رواية في طريقها (للمصادرة) يوسف وهيله _مكي علي أدريس

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-11-2024, 04:14 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-10-2004, 08:24 PM

mo
<amo
تاريخ التسجيل: 03-11-2002
مجموع المشاركات: 1187

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رواية في طريقها (للمصادرة) يوسف وهيله _مكي علي أدريس

    مازلنا مع مكي علي أدريس المبدع (الغاطس) وننشر هنا بالاتفاق معه الجزء الأول من روايته يوسف وهيله . لننقل للأخرين أبداعات من بلادنا السودانية الجميلة فهي قصة صراع الأنسان والأرض في اي مكان وزمان كان قد تغني بها الأستاذ مكي كملحمة طويلة علي أجزاء ويحفظ السكان هنالك كل تلك المقاطع لأنها تعبر عن واقع حالهم في صراعهم الأزلي مع السلطة والسلطات والأرض وهي للمرة الثانية قصة وعبرة تصلح لكل مكان وكل زمان .فهذا الانسان الفنان نبض لكل السودان كانت الأنقاذ قد حبسته من أجل أغنية (بالرطانة) فالانقاذ (تفهم حتي الرطانة ) وأغنية كجبار هي أول أغنية نوبية ممنوعة وتلاحق السلطات ملحمة يوسف وهيله وقصتها وحتي لايصادروها قبل أن يقرأها الناس ننشرها هنا بالأذن من صاحب الحق ...

    تباعاً



    مكي علي إدريس

    عودة
    بدت اشجار النخيل التي تحيط بمنزلنا مثقلة بالهمسات ، وأنا أرنو إليها من كوّة مهترئة على جدار الحوش القديم المنتصب في شموخ على أبرز رابية في بلدتنا. تهالكت أعضائي على البرش المفروش فوق الدّكة ، نسمات عبقة صاعدة من قلب الحقول المزهرة المترامية أمامي تثلج صدري والمياه السمراء تنساب في الجداول المتعرّجة في ذؤابات الضحى . لا أحد يشكو من جفاف الحلق في هذه القرية ذات الحواري والأزقة والنخيل ، والشمس التي تصب سعيرها فوق الرؤوس ,, المنازل السمراء تنام تحت أقدام الجبال الرمادية والمائلة للحمرة .. النهر في هذا الصباح من ا واخر شهر يولية انتفخت أدواجه وبدا زحفه الموسمي الوقور على الشواطئ والجزر الصغيرة ، وحلّ التساب (الفيضان) وأخذت أسراب الطيور المهاجرة تتأهب لرحلة الشمال البعيد .
    حين تعود بي الذاكرة ، إلى أيام طفولتي بهذه الطرقات تصيبني الدهشة وأنا اشتم ذات العبق والأريج المنداح من الأسقف ، روائح القدور ونكهات الشاي ، وأصوات البهم العائدة من المراعي البعيدة تئن في أذني وهمهمات المزارعين الآتية من الجزيرة ، وأصوات متقطعة من نقيق الضفادع المختبئة في تعاريج الجداول النازفة .. وصوت حمارنا الأصهب ، والذي يؤكّد لي دوماً أنّ هناك أصواتاً أخرى أقبح من صوت الحمير ،
    تنداح في مخيلتي ، غلالات من العتمة تحتشد بأوكار هلامية تسكنها السعلاة (أنثى الغول ) وبنات النهر الحوريات .. والغول والدوقور ، وهناك بأعلى النخيل يتربص (أمن دالا) الذي يمتص دم الأطفال المتسلّقين في النخيل البالغة الطول .. ولا أنسى شياطين السواقي المهجورة وارواح الأجداد (الأولياء ) التي تنزل إلى ضفاف النيل ليلاً بأماكن معروفة يتحاشى الناس التواجد فيها في الجزء الأول من الليل.. لا أحد في تلك الايام كانت لديه الشجاعة لتفسير تلك الظواهر الغريبة .. وما كان لأحد أن يسأل .. تلك الأشياء الصغيرة ، كانت قادرة على حشد اللمعان في عيوننا ، قبل أن تحجّرنا المعرفة وتفسد الرتابة شفاهنا العجوز ..
    انا الآن في الأربعين من العمر ولي زوجة وأولاد وعمل يستغرقني في المدينة ، لم تنقطع صلتي بالقرية منذ رحلت على متن قطر السودان باحثاً عن الذات ، منذ عقدين ونيف . أبي كان يجلس فوق هذه (الدّكة ) ، القوم يطلقون عليه (توقو) وهو لفظ يشير إلى مكان إستقبال الضيف بمعنى تفضّل (تيقو) بلغة أهلي النوبة. كنت عائداً لتوّي من المدينة التي لا تنام مصابيحها ، جئت أهنئ نفسي في أحضانه ، فقد التحقت بالوظيفة ، وحقّقت الحلم الذي كانت الأسرة تصبو إليه .. من الآن فصاعداً سيجلس أبي في هذه الدّكة ويتباهى بأن أفندياً قد عمّد في بيته .. وأنّ حصار التجار له في القرية سيتحوّل إلى مراودة واستعطاف ، فصاحب الراتب المستديم هذا هو أبنه .. وسوف يهمس في إذن الفقر وأيام العنت (روح في داهية ) .. كان أبي يجلس فوق هذه الدكّة غارساً قبضته فوق خدّه وكوعه مزروع في فخذه .. رآني من على البعد وأنا أهرول نحوه عبر الطريق المحفور بين طريق السيارات (اللواري) والحقول .. أشواقي تسبق خطاي إالى أحضانه .. نهض كالمستغيث وهو يتمتم بكلمات مختلجة واحتواني في صدره وهو يربت على ظهري .. أبي دوماً كان يلقانا ويودّعنا بذات الدموع والنهنهة.. دموع الفرحة والشوق الدفين للقاء أبنائه الذين ابتلعتهم المهاجر، كانت عودتي للقرية في تلك الأيام تضاهي عودة السمكة إلى مياه النهر ..
    هذه المرة وقد مضى بنا الزمن بعيداً عن أيام الصبا ، أشعر أن جزءاً كبيراً قد مات من ضميري الحي برحيل أبي إلى الرفيق الأعلى مخلّفاً وراءه وطناً من الأيتام ، بدءاً بالصغار من الأشقاء وانتهاءاً بالحقول التي افتقدت صوته الجهوري وزياراته اليومية عند مفرق الفجر .. في هذه البقاع الموت يجعل الميت يبدو أفضل مما كان ، يتمظهر هذا في وقعه الخاص وطعمه المميز ، الذي يشكّل طقوس العزاء والدفن وشهور العدّة للمرأة إلى طقوس الزيارة للمقابر في المناسبات والأعياد .. وعشاء الميتين والقسم بأرواحهم .. وتلك الرهبة التي تعتري المارين قرب المقابر ليلاً بصفة خاصة . مات أبي وشنّفت أذني جملة من كلمات العزاء المحفوظة ، لم تكن خالية من الإنفعال ، فأحسست بأن بعضاً مني كان يبكي على بعضي الآخر فبكيت وبكت القرية معي . ( لن أجد بعد اليوم من يعيد إلىّ سرد الحكايات عن قريتنا هذه ،ولن نجد مأوى في عين أو قلب بعد سفرك البعيد هذا يا أبي ) هكذا كانت أختي الصغرى تثكّل وتبكي بلكنة مموسقة ، بينما جماعات من النسوة الباكيات يرددن التأوهات بزفير وشهيق .. أنا وقفت هناك أتلقى العزاء ممتلئاً بإحساس قوي بأنني أصبحت أكبر سناً ومحنة.
    حكى أحدهم : قال أنّ رجال القرية وهم يقومون بنفير مع جدي لبناء منزلنا هذا ، منذ خمسة عقود مضت ، كانوا يتحدّثون بإعجاب عن رجل قيل أنه كان يزور القرية في الليلي المقمرة من كل شهر ، وهو يحمل على حمار أبيض هدايا من ملابس ونقود للفقراء والمساكين .. كان يختفي مع أفول الهلال ، هذا الرجل لم يتمعّن أحد في سحنته ، إجلالاً ورهبة ، ويزيده غموضاً أنّ أقدامه لم تكن تترك أثراً على الأرض .. ولا زال بعض المارة من الرواة يؤكدون أنّهم رأوه وتحدّثوا معه ، ويقولون أنّه أطال الغياب حزناً على ما تفشّى بين الناس من مظالم وكراهية وحسد ، وأضافوا أنه سيعود يوماً عندما تعمّ المحبة والصفاء بين أهل القرية .
    بيني وبين أركان منزلنا مودّة قديمة وقد حفرت في الذاكرة صورة تلك الرؤوس الخمسة الصغيرة بمناقيرها المفتوحة طول الوقت بأعلى جدار الدهليز (دهريس) ، كانت دوماً تختفي بأجنحة العمر تاركةً إياي على موعد مع رؤوس أخرى قادمة . في هذا العام الباكي ، زادت حبوبة (فانه) أوجاعي برحيلها المفاجئ ذات صباح كئيب ، لن يراني أحد بعد اليوم أتوسّد الجدول الكبير بوسط القرية في إنتظارها حتى تفرغ من ملء حجرها بالحشائش العشوائية من بين سيقان القمح (الحنطة) ، في شهر( طوبه) .. كنت أجلس إليها حول الموقد الشتوي وهي تحكي بإسهاب عن الأجداد والقدامى الغابرين .. كنت أحياناً لا أجد أجوبة لأسئلتها المرحة (... ماذا تغنيك هذه الحكايات التي لا تسمن ولا تغني .. ألا تعرف أنّ الحياة قصة كبيرة لا وقت لسردها؟ ).
    أهل البلدة يعرفون حبوبة (فانه) كما يعرفون النيل ، يقال أنّها جاءت كما الطيور المهاجرة في موسم لا يتذكره احد ، فهي أكبر عمراً من كل المعمرين في بلدتنا وما يجاورها ، هي كذلك لا تتذكر إلاّ مسخاً ممن تعتقد أنّه كان والدها ، حين حضرا سوياً على ظهر حمار (دراوي) ذات ليلة ماطرة . قالوا أنّ السعال قتل الرجل وأنّ الطفلة الخلاسية اللون وجدت نفسها راعية للبهم في معية (القورتي ) حاكم الناحية . ..... (يتبع )

