|
|
 معرض شامل لمخطوطات ورسومات الناقد الحداثي الشهير.. رولان بارت
|
رولان بارت رساماً مجهولاً... منح الكتابة الأدبية بعداً بصرياً
باريس - هاجيرة ساكر الحياة 2004/02/14
رولان بارت علم من أعلام النقد الغربي الحديث, بل والكتابة الحديثة في صورة عامّة. وهو يمثل إحدى التجارب الجمالية الكبرى في عالم الحداثة. هذا ما يتوخى الكشف عنه اليوم المعرض الذي يقام في "متحف الفنون الجميلة" في مدينة "كان" في منطقة "النورماندي" الفرنسية, وشاركت في تنظيم هذا المعرض "مؤسسة الذكريات للطباعة المعاصرة" و"مركز جورج بومبيدو الثقافي" الذي سبق أن أفرد بدءاً من العام 2002 ولغاية آذار (مارس) من العام 2003 معرضاً شاملاً كان بمثابة مدخل أساسي الى نتاج بارث وتجربته مع الكتابة والصورة.
معرض "كان" الأخير يبدو كأنه سيرة ثقافية. فهو يحتوي على مخطوطات ودراسات ونتاجات فنية وفوتوغرافية ومسرحية وأدبية كان علّق عليها رولان بارت واستوحى منها الكثير من نصوصه. والتجوال في المعروضات يكشف طبيعة تفكير هذا الكاتب والناقد الأدبي الذي كان مكرَّسا في مرحلة الستينات من القرن العشرين كواحد من أبرز ممثلي الفكر النظري. وإذا كان "متحف الفنون الجملية" في مدينة "كان" يعمل منذ سنوات على المقاربة بين الحقول الفنية المختلفة وبخاصة على رسم العلاقة بين الفنون التشكيلية والأدب, فإن المعرض الراهن هو تجسيد لهذا المنحى. فالعلاقة بين الفنّ والكتابة كانت بالفعل الشغل الشاغل لرولان بارث وقد عبّر عنها في مجمل أعماله وسعى إلى معرفة الجذور المشتركة بين الفنانين والكتّاب, وسعى كذلك إلى تلمّس السبل الخفية التي تدفع كاتباً نحو الفن أو فناناً نحو الكتابة, فلا يعود هناك من فاصل بين أدوات التعبير مهما تعدّدت واختلفت. في هذا المعنى لا تعود الكتابة مجرّد حروف وأسطر متتالية بل شكلاً حياً, وتصبح هي الأخرى مفهوماً بصرياً. وهذا ما شاهدناه أيضاً في معرض أقيم قبل ثلاث سنوات تحت عنوان "الكلمة والصورة عند صموئيل بيكت والنص المرئي". في هذا السياق يأتي معرض بارت اليوم ليضيف مدماكاً آخر لما يضطلع به "متحف الفنون الجميلة" في مدينة "النورماندي" تلك.
وما يمنح خصوصية وتميزاً للمعرض أنّ بارت هو, بين مجايليه, الأكثر انخراطاً في هذا العمل الذي يقوم على تخوم الأدب والفن, وعلى خلفية تاريخية واجتماعية لا يغيب عنها الموروث الثقافي القديم ومن ضمنه الأساطير. وفي هذا الإطار نفهم أكثر الأسس التي كانت وراء كتابه "الأساطير" وكتابات "العاشق والصديق" و"الغرفة المضاءة"...
يتكوّن المعرض من سبعة أقسام موزعة على سبع قاعات في المتحف. من هذه الأقسام قسم بعنوان "الكتابة" وفيه الأرشيف الخاص لبارت ومخطوطاته وكراساته ومراسلاته, يليها قسم خاص بالنقد التاريخي ويحتوي على البحوث والدراسات, ثم قسم للفنون التشكيلية, وآخر للمسرح الذي شغل بارت طيلة سنوات. أما الأقسام الأخرى فخصصت للإعلان وللصورة الفوتوغرافية إضافة إلى الأرشيف السمعي - البصري. ولم يغب عن منظمي المعرض ما كانت تمثله الصورة الفوتوغرافية بالنسبة لبارت وما تكتنزه من طاقات إيحائية عمل عليها الكاتب الفرنسي وخصص لها كتابه الشهير "الغرفة المضاءة", والذي جاء نتاج مرحلة من المعاناة تزامنت مع وفاة والدته, وتعرّضه لانتقادات لاذعة من اليسار الفرنسي إثر كتاباته النقدية بعد سفره إلى الصين. فمعاناته في هذه المرحلة دفعت ببارت إلى الاهتمام بالصورة والموت مخصصاً لهما حيزاً واسعاً في اهتماماته النقدية. إنها أيضاً الفترة التي كرّس فيها بارت جهوده لدراسة شملت اشهر الأصوات الأدبية والفلسفة التي تغنّت بالحب وكان جمعها في كتابه.
وعلاوة على هذه المجموعة الكبيرة من المعروضات والتي تتألف من القطع والأواني والأعمال التي تنطوي على أبعاد رمزية ( صورة, كتابة, وأعمال فنية ) والتي عمل بارت على قراءتها والتعليق عليها, هناك عدد محدود من الرسوم التي أنجزها بارت بنفسه وهي تعود إلى فترة زمنية محدّدة تمتد بين 15 تموز (يوليو) 1971 و17 تموز 1972 أي أنها رسمت كلها في غضون عام واحد. سبعة رسوم تعتمد ألواناً حية وعلى طريقة فطرية في التعبير, تذكّر بتلك الرسوم التي ينفذها التلاميذ الصغار في سنوات دراستهم الأولى. لكنها تبدو هنا بخطوطها وألوانها, وبحركتها التعبيرية المشغولة بهذه الطريقة بالذات, وكأنها متكأُ نظري لما هو أبعد منها. إنها محاولات أراد بها بارت أن تكون امتداداً للكتابة, حتى ولو بدت أحيانا تسعى إلى تعبيرية ما.
واللافت في هذه الرسوم أن بارت الفنان لا يعتمد فيها أسلوباً واحداً بل رقعة واسعة من الأساليب, ففي حين تطالعنا لوحة يتداخل فيها الأسود والبني الفاتح والخطوط الرمادية والزرقاء على طريقة جاكسون بولوك نرى عملاً آخر يقوم على خطوط قليلة تذكّر ببعض الأعمال الفنية التي كان ينجزها هنري ميشو. وفي الحالتين, في هذين العملين كما في الأعمال الخمسة الأخرى, يتضح كيف أن رولان بارت, في لحظات إمساكه بالريشة, كان يبدو وكأنه يلاعب الصدفة, يلعب معها ويتركها تملي عليه بعض حركاته وألوانه, ليس على الطريقة السريالية القائمة على التعبير الآلي, بل وفق طريقة حدسية لا يغيب عنها التدخل الذهني تماماً. وتؤكد على ذلك الملاحظات والهوامش التي كان يسجّلها أحياناً في أسفل اللوحة أو على أطرافها. كأنه يبحث من خلالها عن الألغاز والطلاسم التي خرجت على غفلة منه ومن بين يديه.
وإذا كانت أعمال بارت متنوعة وغنية من حيث المواضيع, فنتاجه يظل وباستمرار ذا طابع إنساني لانه يعتبر أن الهاجس الرئيس لكلّ عمل إبداعي هو التواصل مع الآخر. بعد أحدات أيار (مايو) 1968 شعر بارت بالإرهاق فاختار التوجه إلى جامعة الرباط للتدريس, وهناك كتب الجزء الأكبر من كتابه Les fragments de l'incident. ومن عبثيّة القدر أن يموت بارت في باريس حين دهسته سيارة وهو يعبر الطريق بالقرب من "الكوليج دو فرانس" حيث حاضر لسنوات. وقد توفي عن عمر يناهز 65 عاماً تاركاً وراءه أوراقاً أدبية غير مكتملة هي حصيلة عمل روائي يحمل عنوان Vita Viva عبّر فيه الكاتب عن رغبته في ولادة جديدة عبر الكتابة الروائية.
من يدخل إلى المعرض كمن يدخل ليس فقط إلى منزل رولان بارت وإنما أيضاً إلى عالمه الداخلي الحميم الذي تتداخل فيه الكتابة والرسم والصورة الفوتوغرافية والأواني المتنوّعة. إنها رحلة في عالم حافل بالأسفار والمغامرات والإشارات. عالم يتزاوج فيه الماضي والحاضر, الثقافات القديمة والثقافات الحديثة, وهي مجسدة هنا, خير تجسيد, من خلال كل كلمة وكل دراسة كتبها بارت
|
|
 
|
|
|
|
omar ali
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست