نقد الرواية نموذج الطيب صالح بقلم أحمد محمد البدوي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 02:44 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-06-2018, 05:24 PM

أحمد محمد البدوي
<aأحمد محمد البدوي
تاريخ التسجيل: 11-11-2014
مجموع المشاركات: 51

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
نقد الرواية نموذج الطيب صالح بقلم أحمد محمد البدوي

    05:24 PM May, 06 2018

    سودانيز اون لاين
    أحمد محمد البدوي-الخرطوم-السودان
    مكتبتى
    رابط مختصر



    مدخل

    هذه بانوراما تحليلية لما كُتب عن أعمال الطيب صالح أو قيل عنه، ولما كان الكاتب قد تزول المسافة الوهمية بينه وبين ما يكتب فيمتزج أو يختلط الأمران، فلهذا سنتناول ذلك كله موجزين. وآثرنا أن نسميه: نقد الرواية وإن كان يتضمن نقد القصص القصيرة، بدلا من تسميته نقد السرد أو تجلي الطيب صالح في مرآة النقد الأدبي الحديث. ولا مشاحة في استخدام هذه العناوين المرنة الفضفاضة.
    ولا مناص من إثبات حقيقة مهمة وهي أن كاتب هذا الكلام آثر في كتاب : الطيب صالح، استبعاد مصادر الطيب صالح الأوربية، مرجئا ذلك إلى كتاب آخر مخصص لذلك، وكذلك ملامح التناول النقدي في اللغة العربية والإنجليزية، وهو ما يطمح هذا الكتاب إلى تحقيقه على نحو ما.
    ومن جانب آخر لن نعرض هنا معالجتنا النقدية للطيب صالح في هذا الكتاب التي تضمنها كتاب: الطيب صالح، مثل مصادر بعض قصصه: مثل قصيدة جيلي عبد الرحمن: عبري، أو تبيان بناء موسم الهجرة أنه حكاية داخل حكاية مستمدة من حكاية السندباد في ألف ليلة وليلة. ولكن حاول كاتب أن يقول عن ذلك البناء إنه : قصة داخل قصة:
    STORY WITHIN STORY
    ولكنه لم يضع يده على جذر البناء الذي بيناه وحددناه بسمته، بما في ذلك : الحكاية المضمنة.
    وغير ذلك من القضايا لأن الهدف هو ما قاله الاخرون عن الظاهرة وليس ما ورد من قلم كاتب الكتاب.
    أحمـد

    القسم الأول
    نقد السرد ؛ مقدم ظاهرة جديدة

    صورة الطيب صالح حسبما تتبدّى في الأعمال النقدية التي تناولت رواياته وقصصه، هذا مبحث جديد، كلّ الجدة، لم يسبق لأحد أن تناوله مجتمعا ملتما مستقصيا، لأن التعرض له يقتضي التوفر لتتبع الموضوع أفقيا والاحتشاد له رأسيا، ويحتاج إلى تخصّص، والتخصص يعني تجاوز هوامش الهواية والادعاء، علاوة على أن نقد الرواية هو باب جديد، انضاف إلى كتاب النقد الأدبي العربي اللغة، مؤخرا، في ثلاثينات القرن العشرين، فهو مولود جديد جدا ويافع، إن قيس بنقد الشعر الذي تجاوز أكثر من ألف سنة سابقة له، وكذلك الدراسات النقدية التي تشمل اللغة والنحو والبلاغة وصور الأداء الفني والإعجاز البياني في نصوص القرآن الكريم.
    النقد الأدبي يتأسس بالكتابة، ما قبل الكتابة إرهاص وتباشير ولكنه ليس من النقد الأدبي في شيء، وإن كانت الكتابة النقدية تتضمن أمشاجا من النصوص والمقولات المنتمية إلى مرحلة سيادة المرويات الشفاهية، مثل هذا الصنيع شبيه بل مماثل لتطور علوم النحو والعروض والفقه، كانت موجودة في أزيائها الشفوية، ولكنها آلت إلى علم حين خضعت للتأليف المجسم في أعمال مكتوبة.
    فلما ظهر النقد الأدبي في اللغة العربية، قام على أساس القرآن الكريم ومن بعده الشعر العربي الجاهلي أو ما في حكمه في عصر صدر الإسلام، أولا، استقامت كتابة القرآن في مصاحف برواياتها، ومعرفة إعراب الآيات وتركيبها النحوي والصرفي، ومعاني الكلمات ثم تفسير الكتاب، وعندئذ يبرز جمال القرآن من حيث التذوق الفني المفضي إلى الإعجاز البياني، واستكناه الدلالات المباشرة وغير المباشرة، وجمع الشعر في دواوين، ومن ثم برز النقد الأدبي المتصل بظاهرة القرآن الكريم وهو من حيث الكم والكيف والاستمرار حتى عصرنا الحاضر، أعرق نقد أدبي دار حول كتاب واحد في كل لغات العالم، وفي تاريخ الإنسانية، ويدخل في ذلك النقد الأدبي غير المتسق مع عقيدة القرآن، فالظاهرة الإنسانية تتضمن دائما السلبي والإيجابي، من نمط الثنائية التي يفكر بها عقل البشر: الشيء وضده. وكذلك نقد الشعر العربي هو أعرق وأضخم تراث أدبي مستمر منذ عشرات المئات من السنين، مما لاتعرفه أي لغة أخرى، فلغات الحضارات القديمة المتألقة كاللاتينية واليونانية، ماتت منذ مئات السنين، ولغات العالم المتقدم تكنولوجيا وحضاريا، هي لغات أوربية حديثة، كالفرنسية والإنجليزية والروسية والألمانية، برزت فيها آداب مؤخرا، بعد مئات السنين من ازدهار العربية ونقدها وأدبها!
    الغالب على النقد الأدبي العربي، أنه نقد شعر أولا، وهو يتمدد ليشمل مجالات علمية خارج إطار الشعر والأدب.

    ولهذا عندما ظهر النقد الأدبي الحديث، ظهر في مسوح نقد الشعر سواء أكان ذلك النقد مستمدا من ميراث النقد في الأدب العربي، أم كان واردا من أوربا، من الإنجليزية والفرنسية على وجه التحديد، مباشرة أو مترجما إلى االعربية.
    ثم ظهرت مويجات جديدة على العربية في نقد الرواية الحديثة في أوربا، متساوقة مع ما صار يترجم من تلك الروايات كله أو بتصرف، فضلا عن اطلاع بعض الكتاب على الروايات في لغاتها الأوربية أو مترجمة إلى بعض تلك اللغات، مثل المقال التاريخي الوافي الذي تناول فيه معاوية محمد نور في ثلاثينات القرن العشرين، رواية الإخوة كرامازف لدستوفسكي الذي دونها بالروسية واطلع معاوية عليها متبدية في ترجمتها الإنجليزية.
    تناول معاوية للرواية يتضمت تعريفا بالمؤدى العام للرواية وجوّها، بحيث يلم القارئ بملامح اللوحة ولكن معاوية في استعراضه يرفد القارئ بفكرة متعمقة عن مناحي الجمال والأداء الفني في الرواية، استمدها من معرفته بفن الرواية وبنقدها في اللغة الإنجليزية.
    ولنا ان نتخذ هذا المقال معيارا ونموذجا دالا على نقد الرواية ونقد السرد بأفقه الذي حددناه وهو تناول رواية أوربية، بالنقد الذي يتضمن أيضا معنى التعريف بفن الرواية ومصطلحاتها النقدية وقوامها ومكوناتها الداخلية وتطورها من البداية إلى النهاية.

    وهذا النقد لا يتناول نصا عربيا ولا كاتبا عربيا ولكنه يضيف إلى وريد العربية دما جديدا من هذا المعرض الأدبي الرائج في الغرب.
    نقد الرواية العربية اقترن بداهة بظهور الرواية العربية، وعلى وجه التحديد، حين وصلت كتابة الرواية إلى مرحلة النضج الفني التي تتخذ من فن الرواية منهجا في تناول الواقع باللغة العربية، وذلك حين صارت تبتعد عن الاتكاء على التاريخ المنحصر في حكايات، وهو الماضي البعيد، وتقبل على مواجهة الواقع الذي ينبض عرقه بالحياة الآن في يوم الناس هذا.
    وبذلك تهضم هذا الفن الذي وفد في معرضه الأوربي، وتستخدمه في تشكيل واقع فن أدبي محلي عربي اللغة والأسلوب. وهذا يعني تعريب فن الرواية الأوربية بدلا من الاكتفاء بالترجمة أو المحاذاة أو بهما معا في قران متحد.
    ولأن النقد الأدبي في اللغة العربية هو نقد شعر، متمازجا بإشراق القرآن، فكان من طبائع الأمور أن يخرج نقد الرواية على المسرح وعليه معالم من مسوح نقد الشعر وألوانه، فكأن الناقد يتناول الرواية وكانها نص شعري، ثم ينسل نقد الرواية على يد سيد قطب عند ظهور الأعمال الروائية الرائدة في النصف الثاني من أربعينات من القرن العشرين، ممثلا في تناول الأعمال الروائية الأولى لنجيب محفوظ، وقال عنها هذا الفتى : سيكون قصاص مصر الأول، وأنه يتناول واقع مصر الحاضرة.
    وفعلا صار نجيب محفوظ قصاص مصر الأول بل هو أبو الرواية العربية، وسيد قطب هو ناقد الرواية الأول، رأس هذا الفن الجديد الذي تحمس له ورفع لواءه، وتولى تقديم نجيب محفوظ وشد من أزره ولهذا حين نال نجيب محفوظ جائزة نوبل قال : يعود الفضل في تقديمي وتوجيهي إلى سيد قطب.
    أما الطيب صالح فيمثل نقلة نوعية او منحنى متجسما في رواية موسم الهجرة إلى الشمال، مما يفرض أن يتم التاريخ لتطور الرواية بظهور اسمه متابطا تلك الرواية، منذ النصف الثاني من الستينات.
    بيد أن أعمال الطيب صالح كلها وعلى رأسها تلك الرواية، دارت حولها كتابات شتى باللغة العربية واللغة الإنجليزية خاصة ، في الصحف العامة والدوريات العلمية، في الكتب والأطروحات الجامعية، في البلاد العربية ولا سيما السودان، وفي الغرب،من الأكاديميين وعامة المثقفين، ما استقل وحده حين تراكم واستفاض بتكوين ظاهرة قائمة بنفسها لايد للطيب صالح في قيامها واشرئبابها، وإن كانت تدين بوجودها إلى نصوصه هو!.
    هذه الظاهرة تمثل هذا الفن الجديد في بيئة الثقافة العربية الحديثة في أحسن صوره من حيث الكم ومن حيث النوع، فلا نعرف روائيا كتب بالعربية، نالت نصوصه هذا القدر من الاهتمام المدون في نصوص نقدية مكتوبة، ولو كان نجيب محفوظ.!

    ولهذا فإن من يقدم على دراسة نقد الرواية، سيكون ملزما في البدء وفي التناول ملزما بالوقوف على النقد الأدبي الدائر حول ظاهرة الطيب صالح.
    وستناول في الفصول التالية الملامح الدالة على سمات هذا الفن النقدي، متناولين:
    1: حول الحمى أو الرقص بدون إيقاع.
    2: المؤثرات الغربية. أو : " المصادر الغربية".
    3: الخصائص الفنية. الاستجابة. أو: " السمات"
    4: المساهمة السودانية.
    ( محمود مدني: الملحق)



    القسم الأول

    حول الحمى:
    نخلة على الجدول: قصة الطيب صالح التي نشرها عام 1953، في مجلة لبنانية، وهي أول عمل ينشره الطيب صالح، الذي طلع على الناس في مبدا أمره في مسوح كاتب قصة قصيرة. هذه القصة أعاد عثمان علي نور نشرها مرة أخرى في الخرطوم في مجلته: القصة: عام 1960.
    وفقا لمنهاج مجلة القصة، فإنها تنشر في العدد التالي نقدا للقصص المنشورة في العدد الماضي، وهذه المرة تولى نقد قصص العدد الماضي الكاتب المرموق النشط: حامد حمداي.
    نحى حمداي في تناول القصة، منحى أن يفرض عليها مفاهيمه الخاصة من الخارج، ويتعامل مع القاص وكأنه يحتاج إلى دروس في معرفة أصول القصة:
    "في هذه القصة كثير من المآخذ: أولها المبالغة"!.
    لم يرد في القصة أنها تحدث أو تتخذ مكانا لها في بيئة منطقة دنقلا ولكن حمداي يفرض عليها هذا المكان" تقع حوادث القصة في منطقة دنقلا"، وأنه ورد في القصة "الدوبيت الذي حشر فيها حشرا" ! وقال:
    " أهل دنقلا أو حلفا لا يعرفون الدوبيت بل لعلهم لا يستسيغونه فضلا عن أن يتمثلوا به". ضاهاها بتصوره للواقع الذي افترضه، وحال بين الخيال وبين حق التفلّت من أسر الواقع، ويمضي في تقده:
    " هناك تناقض وقع فيه المؤلف، .. من غير المعقول أن يتوسط مزارع ويساعد التاجر الجشع..فلو غفرنا للمؤلف مسألة بيع النخيل وهي مسالة جد صعيبة، لأن الأهالي ينظرون إلى النخيل نظرتهم إلى الأولاد والبنات، لو غفرنا ذلك فإننا نعجز(عن أن) نغفر له وقوف مزارع بجانب التاجر..كان الأفضل أن يكون الوسيط تاجر آخر"، ويقول حمداي: " أكبر الظن أن المؤلف لم يزر منطقة دنقلا إطلاقا، البيئة التي جرت فيها حوادث القصة"! " استمع إليه يقول : " لقد مات الزرع ويبس الضرع وعم القحط"، القحط دائما مربوط بعدم المطر. يعتمدون هناك على النيل، والنيل ما زال جاريا منذ مئات السنين..فمن أين يأتي القحط! أجل يأتي بالافتعال وحده".
    يحاكم القصة إلى الواقع ويفرض عليها أن تلتزم بالتجانس مع بيئة الواقع ولا تخرج عنها قط، وهذا مفهوم للواقعية، كاف لوصف القصة بالافتعال، لأنها تناولت أمرا غير مألوف في منطقة دنقلا التي لم يرد ما يثبت انتماء القصة إليها، بصرف النظر عن صحة ذلك الحكم وإن أقرّت القصة نفسها بأنها جرت وقائعها في منطقة دنقلا!
    ويضيف إلى ذلك: "الكاتب أسرف في استعمال المنلوج الداخلي إلى درجة تبعث الملل".
    وأن "الكاتب أسرف في التفاصيل " من السهل جدا أن تختصر هذه القصة إلى نصف حجمها الحالي ليقال لها قصة قصيرة". (مجلة القصة، الخرطوم، توفمبر 1960، ص ص:28و29).
    هذا أول نقد يوجه إلى عمل من أعمال الطيب صالح وهو عمله الأول، وجرى ذلك في بلده من أهله الأقربين. وهو نقد متحامل حافل بالإزراء، لاينظر إلى العمل على أساس أنه كينونة تعالج في حدود تكوينها الداخلي المستقل. نقد أشبه مايكون بهجائية متعالية باسم الواقعية التي تعني محاكاة الواقع حذوك النعل بالنعل. وحمداي ينتهج في نقده مسلك الواقعية الاشتراكية بمتنه المتعنت لا يريم عنه!.
    ومن المفارقات أن أحد كتاب المجلة المداومين وهو محمد عثمان أبو ساق الطالب في جامعة الخرطوم، كتب مقالا عنوانه : مسؤولية الناقد، وجهه إلى حامد حمداي، بمناسبة تعليقه على مواد العدد السابق، ومن بينها قصة ترجمها أبو ساق نفسه، قال فيه:
    " أعجبني نقدك الموضوعي لقصص أحمد سليمان والمصاريف ونخلة على الجدول، رغم أنك قسوت على كاتب نخلة على الجدول" (القصة ديسمبر1960 ، ص: 32)
    هذه العبارة: قسوت على كاتب نخلة على الجدول، عبارة تاريخية المؤدَّى، لأنها في باب النقد هي أول كلمة طيب تقال عن كاتب نخلة على الجدول، في بلده وعن أول عمل له.
    وهذا التجني في البداية، أو: الاستهلال، يجب أن يقرن بواقعة سجلها الطيب صالح نفسه، ردا على كاتب عربي، عن مسابقة في تونس جرت في قاعة كبيره أمّها جمهور غفير، ترأس الطيب صالح لجنتها، فكتب يقول: في رده على كاتب المقال المنشور في مجلة الدستور اللندنية ابريل عام 1986:
    " لقد لفت نظري فظاظة الأسلوب مثل قوله: عن الطيب: (وبدا للناظر أنه يعاني ألما حادا في أمعائه الغليظ أو شريانه الأبهر، بسبب ذلك التصلُّب الدائم في شرايين وجهه، بدا متضايقا حين طلب إليه أن يكون حكما في أمر لا يفقهه، ويعرف جيدا أن آخرين أولى منه في هذا المنصب الرفيع، الطيب صالح الخبير في كتابة الرواية أريد له أن يكون خبيرا في التلفزيون أيضا).
    يتولى الطيب صالح الرد على الحُكم الجائر الموجه كرصاصة قاتلة إلى رأسه وقلبه معا، بإثبات أن الحكم الجائر هو ادعاء كذب مجاف تماما للحقيقة لأن الحقيقة أنه خبير وخبير عالمي في الإعلام فيقول له:
    " صرفت عمري في مزرعة الإعلام، وأفهم في التلفزيون والإذاعة ووكالات الأنباء والصحافة، وكل ما يتعلق بالا تصال والإعلام، ولقد عملت في هيأة الإذاعة البريطانية ووزارة الإعلام السودانية وكنتُ مديرا لوزارة الإعلام القطرية، وشغلت منصب المستشار الإقليمي للاتصال أي الإعلام في اليونسكو، وها أنذا أعمل ممثلا لليونسكو في دول الخليج، إذاً فأنا أفهم في التمثيل، ألا يكفي هذا يا جماعة الخير"!
