:03 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السيرة الفكرية للناقد العراقي عبدالله ابراهيم (Re: Sabri Elshareef)

    ''''''''''''''''''''''''''''''''''''''
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de