قلنا أن الإعتراف بالمجلس العسكرى فى 11 يونيو كجسم سياسى وسيادى كان الطامَّة الكبرى، والطُعم الذى بلعه قوى الحرية والتغيير. وعلى ذلك الخطأ إنبنى ما بعده، وعانى تحالف "قحت" وسلك سُبلاً أضرت به وبالسودان كثيراً. والأن، المجلس العسكرى بقيادة البرهان وحميتى يريدون أن (يفرمتو) انفسهم من كل الإنتهاكات التى إرتكبوها فى دارفور قبل قيام المجلس العسكرى، ثمَّ التى إرتكبوها فى الخرطوم وأفظعها على الإطلاق مجزرة فضِّ إعتصام القيادة العامة 3 يونيو، وأثناء مليونية 30 يونيو، وختم المجلس إنتهاكاته أمس الأحد 14 يوليو بحادثة ضرب المتظاهرين بمدينة السُوكى فأسقطوا شهيداً وسبعة جرحى. والمجلس العسكرى صنع نفسه وأيَّده تحالف قحت فصار أمراً واقعاً De facto وإحتل القصر الجمهورى وإنتزع سيادة الدولة، وقسَّم عضويته للجان فى المجالات المختلفة وطفق يمارس السُلطة بإرادة منفردة. وما ترك المجلس خياراً للناس لقبوله أو رفضه طالما أنهم أنهوا، شكلاً، حُكم البائد عمر البشير وجلسوا فى كرسيّه. قالوا أنهم بصدد نقل السلطة للشعب لإن الثورة إنتصرت، لكنهم لاحقا كشفوا عن أنفسهم كإنقلابيين جدد يريدون الجلوس فى هرم الدولة فى غرفة السيادة، وتركوا للثوار تكوين مجلس تشريعى (برلمان) وحكومة تنفيذية (مجلس وزراء) يكون الغلبة فيه لقوى الحرية والتغيير الذين حلُّوا محل تجمُّع المِهنيين السودانيين الذى قاد الثورة بحِنكة حتى إنتصرت. والآن نهض سؤال: هل أعضاء المجلس العسكرى مؤهلون لشغل مواقع عامة فى هياكل حكومة الفترة الإنتقالية؟. الإجابة على السؤال أعلاه يتطلب إلقاء الضوء على ثلاثة مصطلحات فى فقه الدستور هى: 1. "الأهلية" وشروطه توافرها لشغل موقع عام فى الدولة، 2. "العفو العام" ولمن يُمنح، ومن له حق المنح والأثر المترتب على منحه، 3. "الحصانة" التى تُمنح لشاغلى الوظيفة العامة لتحصينهم من المساءلة حول الأعمال التى يقومون بها بحكم مناصبهم By virtue office خلال فترة توليهم المنصب، فلسفتها، أهميتها وحدودها. وكيف يحاسب أصحاب الحصانات؟ وإليكم تفصيل ذلك: أولاً: الأهلية لشغل منصب عام فى الدولة، . الأهلية تعنى الكفاءة، ولها شروط معروفة هى: 1. العقل: أن يكون المرشح للمنصب العام عاقلاً لا يعتريه عيب كالجنون بأنواعه وبقية العاهات التى تنتقص من نعمة العقل من سَفَه وبله ونحوها. والشاهد أن هذا الشرط يتوافر عادة فى المرشحين لشغل المناصب العامة بإعتبارهم من عِليةِ القوم، ويشهد لهم الناس بالعقل والرشاد. والشرط يستوفيه أعضاء مجلس العسكر، وكذلك أعضاء تحالف قحت ما لم يثبت العكس بالدليل القاطع. 2. المؤهل العلمى والخبرة العملية للقيام بأعباء الوظيفة العامة، وهذا أيضا متاح، 3. نظافة السجل القانونى والقضائى: وهذا من أهم شروط الأهلية ويعنى أن يخلو سِجل المرشح لشغل المنصبٍ عام من إدانات أو إتهامات بجرائم تخل بالشرف والأمانة. فما بال المرشح لأعلى منصب عام فى الدولة ويكون متهماً (مُشتبهاً) بإرتكاب إنتهاكات فظيعة وجرائم خطيرة مثل القتل والإبادة وجرائم الحرب لمَّا كان ضابطاً عظيماً فى الجيش أو الجنجويد فى مناطق العمليات. أو أمر مرؤسيه من الجيش والجنجويد بإرتكاب جرائم تشكِّل إنتهاكات فظيعة ضد مواطنين عزَّل، من قتل وإبادة وحرق وإغتصاب وتهجير قسرى للسكان المدنيين؟. وهنا نجد، للأسف، أنَّ معظم أعضاء "المجلس العسكرى الإنتقالى" ملوثة إيديهم بدماء الأبرياء فى دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، وأنهم ظلُّوا يفلتون من المحاسبة والعقاب Impunity بحُكم مواقعهم فى النظام البائد الذى مكَّنهم من الإفلات من العقاب، يتقدمهم كبيرهم عمر البشير. هناك جرائم إرتكبوها بأنفسهم وأخرى أمروا مرؤسيهم بإرتكابها فهم فى الحالتين مسؤولين جنائياً عن تلك الجرائم. وأنهم ما لم يحاكموا فيها وتثبت براءتهم لن يكونوا مؤهلين للترشُّح لمناصب عامة فى السودان. يضاف إلى ذلك إعترافهم بأنفسهم بإرتكاب أحدث جرائمهم وهى جريمة فض إعتصام القيادة العامة 3 يونيو وجريمة قتل المتظاهرين فى مليونية 30 يونيو، ومؤخراً جداً جريمة قتل وجرح مواطنى مدينة السوكى 14 يوليو 2019م. والنتيجة أن جميع أعضاء المجلس العسكرى غير مؤهلين لمجرَّد الترشح لأى منصب عام فى اجهزة الدولة السودانية حتى يتحاكموا فإن أدينوا ذهبوا لقضاء العقوبة، وإن ثبتت براءتهم تأهلوا للترشح للمنصب العام، أمَّا الأن فليس منهم شخص واحد مؤهل capable للترشح لمنصب عام. وحتى مؤسسة الجيش التى هم جنرالات فيها، إنهم غير مؤهلين للإستمرار فيها لأنهم مُشتبه بهم فى إرتكاب انتهاكات فظيعة ضد مدنيين عزَّل وأنهم فى حالة إفلات مستمر من العقاب فى تلك الإنتهاكات والجرائم التى إرتكبوها خلال فترة خدمتهم. وأنَّ الجيش مؤسسة تابعة للدولة وللشعب السودانى وليس العكس. ثانياً: منح العفو العام، هناك حالات إقتضتها واقع الحال تتطلب منح العفو العام لبعض الأفراد والجماعات فى الحالات التى تعقب الحروب، فمثلاً عند التوقيع على اتفاق السلام الشامل 2005م واتفاق سلام دارفور 2006م وصار لزاماً تشكيل حكومة وحدة وطنية من أطرافها، وتطلب صدور مراسيم دستورية من رئاسة الجمهورية بمنح العفو العام لمنسوبى الحركات المسلحة، فأصدر رئيس الجمهورية مراسيم بمنحهم العفو العام عن كل الأفعال التى وقت منهم أثناء الحرب وتشكل جرائم أو تصلح أساس لمقاضاة مدنية. وأنه بدون ذلك العفو لن يستطيع الأطراف وضع حد فاصل بين زمن الحرب وزمن السلام والتفرغ لإعادة بناء الوطن ورتق النسيج الإجتماعى. لذلك أصدرت رئاسة الجمهورية نيابة الدولة والشعب مراسيم دستورية بالعفو العام عن أطراف إتفاقيات السلام بين الأطراف السودانية. أمَّا أطراف الاتفاق الحالى بين المجلس العسكرى وتحالف قوى الحرية التغيير فليس منهم من يملك حق منح العفو للأخر، وليس هناك مقتضى لذلك. ثالثاً: منح "الحصانة" لشاغلى الوظيفة العامة، الحصانة فكرتها هى تطمين الشخص الذى يتقلد منصب عام بأنَّ الأفعال الضارة التى تقع منه أثناء قيامه بمهام وظيفته لن يتم محاسبته عليها لأن الخطأ من صفات البشر، ولكى يقوم بما يلزم لأداء مهام وظيفته دون خوف أو وَجل من حساب أو تجريم شخصى يطاله. ولِمَا تقدم: . الحديث عن منح أعضاء المجلس العسكرى حصانة هو حديث لا أساس له، لأن المجلس العسكرى صنع نفسه وانتزع الحكم عنوة ولم يعينه احد، . المجلس العسكرى إرتكب فظائع بلا مسوغ، ثم أنكر تلك الفظائع فيجب أن يخضع أفراده للمحاسبة بالتضامن والإنفراد، . أعضاء المجلس العسكرى غير مؤهلين لنيل أى منصب عام فى حكومة الفترة الإنتقالية لأنهم مطلوبين للعدالة الوطنية والدولية لإرتكابهم إنتهاكات جنائية فظيعة ضد مواطنين عزَّل فى أقاليم السودان التى دارت فيها حروب ونزاعات مسلحة. . وبفقدانهم لأهلية التكليف بمناصب عامة يكون الحديث عن حصانة ترف، فدعهم يخضعوا للمحاسبة أولاً وإذا ثبت براءتهم فليأتوا للحديث عن أهلية التكليف والحصانة. لأنَّ الحصانة تمنح للموظف العام الذى إجتاز شرطة الأهلية وتم تكليفه بوظيفة عامة، فيمنح الحصانة لتشجيعه وإزالة مخاوفه الشخصية للقيام بالوظيفة العامة دون خوف أو وَجل. . مثال لأهمية الحصانة لشاغل الوظيفة العامة: العمليات الخاصة النوعية التى يأمر بتنفيذها رئيس الدولة ما ويكون فى ظاهرها مخالفة للقانون، ولكن تنفيذه يحقق مصلحة عامة للدولة. ومثال ذلك العملية الخاصة التى تمت فى عهد الرئيس الأمريكى باراك أوباما لإغتيال أسامة بن لادن والقذف بجثمانه فى مياه المحيط. فالرئيس محصن من المساءلة حولها، وكذلك مساعديه والفريق الذى نفذ العملية. . وعلى المجلس العسكرى الإطلاع أولاً على معانى المصطلحات الدستورية قبل إقحامها فى الوثائق التى ستشكل الفترة الإنتقالية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
عبد العزيز عثمان سام
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست