الثقافة والمعرفة وكيفية تناولهما في تقريري "التنمية الانسانية العربية"

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-10-2024, 11:21 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-27-2004, 09:36 PM

sultan
<asultan
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1404

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الثقافة والمعرفة وكيفية تناولهما في تقريري "التنمية الانسانية العربية"

    الحياة 26/3/2004

    الثقافة والمعرفة وكيفية تناولهما في تقريري "التنمية الانسانية العربية" للعام 2003

    عزيز العظمة

    سرّ الكثيرون، ومنهم كاتب هذه السطور، لصدور تقريري التنمية الانسانية العربية. وعرض التقريران - تقرير 2002 و2003 - جملة من المؤشرات الخاصة بنواقص التنمية البشرية العربية، وبكوابح عملية التنمية العربية على صورة اجمالية، وذلك على نحو صدم الكثيرين لما احتويا عليه من معطيات وتحليلات تنبه وتحفز على التفكير، وتشخص مواضع اعتدال وتشير الى بعض من المسببات المهمة الثاوية وراء الأزمات التي نراها ماثلة أمامنا. وقد أدت درامية كثير من هذه التحليلات والتقديرات بكثير من المعلقين، خصوصاً الاميركيين منهم، الى درجات متفاوتة من الشماتة والتعالي والتأكيد على ان ما جاء في التقريرين كان مصداقاً لما تدعو اليه الولايات المتحدة من برامج لإعادة رسم الخارطة السياسية والاجتماعية للمنطقة. بل اننا نرى ان مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، على سخفه وقماءته، مشروع اعادة رسم هذه الخريطة، قد استند الى مرجعية هذين التقريرين في اسناد ما يصبو اليه من سيطرة، وذلك على نحو حرّف فيه ما جاء في التقريرين على هواه، وهو قد استند في هذا التصريف ليس فقط على المؤشرات الدرامية الواردة في التقريرين، بل ايضاً على احدى نقاط الضعف التي اعتورتهما، وهي نقاط سنشير اليها في فقرة لاحقة. وقد أحسن المؤلف الاساسي للتقريرين، الدكتور نادر فرجاني، في وضع الأمور في نصابها وفي الرد على سوء الاستخدام هذا (في "الحياة" 19/2/2004).

    ولكنني لن أتناول في الفقرات اللاحقة الاستخدام الانتهازي لما جاء في هذين التقريرين من قبل من لا يرجو لنا الخير، ولا ردود الفعل التي استجلبها التقريران، بل انني سأركز على الإدلاء بجملة ملاحظات نقدية تتناول النحو الذي تم عليه في التقريرين معالجة قضايا الثقافة والمعرفة، وخصوصاً في تقرير 2003 الذي جاء تحت عنوان "نحو مجتمع المعرفة". وانني بصياغتي هذه الملاحظات انما انطلق من اعتبارات عدة: أول هذه الاعتبارات ان التقريرين جاءا - في رأيي - بداية للبحث في امور التنمية في ظل أوضاع داخلية وعالمية جديدة، ولم يأتيا بالكلام الفاصل والنهائي، بل انني اراهما محفزين على الاستزاده من النظر في شؤوننا التنموية. وانني أحد ان من دواعي الحس بالمسؤولية العامة، ان تنشر وان تدلى ملاحظات نقدية قد تساعد على تطوير ما جاء في التقريرين والانطلاق الى صوغ تقارير اكثر خبطاً، واقل عمومية، وبالتالي أقل عرضة كسوء الاستخدام الذي ذكرت. وثاني هذه الاعتبارات هو ان الملاحظات النقدية ليست موجهة نحو شخص، أو اشخاص معينين، بل هي موجهة الى التقريرين على اعتبار انهما نتاجاً لعملية مؤسسية، وهي عملية ابتدأت بجملة أوراق خلفية ثم أوراق تركيبية، تلتها صياغات متعددة شاركت في انجازها والتعليق عليها وتشذيبها لجان وهيئات. على ذلك، فلئن شاركت في التقريرين جملة من المؤلفين، الا انه ليس تقرير المؤلفين بقدر ما هو تقرير الأمم المتحدة ككل، وهي الهيئة التي ارتأت ضم هذا الرأي واستبعاد ذاك من عملية المناقشة وبلورة التحليلات وصوغ الاقتراحات والنص النهائي.

    كما انني لن أتناول كيفية اختيار النواقص الثلاث التي أضحت شهيرة (الحريات وتمكين المرأة والمعرفة)، ولا التعريف العام للتنمية الانسانية الثاوي وراء التحليلات المختلفة المتضمنة فيه. قلما أتى تحديد النواقص الثلاث في سياق فهم ليس دقيق التعيين للتنمية، وهو تعريف عام متأت من نوايا طيبة، بهيج في عموم نحوه الانسانوي، وعن خطاب عالمي جديد في التنمية يتجاهل التاريخ، ومنه التاريخ الحديث، الذي فعل تحليلات اكثر انضباطاً للتنمية في عقود خلت. وقد جاء توصيف النواقص الثلاث على نحو كمي يشير الى قياسات اجمالية ومؤشرات احصائية مركبة تؤدي صورة بالغة القتامة وهي الصورة التي طغت على استقبال التقريرين، وهو استقبال كان كلاماً نائحاً، أو مزاجاً سوداوياً حافزاً، ولو كانت سوداوية التقرير الثاني اقل منها مما كانت عليه سوداوية التقرير الأول. في الحالتين، لدينا صورة اجمالية تخفي التضاريس الاجتماعية للنواقص هذه، الناتجة عن التفاوتات والتمايزات البينة في العالم العربي بين المناطق والدول والريف والمدينة والفئات الاجتماعية، الى غير ذلك من مواضع التعيين والتحديد في الظواهر الاجتماعية. ويعرف التقريران مراراً، خصوصاً التقرير الثاني، عن الوعي بأن قواعد البيانات ضعيفة على العموم. وهو ان هذا الوعي لم يؤد على نحو كاف الى الإدراك، بأن المؤشرات المركبة قد تخفي وتحجب من الواقع بالقدر الذي قد تعمل على تبيانه. ولنا ان نشير بسرعة هنا الى ان قصور البيانات عنصر من عناصر الفوات التاريخي لنصاب المعرفة وانتاجها في العالم العربي جملة تقريرات واحكام جاء بها التقرير الثاني بخصوص المعرفة والثقافة في سياق التنمية في العالم العربي المعاصر.

    ثمة اجماع لدى العقلاء من المثقفين العرب ان المنتوج المعرفي العربي في مجال العلوم الاجتماعية والانسانية ضئيل ومتدني المستوى، جانح للعمومية ولتغليب الخطاب الايديولوجي والغرض السياسي المباشر وغير المباشر. وثمة إدراك بأن غياب الدراسات الميدانية كما وكيفاً يعطل امكان تشكيل صورة واضحة للتضاريس الداخلية والعامة للظواهر الثقافية والدينية في المجتمعات العربية المعاصرة.

    فما المعنى فعلاً بالقول، كما جاء في التقرير الثاني، ان "المنظومة الاعتقادية العربية" - أي ما دعوته بمكونات الثقافة العربية - تتكون من الدين واللغة العربية والتراث الفكري؟ لن أتناول الشك الأكيد بالنظرية اللغوية المتضمنة في هذا القول (ان اللغة مرآة الذهن والثقافة)، وهي نظرية تقاومت في علم اجتماع اللغة وفي بيولوجيا اللغة، ولن أتناول الشك في الطريقة التي ينسب الينا نحن العرب منظومة معرفية واحدة تتكون من هذه العناصر الثلاثة، وهي نظرة ليس لها من مستند في المعرفة بتراكب وتعقيد نصاب المعرفة ونصاب الثقافة في المجتمعات الغربية، وبتعقيد صورة المجتمعات العربية، بل بتعقيد وتراكب كل المجتمعات. بل انني سابتدي الكلام للإشارة الى غياب بيّن عن تحليلات التقرير الثاني: غياب القول بأن التفكير العلمي هو ايضاً مكون من مكونات الثقافة العربية والمعاصرة، وان تفاوتت أهميته تبعاً للموقع الاجتماعي والوظيفي في الخريطة الاجتماعية والثقافية والجغرافية للعالم العربي. واشير بذلك الى التفكير العلمي في مناهج التعليم وفي بعض شؤون التخطيط والإدارة وغيرها، على قصور ذلك وعدم اكتماله: لا يجب علينا ان نستنتج الغياب من عدم الاكتمال غير المتاح في أي زمان ومكان. وبإمكاننا القول على كل حال ان من الدلائل على وجود التفكير العلمي هذا وجود التقريرين الذين بين ايدينا، وهما كما كانا ممكنين لولا ذلك.

    ولكن الواضح ان القول الخطابي في شؤون الثقافة والتراث والدين قد غلب على اعمال العقل العلمي في التقرير الثاني، كما اسلفت. لولا ذلك لاتضحت جملة أمور، أولها ان ما دعي بالمنظومة المعرفية العربية لا يمكن ان تحصر هذا الحصر النمطي السائد في الصحافة، وثانيها ان من غير الجائز ان تغيب عن التقرير النظرة التاريخية التي نستفيد منها، رصد التحولات الايجابية المهمة والبينة في نظم تربيتنا وسلوكنا وتفكيرنا على امتداد القرنين الماضيين، مما لا يستفاد منه نظرة عدمية الى التنمية العقلية والثقافية.

    وان نظرة تاريخية كهذه تفيد بأن النظام المعرفي والنظام الثقافي المنسوب الينا بالغ التعقيد والتركيب والحراك، يتداخل فيه الديني بالعلماني والتراثي بالحداثي والتراثي بالحداثي والخرافي بالعلمي، يتصادم فيه هذا مع ذاك ويتصارعان ويتوافقان في سياق تحولات اجتماعية وثقافية عنيفة أحياناً، يجب عدم التقليل من أهميتها بداعي عدم الاكتمال أو عدم الكمال أو أداء صورة سوداوية كلية بل وشاملة.

    ثم انه ليس مبرراً ـ وهذا الأصل والفصل هنا ـ الذهاب الى ان الثقافة كيان ثابت مستقل عن المجتمع ومتعال عليه، أو انها كمية ثابتة بالعبارة الرياضية، حاكمة للمجتمع وللتاريخ مستقلة عنهما، الى غير ذلك من عناصر صورة للمجتمع وكأنه واقف على رأسه. وتالياً لذلك، لا يجوز الذهاب ـ كما ذهب التقرير الثاني في محصلته النهائية ـ الى ان نهاية الثقافة العربية محكمة بالاحتكام الى التراث ـ كيفما فهم ـ والى الدين، وان هذين يشكلا معاً قدراً محتماً بكونهما شفعاً للتاريخ.

    ومن نتائج ذلك ان معظم الصور الشاملة التي نراها مرسومة لهذه الظواهر - ومنها الصورة الغالبة على التقرير الثاني موضع النقاش - تتسم على العموم بالابتسار والتبسيط. وان الابتسار والتبسيط هذان يجعلان هذه الصورة انطباعية في المقام الأول، معطوفة على الأهواء الايديولوجية والتيارات السياسية الأكثر ظهوراً ـ لأنها الأكثر جلبة، والأكثر جاذبية للعرض التلفزيون ـ وحاجبة على الارجح الواقع المعاش أو على الأقل متجاهلة له، ومغيّبة لما ليس بديّاً على نحو جليّ وعلني.

    أمهد بهذا للقول بأنني أرى فارقاً بيّناً بين الصورة التي جرى عليها تناول التقرير الثاني لقضايا تتعلق بالتنمية الاقتصادية وباقتصاديات العلم والتعليم والبحث العلمي من جهة، وتناول ما قد يدعى "مكونات الثقافة العربية" من جهة أخرى. بالنسبة للشأن الأول. نرى التقريرين يستخدمان لغة علمية عالمية بمفاهيمها وأدواتها المعرفية الكونية المعروفة. أما في مجال الثانية - أي الثقافة العربية ومكوناتها، ودور الدين فيها - فإننا نرى اللغة الانشائية غالبة، على شاكلة العوارض الأخرى من عوارض الاعتلال في الثقافة وفي التراث العلمي العربي وتجاوزته. ومحصلة فعلية من الدعوة الى أن نرجع 600 أو 700 سنة الى الوراء من أجل اعادة الارتباط مع ابن رشد أو ابن خلدون أو غيرهما. ان هذا الخطاب الاحيائي في شأن التراث خطاب مفتعل سياسياً تتضافر عليه أطراف ثلاثة: القوى السياسية الظلامية، وديماغوجية الدولة العربية المتمشيخة هنا وهناك، وبعض المثقفين العرب الحائرين في أمرهم، غير القادرين على التمييز المستقر، المستبطنين لما يقال عنا في خطاب عالمي سائد وفي خطاب محلي شعبوي لا يرى في الثقافة والتربية الا مماشاة لما يرى انه جماعة قومية مرتهنة بالماضي ارتهاناً كلانياً. وانني أرى في ذلك محاولة من قبل فئة من المثقفين الممارسين للتقية والتعوذ لمعايشة موقع اجتماعي لا ملامح واضحة له، وللاندراج في ما يعتبر - وهماً - على انه "روح الشعب" النابذة للعقل وللحداثة. اما المستند الثقافي والسياسي - الاجتماعي لهذه الأطراف الثلاثة معاً، فهو ليس إلا الأزمة الاجتماعية والسياسية التي نمر بها، والانحطاط الملازم لها للمدارك العامة. وتدهور النظم التعليمية الذي عالجه التقريران - مع الاشارة الى أن هذا الانحطاط ظاهرة عالمية وليس مختصاً بنا، لأسباب ليس ثمة مجال للدخول فيها هنا.

    لست أفهم تماماً دواعي هذا الحط من شأننا، والميل الى تغليب القول النمطي بتخلفنا الخلقي، عدا ما قلته وأشرت اليه على أنه أداء صورة بالغة الجزئية والانطباعية قد تكون محقة في وصف بعض قطاعات الثقافة العربية، خصوصاً في صياغتها الصحافية والتلفزيونية الاجنبية والعربية، وفي الأقوال الصاخبة في السياسة التي ترى على سبيل المثال ان الاسلام دين ودنيا (وهي مقولة يأخذ بها التقرير الثاني، عكس ما تفيد به المعارف العلمية في التاريخ والاجتماع، وعلى ما يذهب اليه الحس المشترك القائم على الانطباع السريع والمستسهل بدلاً من التقصي)، أو ان الدين الاسلامي عماد الفكر والسلوك العربيين، ايضاً من دون مستند علمي أو حتى مستند في المعارف التي تذهب الى عكس ذلك. لا أرى مبرراً لهذه الأقوال إلا ما قد يدعو اليه الوجه المشهدي للسياسة وللمجتمع العربيين في العقدين الأخيرين، خصوصاً في ظروف الانكسار القومي وانسداد أفق التنمية واستكانته الى الوصفات السهلة: تلك الظروف التي تدعو الى المكابرة والانغلاق على الذات وتغليب الحلول الخطابية والخيالية في وقت يستعصي الواقع على التناول والمعالجة. ليس التراث، خلافاً لما أتى به التقرير الثاني، "ثقافة عالمة" لدينا. انه ثقافة قطاعية، تتخذ عند العموم لدى انتشارها شكلاً فولكلورياً وليس شكلاً عالمياً. اما انتصار بعض المثقفين العرب للتراث على هذا التوصيف، ومنهم من ساهم في وضع تقريري التنمية الانسانية العربية، فما هو إلا من باب الانجرار والمداهنة الايديولوجيين، والامعان في التوهم بتغليب الرمزي على الواقعي وباعتباره بديلاً له، وهو ليس من باب القناعة الفعلية، بل تسليم بالأولوية وبالنجاعة للأفكار النكوصية والاحيائية التي تشكل مجال تمدد الفكر الأصولي الى الثقافة الحديثة واستتباعه لها.

