تل صغير تكوّم أمام باب تلك الدار ، قبل سنوات عديدة كنت أزور هذه الناحية ، أتنسم عليل هوائها ، وأنعم بطيبة أهلها ، وأغازل حسانها . هناك كانت تقف شجرة خضراء يجلس تحت ظلها أناس كثيرون ، ، في الضحى كانت تلك الشجرة تتحول إلى سوق كبير يباع فيه كل شيء يحتاجه الأطفال ، وبعض ما يحتاجه الكبار . وفي العصر تتحول إلى ورشة عمل تحاك فيها المناديل والطواقي ، وتنسج فيها العناقريب ، وتعقد فيها شباك الصيد . وفي الليل تنام إلى جذعها المواشي ، وتهرش عليه الحمير جلودها السميكة . هذا التل الصغير لم يكن هنا ، أذكر أن تلا آخر كبيرا كان هناك ، في البعيد ، يزوره الأطفال مساء تحت ضوء القمر ، فوق رمال ذاك التل يلعبون ويرسمون ويشيدون ، مبان ، وآمالا ، ويصنعون قصص الحب . وهناك يختزنون ذكرياتهم تحت حبات الرمل . ذاك التل الكبير الذي كان هناك في البعيد ، لا أراه الآن ، لأنه لم يعد هناك . أتراه ارتحل أيضا مثلما ارتحلت أنا ، وغاب ولم يعد . أتري هؤلاء الذين نهشوا كل لحم ونخروا كل عظم لم يعجزهم أيضا أن ينهشوا ذاك التل . سمعت مرة أن ذاك التل الكبير قد تعرض لحالة نزاع . طرفان اختصما على ملكيته ، كل واحد منهما ادعاه لنفسه ، وهو في الأصل لم يكن ملكا لأحد منهما . كان ذاك التل ملكا للأطفال ، ومرتعا لهم ، يهاجرون إليه ليلا ، ويبقى طيلة النهار لا يحرسه إلا حر الرمل ، وسموم الريح اللافح . سألتني تلك الصبية الغريبة اللسان ، وهي تقف بجواري حتى كادت تلامسني ، فهي مني لحما ودما ، خرجت من بين صلبي وترائبي ، سألتني سؤالا حائرا . تجاهلته أول الأمر وأنا أحاول استعادة خارطة تلك الناحية ، لكني فجأة تذكرت أمرا جللا . هنا أيضا كانت تعيش صبية أخرى ، شبيهة بهذه الواقفة بجواري ، لكنها لم تكن مثلها غريبة اللسان ، ولم يكن السموم يستطيع أن يلفح وجهها ، ولا تستطيع الأتربة ان تدخل إلى عينيها . هذه غير تلك ، بالرغم من أن هذه خرجت من تلك . تلك التي عاشت صباها هنا تركتها هناك في بلاد بعيدة ، واريتها الثرى ذات ليلة باردة لفحني بردها كما يلفح سموم هذه الناحية وجه ابنتها التي لم تورثها لسانا ولم تورثها عادة . الصبية الغريبة اللسان قالت متسائلة بلسانها الغريب : يبدو أنه لم يمر أحد من هنا منذ عدة سنين ، هل أنت واثق من أنك وصلت أرضا تعرفها ؟ شرعت ألتفت ذات اليمين وذات الشمال ، استدعيت الشرق ، وأتاني الغرب ، وغصت داخل عينيها . كانتا سوداوان غاية السواد ، ولون وجهها الكاكاوي يزيدهما عمقا فيطغى سوادهما على بياضهما . هكذا كانت أمها ، تتشح بالسواد ، وتحتفي به ، تتمدد أمامي عارية سوداء ، تحرك عينيها السوداوين في كل اتجاهاتي ، تستجيب لكل حواسي ، تراقصني تماما كما كنا نتراقص فوق رمال ذاك التل ، لكنها لم تثمر إلا تلك الفتاة الغريبة اللسان . جاءتني صورتها سوداء في عزّ النهار ، فامتزجت بالصبية الغريبة اللسان، وحدثتني بلسانها الذي أعرفه . تناهى إليّ أنينها ذاك الذي كانت تزفر تحت وهج الغربة ، تقول لي بوضوح : ألا يكفيك أن أكون ملاذا لك ؟ ألست لباسا لك ؟ لماذا تحاول الهرب مني إلى غيري ؟ تمطرني بوابل من الأسئلة ، نفس الأسئلة التي كانت تتوالى عليّ وأنا هناك . أخذت منها كل الدفء الذي اكتنزته لي في جسدها . منحتني دفئها ، وماتت من شدة البرد . ومع أنفاسها الأخيرة رددت الشهادتين ووهبتني تلك الفتاة الغريبة اللسان . الشمس الوهاجة تتجه غربا ، حيث كان التل هناك ، يمنحنا إحساسا كاذبا بان الشمس توارت وراء الأفق ، لكن الأطفال كانوا يسخرون من الكبار حين يسمعون النداء يتعالى مبكرا . والشجرة كانت تظل من يجلس هنا . التل الصغير الرابض أمام الباب لا يحجبنا عن مغيب الشمس ، والشجرة لم تعد هناك لتظل من يجلس تحتها ، والصمت يحيط بالمكان . ناديت بأعلى صوتي فلم يجبني أحد ، ولم يرتد إليّ صدى صوتي ، فالتل ليس واقفا مكانه ليرد الصوت ، والفتاة غريبة اللسان تسد أذنيها من شدة صراخي ،، المكان كله تلفه الكآبة، وأنا أخشى الليل ، والقمر هنا لم يعد يضيء . هناك فهمت أن لا أحد هنا ، حتى القمر غادر ، فقط هذا التل الصغير يحرس ذاك الباب ، ويمنع الفضوليين مثلي ، ويمنع الصبايا غريبات اللسان من الولوج إلى عمق المأساة ، وشمس الظهيرة الحارقة تلهب السموم وتصبها فوق وجوههن . الكاميرا التي ورثناها من تلك التي واريناها الثرى البارد لا تعمل هنا ، السموم الساخن أيضا يلفح وجه الكاميرا كما يلفح وجوهنا ، فنعود أدراجنا ، ونحن نجد أننا أكثر احتمالا على إزالة كومة الرمل التي تحرس الباب ، لكن الرمل يثور ويدخل إلى أعماق أعيننا ، فيأخذنا الطوفان نفسه ، ذاك الذي أخذ التل الكبير ، وراح به بعيدا ... بعيدا .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة