لم يجد (.....) من عندما طرق علينا باب منزل العزابة في أركويت وتقدم بمقترحه "المظاهرات المسائية الآن في كل أحياء أم درمان و في بحري و السجانة .. أركويت نائمة لازم نتحرك نعمل حاجة" .... إلا كل ترحيب و حماس. اليوم؟ نعم اليوم. وحددنا الوقت. كنا طلابا مضربين .. موظفين متمردين .. و عطالة
تذكرت فتاة حي الأزهري. كنا عائدين من زيارة أسرية في ودنوباوي مساءً أمس. المظاهرات في كل مكان. البوليس يحرس المحلات بالسوق. شارع الأزهري مغلق. لف بي جهة أبو روف، قلنا للسائق. العربات تزحف ببط. الهتافات تصم الآذان. من كل صوب تأتي. أمدرمان كلها تظاهر. لم يبق أحد في منزله. فتاة الأزهري تصرخ في مجموعة من الشباب" يا جماعة بالله بلاش تهريج. دي مظاهرة جادة و ليست لعب أطفال. دي ثورة ! فاهمين يعني شنو ثورة؟. ثورة زيها و زي أكتوبر". هل كان ذلك تنبؤاً أم إنها العزيمة و الحماس.
في الميدان قدام الدكان تجمعنا. واحد .. إثنين ... ثلاثة و سرنا: يا خرطوم ثوري ثوري ...ضد الحكم الديكتاتوري. "يا شباب لحظة إنتظرونا نخلص الفول دا و نجي معاكم". و أنضمت إلينا مجموعة الشباب قبل أن يخلصوا الفول. صوب محطة الخيمة. ثم في إتجاه "البلابل". مع كل خطوة ينمو حجم المظاهرة. أصحاب العربات يشاركون من النوافذ و البواري تهتف معنا: تتييت تيت .. تتييت تيت. مليون شهيد .. لعهد جديد.
الرئيس القائد والحاشية في أمريكا. قضية الفلاشا. الإستسلام للإرادة الأمريكية .. سخط وسط المثقفين و الطلاب. الأسعار تناطح السماء. الحديث عن الفساد يزكم الأنوف. القهر.. الكبت. الضيق. الندوات أركان النقاش أفرغت قاعات الدراسة من الطلاب. إضرابات ومظاهرات هنا و هناك. تعليق الدراسة في جامعة الخرطوم و جامعة القاهرة و المدارس الثانوية. مظاهرة جامعة أمدرمان الإسلامية في 27 مارس كانت الشرارة. بدأها الطلاب وأنضم إليها الآلاف. أمدرمان صارت مرجلا يغلي. النظام يندد بـ"الشماشة و التخريب". مظاهرة مارس 27 كانت البداية. والمسيرات الشعبية تتوالي. البوليس لا يتصدي للمتظاهرين. رجال الأمن "جن جنونهم" يندسون و سط المتظاهرين. يخبئون الحقد والمسدسات. يتساقط الجرحي و القتلي كل يوم. المسيرات لا تتوقف: يا خرطوم إشتعلي إشتعلي ... خلي جهاز الأمن يولي. المسيرات المسائية الوسيلة الجديدة للتعبير أثبتت جدواها و تأثيرها وأتاحت المجال لمشاركات أوسع: ياخرطوم إشتعلي إشتعلي .. خلي عميل أمريكا يولي. ويا خرطوم و يا مدني..وعطبرة ... ويا سودان.
النقابات تنشط. تتوارد أخبارها. إجتماعات. إعتقالات. عرف الناس مصطلح "نقابات الظل". المنشورات في كل يد. مارس يلفظ أنفاسه الأخيرة و النظام يترنح. تتواصل الصفعات من النقابات. إضراب المهندسين - قطوعات الكهرباء تزيد السخط، تزيد المظاهرات نهارا و ليلا ويزيد الضغط علي النظام. إضراب نقابة الأطباء. النقابة تكشف إطلاق النارعلي الموطنين من مسافات قصيرة. دكت حواجز الخوف. الناس تتبادل المنشورات و تصورها و توزعها. يزداد رجال الأمن قسوة، تزداد الجماهير صلابة. تنسيق تام بين النقابات. و يتحدد يوم الأربعاء 3 أبريل موعدا للمسيرة الكبري المشتركة للنقابات: الأطباء، المحامون و المهندسين و و و و. تفشي الخبر: مسيرة من بداية شارع القصر عند كلية الطب إلي القصر لتسليم مذكرة النقابات. مذكرة الشعب بأسره للسلطة الحاكمة. مذكرة "الإرادة".
"موكب الردع" يوم الثلاثاء الثاني من أبريل. كان كل حيلة الحكومة في الرد. البصات بإسم الحكومة من مال الشعب لنقل جماهير ثورة مايو. إجازة منذ العاشرة. فروع الإتحاد الإشتراكي بالمصالح الحكومية و المؤسسات تنظم الخروج. وتراقب و تسجل المتخاذلين و المتآمرين و الخونة. موكب الردع للرد علي النقابات، علي الشماسة، علي الشعب بأسره. و يضحك الشعب سخرية. كاميرا التلفزيون في يوم الردع ثابتة لا تدور. إذا دارت تخرج عن دائرة الحضور. صورة تذكارية لرموز النظام و جمماهير مايو. ابو ساق منظر الإتحاد الإشراكي "سنطاردهم كالأرانب و ندق رؤوسهم كالعقارب". التلفزيون لا يخجل و يعيد بث الشريط مرات و مرات. النائب غير الأول – الطاهر - يقول"إن الله قد و قف معنا كثيرا ولابد أن يقف معنا هذه المرة.". لابد أن يقف. النائب الفصيح في موقف لا يحسد عليه فتضيع منه فصاحته. أبو القاسم – هو نفسه أبوالقاسم اليوم- "إن ثورة مايو لست ملكا لأحد". ليس هنالك خطآ مطبعي. هكذا قالها "لست" بضم التاء. أما النائب الأول –الأصلي- فقد قام واهما بخفض أسعار السكر. يا زول أقيف ... القصة ما قصة رغيف.
مشــــــاهد :
وجاءت الأربعاء الحاسمة. البوليس لا يتصدي بحسم – التحية للبوليس – إستدعوا كل جماعة الأمن و عصابات الأمن و .... الأمن. وما أكثرهم حينذاك. المهمة محددة. منع الناس من دخول شارع القصر. منع المسيرة . منع المذكرة. هدير الموج لا يوقف. كلما مرت الساعات زادت الجموع. زادت محاولات إقتحام شارع القصر. زادت الإشتباكات مع الأمن و البوليس في كل شارع جانبي يؤدي لشارع القصر. البمبانق يعطر السماء و الأرض. شارع المستشفي كسر. الجموع تدخل منه إلي شارع القصر. شارع المريديان. شارع كلزيوم. شارع .... و شارع ... و يمتلئ شارع القصر و يفيض. لا بصات لا عربات. الناس تأتي ماشية. السودان كله في شارع القصر و حوله. عناصر الأمن تطارد الشلل القاصية. أصوات رصاص هنا وهناك و فرقعة البمبانق و روايات عن جرحي و قتلي. مطاردات وركض. الحجارة ضد الأسلحة. جئنا شلة –حوالي عشرة. تشتتنا و تفرقنا. الأمن يمنع التصوير. تكسير الكاميرات. إعتقالات خفية. إصطياد الرؤوس التي تقود الثورة. القتل إذا لزم الأمر. وقد لزم الأمر في ذلك اليوم كثيرا. رأيت جيفارا. بروفيسور محمد شداد - رحمه الله - إستاذي في الجامعة يقود مجموعة من الشماسة. أشعس أغبر. قميصه ممزق و فنيلته الداخلية لم تعد بيضاء. يجري هاربا من كلاب الأمن و منحازا إلي فئة أخري يقودهم و ينظمهم ثم يتركهم و يمضي. ووصلت المذكرة إلي القصر محمولة علي أعناق الإرادة. تلاها عمر عبد العاطي. وظلت الجماهير غفيرة هادرة قوية صلبة صامدة تتحدي و الأمن و الغازات و الرصاص و النظام. تظاهر حتي بعد تسليم المذكرة بساعات. و دخلت النقابات في إضراب عام. و أقسم زميلي الأقليمي في بيت العزابة أنه لن يرجع إلي أهله، قبل أن يزول النظام.
مشهـــــد:
مهندس الكهرباء النوبتجي في غرفة الكنترول. يوم الخميس مساء. بكل جسارة يضغط علي المفاتيح فيقطع الكهرباء عن آخر المواقع في العاصمة: القصر الجمهوري. يرد علي التلفون: معليش يا ريس دي تعليمات النقابة. آسف سيادة المدير العام ، عندي تعليمات من النقابة. ما بقدر أرجعها. لا ما حأرجعها. حتي لو إعتقلوني. يدخل عليه واحد كبير جدا. تحنيس .. تهديد .... و بالمقابل .... إصرار و عناد. و يدخل واحد أكبر منه. ثم أكبر و أكبر ... حتي يدخل عليه شريف التهامي وزير الطاقة الكبير جدا. "والله بكرة أرفدكم كلكم و أجيب خواجات يشغلوها" و برغم قسمه يخرج خائبا. يعود و معه بهاء الدين محمد إدريس – مستر كم في المية – . و يدخل عليهم رقم صفر .. النائب الأول .. بتاع الأمن كله .. عمرمحمد الطيب "يا إبني أعمل معروف القصر فيه ضيوف من الخارج". بهاء الدين يضيف " يا إبني كلنا كنا نقابيين و مقدريين إحساسك. بس عشان الضيوف و سمعة البلد". البلد إنتو خليتو ليها سمعة. قالها في سره. وأردف جاهرا: بإختصار يا جماعة .. أرفدوني .. إسجنوني .. أقتلوني ... ما حأرجع الكهرباء.
و نام القصر في ظلام دامس و عرف سكان القصر و ضيوفهم كم هي مؤلمة لسعة البعوض.
الخميس راحة. و تواعد الثوار علي اللقاء في يوم السبت 6 أبريل، الموعد الجديد لمسيرة أكبر تنتهي بإضراب القضاة كما تقرر.
ولكن الجيش أنحاز للشعب. مستعجلا النهاية المحتومة إنحاز. حقنا للدماء كما قال سوار الدهب، إنحاز. تأكد من عزيمة الشعب وإصراره، فأنحاز للشعب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
خالد الأيوبي
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست