|
تشارلس كروثامار:الفيلم الفائز بطل مقاومة قومية لم يقاوم طبيبا..!
|
انتهت المسابقة.. الفيلم الفائز بطل مقاومة قومية لم يقاوم طبيبا..!
تشارلس كروثامار*
انتهت المسابقة. فجائزة أفضل فيلم وثائقي واقصر فيلم فاز بها «فحص اسنان صدام». كاتب الفيلم: اللواء الاول التابع للفرقة الرابعة للمشاة الاميركية. المنتج: مؤسسة بول بريمر، بغداد. المخرج: عبقري مجهول بالمركز الرئيسي لقيادة القوات الاميركية اختبار هذا الجزء كأول لقطة لصدام حسين غداة وقوعه في اسر القوات الاميركية. كان الطاغية المهزوم يجر عبر الشوارع خلف العربات الرومانية التي تجرها الخيول، او يعرض أمام الناس وهو مقيد بالسلاسل. وعندما تكون هناك مطالب بوضع نهاية له، يوضع رأسه على قضيب معدني أعلى برج بحيث يتمكن الناس من رؤية رأس الطاغية. إلا ان العراق له وسائله الخاصة به فيما يبدو. ففي ثورة عام 1958 القي القبض على رئيس الوزراء نوري السعيد بواسطة جمع من المتظاهرين وتم قتله وجر جثته بواسطة سيارة عبر شوارع بغداد الى ان لم يبق منها سوى نصف ساق فقط. نحن الاميركيين لا نفعل ذلك بهذه الطريقة. فقد عرضنا صدام حسين وهو يفتح فمه بإذعان وخضوع مثل طفل لإجراء فحص على الاسنان والقمل. ولكن ليس هناك ما هو افضل من حساب الاشياء على هذا النحو لجعل الامور أقل غموضا حول هذا الطاغية المطلق. كان منظرا جميلا. ولكن هناك ما هو اكثر من مجرد ذلك المشهد. فقد كانت تلك لحظة تاريخية مهمة، إذ ان هناك ما هو اكثر عرضة للمخاطر بخلاف مصير صدام حسين. باتت عرضة للخطر فكرة الحقد الفردي التي لم تكلف العرب أرواحا بريئة فحسب بل عرقلتهم عن التقدم لمدة نصف قرن تقريبا. ظل صدام حسين اكثر نماذج الفكر القومي العربي المشوهة بشاعة وعدوانية، وهو نوع ظهر خلال حقبة ما بعد الاستعمار على خلفية الانتصار الكبير للأمة العربية ووعد بإعادة الإصلاح. إلا ان الامر المثير للسخرية هو ان مناهج وايديولوجية ذلك التوجه مستوردة من الغرب. فحزب البعث قام على اساس الاحزاب الفاشية التي نشأت في اوروبا خلال مطلع القرن الماضي. اقتصاد هذه الاحزاب قائم على اساس الاشتراكية الغربية في اوج قمعها وفسادها. دمج صدام حسين بعد ذلك بين الاثنين مما افضى الى نظام حكم استبدادي تفوّق حتى على القسوة التي صممت على نحو متعمد على النموذج الستاليني. مصير صدام حسين امر غاية في الاهمية لأنه آخر وأكبر ادعياء القومية العربية، رغم انه اضفى عليها طبيعة سادية ليس لها مثيل في العالم العربي. تيار القومية العربية لم يجلب سوى الفقر والفساد واليأس والتعذيب والدمار لأجزاء كبيرة من العالم العربي. فالمقابر الجماعية في العراق ستظل اثرا باقيا. هذا هو السبب الذي يجعل من المهم ليس اعتقال صدام فحسب وانما أيضا الكشف عنه، ومن خلال ذلك النفوذ الذي مارسته القومية العربية المتطرفة لفترة نصف قرن من الزمن على الشرق الأوسط بأسره. وكان من المهم أن يكشف عن راعي القومية العربية كما ظهر جبانا مثيرا للعطف. وكان من المهم، اخيرا، الاطاحة بما سماه فؤاد عجمي «قصر أحلام العرب». ومن أجل ازالة الخيال المفرط الذي ارتكبه صدام ومريدوه من المثقفين العرب ممن فكروا في أن عظمة العرب، التي كانت قد شيدت ذات يوم على أساس حضارة رائعة في العلم والثقافة والتسامح، يجب أن يعاد بناؤها عبر الدم والسلطة والقسوة. وقد بدا كما لو أن ذلك الخيال الذي كان قد جرى التعامل معه قد تعرض الى عاصفة مهلكة عندما سقطت بغداد على حين غرة يوم التاسع من ابريل (نيسان). وبدلا من معركة بغداد الموعودة، لمواجهة وربما ايقاف الأميركيين في قتال شوارع بطولي، لم يكن هناك أي شيء، سوى الانهيار المخزي. وقد أصابت الصدمة والاذلال وسائل الاعلام العربية خصوصا قناة «الجزيرة» الفضائية التي مجدت طويلا بطولة صدام حسين وروجت لمزاعم وزير اعلام بغداد المثيرة للسخرية. وتعين عليهم أنفسهم الاعتراف بأن هذا كان الضربة السيكولوجية الأقوى للمزاعم القومية العربية منذ أن ألحقت اسرائيل الهزيمة في حرب الأيام الستة في يونيو (حزيران) 1967 بالزعيم المغرور جمال عبد الناصر. ولكن جاءت المقاومة العراقية بعدئذ: اراقة دماء الأميركيين، والشكوك داخل البلاد، واتهامات «المستنقع»، ورؤى فيتنام، وفكرة أن الولايات المتحدة قد تلحق بها هزيمة في نهاية المطاف، لتترك الميدان مرة أخرى لصدام حسين. وفي هروبه تمتع صدام بآخر لحظات الأسطورة: المقاتل المقاوم الواسع الحيلة والذي لا تثبط همته. وربما اعتقد البعض أنه قد حسب لكل شيء حسابا مسبقا، متسللا من بغداد ، مثل انسحاب الروس من موسكو أمام نابليون، من أجل أن يخدع الأميركيين لكي يوجه ضربة في وقت لاحق في حملة حرب عصابات يكون عقلها المدبر الشخص العظيم الأوحد نفسه. وفي ما بعد وجدوه جاثما مرتعدا في حفرة أشعث الشعر، مرتبكا، ومجللا بالعار. وبعد أن سجل تلك الأشرطة السرية التي تحرض الآخرين على بذل دمائهم من أجل العراق ومن أجله، كان رد فعله الفوري على اكتشافه الاستسلام برفع الأيادي. هذه هي نهاية الأسطورة. فلم يكن الأمر يتوقف عند حدود عدم مقاومته الجنود بالسلاح، بل انه لم يقاوم الطبيب الذي كان يضع على لسانه جهاز الفحص.
* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط
|
|
|
|
|
|