افضل أعمالي -- 14-- شوقي بدري - مختارات من أعماله

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-11-2024, 02:08 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-26-2004, 10:39 PM

sympatico

تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
افضل أعمالي -- 14-- شوقي بدري - مختارات من أعماله

    افضل أعمالي -- 14-- شوقي بدري - مختارات من أعماله


    **********

    كان الأستاذ شوقي بدري من بين الذين اعتذروا
    وكان اعتذاره ممعنا في التواضع
    فهو يرى ان افضل اعماله هي بعض المهن التي مارسها في حياته
    اعدت عليه الكرة
    فأربكني بمزيد من التواضع
    وانه لا يستطيع التحدث عن اعماله المكتوبة
    استأذنته في أن اختار بعض كتاباته فأذن لي

    **********
    مختارات من " حكاوي أم درمان" للأستاذ شوقي بدري

    تقديم بقلم الأستاذ احمد عبدالمكرم

    إن كتابات شوقي بدري و"حكاياه"، التي احتشد بها، هذاالكتاب. والتي تستند على نهجه الخاص, في الكتابة السردية وطريقته التلقائية في تحرير تفاصيل السيرة الذاتية، تقدم لنا عالماًغنياً بأبعاد التجربة الحياتية والإنسانية (بمختلف مستوياتها)، في مدينة فريدة التكوين التاريخي والاجتماعي، مثل مدينة أمدرمان.
    هذه المدينة العزيزة على كل سوداني.. لأنها تاريخياً، كانت الرمز وما زالت لوحدة المجتمع السوداني.. بكافة أمشاجه وتنوعه الذاخر. فأصبحت بما حدث فيها من تداخل وتفاعل ثقافي، اجتماعي واقتصادي عميق - بين أناسها، المنحدرين، من مختلف التكوينات السكانية للبلاد - النموذج الأعلى لمفهوم "الشخصية السودانية"، ورمزها الدال على تحققها التاريخي. لذا كانت، بهذه الكيفية؛ مصدر إلهام للكتاب والشعراء في التعبير عن رؤاهم وأحلامهم المنشودة والمنتظرة لوحدة الأمة السودانية.
    ومع هذا الحب الكبير والمكانة الخاصة التي تتمتع بها أمدرمان في كتابات المبدعين السودانيين (خاصة كتابات أبناؤها الذين ولدوا وترعرعوا فيها) إلا أنه من النادر أن نجد من استطاع أن يعبر عن (المجتمع الامدرماني)، (المكان الامدرماني) و(القيم والأخلاق الامدرمانية) بمثل ما فعله شوقي في - هذا الكتاب - بحبه الجارف لامدرمان، الذي بلغ حد التقديس أحياناً.
    وليس أدل علي هذا التأثير الطاغي الذي تركته امدرمان في شخصية المؤلف وتكوينه النفسي والوجداني، من هذه "الذاكرة" الحية. الذاكرى الحديدية التي عبرت بكل هذا الوله، وهذا العشق الكبير، عن أمدرمان المفقودة.. أمدرمان التي ضاعت وطواها الزمن، ولم يبق منها إلا هذا الحب الثاوي في نبضات القلب وحنايا الوجدان. كما وأننا لا ندرك - كذلك - مدى هذا التأثير الطاغي لأمدرمان علي الكاتب، وهو يتوسل "بالكتابة"، للحفاظ على كل تلك التفاصيل الدقيقة والحميمة من زمن طفولته ومراتع صباه الباكر إلا حينما نعلم أن كل هذه "الحكاوي الأمدرمانية" - بهذا الأداء المدهش للذاكرة - كتبها المؤلف وقد ظل بعيداً عن أمدرمان ما يقارب الثلاثة عقود ونصف العقد، قضاها الكاتب، بعيداً عن وطنه - في بلاد الغربة منذ أن رحل للدراسة أول مرة. وكان لا يعود إلى أمدرمان طوال هذه الفترة، الالماما. وعبر زيارات متقطعة، لا تزعف المحبوب النهل من مع ين محبوبته "أمدرمان". غير أن. العشر سنوات الماضية، والتي لم يستطع خلالها ملامسة تراب امدرمان - بسبب التحولات السياسية الأخيرة في البلاد - فجرت فيه منابع هذا الغضب النبيل لما آلت إليه أحوال أمدرمان المدينة، وأحوال أمدرمان الوطن.. فشرع من ثم يسجل بقلم محموم كل ما انطوت عليه ذاكرته - المتشظية بالغربي - تفاصيل ومواقف وأحداث يفاعته الأمدرمانية الطازجة، التي انصهرت وإلى الأبد في تلافيف ذاكراته الحديدية.
    وتبقي من ناحية أخرى الخصائص المميزة لكتابة المؤلف - كما سيلاحظ القارئ - تتمتع بنهجها الخاص - كما قلنا - كخطاب سردي امتلك انحرافات اللغوية وطرائقه الأسلوبية، كنمط نثري متحرر من أية قواعدية للنوع الأدبي. حيث استطاعت هذه الكتابة، بطابعها هذا أن تملأ فراغا ظل قائما إلى اليوم في حركة ثقافتنا: بين ما هو مكتوب ورسمي "أي معترف به كسلطة كتابة نثرية" وبين ما هو شفاهي "شعبي" يعتمد في آلياته التوصيلة على "الحكي" خارج نطاق الكتابة الرسمية السائدة.. بحيوية، سرد الروايات واعتماد وقائع السيرة الشخصية كمصادر مباشرة: للمعرفة بالعالم، الناس والجغرافيا "الأخلاقية/ القيمة" للمكان الأمدرماني.
    وهذا الفراغ - الذي نقول به - حاولت أن تملأه التجربة النثرية التي يمارسها شوقي بدري بكافة خصائصها التي لا تقتصر على مستوى الشكل والأسلوب لكتابة "تروم تحويل ما هو شفاهي إلى مكتوب"، ولكن حتى على مستوى الموضوعات "القضايا" المثارة في خطابه. باعتبارها موضوعات تم السكوت عنها أو هي بحكم طبيعتها "الشفاهية" مهملة وتقع خارج نطاق المدى التقليدي لما هو "مكتوب" أو رسمي ينتمي لما يمكن أن نطلق عليه "الكتابة العالمة". وبالتالي فإنها من حيث كونها كذلك، تصير أكثر دلالة على المستوى التحتي أو ما هو "ثقافة شعبية". ومن هنا تنبع المشروعية التي تعطي كتابة شوقي بدري قيمتها الأدبية والمعرفية بفضل محاولتها الإمساك بتفاصيل هذه العوالم التي تكون عرضة لأن تسقط من بين ثقوب الذاكرة الجمعية وتندثر. ولا نقول هذا الكلام "عن كتابات شوقي بدري" كإمتياز خاص به.. ولكن هناك محاولات عديدة "في ثقافتنا" سبقته في هذا الاتجاه: إن كان ذلك في تجربة "جده" الرائد الشيخ بابكر بدري وكتابه "تاريخ حياتي" أو في جملة الكتابات التي جمعت ما بين: التاريخ الشعبي، التسجيل الوثائقي، السير الذاتية، رصد "المُلح" والطرائف، ووصف الظرفاء وغيرها. حيث يمكن أن نذكر في هذا المقام كأمثلة كتابات: عبدالله رجب، حسن نجيلة، فهمي بدوي، د. خالد الكد، إلى جانب مساهمة كاتب ساخر مثل الدكتور محمد عبدالله الريح.
    وتظل في النهاية مثل هذه الكتابات تؤكد أهميتها الأدبية لما تحمله من قيمة معرفية، غاية في الأهمية. عن دقائق التكوين النفسي والمزاجي والسلوكي وحتى نمط الذهنية وآليات التفكير في شخصيتنا الوطنية، ذات المرجعيات المتعددة، ثقافياً وحضارياً.
    كما أنها تنزع بصدقها القناع الرسمي "الجاف"، وكاشفة بطزاجتها وحيويتها، عن أصالة الثقافة الشعبية.
    فما أحوجنا اليوم في المرحلة الراهنة التي يمر بها شعبنا، إلى مثل هذه الكتابات الأكثر التصاقاً بالحقائق المجردة لمحتوي ومضمون ثقافتنا الشعبية وعرضها بشجاعة كاملة دونما أية تزويقات أو تلاوين كاذبة…

    أحمد عبدالمكرم
    القاهرة يوليو 1999م.

    ==========
    حكاوي امدرمان "1"


    قبل أن أكمل الخمسة عشر عاماً اشتريت "سكين ضُراع" إلا أنها كانت عادية. ولم أشتر سكين الوجاهة إلاّ بعد أن رجعت من أوروبا في أول إجازة؛ كانت بمقبض من الأبنوس وحديد صلب من ياي العربات والجفير المشغول، أما "العاج" أو السير الذي يلتف حول الساعد فقد كان مزدوجاً ومضفوراً من الجلد. المشكلة كانت إيجاد صائغ لصنع المتمنة والقنطرة المصنوعين من الفضة، وبعد تعب وجدت الصائغ.
    ولقد ذكر لي الصائغ أنها عملية صغيرة لا يفضلها حتى صغار الصياغ، كما ذكر حادثة قديمة. عندما حضر أحد البدو لنفس المهمة، ورده جميع الصياغ فيما عدا العم الأمين عبدالرحمن أغنى تاجر ذهب في السودان. صنع له القنطرة والمتمنة وتقاضى خمسة عشر قرشاً مقابل ذلك. المتمنة والقنطرة في مؤخرة المقبض لمسك "الخوسة" النصل. أراد العم الأمين عبدالرحمن بذلك أن يعطى الصغار درساً في تقديس العمل وعدم الاستهانة بالمال.
    في سنة 1956 اتفق البرير مع صاحبة المنزل المجاور لمدرسة الهجرة جنوب قبّةالشيخ قريب الله على شارع ودنوباوى. وبما أن البرير وبعض التجار أمثال ود بكار وعلي عثمان الرباطابي، مدني أبشر، بشير محمد أحمد والأمين عبدالرحمن وآخرين كانوا يتنافسون في اقتناء المنازل فقد وجدت صاحبة المنزل نفسها موضع تنافس بين البرير والأمين عبدالرحمن وعلي برش الصلاة حيث يجتمع أغلب تجار أمدرمان, أبرز الأمين عبدالرحمن عقد الشراء، لأنه كان قد ذهب في الفجر إلى صاحبة المنزل ورفع السعر وأخذها لتسجيل المنزل مباشرة مما أغضب البرير ودفعه لأن يقول "سأشتري منك هذا المنزل يوماً وإذا لم أنجح سأطلب من أبنائي أن يشتروه من أبنائك وإذا فشلوا سيشتريه أحفادي من أحفادك".
    في اليوم الذي تلا هذا الحادث حضر الأمين عبدالرحمن متأخراً إلى برش الصلاة وقال للبرير "البيت أنا سجلته جامع كان أولادك عايزين يشتروه ليتفضلوا بعد ده" المنزل اللآن هو جامع الأمين عبدالرحمن ولقدكلفه، عشرين ألف جنيه سوداني من حُر ماله.
    موسى ود نفاش شخصية خرافية في أمدرمان وإليه تنسب أغلب النكت. كان يعمل في محل ليمنيوس اليوناني في المحطة الوسطى بالقرب من بنك باركليز وهو من أسرة دينية عريقة جداً كما أن خال محمد وعبدالرحمن حفيدي الشيخ دفع الله صاحب القبة في وسط أمدرمان.
    أخذته والدته في صغره إلى السيد عبدالرحمن المهدي ليباركه ويعطيه الفاتحة لشيطنته. وبعد الفاتحة شكته والدته للسيد معددة مشاكله حتى ذكرى أنه يدخن "السجارة الخضراء" فلم يتمالك السيد عبدالرحمن نفسه وصفعه حتى انخلعت سنه قبض ودنفاش الخمسة جنيهات حتى أدار خده الآخر قائلاً: "ياسيدي كمان واحدة بيجاي" فضحك السيد وطرده قائلاً "الله ينعلك يا مطموس".
    وفي إحدى المرات ما إن تخطى السيد عبدالرحمن البوابة بسيارة الرولز رويس حتى كان ودنفاش يقف عاري الصدر باسطاً يديه وعندما ترجل العم باب الله مستفسراً قال ودنفاش: "سمعت سيدي إتبرع بخمسمية جنيه للصليب الأحمر الصليب الأسود ده عاوز ليه 5 جنيه".
    ود نفاش كان يدمن "السجارة الخضراء" وعندما يدخن يسير بها حتى في المحطة الوسطى وبين كل نفس ونفس يمسك السجارة خلف ظهره. وفي إحدى المرات وجد نفسه مواجهاً برجل سواري لا يعرف ود نفاش، ولم يسمع ود نفاش حوافر الحصان. وعندما قال رجل البوليس: "جيب السجارة دي يا زول" رد عليه ود نفاش "اتفضل بس قول لي: حصانك ده انت ملبسه ربل؟"
    حدث هذا في سنة 1960 وفي يوم المحاكمة أقبل الكثيرون لمساندة ود نفاش وقال القاضي لود نفاش "لازم تخلي شراب الدخانة" فرد ود نفاش قائلاً "آي لأنها بقت تعمل لي ضربة قلب وبتتعبني" وردد القاضي مرة أخرى "حتخليها ولاّ لأ؟" وقال ود نفاش: "قلت ليك بتعمل لي ضربة قلب، إلاّ يكون عندي قلبين واحد للدخانة" وضحكت المحكمة وحكمت على ودنفاش "بمية وخمسين" قرشاً غرامة. فهتف ود دنفاش: "عاش العدل، عاش العدل". وتدافع عدة أشخاص لدفع الغرامة.
    أخي الصغير يوسف بدري كان متديناً منذ صغره ويطلق لحيته وقد قال له مرة ودنفاش "يايوسف يا ولدي الدقن دي شنو؟" فردّ يوسف بحدّة "رجاله" فضحك ود نفاش قائلاً: "يايوسف يا ولدي كان الصوف ده رجاله، كان بيقوم في…"
    "ميه" كانت احدى ثلاث مجنونات في أمدرمان مشهورات مثل "تامبُله وبت التور". ميه كانت توفر نقودك في حفرة تهيؤ للذهاب إلى الحج في شكل ريالات فضيه أبوعشرين وعندما بلغت مائة ريال أتى من سرقها وبدأت تصرخ "مية مية ريال" المثل السوداني يقول "الجن يا هبدى ياربدى" وكان جنها "هبدى" أي هادئاً كما كانت تطوف على بعض الدكاكين وتأخذ مصاريفها من زبائن معينين. وفي أحدى المرات مرت على شيخ البرير فوجدته يضرب ويحسب ويخاطب نفسه فقالت له "كلنا بديناه كدى".
    الدخرى: أشهر مجانين أمدرمان. كان يتواجد خلف الجامع الكبير وهو رجل قوي الجسم وعضلاته بارزة. وعندما يكون "بحره عالي" يقوم بتحطيم الحجارة وينطلق عارياً ويتخذ من قضيب الترام سندانه ويده كمرزبه مما يجبر سائق الترام للتوقف أمام دكان الطوخي الذي يقابل الجامع إلى أن يفرغ الدخرى من عمله. مشكلة الدخرى بدأت عندما قذب ابنه بحجر وأصابه في مقتل وصار كلما تذكر هذه الحادثة ينطلق محاولاً الانتقام من الحجارة.
    وأنا في دكان أحد الأصدقاء أتى الدخرى فناولني الصديق "فريني" لكي أعطيه للدخرى وهو في حالة هدوء "بحره نازل" وعندما بسط يده "للفريني" رأيت قطعا في يده الضخمة فقلت مستفسرا "ده من شنو؟" فنظر إليّ باستخفاف واستعجاب لمدة طويلة وكأنني غبي وقال "من شنو؟‍! ما من الجن".
    عمنا…عانى مرة من ضائقة مالية في الخمسينات فذهب إلى عبدالله عشرى "دابى الليل" الذي كان أحسن من يتكلم الانجليزية ومتضلعاً في اللغة العربية . فكتب له خطايا إلى السيد عبدالرحمن المهدي عبارة عن قطعة أدبية. وأعطاه السيد عبدالرحمن خطابا سلمه إلى عمنا… الذي سلمه ثلاثة جنيهات وعندما رجع الصديق إلى عبدالله عشري قال له "الإمام مستحيل يدك ثلاثة جنيه لازم يكون ثلاثين جنيه في صفر ضائع"، وفي الصباح ذهب الصديق إلى القبة وبدأ يصرخ "أين صفر الإمام، أريد صفر الإمام" وخوفا من الفضيحة استلم 27 جنيها واعتذارا بأن الصفر قد سقط سهوا، وصار بعدها عندما يكون لأحدهم حقا مشروعا في أمدرمان يقول "أريد صفر الإمام" وعندما يلحف أحدهم سعياً وراء طلبه يقال له "طلبك ده اصله صفر الإمام؟".
    قناطه من شخصيات المورده الفذة لا يتخاطب إلا باللغة العربية الفصحى. وجد نفسه أمام القاضي كشاهد بعد مشاجرة دموية في الريفيرا. وعندما سأله القاضي "شفت شنو يا زول؟" قال "بينما أنا مستمتع بزقزقة العصافير مستنشقاص الهواء العليل فإذا بضربة عكاز تدوي في الفضاء.." فقاطعه القاضي قائلاً "اتكلم كويس" فرد قناطه "القاضي لا يفهم الفصحى.. يا للعار يا للعار" وانتهى الأمر بقناطه إلى السجن لإساءته المحكمة. وبعد مدة من خروج قناطه من السجن ذهب إلى بشير صاحب محل السمك والذي ينافس العم السكي شاكيا المحينه لاعب الكرة واخ بشير الأصغر قائلاً: "عندما كنت مارا بسوق المحدقات فإذا بأخيك الأصغرمنك سنا وأكبر منك حجما يرميني بحلقوم بقر. فإذا كان يقصد شرا فالسجن نحن من أربابه" ولم يفهم بشير شيئاً.
    إن أمدرمان مليئة بالقصص المشوقة. أتمنى أن توثق قبل أن تنسى أو تصنيع.
    ----------
    حكاوي امدرمان "2"



    صديقنا تكاوى بدأ حياته نقاشا في المورده وعندما صارالغناء والعزف مصدرا للرزق صار تكاوى عازف دربكه ثم "بنقز" مثل خميس مقدم وخميس بنقز وآخرين. وانضم إليهم إبراهيم سميرالمعروف بإبراهيم "كُتبا". وسمى بـ "كُتبا" لأنه كان يشبه عازف الكمان المتوفي إبراهيم كتبا عضو نقابة النقل الميكانيكي وأخ صديقي مصطفى كتبا "الريفي" من أعلام المورده.
    في بداية الستينات كان شباب المورده قد درجوا على الاجتماع صباح كل جمعه أمام محل العم عثمان "السُكي" إما لشراء السمك المحمر أو لمقابلة الأصدقاء واستعراض آخر صيحات الموضه من توتو الخياط.
    وفجأت بدأ تكاوى يظهر بالبنطلون الأبيض والقميص الأبيض والجزمة الكشف الرومانية اللامعه ويطلب سمكا باثنين جنيه وثلاث جنيهات ويأخذ تاكسيا إلى نادي الفنانين السابق بالقرب من الإذاعة. كان أغلب العازفين والفنانين يوصون تكاوى بعد "العداد" يوم الخميس على سمك من السكى لأنه ابن المورده. وأعجب العم عثمان بالشاب الأنيق الذي يشتري سمكا بثروة كل مرة ويبدو مؤدبا فسأله "انت شغال شنو يا ابني؟" فرد تكاوى بكل ثقة "ضابط ايقاع". وفي أيام عبود كان للضباط هيبة "اهلا اهلا جنابو" صار العم عثمان كلما يحضر تكاوى يصرخ "أهلاً جنابو اتفضل جنابو كيف حالك جنابو؟ وسع يا ابن الكلب خلي جنابو يقرب" واستمر هذا الحال لمدة طويله إلى أن ذهب العم عثمان يوماً إلى حفل ليجد تكاوى طابى الطبله فسأله: "ده شنو يا جنابو؟ بتعمل شنو يا جنابو؟" فقال الشاب: "ما هو أنا ضابط إيقاع ده شغلي" فردّ عليه العم عثمان: "ضابط إيقاع يا ابن الكلب ما تقول لي بتاع دربكه؟".
    عثمان طه من أشهر شخصيات المورده - أمدرمان، يدخل كل المكاتب وله اتصالات بكل الكبار من الوزراء إلى الرؤساء .. عبدالله خليل وازهري. يركب كل المواصلات مجانا لا يدفع حتى للتاكسي لأنه كان صاحب عربة تاكسي في يوم من الأيام. صديقه الحميم كان حمد النيل ضيف الله قائد الجيش السوداني منهما ابن يحمل اسم الآخر كما كان يدخل دار الرياضه مجاناً ويتنقل من اللوج إلى الشعب بحرية.
    عثمان طه كان يفرض اتاوة على كثير من أبناء أمدرمان يدفعونها عن طيبة خاطر. وعندما ذهب مرة لزيارة صديقي عبدالرزاق اسحق في الجوازات "الآن بجدة" في نهاية الشهر، قدم له عبدالرزاق 50 قرشا فنظر إليه عثمان طه شذرا وقال "هات الجنيه إذا ما بتقدروا تدفعوا بتتسلفو ليه؟" ودفع عبدالرزاق صاغرا وبعد مدة لام عبدالرزاق عثمان طه قائلاً "كيف تحرجني قدام زملائي في المكتب؟" فرد عليه عثمان طه قائلاً "وكيف ترضى تحرجني أنا عثمان طه قدام زملائك تديني 50 قرشاً؟" وبعدها صار عبدالرزاق لا يقدم له أقل من الجنيه.
    عثمان طه كان يحب النظافة والأناقة، لا يلبس إلا الجميل من الملابس والأحذية وحتى عندما اختف صابون اللوكس أيام حكم عبدالله خليل كان يحضر إلى النيل أمام الطابيه بصابونة لوكس جديدة كل مرة يخلصها بكاملها على جسمهم. كثير من رجال المورده كانوا يفضلون الاستحمام في النيل عند الأماسي. كانت بينه وبين "شامبي" مناكفات ومعاكسات وبما أن شامبي كان محبا للأناقة فكانا يتنافسان. وفي قهوة أبي ضهير قال عثمان طه مرة: "أنا في حياتي ما لبست دموريه ولا في كمر البنطلون. كمر بنطلوني والجيوب بوبلين" فرد شامبي قائلا "أنا سروالي بوبلين" وكشف عن سروال فاخر من البوبلين فاستأذن عثمان طه وأوقف أول تاكسي وذهب به من فوره إلى السوق الكبير لكي يرجع مرتدياً سروالا من السكروته.
    العم خضر رحمة الله إلياس "الحاوي" كان يدخل السينما الوطنية يوميا الدور الأول والثاني وطبعا لوج بدون أن يدفع وعندما بنو سينما أمدرمان صار يختار بين الاثنين. الغريب أنه ما إن يبدأ الفيلم حتى يشنق العم خضر عمته وينام وبعد نهاية الدور الثاني يذهب إلى مقهى يوسف الفكي ويمكث إلى الساعة الواحدة والنصف صباحا وبعد ذلك يذهب إلى المنزل لكي يسهر حتى الصباح.
    المثل السوداني يقول "ود ابن ذهانه يأكل في اللوكونده وينوم في الجامع" عمنا خضر كان يسهر في البيت وينام في السينما.
    العم خضر كان يجوب كل أمدرمان على دراجته وفي بعض الأحيان الخرطوم وعندما تكون دراجته في حاجة إلى تصليح كان يحضرها إلى أصحابي العجلاتيه في ميدان البوسته وحينها كانوا يتركون أي عمل آخر ويصلحون دراجة العم خضر في الأول ولا يتقاضى منه نقودا بل كثيرا من الشتائم على سبيل المزاح.
    في إحدى المرات أوقف العم خضر صاحب تاكسي وفتح الباب ثم انشغل في حديث مع أحد الماره، وأقفل الباب لكي يواصل حديثه فظن سائق التاكسي أن العم خضر قد ركب فانطلق وعندما وصل وجهته التفت فلم يجد عم خضر فظن أنها احدى خدع العم خضر الحاوي. فقام بقفل زجاج السيارة والأبواب ورجع إلى المقهى وصار يصرخ "عم خضر زاغ مني كان راكب معاي فجأة لقيته مافي. عم خضر كان ام عاوز يدفع لي مامهم بس ما يجنني أنا عندي أولاد".
    العم النصري حمزه المربي الكبير كان المديرا لمالي لمدارس الأحفاد. عند دفع المصروفات كان يقول لحسين ابن خضر الحاوي "تجينيآخر زول" وعندما ينتهي الجميع يفتح درجا خاصا ويقول لحسين "فلوس أبوك دي أنا ما ضامنها ما بدخلها الخزنة مع قروش أولاد الناس، تجيني بكره للوصل" وبعد أن يتأكد العم النصي حمزه أنا لفلوس لم تنقلب إلى ورق يعطي حسين الوصل. وبعد سنين قابل العم النصري حمزه حسين فقال له: "أنا ما ارتحت إلا لماأنت خليت المدرسة، قروش أبوك دي ما معروفة يطلعها قدامك فلوس يفرها ورق".
    التجاني كان الفراش المسئول عن البوسته والحوالات والذهاب إلى البنك بالشيكات الخ.. في مدارس الأحفاد. في إحدى المرات اختفى مبلغ اثنين جنيه مما جعل العم ميلاد المحاسب يغلظ في القول للتجاني الذي رد بأنها غلطة العم ميلاد. وقال العم ميلاد بأنه اشتغل في حكومة السودان ثلاثين عاما ولم يضيع مليما واحدا وكان رد التجاني بأنه اشتغلب في المركب ثلاثين عاما وما راحت طروره واحدة. ويختتم حديثه مؤكداً: وما الأصعب المحافظة على الدفاتر والفلوس أم الطرور؟ العم النصري حمزه اتصل بمدير البوسته.. وفي نهاية اليوم جُردت الخزينة فوجدوا أنها زائدة اتنين جنيه أُعيدت إليه ورد اعتباره. وقتها كانت الأمانة متوفره ومكاتب حكومة السودان تمشى كالساعة.

    صديقي وأخي الأكبر عبدالقادر الجزولي الترزي في المورده كان صاحب مزاج خاص جدا. له مركب صغير من الحراز بألوان زاهية يستقلها في الأمسيات مع صديقه "الكي" بمنقد صغير ومبخر للاسترخاء والتدخين والشاي المظبوط. عندما كان أخوانا الجنوبيين يحضرون لدكان عبدالقادر كان لقصر قامته يطلب منهم الاستلقاء علىالأرض لأخذ المقاسات. وكانت لعبدالقادر "قله" جميله بغطاء من "التل" يبخرها بالمستكه مما جعلها قبلة للجميع وعندما تعب عبدالقادر من الناس ركل القله وكسرها، وذهب إلى النيل واشترى قله جديدة وفي الطريق مر على الذين يرسلون أبناءهم لاحضار الماء من قلته. وطلب منهم حضور تدشين القله الجديدة أو "تعتيقها" ولدهشة الجميع رفع عبدالقادر جلبابه وعتق القله. صار الجميع بعدها عندما يرسلون أبناءهم لاحضار الماء البارد يشددون على أبنائهم قائلين "أوعك تمشي لقلة عبدالقادر الجزولي" عبدالقادر الجزولي هو عم إبراهيم الجزولي عازف الكمان والمخرج السينمائي بالخليج وتشيكوسلوفاكيا والاثنان يتمتعان بخفة الدم.
    الطاهر الكبجه شخص بسيط طيب يبيع الشخت وهي الشحوم التي تلتصق بها قطع رفيعه من اللحم تباع في "الجزُر" للفقراء وفي أحد الأيام كان العمل جيدا واستلم الكبجه 25 قرشا "طراده" إلا أنها اختفت وصار الكبجه يطوف كل سوق الشدرة "شجرة آدم" وكان يسأل النساء "يا خاله ما اشتريتي مني شخت فيهو طراده؟" وترك عمله وتفرغ للسؤال عن الطراده. وصار البعض يقول عندما يجد الانسان في البحث "اصلك كايس طرادة الكبجه؟".
    العم خضر الحاول استيقظ مذعورا على صوت طرق عنيفاً على الباب في فترة القيلوله وكان الطارق أحد الذين يطلق عليهم في مصر لقب الرفاعيه ويخرجون الثعابين من البيوت وفي العادة يحضرون الثعابين معهم، فسمح له العم خضر بمزاولة عمله وبعد فترة قصيرة جلس الرجل على الأرض محتاراً لأن ثعابينه قد اختفت في منزل خضر الحاوي الذي قضى عشرة سنين في الهند والسند وبورما والملايو.. الخ وتعلم السحر والموسيقى وترقيص الثعابين وبعد أن أخذ العم خضر وعدا من الرجال بأن لا يحضر للحلة مرة أخرى وأن لا يزعج الناس في فترة راحتهم أرجع له ثعابينه.
    الأخ سينا ذهب لصاحب دكان فطلب منه قائلاً: "ادينا دفتر". ولم يفهم صاحب الدكان المطلوب. فأعطاه كراسة فسأله سينا إذا كان عنده قلم. وعندما استلم القلم قال لصاحب الدكان "بعد ده اديني إملا".








                  

01-26-2004, 10:50 PM

sympatico

تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: افضل أعمالي -- 14-- شوقي بدري - مختارات من أعماله (Re: sympatico)

    Re: افضل أعمالي -- 14-- شوقي بدري - مختارات من أعماله

    مختارات من كتابه " المشبك"



    تقديم لكتاب " المشك" تأليف : شوقي بدري
    بقلم الأستاذ التيجاني الطيب

    أوجاع الغربة


    هذه مجموعة من الحكايات التي يقدمها لنا كاتب برع في هذا النوع من الابداع الأدبي.وهي حكايات متنوعة من الواقع، رغم ان راويها يصر على أنها " غير واقعية " . وأظنه يريد أن يقول ان أي تطابق بين أسماء الناس والمواقع والأزمنة غير مقصود وليس الا بفعل الصدفة المحض ، لكن ومض الحياة الذي يشع من تفاصيل كل حكاية يؤكد أنها وقعت بالفعل ، وان في سياقات أخرى ، وبنهايات مغايرة .
    والكتابة عند شوقي بدري صارت من ضرورات الحياة التي لا تكون حياة بدونها كالتنفس ونبض القلب . انها وسيلته للتواصل مع الناس ، أي بالدرجة الاولى مع السودانييين الذين باعدته عنه الغربة . انها أحد أشكال مقاومته لأوجاع الغربة التي امتدت معه لما يزيد على اربعين عاما . انها تعبير عن الحنين الجارف للوطن، مجسدا في ام درمان .
    وتعصب أهل أي مدينة لمدينتهم طبيعي ، ولكن تعصب الأمدرمانيين تسير بذكره الركبان. فكم من النثر والشعر قالوه في مدينتهم ؟ وكم من الأغاني التي يتدفق الاعتزاز والحنين والشوق من كلماتها وألحانها ؟ قالت لي ابنتي عزة في نوبة مبالغة انها ان رأت سودانيا لا تعرفه يسير في شوارع القاهرة لميزت من مشيته ما ان كان ام درمانيا . ولا أبريء نفسي ، فعندما سئلت أن أصف هيئة السيد الصادق المهدي ساعة أحضروه لنا معتقلا مغرب يوم 7-7-1989م بالكرنتينة"ج" بسجن كوبر ذكرت أن عمامته كانت ملفوفة على طريقة اهل ام درمان تلك " اللفة" المميزة بأناقتها التلقائة.
    وكأم درماني أستطيع أن أميز بسهولة ومتعة شخصيات أم درمان و أحياءها و معالمها في حكايات شوقي بدري، تماما كما كانت قبل اربعين عاما . وهذا وجه آخر لصدق الكاتب، فهو يحدثنا عن ام درمان كما تركها ، قبل أ، تتمدد خلال اربعين عاما فتتضاعف مساحتها ، كما يتضاعف عدد سكانها ، مرات ومرات وتتغير تركيبتهم الاثنية والمهنية ، وقبل أن تتغير الأحياء وتظهر أحياء جديدة تفوق منازلها حي الملازمين أبهة وفخامة . انها مدينة جديدة تحتاج الى كتاب وشعراء جدد يصفونها ويصفون أهلها . أما نحن فسوف يظل يغلبنا الشوق لأم درمان القديمة.
    في مجموعة الحكايات التي بين ايدينا يتجلى شوقي كفنان يرسم لوحاته بضربات سريعة من فرشاته ، وكل حكاية، رغم قصرها ، تقدم شخصية بطلها والجو المحيط به بتفاصيل قليلة ولكن بكل ما هو ضروري ومطلوب لمتابعة حركته ودوره في الحكاية ، بكل ما ما هو ضروري لتلخيص حياته وعلاقته بحياتنا ، التفاصيل الأخرى غير ضرورية . والحكاية تبدو بهذه الطريقة لا مجرد فصل في حياة بطلها ، وانما هي ملخص الحياة .
    وفي تقديري ، وهذه نصيحة عابرة ، أن كل حكاية من الحكايات الستة عشرة ، تصلح لأن تكون هيكلا تبنى عليه قصة طويلة .
    الحكايات ليست مرتبة ، لا تاريخيا ولا بالموضوعات التي عالجتها ، بل جاءت اختيارا عفويا كما يبدو من شريط كان يمر على الكاتب . وثمان منها سودانية صرف ، وأربع أبطالها سودانيون ، وست دخلن في تجارب الكاتب من علاقته بمغتربين مثله .و في كل حكاية قال الكاتب رأيه في أنر من أمور الحياة أو أكثر ، بحيث انه قال رأيه عبر المجموعة كاملة في كل شيء تقريبا من الماركسية والاشتراكية الى نماذج من باعوا أنفسهم للشيطان.
    وللراوي موقف شفاف من كل شخصية في حكاياته ومن كل تطور في مسار الحياة ، يعبر عنه أحيانا من ثنايا الحكاية وأحيانا بطريقة خطابية ، وهو لا يخفي تعاطفه ولا كراهيته ، ولا اعجابه او احتقاره ازاء شخصيات حكاياته ، سواء كانت الحكاية واقعة محلية صغيرة في ميدان الربيع بأمدرمان أو قصة عبر قارية في الكاريبي أو دراما ايدولوجية في المجر .
    ومواقف الراوي هذه لا تصدر عن أحكام جاهزة مسبقة، فبطل حكاية ( المادة ) مثلا لص ، وتكفي هذه الصفة للنفور منه ، ولكن الراوي يتعاطف معه ، ويتضح صدق فراسته في نهاية الحكاية . ويتفنن شوقي في حبك كثير من حكاياته على هذا النحو ، بحيث تأتي خواتيمها مدهشة ، تؤكد المعنى الذي كان الهدف أصلا من روايتها .

    وكان بودي أن أكتب أكثر ، ولكن الوقت الذي أتيح لي لكتابة هذه المقدمة كان ضيقا .
    ولقد استمتعت بقراءة الحكايات ، وتأثرت لمصائر شخصياتها ، ولسعني الحنين الجارف للوطن ، فأنا أيضا عشت وأعيش مراراة الغربة .

    التيجاني الطيب
    القاهرة - أواخر سبتمبر 2002م


    ===========

    مختارات من كتابه " المشبك"

    -------------------------
    "1"
    الراعي

    جون كيرنسكي أمريكي لطيف حضر لزيارتي في السويد من مدينة فينا في أمريكا. وشركتهم متخصصة في معدات الوقاية للمصانع، ويتمتعون بسمعة جيدة. وكنا نناقش تعاوني معهم لتسويق منتجاتهم في أفريقيا والشرق الأوسط. إلا أنه كان متردداً في إعطائي حق احتكار تمثيلهم.
    مدينة فينا في فرجينيا تضم كثيراً من المنظمات الفدرالية إحداها المخابرات المركزية. وكنت أمزح معه قائلاً أنهم عملاء وجواسيس متخفون خلف معدات الوقاية التي تبيعها شركتهم.
    وعندما صحبت جون إلى (العبّارة) التي ستحمله إلى الدنمارك، اكتشفنا بأن كل الأماكن محجوزة حتى الدرجة الأولى. وفي فترة الانتظار اقترحت الذهاب إلى مطعم. فأشار جون إلى مطعم صغير ليس بعيداً.
    وعندما قدم الطعام الذي كان شهياً وقد حُضِّر باهتمام شديد اختفى الضيق الذي كان بادياً على جون. وأبدى ارتياحه لأنه في الحقيقة كان جائعاً ولم يوافق طعام الطائرة مزاجه.
    ومع القهوة طلبت فاتورة الحساب، لكي يقول لي النادل بأنني ضيف المطعم، وأن بعض الحلوى في طريقها إلينا مع القهوة. ومع استغرابي ظهر مدير المطعم بابتسامة كبيرة.
    لم أكن أعرف أن فرابتس قد صار مديراً لأحد المطاعم بالرغم من أنني كنت أعرف أنه قد عمل في كثير من المقاهي والمطاعم اليوغسلافية. فرابتس تعني باليوغسلافية الطائر النباش وهو طائر صغير داكن اللون يقوم بالنبش بحثاً عن غذائه. وفرابتس ليس اسمه الأصلي بل كنيته.
    وفرابتس كان كثير الحركة تجده في كل التجمعات مرتدياً الجميل من الثياب، كما يغني في بعض الأوقات في الحفلات اليوغسلافية. ويعمل كحكم لكرة القدم لفرق الدرجة الثالثة.
    فرابتس حيّا جون بانجليزية ليست سيئة واعتذر عن عدم تمكنه أن يقدم لنا أكثر نسبة لعجلتنا. ووصفني بأنني رجل كبير ومهم وأنه يتشرف بصداقتي مثل الكثيرين.. والحقيقة أنني كنت أحتاج لبعض التزكية وإظهار العضلات، فجون لم يوافق لأن أكون وكيلهم الوحيد. وعندما ذهب جون إلى دورة المياه قلت لفرابتس أنني أدين له بالشكر. إلا أنه أصر على أنه هو الذي يدين لي بكثير من الجميل والعرفان وأنه لن يستطيع أن يوفيني حقي من الشكر.
    قبل سنوات من زيارة المطعم كنت أجلس في مقهى تيفاني الذي يرتاده الأجانب ويظل مفتوحاً طيلة الليل والنهار، وكنت وقتها أتجنب أن أحمل مسدساً لأنني قد مررت بتجربة مريرة. فبينما أنا أتجول في المدينة قابلت أحد الأصدقاء الذي أصر أن أصحبه للدنمارك لقضاء سهرة لطيفة. وعند رجوعنا في الفجر استوقفنا بعض رجال الجمارك من صغار السن من الذين يريدون أن يثبتوا شيئاً لأنفسهم. ومنظر اثنين من الأجانب كان مغرياً.
    وأخرج أحدهم من جيب سترتي مسدساً في شكل قلم من النوع الذي يحمل طلقة واحدة. وعندما سألني قلت له بثقة هذا جهاز لقياس الضغط، فرده إلي ببساطة. وما أن خرجت من المبنى حتى ألقيت به في البحر. فمن الغباء أن أقضي ستة أشهر في السجن لحيازة سلاح ناري.
    ولم أتذكر بأنني أحمل مسدساً إلا بعد أن تركت المنزل بعد ارتداء المعطف الشتوي لأول مرة بعد نهاية الصيف. ولم أحبذ فكرةا لرجوع إلى المنزل لترك المسدس.
    وفجأة يمتلئ المقهى برجال الشرطة من مجموعة (الملاهي والمقاهي)،الذين يركزون نشاطهم على أندية ومقاهي الأجانب خاصة عندما ترتكب جريمة كبيرة كنهب بنك أو سطو مسلح أو هروب مجرم من السجن.وهم يعرفون أغلبية الأجانب بأسمائهم ويتحدثون اليوغسلافية واليونانية وبعض اللغات الأخرى.
    اضطر الجميع لإخراج محتويات جيوبهم كما طلب من كل إنسان أن يشير إلى معطفه. وتأكد لي بأنني سأكون ضيفاً على الحكومة السويدية لفترة قد تطول. وبدأت أفكر في أبنائي وأهلي والمبالغات التي ستصحب الخبر إذ لن يكون الأمر مسدساً صغيراً من عيار 22 ملم يصعب به إصابة الهدف لأكثر من بضعة أمتار. وسيكون الأمر سفينة كاملة محملة بالأسلحة والصواريخ.
    وعندما تحسس رجل البوليس أندرسون معطفي، لم يجد أي شيء وعندما لاحظ دهشتي أعاد الكرة ولم يجد سوى مفاتيح المنزل ونوتة ضخمة.
    وبعد ذهاب رجال الشرطة ناداني فرابتس لكي يخرج لي المسدس من جهاز غسيل الأطباق الذي كان قد توقف لتوه والمسدس لا يزال ساخناً بعد أن أخذ دورة كاملة مع الأطباق وعرفت من فرابتس بأنني عندما ألقيت بمعطفي أحس هو بشيء ثقيل يرتطم بالمقعد وعرف بتجربته بأنه لابد أن يكون مسدساً.
    بالرغم من أنني كنت أعامل فرابتس بلطف إلا أنني لم أفهم وقتها لماذا خاطر، فالجميع يصفونه بأنه خبيث وجبان والبعض يكرهه لحذلقته وإصراره على الأناقة وربطات العنق الزاهية، والتشدق بأصله الذي يرجع إلى نبلاء الصرب. كما كان يصر على التحدث بالإنجليزية والفرنسية مما يحرج ويضايق بني جلدته الذين لم يحظوا إلا بقدر يسير من التعلم.
    واغتنمت الفرصة لكي أسأل لماذا خاطر تلك الليلة ولماذا هو مدان لي والجواب كان بأنني قد كتمت سره الذي حافظ عليه طيلة حياته ولم أفشه لأي إنسان.
    في إحدى المرات حضر فرابتس سكراناً بعد حفلة أقامها أحد المغنيين الصرب، ومن العادة أن يحضر عدة مرات في السنة. وفي المقهى اشتبك فرابتس في مشادة مع نيكولا البلغاري وأدهشنا فرابتس نفسه عندما قام بصفع نيكولا. ونيكولا ليس ممن يستهان به. وقبل أن يقوم نيكولا بتحطيمه وقفت بينهما وناشدت نيكولا الذي تربطني به صداقة قديمة بأن ينسى الموضوع لأن فرابتس سكران. وتبرعت بأخذ فرابتس إلى منزله لأنني أعرف عدم حب الصرب للبلغار بالرغم من تشابه اللغة. ونيكولا قد وصف عدة مرات بواسطة الصرب بأنه (شوبان) وتعني الراعي وهذه الكلمة تعتبر إساءة وتعني التخلف وعدم المدنية والغباء وتستخدم بكثرة.
    وفي الطريق بكى فرابتس وحتى بعد أن وصل إلى داره جلس يبكي في السيارة محاولاً أن يشرح لي لماذا يكره البلغار. عندما كان في العاشرة من عمره في نهاية الحرب العالمية الثانية كان يرعى الخراف مع أخته التي تكبره قليلاً. فأتت طائرة بلغارية تحلق على مستوى منخفض وتطلق النار على كل شيء يتحرك فقتلوا أخته وبعض الخراف.
    حتى عندما ترك فرابتس سيارتي كان لا يزال يبكي ويقول كلما أرى بلغارياً أتذكر شقيقتي مارتا فليس لي أي أقارب في هذه الدنيا. وكان من الممكن أن تكون لي أسرة وأنباء وأخت. ولهذا أهتم بإبنتي الوحيدة مارتا وأنا أقتر على نفسي وأكدح لكي أهيئ لها كل ما تريد ولكي تبدو كأميرة.
    وقبل أن يحضر جون من دورة المياه قال فرابتس (أنت تعرف أن أكبر إساءة في يوغوسلافيا هي أن تصف شخص بأنه راعي. لقد كنت راعياً وكان أبي راعياً وكذلك جدي وأسرتنا كانت تعمل لأحد النبلاء. ولقد اجتهدت في أن أغير وضعي فتعلمت حسن التصرف وعلمت نفسي الإنجليزية وكذلك الفرنسية لأنني عملت سنتين في جنوب فرنسا قبل حضوري للسويد في الستينيات عندما كانت السويد تعني قمة التطور في أوروبا.
    مارتا ابنة فرابتس تزوجت من شاب صربي وسيم وهو من إحدى الأسر التي حضرت مبكراً إلى السويد وأصابت حظاً ويسكنون في فيلا رائعة ويمتلكون مطعماً كبيراً. والمطعم الجديد كان هدية الزواج للعروسين وصار فرابتس مديراً في مطعم ابنته وزوجها مرتدياً خيرة ثيابه متحذلقاً بعدة لغات.
    قبل أن أودع فرابتس كأن يشكرني لأنني قد حافظت على سره فلو عرف أعداؤه الكثيرون بأنه (شوبان) فقط وليس نبيلاً لما تزوجت ابنته بابن الأسرة التي كانت فخورة بمصاهرة النبلاء.
    عندما ودعني جون كان سعيداً وقال لي أن خطاب الوكالة سيكون في طريقه إليّ بعد رجوعه إلى أمريكا مباشرة. ووقتها كنت أفكر في الطائر النباش لأنني في الحقيقة كنت قد نسيت القصة مباشرة بعد توصيله إلى منزله.
    ----------
    "2"