    (عدل بواسطة mo on 04-10-2004, 08:25 PM)









                  

04-11-2004, 08:34 AM

sharnobi
<asharnobi
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 4414

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية في طريقها (للمصادرة) يوسف وهيله _مكي علي أدريس (Re: mo)

    up
    thanks mo
                  

04-11-2004, 09:25 AM

عبدالأله زمراوي
<aعبدالأله زمراوي
تاريخ التسجيل: 05-22-2003
مجموع المشاركات: 744

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية في طريقها (للمصادرة) يوسف وهيله _مكي علي أدريس (Re: sharnobi)

    الأخ شعبان..
    كم جميل منك ان تتحفنا برواية صديقنا المشترك مكى...
    ان مكى عملاق فى الرواية، كما هو عملاق فى نظم الشعر واللحن والغناء...
    مكى ثروة نوبية؛ يستحق ان نحتفى به....
                  

04-11-2004, 11:10 AM

manubia
<amanubia
تاريخ التسجيل: 04-21-2002
مجموع المشاركات: 1284

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية في طريقها (للمصادرة) يوسف وهيله _مكي علي أدريس (Re: عبدالأله زمراوي)

    الحبيب مو.اكمل من فضلك كلنا منتظرين
    عاطر التحايا
                  

04-11-2004, 12:04 PM

خالد العبيد
<aخالد العبيد
تاريخ التسجيل: 05-07-2003
مجموع المشاركات: 21983

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية في طريقها (للمصادرة) يوسف وهيله _مكي علي أدريس (Re: mo)

    العزيز مو
    التحية لك وللعزيز مكي الذي عرفته مناضلا شرسا وفنانا رقيقا يعزف على آلة الطنبور والعود لدرجة الادهاش .
    وصديقي مكي كاتب اصيل وموثق مجيد في تاريخ اهله الرطانة الرائعون
    قابلته في الرياض قبل فترة وكان عشمي ان اجري معه حوار مطول
    ولكنه كعادته لا يحب الاضواء ويهرب منها
    كل املي ان تبحثوا في دواليبه وحقائبه فهي مليئة بكنوز ودرر تجعل منه في مصاف المبدعين العظام في بلادي
    مكي مفخرة يجب ان نباهي بها
    واسألوا سعاد ابراهيم احمد عنه فهي خير من يعرفه
    خالد
                  

04-11-2004, 12:19 PM

ولياب
<aولياب
تاريخ التسجيل: 02-14-2002
مجموع المشاركات: 3785

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية في طريقها (للمصادرة) يوسف وهيله _مكي علي أدريس (Re: خالد العبيد)

    هل من مزيد

    كلام حالي كأنه كرمن مديد

    البركة أنك بخير يا شرنوبي
                  

04-11-2004, 12:58 PM

حمزاوي
<aحمزاوي
تاريخ التسجيل: 10-10-2002
مجموع المشاركات: 11622

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية في طريقها (للمصادرة) يوسف وهيله _مكي علي أدريس (Re: mo)

    عزيزي الأخ / مو
    لك التحية والتقدير
    انتم رائعون احبتي
    رائعون روعة الشمندورة
    وروعة الاسكلي والاروتي وجلست خالاتي وحبوباتي في الرملة (السيو) والحكاوي والاقاويل
    روعة الكنتين والقامشا وورق الشام
    روعة سركنمتو سرص سمت ماريا بوود كيكا كجبار اكد
    روعة صادنقا صاي مشكيله سعد فنتي تنري تبج كرمة السير ارقو دنقلا القولد
    روعة عبري عمارة ارنتي صواردة نلوتي حميد عبود دلقو عكاشة فركة
    حلفا (وهل من عودة هل) حلفا ايتها المدينة المسلوبة منا عنوة
    تعرف يا عزيزي مكي
    ما هن بنات النهر الحوريات
    انهن اخواتنا اللاتي كن يقدمن للنيل كعروسة كل سنة
    في احتفال وكرنفال رهيب
    تابع يا اخي مو
                  

04-11-2004, 06:17 PM

mo
<amo
تاريخ التسجيل: 03-11-2002
مجموع المشاركات: 1187

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية في طريقها (للمصادرة) يوسف وهيله _مكي علي أدريس (Re: حمزاوي)

    أخي شرنوبي جميل أن سمعنا منك وللأخوان عبدالاله حمزاوي منوبيا خالد العبيد ولياب .مكي يستحق ثناؤكم ومتابعتكم وتشجيعكم ..هذا هو الجزء الثاني من الرواية ..

    (الجزء الثاني)
    فانه
    أهل البلدة يعرفون حبوبة (فانه) كما يعرفون النيل ، يقال أنّها جاءت كما الطيور المهاجرة في موسم لا يتذكره احد ، فهي أكبر عمراً من كل المعمرين في بلدتنا وما يجاورها ، هي كذلك لا تتذكر إلاّ مسخاً ممن تعتقد أنّه كان والدها ، حين حضرا سوياً على ظهر حمار (دراوي) ذات ليلة ماطرة . قالوا أنّ السعال قتل الرجل وأنّ الطفلة الخلاسية اللون وجدت نفسها راعية للبهم في معية (القورتي ) حاكم الناحية .
    كثيرون من أهل بلدتنا لا يعرفون أصولهم البعيدة وهم لا يحبّون الخوض في هذه المسائل ولهم وسائلهم الذكية في تغيير مجرى الحديث عن هذه السيرة متى شاءوا .. ولكنّهم بطريقة أو بأخرى حريصون على الرجوع بأصولهم إلى قبائل عربية لا تبتعد كثيراً عن قريش ، فالروضة الشريفة حصن حصين لهم في هذه الديار البعيدة عن بلاد العرب والمليئة بأصحاب البشرة الزرقاء والأنوف المفلطحة والغابات المدشّكة (الوعرة) .. أما الفئات من ذوي العيون الزرقاء والبشرة البيضاء المائلة للحمرة فأصولهم ترجع إلى بلاد الترك والعرب وبلاد الروم البعيدة.

    أمسكت حبوبة (فانة) علبة التبغ الأخضر (شكيم) بيدها اليمنى ووضعت التبغ في باطن يدها اليسرى ، ولم تنس أن تضع شيئاً من رماد عرجون النخل(هبّوت) فوق طرف لسانها قبل أن تضعها في فمها ، وخيّل إلىّ أنها تمضع تمراً ثمّ أخذت نفساً طويلاً واستدارت ونفضت يديها وهي تغمغم ،قالت :
    (...عن تلك الايام لا أذكر الكثير، كنت راعية في معية القورتي ، وأنا فتاة صغيرة ، بعينين غائرتين وأطراف شوكية ، كنا نهجع للنوم في رواكيب مهترئة قرب زرائب الابقار، لم أكن قد تجاوزت العاشرة ، غير أن حجمي الصغير وحداثة سني لم يشفعا لي عند بقية الخدم رجالاً ونساءاً ، كنت أتعرّض للضرب المبرّح إذا أخفقت في أبسط الواجبات ، تعلّمت السباحة إلى الجزيرة القريبة من ساقية القورتي الوسطى ، ذات مرة ، العناية وحدها أنقذتني من فكّي تمساح كبير فقد قذفني فوق أشجار الطرفة ويومها كسرت ترقوّتي ويدي اليسرى ....)
    ومرت لحظة صمت ، كأنها تستدر ذاكرتها قبل أن تستأنفت حديثها (.. القورتي ، كان طويل القامة وله شارب كثّ وعيون جاحظة ، لا يبتسم أبداً ، تخشاه الأنفس والحيوانات ، كان قاسياً ، كان الرجال ينحنون أمامه في انكسار وهو يقذف أوامره في قرف وزمجرة .. لم تكتحل أعيننا ، نحن الخدم ، برؤية حريم القورتي ، كنت أرى من على البعد أطفاله وهم يلعبون في المزرعة ذات السياج الممتدة بين القصر (الدّفي ) والنهر .القورتي وخدمه المقربون كانوا يتجولون في الضياع القريبة .. آه تلك أيام مضت .. لا أعادها الله.) بدا لي أنها لا تريد اجترار ذكريات غير محبّبة إلى نفسها ،ولم أجد وقتاً كافياً لتغيير مجرى الحديث فقد أخذت حاجياتها وانزوت بين سيقان البامياء (الويكة) وهي تهمس ( ويحي لقد جاعت نعاجي وأغنامي ) .
    حبوبة (فانه) لا تبوح كثيراً ، بتلك الواقعة التي تقول بأنّ (جبارة) الخادم الخاص للقورتي ، داهمها ذات يوم في زريبة الأبقار. لم تكن تدري وهي بنت ثلاث عشر بعد لماذا طرحها الأثيم أرضاً وغرس أسنانه في فمها ، ولكنّها تتذكر كيف أنّ العبد صرخ صرخة منكرة وهو يتركها فجأة ويخرج مهرولاً من الزريبة... وما لبثت أن عرفت السبب فقد رأت عقرباً يزحف بعيداً عنها بين الحشائش .. ولم تقتل عقرباً منذ ذلك اليوم . ولكن العبد عاد فيما بعد وأعاد الكرة بعد الكرة ولم تجد (فانه) ما يكفيها من العقارب.
    قيل أن ( فانه) لم تتزوّج أبداً ، الذين يحفظون سيرتها ، قالوا أنّها كانت عذبة الثغر هيفاء فارعة الطول جمالها آسر ، تجيد الرقص ، ذات صوت جذاب تعشق الغناء . آخرون لم يتورّعوا في وصفها بعشيقة القورتي ، ولهم أسانيدهم في ذلك ، قالوا أنّ خطّابها الكثرأصيبوا بلعنة القورتي وغضبه. وقد شاع ذات مرة أنّ القورتي ينوي تزويجها لمن زعموا أنّ أسمه (جوهر) ، نُسب هذا القول إلى مأذون القرية الذي أضاف أنّ (فانه) وضعت مولوداً بعد ثلاثة أشهر من انطلاق الشائعة ، وقد سُمّي المولود (جوهراً) تخليداً لذكرى أبيه الذي لم يره احد . أهل البلدة لا يريدون أن يفشوا سر اختفاء جوهر الإبن بعد أن بلغ العشرين من العمر قيل أنّه مات في حرب ببلاد السودان ، على حد تعبيرهم . وقد ظلّت (فانة) تحتفظ بحاجياته وتعاويذه جازمة بعودته يوماً رغم رواج خبر موته.
    هذه المرأة ظلّت تذكرني بما أسماه القرويون في قريتنا (قبّة النصارى) ، وهو نصب تذكاري قيل أنّ الجنود الإنجليز كانوا يقيمونه في أماكن تواجدهم لدفن موتاهم .. بيد أنّ فانة كانت تحتفظ في دواخلها ببعض الودّ لألئك النصارى ، قالت أنّهم كانوا أقل قسوة من هؤلاء الترك ، كانت تهمس وهي تشير إلى (الدّفي) ، لا أحد من أهل القرية ، يدري كيف أصبح (الدفّي) خالياً ، وأين ذهب ساكنوها ومتى . (فانة) نفسها لا تقول الكثير عن تلك الايام ، الناس في قريتنا لا يميلون إلى السكن في المواقع الآثارية ، وقد شاعت بعض الأساطير والقصص الغريبة عن شياطين وجن يسكنون هذه الأبنية . ولعل أهل القرية كانوا يجدون ثمّة رابط غير مرئي بين تلك الشياطين و(فانه) المرأة العجوز التي تسكن (الدفي) دون خوف أو وجل ، لا يؤنس وحدتها غير قطيع صغير من الأعنام والنعاج . هذه العجوز كانت حاضرة في كل المناسبات الحزينة والمفرحة على حدٍ سواء ، وفي مواسم حصاد التمر والحبوب كانوا يحملون لها العطية (كري) من قمحٍ وذرة وشعير وتمر .. كان الأطفال في الأيام الحالكة يزورون الدفي وهم على وعد بهدايا من التمر وخبز القمج المعطون بالسمن البلدي (شيلد) تتفنّن العجوز في صنعها لتقدمها لأطفال الحي إكراماً لأرواح الأجداد والأولياء من السلف الصالح مع مغيب أيام معروفة.
    عندما رزت (حبوبه فانه) في بيتها بدت الحجرة ضيقة رغم سعة القصر المهجور، كان المدخل صغيراً ونظيفاً بدرجة عالية ، ولا بد أنّها وضعت تلك الملاءة الجديدة فوق (العنقريب) الوحيد بالحجرة إحتفاءاً لمقدمي في ذلك المساء المتّشح بالبرد النفّاذ (نفّاده) .. الموقد الصغير بوسط الحجرة تلهج نارها تحت القدر النحاسي ، تفوح منه رائحة محبّبة للشاي بالحليب (التقيل) ، تقوم بإعداده بنشاط وخبرة ، تمسك بيدها (التوركوندي) تلاعب بها بقايا الجمرات المتوهجة في الموقد ، وثمّة قنديل زيتي يرسل ضوءاً ناعساً من فجوة منحوتة على الجدار .. قامت أمّ جوهر ، كما يحلو لها أن أسمّيها ، لأداء صلاة العشاء وعادت وهي تستنجد بكل الأولياء والصالحين وبكل مخزونها من الأوراد والتعاويذ ، تلهج بالدعوات كي يحميها الرب ، ويحمي كل المسلمين من الأهل والجيران ، المقيمين والمسافرين من جور السنين والشياطين والأمراض وغلواء أصحاب السلطان والجاه ....
    قالت (حبوبة فانه) أنّ (كاشبنتود) ابن الكاشف ، حاكم الناحية ، هو القورتي الذي جرت هذه القصّة على عهده ، حين كانت الأيام تركية . والقرية كانت مسرح الأحداث ، وسكانها يعتمدون على أنفسهم ويؤمنون بالله .. حين كانت الأيام زندية والناس يرتعبون لمجرّد رؤية جياد الباشبوزق مغتصبي الضرائب من جنود المصاروة والترك والشايقية
    كان كاشبنتود الحاكم والناس له تبّع وعبيد ، إليه ينتمون وبه يحتمون ..... (نواصل الجزء الثالث)




    ____________

                  

04-12-2004, 02:41 AM

mo
<amo
تاريخ التسجيل: 03-11-2002
مجموع المشاركات: 1187

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية في طريقها (للمصادرة) يوسف وهيله _مكي علي أدريس (Re: mo)

    UP
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de