    بناء على ما تقدم، نرى في الكثير مما أتى به التقرير الثاني عن الثقافة وخصوصاً عن الدين كلاماً يصح أن يعتبر نكوصاً وتراجعاً حتى عما قالت به الاصلاحية الاسلامية منذ أكثر من قرن. فلئن وجدنا الشيخ محمد عبده على سبيل المثال يحض على اعادة تفسير النصوص الدينية في ضوء المعارف العصرية، ويدعو الى جعل الدين في مقام مناسب للعصر هو المجال الخاص، نرى تقرير التنمية الانسانية العربية الثاني يدعو الى ما يسميه بالعودة الى "الدين الصحيح" (وأتسائل: ما هو الدين الخاطئ؟ وهل اختلاف تدين الدولة التونسية عن تدين الدولة السورية عن تدين حركة "طالبان" عن التدين اليومي غير المؤدلج ولا المسيس لكثير من العرب، اختلافاً في الصحة والخطأ ومقداريهما، أم اختلاف في التفسير وفي الظرف الاجتماعي والسياسي والثقافي الباعث عليه؟). وأي التقرير الثاني هذا يدعو الى استحضار ما يدعوه "النصوص الملائمة" في سبيل انتاج المعرفة الباعثة على التنمية الانسانية. قد لا يكون واضعو التقرير أو بعضهم بالأحرى على بينة من أن الاحتكام الى النصوص وجعلها مناطاً مرجعياً للحقيقة وللنجاعة الاجتماعية على هذه الصورة الساذجة، انما هو فعل سياسي يمالئ هوى ايديولوجياً معيناً، وانه خاضع لاعتبارات المزاج السياسي والهوى التفسيري على صورة لا ضابط لها، وانه ليس جديراً بأن يعتبر من العناصر الفعلية للتنمية الانسانية. ولا يبدو واضحاً في التقرير ان الفتوى استناداً الى "الدين الصحيح" أمر مناط بهيئات دينية وبأحزاب دينية كحركة الاخوان المسلمين، وليس بتقارير الأمم المتحدة. والغريب ان الدعوة الى "العودة الى الدين الصحيح" هذه لا تبدو موجهة الى الغلاة من الاسلاميين بقدر توجهها إلينا العرب على صورة عامة من مسيحيين ومسلمين وعلمانيين، وكأننا بالأمم المتحدة تفرض علينا النكوص الى البرنامج السياسي لجمعية الاخوان المسلمين، وجعل "الدين الصحيح" سقفاً لتطلعاتنا الاجتماعية والثقافية.