    الكيس

    لا أدري لماذا لم يكن الصغار ينادون "التومة" بالخالة التومة. بل كانوا يقولون العمة التومة. الحقيقة أن أي شيء يخص العمة التومة كان مختلفاً.
    البعض كان يناديها بـ "بت أبوزيد" وهؤلاء هم الكبار أو الذين عرفوا والدها الحاج أبوزيد، الذي كان تاجراً، وله تجارة واسعة تأخذه إلى جنوب السودان أغلب الوقت. ومنزله في بيت المال عامر. وله عدة منازل أخرى في أماكن مختلفة في أم درمان، يسكنها مجموعة من البشر ويدفع بعضهم إيجاراً للحاج أبوزيد. وعندما يحضر إلى أم درمان كان يقيم الولائم ويحسن إلى أقربائه ومعارفه، خاصة النساء وكن يدعين له كثيراً.
    والنساء اللاتي كن في عمر العمة التومة ينادينها بأم "أبوزيد" بسبب وحيدها. والجميع يحكون كثيراً من القصص العجيبة وبعض القصص ولا شك مبالغ فيها وعرفت العمة بهذا الاسم لأنها توأم. ولد أخوها التوأم ميتاً وبعد ليلتين ولدت "التومة" بعد أن شارفت والدتها على الموت عدة مرات. وفقدت وعيها عدة مرات حتى اليوم الثاني. وقالت القابلة أن الطفل التفت حوله عقدة من حبله السري لأنه كان طويلاً جداً مما أوقف تنفسه. كما قالت القابلة أنها لم تشاهد حبلاً سرياً بذلك الطول من قبل.
    بعض نساء الحي كن عند تعرضهن للسان العمة التومة وردودها المفحمة يدعين بأنها ساحرة قامت بخنق توأمها لأنها تريد أن تكون فريدة. وأن لديها اتصالاً بعالم الشياطين والجن. وعندما كانت طفلة كانت تصارع الصبية وتتغلب عليهم وتسبقهم في الركض. ويقال إنها ذهبت إلى الخلوة مع الصبية وحفظت كثيراً من القرآن وتعلمت الكتابة والقراءة وفي ذلك الوقت عرفت برقية.
    وبالرغم من طولها ومشيتها المعتدلة التي توحي بالقوة والنشاط إلا أنها كانت فتاة جميلة، تزوجت ابن عمها وهي لا تزال فتاة صغيرة. وكان البعض يمزح بأنها هي الزوج لقوة شخصيتها. وقبل أن يولد أبوزيد مات زوجها في حادث غريب. فلقد قتلته فيلة من جنوب السودان. وهنالك عدة روايات إحداها أنه أطلق النار على فيل ضخم وقتله. ولم يلتفت إلى الفيلة التي من العادة تقود القطيع وعندما وجدوه كان كتلة من اللحم والعظم. حتى أن قطع النقد الفضية الكبيرة فئة الريال وجدت في جيبه معوجة. وكان البعض يقول بأنه لم يكن بالصياد الجيد إلا أنه كان هنالك ما يدفعه لكي يثبت أنه رجل شجاع يستطيع أن يصطاد الأفيال ويركب الأهوال. في حين زعم البعض بأنه لم يكن مرتدياً الثياب المناسبة للصيد وأن جلبابه علق بالشوك والأغصان ولم يستطع أن يخلص نفسه بالسرعة المطلوبة، فقتلته الفيلة. وزعم آخرون أن الفيلة سمعت صوت النقود وهي ترن في جيبه وهذه غلطة مميتة لأن الأفيال تسمع أقل الأصوات من مسافات بعيدة.
    كل هذه النظريات غير مهمة. فالحقيقة المرة أن أبازيد مات مقتولاً وقتلته فيلة، وأن مجموعة كبيرة من الصيادين، طاردوا الفيلة حتى قتلوها. لأنه يشاع أن الفيل عندما يقتل بشراً يصير مجنوناً ولا يتوقف عن قتل البشر.
    ونحن صغار كنا نسمع أن العمة التومة كانت في شبابها ترتدي أجمل الثياب وتغطي صدرها وذراعيها بكمية ضخمة من الذهب ولكننا لم نر ذلك، وقيل أن الذهب خبأته كي تقدمه مع كمية أكبر هدية إلى زوجة ابنها في ليلة زفافه.
    أمثال العمة التومة .. كثيرو الاخلاص.. فهي لأكثر من ثلاثين سنة لم ترتد سوى الخشن من الثياب. بل أن ملابسها كانت أقرب إلى ملابس الرجال وحتى عندما تشتري تلك الملابس الخشنة كانت تقوم بغسلها عادة بماء الشاي حتى لا تكون ناصعة البياض. أما حذاؤها فكان "شبشباً" من النوع المعروف بـ "ملجا" نسبة لملجأ الفراش الذي توسط أم درمان ويتعلم فيه الصبية الذين هم أقل حظاً، مهناً مختلفة، إحداها صنع الأحذية البسيطة. وعرف بملجأ القرش لأن الفلوس التي أنشئ بها جمعت بالقرش الواحد.
    ولم تتطيب العمة التومة بعد موت زوجها أو تدهن جسدها بالدهن كبقية النساء، حتى في الشتاء القارس الذي يجفف الجلد ويتشقق، حتى القهوة كانت تشربها بدون سكر.
    ولكي تملأ حياتها كانت تقدم خدماتها ونصائحها لكل أهل الحي. كانت صريحة لا تتهيب أي شيء. والرجال كانوا يتراجعون أمام ثوراتها. وساعدها أنه بعد موت والدها صارت مالكة لعدة منازل تؤجرها مما يتيح لها عائداً جيداً وصارت تقدم مساعداتها وتفرض رأيها في مناسبات الفرح والمأتم. ولم يكن من الإمكان أن يلوك الناس سيرتها أو يلوموها على مقابلة الرجال ومناقشتهم في كل كبيرة وصغيرة. فلقد صار واضحاً أنها لا ترغب في الزواج. وأن الرجل الوحيد الذي يعني لها شيئاً هو ابنها.
    وحاول بعض الرجال خطبتها من أهلها ولكن عرف أن أمرها بيدها ومن يتطاول للتقدم إليها لا مفر من أن يخرج هارباً من بيتها. ولم يجرؤ أي شخص أن يتقدم إليها بالرغم من الثروة التي يسيل لها لعاب الكثيرين.
    ومرت السنون وتحول شعر العمة التومة إلى خليط من الأبيض والأسود إلا أن وجهها احتفظ بجماله. وبدا جسمها قوياً متماسكاً وساعدها أنها كانت تؤدي الأعمال الشاقة بنفسها. فعندما تهطل الأمطار تقوم بحفر الجداول في منزلها ومنازل جارتها بنفسها وتقول إنه لا فائدة من انتظار الرجال. وقيل إنها شوهدت على سطح منزلها تتفقد حالة السقف وفتحات تصريف المياه وهذا شيء لم يسبق أن قامت به امرأة.
    وفي أحد الأيام نادى العم مولى على الطاحون في الطاحونة لكي يساعده على رفع جوال من الطحين على ظهر حماره. والعم مولى يعال كحمال يأخذ الذرة من أهلها ويردها لهم طحيناً. ويغطي الطحين رأسه وثيابه وحماره.
    الطاحونة بمبناها العتيق وبابها المخلع كانت إحدى معالم بيت المال تنتصب الفناطيز بلونها الأسود خلف المبنى والطحان كان يقف عالياً لكي يصب الغلال من أعلى الفتحة ولانشغاله لم يرد على طلب العم مولى الذي وقف حائراً. وفجأة تقترب منه العمة التومة وتقول إنه لا فائدة من الرجال وبنفس واحد رفعت الجوال ووضعته على ظهر الحمار. وكاد العم مولى أن يغشى عليه.
    أمثال هذه القصص كنا نسمعها عن العمة التومة، وطبعاً تضخمت هذه القصص حتى صار الكثيرون على اقتناع بأن للعمة التومة قوة خفية. هنالك قصص اللص الذي ولابد قد سمع بذهب العمة التومة، والنقود التي توفرها من الإيجارات لكي تزوج ابنها، ولابد أن العمة التومة كانت في انتظار اللص فما أن وضع رجله على الحنفية لكي ينزل من الحائط حتى أحس برجله تتحطم لضربة بيد "المدق".
