|
قراءات-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
|
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. يُعَدُّ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر – أحد ضمانات التعددية لأنه ليس إلا ترخيصاً بحرية الفكر وتأكيداً عليها إيجابا وساباً – ولو أنعدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لكان من المحتمل دخول منكرات لا عداد لها دون احتجاج أو نقد ولكان من الممكن لبعضها القضاء على التعدّدية نفسها، ولكان من الممكن أيضاً أن لا يوجد المعروف، أو أن تكون ممارسته ممارسة سيئة دون أن يوجد من يصحح السقيم ويستكمل الناقص أو تكون القاعدة فى هذا المجتمع هى "الأنا مالية" "أنا مالي" .. ولكن إساءة فهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن تجعل منه أداة لوأد التعدّدية، أو الحيف عليها لا أن يكون ضمانا لها. عندما يتخذه أنصار النظرة الأحادية، وأصحاب شعار " قولاً واحداً " سلاحاً بتّاراً يسلطونه على كل صاحب نظرة مختلفة، وقد لا يتسبب عن هذا شر مستطير ما دام محصوراً فى إطار الفكر (أو اللسان – كما يشير الحديث المشهور"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع بلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان) ولكن يغلب أن ينتقل من إطار الفكر واللسان إلى مجال اليد والعمل لأن الحديث جعل الأولوية للتغيير باليد، وإنما جعل اللسان والقلب عند عدم الاستطاعة. لقد جاءت صياغة الحديث الذى يعدّ عماد هذا التوجيه مختلفة عن صياغة القرآن. فهذه الأخيرة تقتصر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فى حين أن الحديث يتضمن تغييراً لا مجرد أمر ونهى وحدد له ثلاث مستويات هى اليد، واللسان والقلب، ولابد لاختلاف هذه الصياغة من مبرر. فى نظرنا أن تضمن الحديث التغيير باليد إنما يراد به حالات معينه لا يكون فيها بديل آخر. فإذا وجد أحدنا فرداً يحاول القيام بجريمة ما كأن يشعل ناراً فى بيت أو يضرب حيواناً بقسوة.. أو حتى يحاول الانتحار عندئذ يصبح اللواذ باليد أمراً لا مناص عنه.. أما ما يورده الفقهاء عن سلطة للفرد على آخرين تعطيه حق التأديب كسلطة الأب على الابن والزوج على الزوجة، فهذا ما لا نفضل الخوض فيه تأسيا بالرسول الذى ما ضرب أحداً قط، ولا خادماً. ونعتقد أن تفسير حديث "من رأى منكم منكراً.." لابد أن يستصحب الآيات العديدة التى حدد الله تعالى للرسل طريقة التبليغ، وضرورة الاقتصار عليه، والحذر من أن يأسى لرفض المشركين. أو أن يحاول اكتساب الإيمان بمختلف الطرق. فمن غير المعقول أن يتصور أحد من عامة المسلمين أو خاصتهم أنه أكثر غيرة على الإسلام من الرسول، أو أن عليه أن يفعل أكثر مما وجّه القرآن رسوله .. ويلحظ هنا أن القرآن أكد هذا المعنى مراراً وتكراراً وأوضح للرسول .. • ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ {272 البقرة} • ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ {56 القصص} • ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ {8 فاطر} • ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ {99 يونس} وحدد القرآن للرسول ما يفعله عند إعراض من يدعوهم .. • ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ {41 يونس} • ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ {12 هود} • ﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ {40 الرعد} • ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ {94 الحجر} • ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ {82 النحل} • ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ {45 ق} • ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ﴾ {52 – 54 الذاريات} • ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ {6 الشورى} • ﴿أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى﴾ {5 – 7 عبس} • ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ {21 – 22 الغاشية} وهذه الآيات التى تقصر صلاحيات الرسول على التبليغ دون محاولة الهداية تقرر حق الآخرين فى الرفض، وأرجاء حسابهم إلى الله تعالى يوم