    يفضي بنا هذا القول الى الملاحظة بأن دعوة التقرير الثاني ـ في روحية ديموقراطية فرحة ومرسلة ولا تاريخية ـ الى ضرورة "استرجاع" المؤسسات الدينية استقلالها وما كانت في تاريخها الفعلي مستقلة أبداً قد لا تكون على بينة تماماً من أن الوضع المعروف للمؤسسات الدينية العربية اليوم ليس بالوضع الحافز على التنمية الاجتماعية والعقلية، بل بالعكس تماماً. ولذا فإن من الحري بنا ان ندعو الى اصلاح جذري لهذه المؤسسات وخصوصاً لمؤسساتها التربوية ولخطابها العام (وفي اصلاح جامع الزيتونة من قبل الدولة مثالاً جيداً على رغم محدوديته السياسية)، كما انه في الحري بنا عند التكلم عن الثقافة والتنمية الاقلاع عن عادة اعتبار الأولى ثابتاً والثانية ملحقاً، والكلام عن التنمية الثقافية بدلاً من القول بعدم قابلية الثقافة للتنمية.

    وأخيراً في هذا المقام، ما المعنى الفعلي لقول التقرير الثاني بضرورة احترام حقوق المرأة، وبضرورة مماشاة الشرعية الدولية لحقوق الانسان في هذا المجال، مع القول في الوقت نفسه بأن ذلك يجب أن يتم "من دون افتئات على الشرع"، وذلك على طريقة الكلام الخطابي المعهود لدى الحركات الاسلامية التي تبرز للعموم وجهاً "معتدلاً"؟ واقع الأمر ان بين الاثنين، أي بين الشرع والشرعية الدولية لحقوق الانسان، تناقضاً بيّناً لكل ذوي الألباب (في مجال الزواج والطلاق والمواريث وغيرها)، وان زمن المراوحة والتوليفات البلاغية عديمة المعنى قد فات، إلا إن رغبنا مجدداً في اجتراح مسائل وهمية لا حلول لها، والمراوحة في كل مكان ولا مكان، والدخول في نزاعات لا نهاية لها. وتجب الاشارة هنا الى أمرين اثنين علهما يساعدان على الارتقاء بتقارير الأمم المتحدة للتنمية الانسانية الى نظرة أكثر واقعية ونجاعة في شؤون الثقافة:

    - لا علاقة للدين بالتنمية الا ما اتصل منها بتطوير الثقافة الدينية وتنميتها السائدة ضمن عملية تطوير ثقافية أكثر شمولاً تنمي الملكات العقلية، ومنها ملكة النظر العقلي في الدين بوصفه ظاهرة اجتماعية وفكرية واعتقادية. وان المطلوب ليس التعامل مع الدين أو مع الثقافة الشعبية الموسومة في التقرير الثاني بصفة الدين - دونما توسل للمعرفة بالمجتمع في سييل الوصول الى هذا التوصيف - على قدر العقول المزعومة لأهليهما، بل برفعهما وتهذيبهما على أساس من الاحتكام النهائي الى ما يسمح به النظر العقلي وما لا يسمح به ولا يسوغه.

    - أما التراث، فهو ليس ما يمكن ارجاعه الى الدين، كما لا يمكن اختزال الثقافة الى الدين أو مماهاتها به. لا أشك في الاستساغة الجمالية للتراث، ولا في وظيفته الاستنهاضية، وهذه شؤون طبيعية ومألوفة في كل المجتمعات، ولست انا شخصياً بريئاً عن هذه الاستساغة. ولكن يجب ألا يخلط في هذه العملية بين الرمزي والواقعي: فالتراث الفكري والعلمي العربي قد تقادم، وهو غير قادر على انتاج معرفة مطابقة لما هو متاح اليوم من معارف ومناهج، ولا يمكن لنا التفكير بأمور المجتمع ولا بأمور الطبيعة استناداً الى مفاهيم الجوهر والعرض والمفاهيم والفيض والمفارقة، الى غير ذلك. ثم انه لا يمكن الكلام حول علاقة التراث والدين بالمعرفة الا بمعنى انهما خاضعان لاعمال العقل التاريخي والعقل السوسيولوجي والانثروبولوجي: في تاريخهما، وفي رصد مجالات فعلهما الحاضر وانماط هذا الفعل العينية في مجالات السياسة والمجتمع والثقافة والرمز. ليست الثقافة ديناً، وليس الدين ثقافة ولا مجتمعاً، وليست السياسة هذا ولا ذاك. بل ان كل ذلك يشكل تركيباً معقداً من العلاقات والمؤسسات التي ينبغي الإلمام بها من طريق البحث العلمي، وليس من طريق القول الانطباعي، وخصوصاً ليس من طريق تحويل عامة العرب من قبل بعض عناصر النخبة الثقافة العربية الى كل هدامي غرائبي، نخشاه ونجتنبه من دون العمل عن تنميته.

    وقدم التقرير الثاني تحت عنوان "نحو مجتمع المعرفة" تعريفاً للمعرفة أكثر شمولاً وسعة مما يمكن التعامل معه على نحو منتج لمعرفة مضبوطه، ومتوافق في خطوطه العامة للتوجه الايديولوجي الذي وصفناه للتو. فبدلاً من الاتجاه بفهم المعرفة على انها نصاب موضوعي وقيمي في آن، آثر التقرير الثاني ان يدمج المعرفة بالمعارف المتداولة اجتماعياً وبالحس المشترك وبالقيم الأخلاقية والدينية. وهو قد خلط بذلك بين المعرفة وبين التمثلات الرمزية في المجتمع. ان التمثلات الرمزية هذه ليست معرفة، وان محاولة دمجها بالمعرفة شأن ينم عن بغية سياسية ذات طابع شعبوي وذات حال عدمية معرفية واسعة الانتشار في الخطاب العالمي ما بعد الحداثي.

    لا شك أبداً في وجود معارف شعبية تتعلق بالصيد البحري وبالزراعة والطقس وبوسائل الغش في الأسواق. ولكن هذه معارف عملية وموضعية، وليست معرفة قادرة على انتاج ومراكمة معارف أخرى، لأن ذلك يتوقف على الضبط، وعلى التعميم، وعلى التقنين، مما ليس متاحاً في المعارف الشعبية. ثم ان هذه المعارف العملية والنظم الرمزية تنطوي على مزيج من الحكمة العملية والتعليل الخرافي. وان ذلك كله يؤدي بالتقرير الثاني الى المراوحة بين الحث عن انتاج المعرفة وتوسل سبل هذا الانتاج توسلاً اقتصادياً واجتماعياً، والرغبة في الانتصار لاستصلاح المعارف البلدية بشهوة تبدو لي سياسية في المقام الأول، لا يراقبها التدبر العقلي.

    نقول ذلك بغض النظر عن أن التقرير الثاني يدرك وجود أنظمة معرفية متكاثرة في العالم العربي، ولو أنه يخل في تبسيط هذا الأمر، وينحو به عن النظر الاجتماعي، في تقرير وجود ما يدعوه بنظم معرفية للسلطة وللمعارضة. ولا يبدو لنا ان ثمة سبيلاً الى تناول هذا الأمر على نحو واف إلا بإعادة النظر في ما قد يؤخذ على انه معرفة، وبما لا يمكن ان يوسم بها. والواضح ان المعرفة المطلوبة هي تلك المناصرة للتنمية الانسانية، وهي معرفة كونية عمادها العلم: النظر الدقيق والمتحري والمتجرد في الطبيعة من جهة، والنظر المنتج لمعرفة اجتماعية وتاريخية في أمور الجماعات البشرية. وانني لا أرى في هذا السياق أي مبرر على الإطلاق الدعوة الى تحكيم أمور لا علاقة لها بالمعرفة، في شأن "مجتمع المعرفة". ولعل على رأس هذه الأمور التي لا مبررر لها، القول بأن في الوحي اساساً "معرفياً" أو لا للثقافة العربية. وبضرورة اعتبار الدين ممثلاً بالنصوص الدينية شأناً له دور في التنمية - ولعل بعضنا ما زال يذكر دعوة الفريق عمر البشير الى طلب العون من "الجن السوداني المؤمن" في عملية التنمية. لست أرى في القول الديني معرفة موضوعية، اذ هو خطاب اعتقادي له مجال متميز من الفعل الاجتماعي، وان مكانه المناسب هو القلوب والمساجد والكنائس، وليس الجامعات والبرلمانات وتقارير الأمم المتحدة.

    لا أعتقد ان غالبية من ساهم في وضع التقرير الثاني تجاري هذا التعامل الاستثنائي مع الدين في معرض الكلام على "مجتمع المعرفة"، ولا أرى في مسايرة هذا التقرير الرأي السائد هذا إلا محاباة مزاج عام متوهم متمثل في حركات سياسية نكوصية لا علم لي بموافقة غالبية قطاعات الثقافة العربية عليه أو بتوافقها معه. وأخيراً: كما ان للدين أهله، فإن للعلم أصحابه، ولا ينبغي خلط هذا بذاك، اللهم إلا في قيام أهل العلوم التاريخية والاجتماعية بدراسة الظواهر الدينية في المجتمعات العربية حاضراً أو ماضياً، وقد كان هذا الأمر أحد الشؤون الأساسية الغائبة عن التقرير الثاني. وان محصلة هذا التقرير في هذا المجال المراوحة في تصوره لمجتمع المعرفة، وبين اعتماد المعارف الموضوعية القابلة للحصر وللتطوير، وتثمين قطاعات اللاعقلانية في المجتمع بدعوى اصالتها.

    أما ما ضر ذلك من "معرفة" تناولها التقرير الثاني، فقد انكب عليه تحت عنوان "رأس المال المعرفي". وهو مفهوم منضبط قابل للتطوير ان لم يستسهل تناوله تناولاً احصائياً مقاساً بمركب رقمي من سنوات التحصيل المدرس وإعداد المهندسين وأجهزة الكومبيوتر والتلفونات المحمولة. وقد يفيد كل هذا مؤشرات حول توافر المعلومات، لكنه لا يفيد معرفة بالمعرفة وبالجانب الكيفي منها على وجه الخصوص. ولعل أفضل مثال على ذلك قياس استخدام شبكة الانترنت، قد يفيد ذلك وفرة في المعلومات مع براعة ميكانيكية اجرائية شبه أمية، ولكنه لا يفيد بمحتوى المعارف التي توزعه الشبكة وبالفئات الاجتماعية التي تخدمها.

    ولكن البراعة أو المهارة شأن بالغ الاهمية في المجتمع وفي عملية التنمية. وليس ممكناً تعميم المهارة في المجتمع الا اذا اصبح رأس مسلمات الحياة العامة فيها ان المعرفة العقلية العلمية هي المناط الأوحد، أو على الأقل المناط الغالب عملياً، للاحتكام في شؤون التنمية وفي شؤون الحياة العامة. اما ما عدا ذلك، فقد يكون مجاراً للتغني والتنوير والاستساغة الجمالية. ولكننا ان انتقلنا من مجال استساغة الرمز المجتمعي الى اعتبار الرمز واقعاً، فإن في ذلك عاملاً لا شك في اثره المخرب على عملية التنمية الانسانية، على ما نرى في النشوة المكابرة في العالم العربي بالتراث في العقدين الأخيرين، وهو أثر يستفحل، ولا انفكاك عنه وعن خضوعه للأهواء والأمزجة السياسية والايديولوجية، إلا باستقلال وتنمية مؤسسات التربية والتعليم العالي عن الأمزجة التلفزيونية.


    * أستاذ في جامعة أوروبا المركزية، والنص تعقيب أدلى به في مؤتمر عقد في مدينة افران المغربية لبحث تقريري التنمية.

    http://www.daralhayat.com/opinion/03-2004/20040325-26p10-01.txt/story.html
    = = = =
    السودان لكل السودانيين








                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de