    وأيقظت العمة التومة الجيران وأفهمتهم بأنها قد عفت عن اللص وجريمته وأنها لا ترغب في احضار البوليس. وقيل بأنها كانت تطبخ للص الجيد من الطعام وترسل له الترمس في المستشفى إلى أن شفى فذبحت له خروفاً "كرامة" وأعطته عشر جنيهات لكي يرجع لأهله في جنوب كردفان.
    لم تدلل التومة وحيدها كما توقع الناس. ويمكن القول بأنها كانت متشددة معه وجعلت منه رجلاً يثق بنفسه متفوقاً في دراسته، وبالرغم من أنها كانت تحلم بأن يكون طبيباً إلا أنها لم تفرض رأيها عليه وصار مهندساً. وبدأت نساء الحي يتطلعن إليه كزوج متوقع لكريماتهن فبجانب الوسامة والمهنة فإن له ثروة كبيرة، وذهباً لم يره أحد إلا أن الجميع سمعوا عنه. وأطلقوا لأفكارهم العنان وكان البعض يزعم أنه مدفون تحت عنقريبها والبعض الآخر يقول إنه موجود كأمانة عند أحد الصاغة في السوق.
    أبوزيد كان يميل إلى ابنة عمه وفي أم درمان كان هذا هو الشيء الطبيعي. فعلاقة العمةالتومة بأعمام ابنها جيدة. فلقد تركوا لإبنها ميراثه كاملاً من جانب برغم أن أباه مات قبل جده والشرع لا يعطيه حقاً في الميراث. كما كانوا يهتمون بأبي زيد الصغير كل الوقت. إلا أن زوجة عمه لم تكن تروق للعمة التومة. وحبس الجميع أنفاسهم. الخالة ميمونة كانت قصيرة القامة كثيرة الكلام تحب الضحك والأكل ولا تتحرك نسبة لشحمها إلا إذا اضطرت لذلك. تحكي أسرارها وأسرار بيتها لكل من يريد أن يسمع.
    وصار الزواج في حكم المستحيل عندما سمعت العمة التومة الخالة ميمونة تقول إنها لا تقدر أن تترك ابنها ليتزوج لأنها تريد أن تستمع باهتمامه طيلة حياتها وأنها تنتفخ كلما ناداها الناس بأم المهندس. وأنها تغير عليه من الفتاة التي سيتزوجها.
    من العادة أن تأتي العمة التومة إلى المأتم قبل الجميع. ولا أحد يدري كيف تعرف بتلك السرعة. وتحضر معها الأغراض التي يحتاج إليها أهل المأتم كالقدور الضخمة وصواني النحاس والكافتيرات الضخمة لعمل الشاي والقهوة والأكاليم والبروش والمواقد وتحتفظ في دارها بالشعب والعروق لعمل الراكوبة وأدوات الحفر.
    الشيء المحير أن العمة التومة كانت تعمل بهمة بكثير من الأعمال إلا أنها ترفض أن تأكل في المأتم بل تكتفي بشرب الماء فقط مما يحير الجميع. فقد يمتنع أهل الميت عن الأكل في اليوم الأول بسبب ا لحزن إلا أنهم يرجعون إلى الأكل عن طيب خاطر.
    عدم أكل العمة التومة كان يحير الناس ويعطيها هالة من القدسية كما كانت تسخر من النساء خاصة الشابات القويات اللائي يلقين بأنفسهم على الطعام وينسين الميت. وأخيراً حدث المتوقع فلقد اصطدمت العمة التومة بالخالة ميمونة. فلقد طلبت الخالة ميمونة من العمة التومة بأن تأكل في مأتم وقالت إن عدم الأكل وتعذيب النفس حرام في الإسلام وأن العمة التومة ترتكب ذنباً عندما تشجع الآخرين على عدم الأكل وأن العمة التومة ليست ببشر ولابد أن الجن يطعمها. فسخرت العمةالتومة من شحمها وتمسكها بالشباب وشعرها الذي تصبغه وذهبها الذي يعلن عن قدومها قبل أن تصل باب الدار وحبها للأكل وشراهتها، وأنها تشبه البرميل ولا تسير على الأرض بل تتدحرج. وبعد ذلك صارت الخالة ميمونة تتفادى العمة التومة.
    وعندما توفي والد شيخ الحارة كانت العامةالتومة بمساعدة أحد الرجال ترفع أحد "المروق" لوضعها على الشعب. وفجأة يأتي تيس أحمق في بداية حياته وينطح العمة التومة فتسقط ويصيبها المرق على أم رأسها وتنقل إلى المستشفى ولسوء حظها أن أقرب إنسان إليها كانت الخالة ميمونة التي رافقتها إلى المستشفى.
    لم تمكث العمة التومة كثيراً في المستشفى فالضربة كانت كافية لقتل أي أمرأة عادية. إلا أن الأشعة لم تظهر أي كسر في الجمجمة أو العنق. وعانت العمة التومة من ارتجاج بسيط، وقال الطبيب إن قوتها الجسدية ساعدت في امتصاص الضربة وأنها تحتاج لبعض الراحة فقط.
    بالرغم من المهنئين والذبائح والاهتمام لم تكن العمة التومة سعيدة ولأول مرة في حياتها صارت واجمة ومحتارة على غير عادتها. وأكثرت الشكوى وأبدت الغضب لأن البعض لم يحضر ويمكث بجانبها في المستشفى كما تعمل هي مع الجميع وبدا الأمر غريباً.
    وفجأة تتهم العمة التومة الجميع بنكران الجميل وتسافر إلى جنوب السودان لتزور أختها غير الشقيقة وبعض أهل والدها. وظن الجميع بأنها سترجع بعد فترة قصيرة إلا أنها لم ترجع لشهور طويلة. وبدأ المستأجرون في المماطلة في دفع الإيجار خاصة عندما أحسوا بتساهل أبوزيد ومشغوليته. كما ظهر عدد من النسوة الفقيرات ووضح أن العمة التومة كانت تدفع لهن مرتبات منتظمة. فسافر أبوزيد بالطائرة إلى الجنوب لكي يحضر والدته. إلا أنه رجع لدهشة الجميع بدون والدته.
    وعندها اقترحت الخالة ميمونة الذهاب إلى الجنوب وأنها متأكدة من أن التومة سترجع معها، سفه الجميع رأيها، إلا أنها أصرت ورجعت العمة التومة. وتزوج أبوزيد زواجاً رائعاً وكانت تلك أول مرة تشاهد فيها فرقة موسيقى البوليس. وزغردت العمة التومة لأول مرة في حياتها وضحكت ولبست ملابساً ليست مغسولة بالشاي. وعندما كانت العطور ترش على المدعويين لم تهرب كالعادة بل كانت تتعرض للعطور وتطالب بالمزيد وتتبسط مع النساء والجميع. وبدا الأمر كلغز ونظر الجميع إلى الخالة ميمونة غير مصدقين.
    الشيء الذي كان يثير حفيظة الخالة ميمونة أكثر من أي شيء آخر هو خصر العمة التومة فلقد كان خصر فتاة صغيرة.
    وكلما تقابل التومة تتفحها بدقة. وتنحسر على خصرها الذي ضاع بعد طفلها الأول. ولكن لاحظت أن خصر التومة كان يختفي في بعض الأحيان خاصة في أيام المآتم. كما كانت تعجب لمقدرة التومة أن تظل بدون أكل لأيام وهي تبذل كل ذلك الجهد.
    وعندما رافقت التومة إلى المستشفى مدت يدها وتحسست خصرها وتأكد لها ما كانت تشك فيه فالتومة كانت تلف كيساً حول وسطها به جيوب تمتلئ هذه الجيوب بالتمر والفول السوداني والسكر. فأخذت الخالة ميمونة الكيس وخبأته ولم تخبر به أحداً. فالخالة ميمونة بالرغم من ثرثرتها لا تفشي بسر لا تريد إفشاءه.
    وعندما أفاقت العمة التومة عرفت أن أمرها قد كشف، وأن عالمها قد تهاوى وأنها تحت رحمة غريمتها. فخلقت قصة عدم اهتمام ا لناس بها فتركت بيت المال وأم درمان هاربة. وعندما ذهبت الخالة ميمونة إلى الجنوب كانت تحمل معها الكيس وأفهمت التومة أنها كانت تشك في القصة منذ البداية وأنها قد أخفت الكيس من الجميع ولم تخبر به أحداً.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de