الدين، وتوجه الرسول لأن لا يستشعر غضاضة من ذلك أو يحس ضيقا لأن الله تعالى يعلم ما لا يعلمه من طبيعة النفوس التى جبلها الله، وأن الإلحاح فى الوعظ أو الجذب قد يوجد أثراً عكسياً. فى حين أنه لو ترك وشأنه فربما يعيد التفكير فيتوب ويتوب الله عليه وقد يعمل الكثير من الحسنات ليكفر عن سيئاته ويجعل الله تعالى سيئاته حسنات.. فضلاً عما يعلمه الله من غيب لا يعلمه الرسول، فقد يكون لهذا الرافض مستقبل فى الإيمان وخدمه الإسلام، وهل هناك من كان أشد عداوة للإسلام – فى فترة ما – من خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وقد أصبحا من قادة الإسلام الإعلام. هذه كلها آفاق قد لا يلم بها الآمر بالمعروف والناهى عن المنكر خاصة إذا لم يكن عميق الخبرة بالنفس الإنسانية، وهى صفة قلما تتوفر لعامة الناس، وإنما تتوفر لديهم بدلاً منها الحماسة والاندفاع. فهذه الآيات ترسم للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الموقف الأمثل بحيث يُعرف أن دوره ينتهى بمجرد الأداء باللسان أو القلب. أما تطبيق التغيير باليد فلا يكون إلا فى حالات الضرورة المحددة التى أشرنا إليها آنفا، وفى غير هذه الحالات تكون أى محاولة لتغيير المنكر باليد مجافية تماماً لروح الآيات، ولن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أكثر حرصاً على الإسلام من الرسول الذى كلفه الله بحمل رسالة الإسلام ولن تكون عاطفته أشدّ وحرصه على الهداية أعظم، ومع هذا فقد وجّهه القرآن ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى﴾ .. فهذه الآيات هى التى تفسر طريقة فهم وتطبيق حديث تغيير المنكر وهى حاكمة عليه، وضابطة له لأن من أعسر الأمور التفرقة ما بين النية الموضوعية الخالصة فى التغيير، وما يمتزج بها امتزاج اللحم والدم من مشاعر شخصية، وانطباعات خاصة ورغبة فى النهي والأمر "والشخط والنتر" وهى تعود إلى الزهو والغرور، وهما من الموبقات ، ومحاولة تلبيس المعنى الخاص الثوب العام، وهى صورة من النفاق النفسى الذى يتطرق إلى النفس بأخفى من دبيب النمل .. ومما يلفت الانتباه أن كل الكتابات التقليدية عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغيير المنكر باليد انحصرت فى تدمير المعازف وما يمت بصلة إلى الموسيقى وتحطيم أوانى الخمر وإلزام النساء بالنقاب والخمار الخ.. وقد استهلكت هذه المجالات الثلاثة جهود كل الكاتبين عن هذا الموضوع من الفقهاء القدامى حتى الكتاب المعاصرين، ولم يتحرك أمر بالمعروف أو إنهاء عن المنكر لمقاومة استبداد الحكام الطغاة.. ولم يفكر أحدهم فى التنديد باستغلال الأغنياء للفقراء ووجود من لا يملك قوت يومه.. ومن يوجد لديه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ولم يثر ثائر على الجهالة والأمية فى حين أن أول كلمة فى الإسلام كانت اقرأ.. وأن رسالة الإسلام كانت إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأنه عندما أراد أن يصم العهد السابق عليه أطلق عليه "الجاهلية". وهذه الاتجاهات بالإضافة إلى ما أشرنا إليه فى الفقرة السابقة عن ادعاء الغضب لله والثورة لمحارمه ودخول العامل الذاتى فى ذلك هو ما يوضح لنا أن الصورة فى أذهان "الإسلاميين" سواء القدامى والمحدثين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تختلف عما أمر به القرآن وطبقه الرسول . مما يوحى بأن ما يجاوز الأمر باللسان أو النية فى القلب إلى ممارسة تغيير باليد منسوخ بنص الآيات القرآنية، باستثناء حالات الضرورة التى يؤدى فيها الموقف السلبى إلى مشاركة فى جريمة وهو أمر تجرمه معظم القوانين الوضعية. وفي ثلاثينات القرن العشرين تملكت الحماسة لفيفا من أعضاء "مصر الفتاة " للقضاء على الحانات فداهموا عدداً منها ودمروا مقتنياتها، وقبض البوليس على الذين قاموا بذلك وقدموهم للمحاكمة، وفى هذه المناسبة أرسل الإمام حسن البنّـا رحمه الله خطاباً مفتوحاً للسلطات نشرته مجلة "الإسلام" في العدد 49 السنة السابعة الصادر فى 17/2/1939 ص 6 أستنكر فيه هذا الفعل {تدمير الحانات} والطريقة التي تم بها، ولكنه فى الوقت نفسه وجه نظر السلطات إلى المعاني الموضوعية التى دفعت بالشباب إلى هذا العمل، واعتقد أن مسلك الإمام البنّـا هذا هو المسلك الأمثل من زعيم إسلامي كبير يقدّر كافة الأبعاد والعوامل. وجاء في هذا الخطاب .. "لست أُقر أحداً على أن ينتفض على القانون ولست أدعو إلى العدوان في أية صورة من صوره. فقد نهانا القرآن عن العدوان، ولكنى أعتقد أن عناصر الجريمة في هذه القضية مفقودة تماماً والقصد الجنائى منعدم تماماً فليست بين هؤلاء الشباب، وهذه الحانات وأصحابها صلة تحملهم على الانتقام والإجرام، وإنما حملهم على ذلك دافع شريف جدير بالتقدير هو في الواقع مساعدة للقانون على أداء مهمته، وهي محاربة الجريمة والقضاء عليها، وسد المنافذ التى يدخل منها المجرمون إلى انتهاك حرمة القانون" .. وفي السبعينات شهدت مصر انتشار ظاهرة النهى عن المنكر خاصة فى الصعيد، وبين طلبه جامعتها ووصل الأمر إلى حرق أندية الفيديو، بينما كان طلبة الجامعة يترصدون لكل من يسير مع سيدة ويطالبونه بإثبات علاقته بها. كما كانوا يوقفون المحاضرات بمجرد أن يرفع الآذان .. وأخيراً سمعنا في أبريل عام 2000 عن اعتداء بعض الشباب على فتاه كويتية غير محجبة فضربوها، وقصوا شعرها.. مما كان له أسوء الأثر.. في المجتمع الكويتي. وهذه الصور من الأعمال هي فى صميم ما قامت من أجله هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندما تكونت فى العقد الثالث من القرن العشرين فى السعودية، وتحدث عنها كاتب سعودي بمجلة "المجلة" فقال : "كان أعضاء الهيئات يمشون فى الأسواق فيمنعون الاختلاط والسفور ووقوف الرجال فى طريق النساء لغير حاجة وتطفيف المكاييل والموازين وظلم الدواب، كما يمنعون الحلاقين من التعرض للحى زبائنهم بقص أو حلق، ويؤدبونهم على ذلك ويمنعون القزع (هى قصة من قصات الشعر كان يطلق عليها قصة التواليت، وكانت منتشرة فى أواخر الستينات، وطوال فترة السبعينات) ويقومون بقص الرأس المقزوع، ويمنعون التدخين ويؤدبون عليه ويصادرون التبغ من الدكاكين ويحرقونه، ويؤدبون بائعيه ويقيمون الناس إلى الصلاة حين المناداة لها، وإذا عثروا على من ارتكب حدا رفعوا أمره إلى رئاستهم فيتولى المحققون فيها التثبيت مما فعله المتهم، ثم يرفعون نتائج التحقيق إلى الرئيس العام فيصدر بدوره ما يلزم من جلد أو نفى أو حبس، ويمنعون تصوير ذوات الأرواح ويكسرون صورها، ويمنعون اللهو الحرام ويكسرون ما يجدون من آلاته من دون أى قيد، ومهما كان ثمنها، ويمسون من يجدون هذه الأشياء فى حوزته بشىء من العقاب الفورى جزاء على حيازته لهذه الممنوعات شرعاً، كما أن هناك سجنا خاصاً بالهيئات، يودعون فيه من يجدونه من المذنبين، فيقضون فيه ما حكم عليهم من حبس وخلافه. وقد قننت هذه المهام فى المادة التاسعة من نظام الهيئة الصادر فى المرسوم الملكي رقم 3/37 بتاريخ 26/10/1400 إذ ضمت هذه المادة خمسة عشراً واجباً يكون على أعضائها القيام بها."[13] ونرى أن هذه صورة سقيمة لتطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كانت وليدة طبيعية للمناخ السعودي وللفقه التقليدي (البدوي) السائد فيها. أما الصورة المثلى فيفترض أن تختلف شكلاً وموضوعاً. ففي الشكل تأخذ طبيعة جماعية وليست فردية، وذلك بتكوين الجمعيات والهيئات لذلك. لأن العمل الفردي، وإن كان له أهميته التي يحرص عليها الدين ويحميه من الإفتيات باعتباره ممثل الحرّية الفردية الثمينة، والتي هي أساس كل الحرّيات. إلا أنه لم يعد – أي العمل الفردي – فعالاً فى عالم التنظيم والتنهيج.. وأما في الموضوع أو المضمون فيجب التركيز على الأمر بالمعروف أكثر من النهي عن المنكر، ليس فحسب اتباعاً للترتيب فى الآية، ولكن أيضاً لأن الإيجاب أفضل من السلب. ويغطى هذا المضمون مجالات مثل إشاعة الثقافة والمعرفة والإلمام بالمهارات المطلوبة للمجتمع وتعليم الجاهلين، وقضايا العدالة الاقتصادية والتكافل الاجتماعي الخ.. وقد يؤدى ظهور هذه الجمعيات وحديثها فى الدعوة إلى تكوين جمعيات معارضة، وبهذا تتحقق التعدّدية ويظهر الرأي والرأي الآخر ويتصارعان فى مجال الفكر ويتحقق الثراء للقضية، ويظهر فى النهاية الرأى الأفضل، حتى وإن لم ينفرد بالساحة لأن هذا ينافي طبيعة التعدّدية.
من كتاب التعددية في مجتمع إسلامي- جمال البنا
منتدى النيل
|
|
 
|
|
|
|
|
|
|