كنت اناقش قبل سنوات ونحن في مصر مع مجموعة من باحثي الدراسات العليا من السودانيين قضية النظام القانوني السوداني ؛ وهو نظام استمد أصوله و (ثقافته) من الحكم الابريطاني ، الا أن الانظمة الحاكمة -حتى قبل الانقاذ- قد بدأت في خلطه بالنظامين اللاتيني و ما يسمى (بالشريعة الاسلامية) ، والواضح ان النظام القانوني قد بدأ في فقد بوصلته بانهيار نسقه تماما ، ولذلك عدة امثلة نجدها في قواعد القوانين المختلفة والتي يطول النقاش حول فقدها لهوية النسق المكتمل . كانت رؤيتنا في ذلك الوقت هي أن نبدأ في اعادة دراسة هذا النسق عبر تفكيكه كل في مجاله المتخصص فيه ، جنائي مدني تجاري قانون دولي ..الخ ، فكرة تفكيك النظام القانوني (اذا كان ما نره اليوم نظاما) هي عملية ضرورية جدا لتشخيص الداء عن قرب ، ومن ثم ايجاد علاج او القيام فعلا بحقن امصال لهذا النظام ليعود مستقرا ومتسقا بشكل يؤدي الى أن يكون القانون كله مفضيا الى حماية الأفراد والحريات الغردية والحقوق ومن جهة ثانية اخضاع السلطات جميعها لحكمه ، بحيث لا يتمكن أي نظام سياسي من التلاعب بالقانون للافلات من الخضوع له او استغلاله ، بل فوق ذلك ، حتى لا تتمكن اي قوة سياسة حاكمة او معارضة من استغلال شقوق وأثلام النظام القانوني لتحقيق مصالح خارج المصلحة العامة. هذه الفكرة كانت مبدئية جدا ، أي أننا لم نضع خططا دقيقة لها ومع ذلك فكانت الروح الشبابية المتوثبة تحطم كل المعرقلات المتوقعة. لكن الأمر ليس سهلا ؛ فمن ناحية يكاد يكون هناك اجماع معنوي بين القوى السياسية على رفض اي بناء لدولة القانون ، وهذا بالتأكيد سببه أن السياسة مسخرة كمأكلة وللاثراء ، لاحظ انه طوال أكثر من ثلاثين سنة لم تعقد القوى السياسية الرئيسة مؤتمرا شاملا لإعادة اصلاح النظام القانوني للدولة . بعض السياسيين من هذه القوى اعتبر ان القانون مجرد ثقافة ، بل ربما يكون القانون هو العائق الوحيد امام طموحات الرموز الشخصية لهم ولأبنائهم. لم يحاول زعيم سياسي واحد كتابة ولو مقال عن النظام القانوني حتى ولو عبر معاونة مستشاريه ليس فقط لأن الزعماء السياسيين لا يؤمنون بفكرة تلقي المعلومة من اسفل لأعلى وانما لأن فكرة القانون نفسها شديدة العداء لهم . وتبدأ معادات القانون من داخل المؤسسات الحزبية حيث يتم تحويل الحزب لقطاع خاص وعدم التقيد لا باللوائح الداخلية ولا التشريعات. ومن ناحية ثانية فإن اعادة بناء النظام القانوني تحتاج الى دعم مؤسسات الدولة ، ولكي تدعمك الدولة فيجب أن تكون هذه الدولة نفسها مدركة لحقيقة الاختلال في النظام القانوني القاعدي والمؤسسي ، ولكننا نرى بوضوح أن رؤساء القضاء ووزراء العدل والبرلمانيين وخلافه لا يعبأون بهذا الخلل وربما لا يعرفون أن هناك خللا ما في النظام ، رغم ذلك فلاحظ أن قضاة كثيرين عندما خرجوا من سلك القضاء تعرضوا بوضوح لمشاكل النظام القانوني ومثلهم وزراء عدل ، أي أن الواحد منهم يحتفظ بلسانه حتى يحافظ على منصبه أو وظيفته ويبقى كالحمل الوديع ، وما أن يفقد ما الجم لسانه لسنوات حتى يتحول الى أسد شرس وبطل من محاربي أثينا . وربما هذه خاصية من خصائص الشخصية السودانية التي تعكس ذكاءا حادا ووطنية ضعيفة في نفس الوقت. من اشكاليات اعادة بناء النظام القانوني أيضا ، أن هناك قوى آيدولوجية ذات طموحات متعارضة بين اسلاميين وعلمانيين وليبراليية وماركسيين ..الخ ... وهذا ما يؤدي الى تنازع حاد حول الحامل الايدولوجي الذي سيستند عليه النظام القانوني. فوق هذا كله فأغلب المؤسسات ذات الصلة تكاد تكون تعاني من أزماتها الخاصة من تدني الكفاءة ناهيك عن ضعف الامكانيات وضعف التواصل الأكاديمي مع المؤسسات الأخرى في الأنظمة العالمية الأخرى. لم تستطع حتى الآن أي مؤسسة بحثية قانونية علمية في السودان من إصدار مجرد دورية بحثية محكمة ذات ثقل اقليمي او دولي. كما يعاني الباحثون من مشكلة ضعف اللغة عربية او خلافه بالاضافة الى ضعف المكتبات وضعف حركة الترجمة وضعف استيراد المعارف الحديثة من الخارج ، ناهيك عن انشغال الانسان السوداني بتوفير لقمة العيش بحسب الأوليات المنطقية. ناهيك طبعا عن تدخل الدولة في أي محفل أكاديمي عبر جهاز الأمن الذي له اليد المطلقة-رغم عدم تأهيله- في منح او رفض منح حرية البحث العلمي بكل اشكاله. لقد انهارت آمالنا جميعا بعد ادراكنا لكل هذه الظروف الخانقة والبيئة شديدة الفساد التي تحيط بفكرة اعادة السيطرة على الثور القانوني الهائج داخل محل خزف. هذه قضية لا يمكن أن يفقهها البشير طبعا ولن يهتم بها وزير العدل ولن ينظر فيها البرلمان..وليست من اولويات الشعب المسحوق.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة