|
مؤتمر الخريجين في ذكراه السادسة والستين
|
مؤتمر الخريجين.. العقلية المفارقة ومفارقات الواقع
لا تسعى هذه المقالة للتاريخ لمؤتمر الخريجين، بقدر ما تهدف لقراءة المؤتمر على ضوء الذهنية التي إبتدعته، وعن المآلات التي صار اليها بسبب مفاعيل الواقع، وأين استقر به المقام عبر المصطرعات المتعددة التي تقاذفته ومن مِن فرقائه حط على أي شاطئ. من خلال قراءة الخلفية التاريخية التي قام فيها مؤتمر الخريجين العام في فبراير 1938م، نجد أن العقلية التي دعت اليه هى عقلية كوزموبولتانية متجاوزة لأطر الواقع المتخلف على مختلف مستويات بناه الاجتماعية، علاوة على ما كان يكتنف ذلك الواقع من وضع إستعماري عمد منذ مجيئه الى تكريس حالة التخلف في المجتمع والمراهنة على قواه التقليدية المتمثلة في الطوائف، العشائر والقبائل والأعيان في أحيان، وفي أحيان اخرى اللعب على التناقض الناشئ بين هذه القوى حسب مقتضيات الضرورة فضلاً عن عزل جزء هام من البلاد- وهو الجزء الجنوبي- واعتماد مسار تطور له مختلف عن رصيفه الشمالي... لقد كان التحدي الماثل امام مؤتمر الخريجين السودانيين هو ايجاد صيغة مؤسسية يتطور من خلالها «شيخ الاندية بام درمان» إلي منتدى يضم الخريجين السودانيين آنذاك ويجعل لهم صوتاً متميزاً عن بقية قطاعات المجتمع، ومن ثم طرح نفسه كبديل نضالي في وجه الاستعمار من خلال فضح وتعرية القوة المماثلة للاستعمار وهى قوى الثالوث المتمثل في الاستعمار، الطوائف والقبائل والأعيان بمن فيهم كبار الخريجين الذين استطاع الاستعمار ان يدجنهم.
غني عن البيان أن مؤتمر الخريجين لم يأت هكذا منبت الجذور بل كان وريثاً لكل حركات المثقفين التي انتظمت الحياة الثقافية والفكرية منذ ما بعد ثورة 1924م مروراً بمدارس القراءة في أبي روف وجمعية ودمدني وصولاً الى مدرستي النهضة 1931م والفجر 1937م وما حملتاه من مناقشات ومساجلات تراوحت موضوعاتها بين حرية المرأة الى الحديث السافر عن الأوضاع السياسية السودانية وما يليها من حقوق. وقد رأي صاحب الدعوة الى تأسيس مؤتمر الخريجين بصورة واضحة ضرورة قيام المؤتمر لا بوصفه وحدة تلفيقية بين الخريجين، وانما لوحدة المثقفين العضويين بلغة انطونيو غرامشي 1891-1937 حيث نسمعه يقول في معرض دعوته لوحدة الخريجين : (فواجبنا الأول هو الإتحاد الفكري واعني بالاتحاد الفكري انتقام الطبقة المستنيرة- ولا أقول المتعلمة- في هيئة محكمة لاستغلال منابع القوة والنظام في هذا البلد واستغلالها في شتى النواحي في الدعاية، في التعليم والتربية، في المالية والتجارة وفي الرياضة والفن وفي الخبرات والاجتماع...) نقلاً عن محمد ابو القاسم حاج حمد في كتابه السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل - المجلد الاول ص 359.
واضح إننا هنا إزاء خطاب حداثوي مفارق لأطر البنى الفكرية التي كانت قائمة آنذاك، بل وابعد من ذلك حيث تمضي مع صاحب الفكرة أحمد محمد خير المحامي الى خلاصة حديثه حينما قال مستنكراً ومحفزاً اقرانه: (لم سمح لنفسه- أي المثقف- بالتفكير في كل شئ وقد عمل الجليل وشاد العظيم من الأسس الا ترتيب الصفوف وتنظيم القيادة؟ الا الثورة على هذا النظام العتيق البالي، الذي لايتمشى مع تطورات فكره وأحوال زمانه) «حاج حمد المصدر نفسه ص 360» إن الموقف الحداثوي هنا يتجلى ليس فقط في النقد الذي يتناول به الواقع، وانما يمضي به الى ابعد ذلك الى تشكيل الأطر التنظيمية التي تستوعب طاقات المثقف وتعمل على تفجيرها من أجل الثورة على الواقع، وهكذا يكون خطاب الحداثة في دعوة أحمد خير المحامي مرتبطة بلحظة تحول المثقف من كم مبعثر الى كيف مؤطر منطلق نحو إنجاز تاريخي هادف، وهو في فحواه الثورة على النظام العتيق البالي، ونكاد نجزم بالقول أن احمد خير بدعواه هذه قد وضع أول لبنة لمؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني بالمعنى القانوني ذي العلاقات الأفقية متجاوزاً به أشكال العلاقات الترابطية الرأسية كالأسرة، العشيرة والطائفة وقد كان واضحاً في ذلك إذ وصل بحديثه للقول اذا ما انتظم السوداني المستنير في رابطة أو مؤتمر أو نقابة مركزها لجنة النادي بام درمان وفروعها في الأقاليم، اذا ما نشر برنامجه القومي نكون عرفنا وحددنا واجبنا السياسي) «حاج حمد نفس المصدر ص 361».
مهما يكن فقد تلقفت جموع الخريجين دعوة الأستاذ احمد خير وتنادوا الى اجتماع لهم ضمهم في فبراير 1938م حيث انبثق مؤتمر الخريجين العام، الذي كان مقدراً له ان يقود حركة النضال الوطني ضد الثالوث المار الذكر حين وصل به الأمر في عام 1942م الى رفع مذكرة للحاكم العام تضمنت فيما حوت من مطالب. اعطاء السودان حق تقرير مصيره، الغاء قانون المناطق المقفولة وتمكين السودانيين من استثمار الموارد التجارية والزراعية والصناعية وبهذه المطالب السافرة سياسياً أخذ مؤتمر الخريجين زمام المبادرة في مواجهة مباشرة مع الاستعمار البريطاني، كما أخذ نموه يتصاعد كهيئة تمثل ليس فقط الخريجين وحدهم وانما كل الشعب السوداني وبموجب هذا التمثيل طرح المؤتمر نفسه في مواجهة القوى التي كانت تسعى لاحتكار التحدث باسم السودانيين ممثلة بشكل أخص في زعامة طائفتي الأنصار والختمية، اللتين كانتا تتقاسمان النفوذ الجماهيري. غير ان هاتين القوتين لم يكن لهما أن ينتظرا المؤتمر ليسحب البساط من تحت اقدامهما، فعملاً كل بحسبما عنّ له من أسلوب لتطويق المؤتمر من خلال المنعرجات السياسية الحادة التي كان يتعين على المؤتمر ان يمر بها، وفي خضم صراعات حادة تتجاذبها قوى الاستعمار المتمثل في الحكم الثنائي الانجليزي المصري وما اقتضى ذلك من تكتيكات انقسمت على إثرها قوى المثقفين السودانيين حيث طرح أكبر شعارين في تاريخ السودان الحديث (وحدة وادي النيل) و(السودان للسودانيين). من خلال تتبع الرسم البياني لمسار المؤتمر نجد أنه قد بلغ أعلى نقطة له في موقفه المتطرف من المجلس الاستشاري لشمال السودان وقد اعتبر كل من يشترك فيه من أعضائه مفصولاً من المؤتمر وقد كان ذلك الرفض مؤسساً على: - ان المجلس لم تكن له سلطات تشريعية - اقصاء الجنوب ينطوي على تهديد الوحدة الوطنية - اغلبية اعضاء المجلس من زعماء العشائر
على أثر هذا الموقف انسحب من المؤتمر كبار الخريجين تبعهم في ذلك الموقف طائفة الانصار التي انضمت للمجلس الاستشاري والتي كونت فيما بعد أى عام 1945م حزب الأمة ليكون واجهة سياسية لها، بينما في المقابل ظل المؤتمر تحت قيادة الأشقاء بزعامة إسماعيل الازهري، والذي اطمأن الى قوته الجماهيرية بعد أن القى السيد على زعيم طائفة الختمية بكامل ثقله الى جانبه ولم يكن ذلك يعدو عملية إلقاء الطعم لحركة المثقفين التي ابتلعته حيث أخذ الرسم البياني في الانحدار رويداً رويدا اخذت حركة المثقفين في الارتماء في احضان الطائفية في ذات الوقت الذي لم تستطع فيه حركة الأشقاء التحول الى حزب سياسية ذو رؤى سياسية وفكرية واضحة كما كان الحال بالنسبة لجماعة الاتحادين الذين انبثقوا من مدرسة أبي روف والذين كانوا يعتمدون على مرجعية فكرية ليبرالية علمانية تجعلهم دائماً في تضاد مع طائفة الختمية، غير أن التحالف الذي قام في آخر المطاف بينهم وبين الأشقاء قد ساقهم الى ذات نزعة الأشقاء السياسية العملية التي تسعى لتحشيد الجماهير من خلال الليالي السياسية الصاخبة التي برعت فيها قيادة الأشقاء. كان القاء السيد علي بكامل ثقله في دعم القوى الوحدوية والتي صارت الوطني الاتحادي تنم عن ذكاء كشفت عنه مجريات الأمور فيما بعد، لقد كان دعم السيد علي لا حباً في القوى الوحدوية ولا في توجهاتها ولكنها كانت استجابة موضوعية للتأقلم مع موازين القوى ريثما يتمكن هو من تكوين قواه الخاصة من ناحية والتحالف مع غريمه الطائفي (الأنصار) لتوجيه ضربة قاصمة لقوى المثقفين التي ناكفته حيناً مقدراً من الدهر بل أخذت تتمدد في مواقعه ومعاقل نفوذه، وبذلك يمكن ان نلحظ ان الرسم البياني وصل الى درجة الصفر في الانحطاط بتحالف جماعات الاتحاديين مع الختمية ثم صعد باتجاه آخر وهو إتجاه سيطرة الطائفة على كل المقاليد في الوقت الذي أصبح فيه المثقفون مستردفين بعضهم ماسحاً لجوخ السادة قادة الطائفة، بعضهم متمرد وبعضهم آثر الابتعاد ململماً ما تبقى له من آمال تعتصره الحسرات. أما احمد خير المحامي فقد جسد قمة تراجيديا التراجع في حمى الصراع اذ اصبح ممثلاً لأول نظام ديكتاوري في وزارة خارجيته.. بهذا المشهد عادت الكرة مرة اخرى الى مواقع ما قبل نشوء المؤتمر حيث السيطرة كل السيطرة لقوى التخلف والتراجع وهكذا هرصت مفارقات الواقع نزوعات العقلية المفارقة.
|
|
 
|
|
|
|