    والأفظع هو الذي تخلّى الطيب عن تناوله مترفعا، لأن الاستهزاء بشكل الطيب، يبدو وكانه تقرير طبي صادر من طبيب عن مريض ميؤوس من شفائه من مرض نفسي – عصبي وآخر عضوي، ولم يقل إنه كان رئيس قسم التمثيليات في الإذاعة البريطانية الناطقة بالعربية على مدى سنين، ثم يقول الطيب صالح في رده المفحم الدال على مكر بياني مزلزل:
    "إن هذا الأخ أورد فقرة كنتُ قد حذفتها من الكلمة التي ألقيتها في حفل توزيع الجوائز، وضحكت فيها على نفسي، أنني لا أصلح أن أكون حكما في القانون، ولا أصلح أن أكون رئيسا للحكام،.. لقدد أردت أن أدخل المرح في جو متوتر، مراسلكم هذا يا سيدي ليس عنده أي Sense of Humour فضحكت على نفسي أولا وعلى أهل السودان عشيرتي الأقربين ثانيا، ولو ضحكت على أهل الشام أو أهل مصر لأدخلتمونا في طيز وزة، كما قال الحردلو: المهدي داك ولدا قدل في عزة، حتى ود البصير دسيناه في طيز وزة.
    إن أشكل عليك البيت أسأل السودانيين".!! (مجلة الدستور، لندن، 21| 4| 1986 ص:47)
    والمراد بالإشكال ليس البيت بل كلمة واحدة وردت في البيت!
    وهذا المسلك العدواني في حق الطيب يورد هنا لأن الاستهزاء جرى ضده لأنه كاتب رواية، وفق ما ورد في كلام المتجني المدسوس رمزيا في منطقة شديدة الحرارة ولا نار جهنم!
    وهذا النمط من اختلاط العنف اللفظي (اقرأ السب والتجريح المجاني) يتكرر في مرات ومرات في حق الطيب صالح، حتى من قبل من يفرطون في الثناء عليه كاتبا وإنسانا في حين ما، مثل الكاتب المصري عبد المنعم سليم الذي قال عن رواية موسم الهجرة:
    " إن هذه الرواية أحسن رواية كتبت في الأدب العربي"!
    ولكنه في مستهل المقال نفسه يقول ؛ إن علاقته بالطيب صالح بدأت عام 1962، حين ذهب إلى لندن مرافقا لزوجه الكريمة التي جاءت لنيل درجة الدكتوراة. وأنه قابل جونسون ديفز الذ ي " سألني عما إذا كان سبق لي أن كتبت أعمالا درامية للإذاعة، فقلت نعم ولدي بعض الأعمال بالفعل استعدادا لأن أتعامل مع القسم العربي في الإذاعة البريطانية... رفع سماعة التلفون ... وسمعته يقول: طيب. أنا عندي كاتب مصري اسمه كذا وأعتقد أنه كاتب كيّس وعنده تمثيليات للإذاعة"، حدّد لي الطيب صالح موعدا لمقابلتي الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي.
    في الموقف المحدد كنت في مقر إذاعة بي بي سي، بوش هاوس،و بالطبع في حوزتي إحدى التمثيليات الإذاعية.
    انتظرت الطيب صالح لمدة نصف ساعة، ولما لم يحضر، كتبت له رسالة أعنفه فيها وتركت له التمثيلية مع الخطاب وعنواني وغادرت المبنى".
    (عن كتاب الطيب صالح دراسات نقدية، الريس، بيروت، 2001 . ص ص71و72)
    ولكن مع كل هذا " التعنيف" الذي تجرعه الطيب صالح سما وبشتنة، ماذا كان رد فعله، هذا ما يحكيه الكاتب في ذلك المقال:
    " في اليوم الثالث فوجئت بخطاب من إدارة العقود في تلك الإذاعة يخبرني أن قسم الدراما العربية وافق على التمثيلية المقدمة مني ومرفق بالرسالة عقد عمل لكي أوقع عليه وأرسله بالبريد...فوجئت في اليوم التالي باتصال من الطيب صالح يدعونني للعشاء في بيته..وقضينا أمسية لطيفة" ص( ص 72).
    الطيب اعترف بأياديه البيض كثير من الكتاب المصريين الذين أقرّوا بفضله عليهم على أيام رئاسته لقسم الدراما في لندن، في الستينات ومستهل السبعينات، على أيام عبد الناصر وخليفته السادات، مثا أحمد رشدي صالح رئيس تحرير مجلة الكاتب القاهرية التي ولغت في حق مجلة حوار التي قدّ مت الطيب صالح، فقال إنه عاش في نعيم بلندن بفضل العقد الذي وقعه بمبلغ 4 آلاف جنيه كل عام مقابل تمثيلية أو تمثيليتين في العام.! بفضل الطيب صالح.
    في الاحتفال بالطيب صالح بعيد رحيله في مصر: بهاء طاهر تحدث عن علاقته بالطيب صالح التي بدأت في لندن، في الوقت الذي كان طاهر يمر بضائقة مالية ولم يستقر على عمل هناك، بعد أن غادر مصر في أيام السادات، مُجبرا على ترك العمل بالإذاعة، ودعاه الطيب صالح إلى العشاء في أفخم مطعم بلندن، (!) وختم حديثه بالإشارة إلى أن إذاعة بيبي سي اتصلت به ليعمل معهم، وأغلب الظن أن الطيب صالح رشحه لهم".(أخبار الأدب، القاهرة،8|2| 2010. ص:7)
    ليس بظن وإنما من المؤكد أن الطيب هو الذي حمل أمانة تلك المروءة، وهو رئيس القسم، ولم يكن بهاء طاهرالوحيد الذي حظي بتلك المكرمة الطيبة في الإذاعة البريطانية. بل في الدوحة يوم أسّس هو وزارة الإعلام القطرية، بل في بيته بلندن، يقول محمود سالم : قابلته في لندن سنة 1968، التي اتجهنا إليها بعد اندلاع مظاهرات الطلبة في فرنسا. أذكر أننا بتنا في منزله أول ليلة وصلنا فيها هناك" (أخبار الأدب: ص: 17) بدون مَنٍ ولا تبجح، ولكن حين سيطر المصريون على القسم العربي في الإذاعة البريطانية من بعد وخلا لهم الجو، أوصدوا أبوابها في وجه السودانيين خاصة، وهم يمثلون أعلى الكفاءات.
    ومن جانب آخر يحار المرء في تعلق كثير منهم بالطيب صالح الذي وصفه كاتب :أنه كان رحمة على المثفين المصريين ، لأن المثقفين دائما فقراء!
    ومع ذلك يبدو الطيب صالح غير معفى من العنف والتجني ، فيقول: سعيد الكفراوي ليلة الاحتفال بالطيب:
    " بالرغم مما قدمته له الثقافة المصرية، بإبرازه نقديا وإعلاميا ، إلا أنه كان يشعر ببعض المرارة من سطوتها و(من) إنكاره" .( نفسه، ص: 17)
    وبقول إبراهيم أصلان: " كان صديقا عزيزا رغم كثرة مآخذه على مصر التي لم تكن تنتهي، عن صورة المواطن السوداني، في السينما المصرية. إلا أنه كان يفعل ذلك بقدر من المرح، وإن امتزج بقليل من المرارة". ( نفسه، ص ص: 17)
    وهذا يعني بتحريف الكلم أن الطيب صالح يسيء إلى قداسة مصر، وهو يتوجه بالنقد إلى مؤسسات ثقافية واجتماعية، ولم يمس قط المجتمع المصري ولا دولة مصر المحروسة. بيد أن أصلان في مكان آخر، يذكر فضل كاتب سوداني آخر عليه، كانا يعملان معا في مؤسسة البريد المصري وهو محي الدين محمد الناقد الأدبي، وأنه تولى توجيهه وأمده بكتب نافعة وأساسية!.
    وهنا إنكار لحقه في التعبير عن رأيه في التنميط السينمائي وتعمد التقليل من مكانته هو في باب الرواية. إنكار في حق الاستمتاع بالحزن :" المرارة".
    فمن مسببات تلك المرارة، ولو بصورة غير مباشرة، موقف الكاتب السوري محي الدين اللاذقاني في لندن، من الطيب صالح الإنسان، عندما كان يعمل هو والكاتب والناشط السوداني المقيم في لندن :عمر خيري، في جريدة الصحفي الصالحين المرموق: الليبي: العرب.
    أتى اللاذقاني إلى المكتب الفني في الجريدة، يطلب صورة للطيب صالح لتضمينها في صحيفة الغد. وسأله الزلمي مسؤول المكتب الفني: مين ها دا الطيب صالح.
    فقال محي الدين اللاذقاني بطواعية وكأنه يتنفس: دا واحد عبد سوداني!
    والتفت اللاذقاني وراءه فوجد عمر خيري السوداني زميله في العمل، يقف وراءه! وقد سمع ما قيل ! في حق الزول السوداني، الزلمي الكبير! وحاول اللاذقاني الفهلوة والتنازل والجرسة. قال له عمر خيري:
    " ما خلاص أنت قلتها وانتهيت!
    الحق : أنفك منك وإن جدعت، أو كما قال الشاعر:
    قد قلت ما قلت إن حقا وإن كذبا فما اعتذارك من قول إذا قيلا
    وتمر سنوات ويقطن اللاذقاني في مسكن بالحي الذي يقيم فيه الطيب صالح في ومبلدون، ويكتب عن زياراته المتكررة ل"السوداني" الطيب صالح في بيته، ويكتب أيضا عن مشاركته في مهرجان اصيلة في المغرب، بفضل الطيب صالح.
    وهكذا مثلما قابل تعنيف كاتب التمثيليات بالبر، كذلك أحسن إلى اللاذقاني.
    يعجب المرء للقيم التي تزين قلب المثقف العربي وعقله!
    وقد يصل التجني حد حرب إبادة ثقافية لاتذر، مما دفع رجاء النقاش رئيس تحرير مجلة الدوحة التي تصدر عن وزارة مديرها الطيب صالح! ليكتب مقالا عنوانه: إنهم يشوهون المثقفين، قال إنه قرأ منذ أسابيع مقالا في المجلة اللبنانية : الحوادث: " يفيض بالافتراء والأكاذيب ضد الفنان العربي الكبير الطيب صالح، وفي المقال تجريح للطيب صالح لا يقبله عقل أو ضمير". ( الدوحة، ديسمبر 1979. ص 41)
    ولعل أفضل رد على مثل هذا المقال هو الامتناع عن الرد عليه، ففي الرد ترويج على الأقل لحدوث تشويه أو محاولة تشويه.!
    ومما يكمل صورة النقد الخارج عن حمى النص، بالتعامل المنحصر في ماكتب الكاتب، لا مناص لنا هنا من أن نشير إلى أن بعض النقد المدوّن نفسه، لم يسلم من الغلو، خاصة في التعامل مع رواية موسم الهجرة وكأنها أدب إباحي، يكتب عماد العبد الله، عن موسم الهجرة : " النقد الكثير المسفوح أثناء صدورها من أمامها ومن جوانبها. على الأغلب لطابعها الأيروسي." ( مجلة الناقد، لندن، أبريل 1993، ص ص:24-27)
    وهو رأي ينم عن اتجاه عريض، عبر عنه أكثر من كاتب.
    أن قيمتها محصورة في " الرفث"! الكلام الإباحي قليل الأدب! لفاحشة! الجنس! التابو!
    وهناك من يستنكر على الكاتب السوداني مكانته: يقول شوقي بغدادي:
    "الطيب صالح من السودان.. اسم لامع الآن حقا، ولكن انتاجه مع ذلك لا يعد كافيا لهذه الجدارة التي نالها الكاتبان: نجيب محفوظ ويوسف إدريس، ليس كافيا كتابة رواية أو روايتين أو مجموعة قصصية واحدة أو اثنتين، إلا في حالات استثنائية جدا، كي تكرس الكاتب كبيرا في الذاكرة". ( مجلة الثقافة العربية، أغسطس 1976، ص: 76)
    ولو أننا رجعنا إلى ركائز النقد الدبي العربي منذ أكثر من ألف سنة مضت، لوجدنا إجابة شافية عن سر الاستثنائية، فشاعر مثل طرفة بن العبد الجاهلي ليس له إلا ديوان واحد صغير ونحيل، ومع ذلك نال مكانته بين الفحول في أسمى طبقاتهم.
    المتنبي نفسه عند ناقده الأول : المعري، ليس له من الشعر الجيد إلا قدر قليل من الشعر، جمعه المعري في ديوان صغير ولكنه سماه : (معجز أحمد) لأن هذا القدر القليل من الشعر يحلق فيه المتنبي في آفاق عالية ورعان، متفردة ولا يكاد يبلغها إلا شعراء " استثنائيون جدا" ومن هنا ليست العبرة، بالكثرة، فضلا عن أن بعض الكتاب لا يخرج من أقلامهم إلا النماذج الاستثنائية " جدا".! مثل: حيمس جويس!. بيد ن كتابات الطيب لا تصل إلى مستوى : ال " حالات الاستثنائية جدا"! عند هذا الكاتب!.
    الآن نصل إلى مرحلة استعراض وتحليل هذا الجانب من النقد المضاد لنموذج التجني والتدمير وتبخيس الشأن في حق الكاتب شخصا ونصا، لنجد ما ينتمي إلى الاستحسان بل والتمجيد والتفضيل ربما المطلق، وهو ما نورده على سبيل الاستدلال بغير حرص على الحصر:
    1: الكاتب السوري الناقد المرموق، محي الدين صبحي، قارن موسم الهجرة بعطيل شكسبير فوجدها في مستوى شكسبير، بل إنه أفضل من شكسبير، وأحسن من جوته في فاوست.
    2: أحمد شمس الدين الحجاجي، أستاذ الأدب في الجامعات المصرية، تناول رواية عرس الزين في كتاب، فقال:
    " لا يختلف ما صنعه الطيب صالح في عرس الزين ودومة ود حامد، عن ما صنعه سوفكليس في أوديب".!
    وقال أيضا عن نموذج الولي في الرواية ويعني به الحنين:
    " أكمل صورة يرسمها قاص في أعماله الفنية عن الولي".!
    ( صانع الأسطورة الطيب صالح، سلسلة المكتبة الثقافية، هيأة الكتاب، القاهرة، 1990. ص7 وص 100)
    3: علي الراعي، قال عن عرس الزين: " زغرودة طويلة للحياة" " أغنية حب يرتفع بها صوت فنان كبير القلب" " لإن الطيب صالح يعرف ناسه ويجلس معهم على الأرض. كأنه واحد منهم"،" وهذا حقا وصدقا شيء عظيم".
    " منذ نشر الطيب صالح روايته الأخاذة موسم الهجرة، ونحن في تحفـُّز كبير، الفرحة تغمرنا والدهشة، أين كان الطيب مختبئا طول هذا الوقت".
    ( رواية عرس الزين، مجلة الهلال، يوليو 1970، ص ص: 31-35)
    4: جلال العشري الناقد الأدبي في عام 1968، تناول الرواية في مقاله: " زوربا السوداني":
    " الاسم يبدو جديدا، ولكن كتاباته تدل على تمرس طويل بالأساليب، ومعايشة حقيقية لأسرار الكلمة، وإدراك واع لمزايا اللغة في الفن والتعبير، .. ملكة هذا الكاتب تتعدى ذلك كله إلى تفجير ما في اللغة من طاقات".
    ويقول إذا كانت الرواية قد تجمدت عند كاتبنا الكبير نجيب محفوظ، حتى يكاد يقف وحده على خشية المسرح، " فهاهو الطيب صالح يعتلي خشبة المسرح بخطى فسيحة، وقدم راسخة ليطلع شمسا جديدة مشرقة في سماء الرواية العربية".!
    5: محمد حسن عبد الله أستاذ الأدب الحديث في الجامعات المصرية، قال:
    " استقبلت رواية موسم الهجرة عام 1966، كعمل لا يُضاهَى،...حتى لقد حجبت الفرحة بها ما سبقها"!.( محمد حسن عبد الله، الريف في الرواية العربية، سلسلة عالم المعرفة، نوفمبر 1989، الكويت. ص:306)
    6: جورج سالم يطلق على نمط من الروايات " رواية الاغتراب" ، على رأسها: عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، والحي اللاتيني لسهيل إدريس، وموسم الهجرة، ثم يخرج بهذا الحكم:
    "إلا أن المعالجة في موسم الهجرة أشد عمقا،.. وضع مبضعه في موطن الداء بقسوة لا ترحم، وصدق يدعو إلى الإعجاب والدهشة".!
    " دخل الطيب صالح ميدان الأدب بخطى ثابيتة".
    (المغامرة الروائية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1973. ص:170 وص: 169).
    7: في تونس كتب محمد الصالح المراكبيي، عن موسم الهجرة:
    "" لعل موسم الهجرة أهم أثر روائي جلب اهتمام الدارسين والنقاد، لما احتوته من قضايا حيوية". (مجلة الفكر، تونس، فبراير 1977. ص : 151).
    8: الناقدة والأكاديمية، سيزا قاسم ، قالت في صدر دراستها عن موسم الهجرة:
    " هذه الرواية من أكثر الروايات العربية نجاحا في الغرب".
    ( مجلة فصول، القاهرة، يناير 1981، ص: 228)
    9: نختم هذه البانوراما المكدسة بعبد المنعم تليمة الناقد الأكاديمي: قال:
    " الطيب صالح ألمع أبناء النيل.. قفز بالرواية العربية بعمقيها العربي والإسلامي من جهة، وعمقها الأفريقي من جهة أخرى.
    لو وضعنا خريطة لمبدعين غيروا من شكل الرواية، لكان الطيب صالح في المقدمة".
    ( أخبار الأدب، القاهرة، 28|2| 2010. ص:7)
    الآراء الواردة أصدرها أكاديميون وكتاب متخصصون ومجودون، تتفق كلها في موقف واحد إيجابي، يجمع على القيمة الجمالية الاستثنائية لهذا الكاتب وأعماله، وهذا النقد وليد البحث الدؤوب والمعرفة الوفيرة والتذوق، لا ينطقون في ذلك عن هوى. وليس من بينهم شخص واحد سوداني ، زول من الأزوال.
    وهنا تنتصب الصورة المضادة للصورة السلبية التي بدأنا بها هذا المقال، وهي صورة وقورة وغير متوترة أو جانحة إلى رفد التبخيس مدرارا. ولم نذكر هنا ألوانا أخرى من التبخيس واجهت الطيب صالح وأعماله، بمصادرة موسم الهجرة ومنعها من دخول الكويت، وهو ما صنعه بها أيضا الأزهر الشريف، وما وصمت به مجلة حوار التي نشرت الأعمال الأساسية للطيب صالح لأنها مُـموّلة من قبل منظمة تتلقى تمويلا من المخابرات الأمريكية عن طريق مؤسسة فورد، وهو كلام حق ثبت حدوثه، ولا سبيل إلى إنكاره بحال. بل بلغ التجني حد وصم الطيب صالح بالشيوعية، وخاصة حين قال في تحقيق صحفي إنه يؤمن بالاشتراكية الفابية التي تحققت في بريطانيا عام 1945!
    العوامل الكامنة خارج النص، وقرن الكاتب بنصوصه في نسيج واحد، في حالة الموقف السلبي، هي مسائل شديدة الأهمية في الدلالة على سمات الاستجابة لأعماله الأدبية، وعلى مزاج في الاستجابة في بيئة الثقافة العربية، وذلك أيضا قد ينطبق حينا على الموقف الإيجابي، فنجد توفيق حنا يكتب مقالا عن روعة الأداء الفني في أعمال الطيب صالح، فلما قابله في لندن، قال إن الطيب صالح الإنسان في مستوى جمال نصوصه بل هو أجمل من نصوصه بكل جمالها الفني الآسر.
    بيد أن هذه الآراء ذات المنحى الاستحساني، هي أحكام ميزت نقد الكتاب العرب، في حين أن النقد المدون باللغة الإنجليزية لكتاب أكاديميين، اهتم بحليل النصوص ومقارنتها وتطبيق مناهج شتى عليها، بدون الارتكان إلى إصدار أحكام، وذلك بالتالي أدى إلى جني حصيلة وافرة من السمات والمزايا، واستنطاق النصوص دلالات رمزية وفلسفية، على أن الكتاب العرب يشاركون في رفد هذا الجانب في ما دونوه بالعربية فضلا عن الإنجليزية.

    القسم الثاني



    عن المصادر الغربية:

    ما بين المصدر والمتوازي:
    نتناول هنا العلاقة بين بعض نصوص الطيب صالح وبين مصادر غربية أفاد منها الطيب صالح على نحو ما أو تحاور معها في علاقة توازٍ، وسنجد الطيب نفسه يصلح لآن يكون مُعينا على ذلك، بما ورد على لسانه في بعض المقابلات التي جرت معه.
    في الكتاب الصادر عن الجامعة الأمريكية في بيروت، وهو كله مخصص لثمان دراسات بالإنجليزية، ودراستين بالفرنسية عن رواية موسم الهجرة إلى لشمال، حررته منى الأميوني، تحدث الطيب صالح بالإنجليزية عن موضوع العلاقة علاقة أعماله بنصوص غربية فقال:
    “I would like to mention two foreign influences on me, I have been specially struck by Shakespeare in King Lear and Richard the Third, and by Conrad in Heart of Darkness and Nostromo”.
    (منى تقي الدين: إشراف، الطيب صالح: دراسات في موسم الهجرة، الجامعة الأمريكية، بيروت، المجلد32 من مجلة الأبحاث،، 1984)
    " أود أن أذكر مؤثرين اثنين،.. لقد استرعى انتباهي بصورة خاصة، شكسبير في الملك لير ورتشارد الثالث، وكونراد في قلب الظلام ونوسترومو."
    هنا مسرحيتان لشكسبير وروايتان لكونراد، وسنفصل القول عن الكاتبين، وسنورد من بعد كلاما عن كتاب وعن نصوص أخرى:
    شكسبير:
    يمكن ان نستفيد في هذا الشأن من كلام الطيب صالح الذي قاله في مقابلة غير معروفة إلا في نطاق محدود جدا، أجراها معه كاتبان وأكاديميان تونسيان، عام 1979، في مدينة الدوحة، وهما جعفر ماجد ونور الدين صمود، ونشرتها مجلة الفكر التونسية، قيل له في السؤال : إننا سمعنا لك رأيا عجيبا طريفا أنك كتبت موسم الهجرة إلى الشمال بقصد معارضة "رواية ( كذا) لشكسبير"! وكان هذا المصطلح: رواية يطلق على المسرحية أيضا!، ولعله ما يزال مستخدما في بعض البيئات. وواضح أن السؤال ينطوي على استغراب، يتضمن معنى التهويل، كيف يجرؤ على مناطحة شكسبير، ولكن الطيب صالح التزم سمت هذه الجرأة الواثقة والآسرة، في مكان آخر حين تحدث عن رواية عرس الزين، هذه الرواية الريفية التي تصور حال قرويين في بيئة ود حامد، قائلا بثقة إنه منذ البداية هدفه خلق أسطورة لهؤلاء القرويين، فهم مثل القرويين اليونان الذين خلق لهم هوميروس أسطورة. إنهم يستحقون اسطورة مماثلة.
    ورد الطيب على ذلك:
    " لا أزعم أنني كتبت الرواية لهذا الغرض، لكن من ناحية الشكل كانت مثل أن يعارض شوقي ابن زيدون أو البحتري،. فأنا قلت: أكتب على نسق عطيل، وعطيل مسرحية لشكسبير، ولكن أعطي بطل الرواية أسبابا أكثر حقيقة، أي إقناعا، من الأسباب التي ذكرها شكسبير في مسرحيته العظيمة.
    في مسرحية عطيل، عطيل كان يشبه بطل موسم الهجرة، مع فارق الزمن لأنه شخص في أغلب الظن، يكون عربيا، عربيا أفريقيا".( الفكر، يناير 1978، ص: 39).
    وهذا الوصف بحذافيره يرد في موسم الهجرة عن مصطفى سعيد الذي يبدو وكانه يطلقه على نفسه كسمة مميزة له. ثم يتحدث الطيب عن موقف النقاد الإنجليز من هذه المأساة ممثلة في حادثة القتل:
    " يجدون صعوبة في تفسيرها، لماذا قتل عطيل ديدمونة، ولماذا انساق لوساوسياجو؟ لا يوجد أي سبب يجعل عطيل يقتل ديدمونة! إلا إذا كان عطيل بدا يتصرف كإنسان غريب عن هذا المجتمع، وليس راضيا ولا مقبولا فيه" .( نفسه. ص: 39)
    وبطبيعة الحال أن مصطفى سعيد ، شخص أجنبي في ذلك المجتمع اللندني، ولعل الطيب صالح جسّـمه في صورة محوية بأنه من الناحية الاجتماعية غير مقبول في ذلك المجتمع وفاقد تماما للتجانس معه، على صعيد العلاقات الإنسانية مع النساء.
    على أن نور الدين صمود يسأل: عن سبب القتل: " لعله الشك في إخلاص ديدمونة وحكاية المنديل، فيجيب الطيب:
    " أجل. لكن ماذا؟ أنا طبعا ذكرت في منظر القتل، أشرت إلى حكاية المنديل. من يقرأ شكسبير يفكر فورا في قتل عطيل لديدمونة، لكن لاتوجد أسباب وجيهة لهذا القتل. مصطفى سعيد قتل لأسباب واضحة، منذ البداية لأنه هو يحس بغربة في هذا المجتمع، وهو رافض لهذا المجتمع رغم أنه أحرز فيه قدرا كبيرا من النجاح. وكانت الغيرة لأسباب اجتماعية قومية، وليست مجرد إحساس زوج بالشك تجاه زوجته" .
    ( نفسه، ص: 39)
    بيد أن مسرحية شكسبير استهوته وراقته، وفي مكان آخر يضيف مسرحية الملك لير، لشكسبير، ودخل في حوار معها، وكأنه يجلو المسرحية الشكسبيرية في ظروف جديدة مغايرة لظروفها عند شكسبير، خاصة أن الطيب يقول عن مجتمع البندقية حيث عاش عطيل:" كان أرقى مجتمع في ذلك الحين. وقـُبل عطيل كواحد في ذلك المجتمع الأوربي". ( نفسه)
    ومجتمع لندن الذي قبل مصطفى سعيد وكفل له فرص الترقي والنجاح، هو أرقى مجتمع أوربي في ذلك الحين بعيد الحرب العالمية الأولى.
    لامناص لنا من أن نذكر هنا أن باحثة أمريكية تعمل في كلية أمريكية ، كتبت دراسة بالإنجليزية ونشرتها في المجلة الإنجليزية : إدبيات، المتخصصة في دراسة الأدب العربي، ولعلها تصدر عن جهة تمثل مدرسي اللغة العربية في أمريكا. وهي محدودة الانتشار جدا.
    عنوان المقال هو "موسم هجرة عطيل" عام 1979، تناولت هذا الجانب الذي استفاض في تناوله الطيب صالح من قبلها في مجلة تونسية، ولكنها لم تشر إلى هذه المقابلة ومجلتها، ولكنها مع ذلك تناولت هذا المفهوم بل استخدمت مصطلح : معارضة الذي استخدمه الطيب صالح في تلك المقابلة، وأثبتته هي بنطقه العربي بالرسم اللاتيني أو الأفرنجي أو الإنجليزي! وبمفهومه في الأدب العربي:
    Season of Migration…. is a novel, a form imported by the Arabs from the west. But it participates as well in what, in Arabic literary terms, is called MUAARADA, literary: opposition, but meaning here a formula whereby one person will write a poem, and another will retaliate by writing along the same lines, but reversing the meaning. Tayib Saleh’s use of the novel form might be taken as a literary practice of this sort. It is a reading of Shakespeare’s Othello, a restatement of the tragedy, a reshaping of the tragic figure of the Moor.
    (Barbara Harlow, Othello’s Season of Migration. Edebiyat, Chicago, USA, 1979, pp: 162- 163.)
    "موسم الهجرة رواية، شكل استورده العرب من الغرب. لكنه يساهم كذلك في ما (يُطلق عليه) المصطلح الأدبي العربي، "المعارضة": المناقضة. مما يعني هنا صيغة أن يقوم شخص بنظم قصيدة ويقوم شخص آخر بمعارضتها بنظم قصيدة أخرى، مماثلة لها في الوزن (البحر) ولكنها ذات معنى مناقض، استخدام الطيب صالح للرواية كشكل يجب أن يعامل كممارسة أدبية من ذلك النوع. إنها قراءة لعطيل شكسبير، إعادة تركيب المأساة. إعادة تشكيل الشخصية المأساوية للموري."

    يجري الكلام السابق بفصه ونصه، على السنن الوارد في كلام الطيب صالح من قبل. دون أن تشير إلى المصدر ومن عجب أن الطيب صالح في تلك المقابلة تكلّم عن المستشرق البريطاني بيرتون، وقد ورد ذكره في مقالها.! وهو أمر لا يثير العجب، في الغرب أيضا يسطون على الأفكار والمعلومات، ولا يشيرون إلى المصدر.! وكانت الأمانة العلمية تفرض عليها أن تذكر مرجعها. العجيب أن الرأي صادر من الطيب صالح نفسه وبهذا يكون ط ص هنا هو كاتب الرواية وهو ناقدها أيضا في حدود هذا الرأي الصادر عنه هو شخصيا.
    ولنا أن نثبت هنا أن الطيب صالح يشارك في نقد أعماله، بما يرد في أحاديثه ومقابلاته من معلومات وإضافات. يمارس ذلك دون أن يقصد إلى أن يجعل من نفسه ناقدا لأعماله ولكنه كذلك، يستحق تلك الصفة!.
    كونراد:
    يظهر ان العلاقة بكونراد تكاد تنحصر في موسم الهجرة إلى الشمال، أن كلا الكاتبين كتب روايته وهو مقيم خارج بلده، وفي مدينة لندن على وجه التحديد، وتناول كل منهم
    قضية الاستعمار وأثره على البلد الخاضع للاستعمار.
    ولكن قيمة كتاب كونراد تكمن في أدائه من حيث تفرد الكتابة الروائية المبدعة وجدتها.
    وهذا ما نال من قبل ميلاد الطيب صالح، اهتمامَ حركة الحداثة الإنجليزية في لندن، بعيد الحرب العالمية الأولى، مثل: ت. س . إليوت.
    ولعلنا حين نطلع على مادة: كونراد في دائرة المعارف: ويكيبديا في الشبكة العنكبوتية، نجد خلاصة وافية عن مكانة كونراد الذي توفي في لندن عام 1924، ويعد طليعة حركة الحداثة التي عرفتها لندن من بعد رحيله:
    Considered an early modernist
    وأن منحاه في السرد الروائي وفي نمط " اللابطل"، كان له تأثير جم على كوكبة من الروائيين بل والشعراء، منهم : إليوت وفوكنر ومؤخرا سلمان رشدي.
    ولاسيما روايته القصيرة النحيلة: قلب الظلام" التي تشبه موسم الهجرة، في الحجم الخفيف ورقيا، والاشتعال والخطورة وضخامة القيمة معنويا وفنيا. فعندما كانت الإمبراطورية البريطانية في قمة عظمتها، ظهرت رواية كونراد عام 1899، حيث كان كونراد يمتاح في نسج روايته بؤسا وألما ممضا من التجربة الوطنية المؤسفة الخاصة ببلده: بولندا، ومن تجربته هو في البحرية الإنجليزية والفرنسية، متناولا مظاهر السيطرة الأوربية التي تجلت من بعد في أرتال من المآسي والحروب، مما يعتبره النقاد تحقيقا لنبوءات كونراد. تتناول الرواية رحلة يرويها البحار مارلو لأصدقائه، على سطح زورق في نهر التايمز بلندن، عن رحلته بزورق آخر عبر نهر الكونجو في أفريقيا.
    تقوم فكرته الأساسية على أنه لا فرق بين شعب يوصف بالتحضر وشعب آخر يوصف بالخلو من التحضر، ويطرح قضايا الإمبريالية والتفرقة العنصرية. إنه يدين فظائع السياسة يستمدها من تجربته الشخصية من معاناة بلده المقهور: بولندا تحت وطأة استعمار أجنبي، ومعاناة الأفارقة للاستعمار ومن هنا نبعت إدانته القوية للاستعمار والإمبريالية وسوء معاملة لقدالشعوب المقهورة. لفت الأنظار إلى قضايا إنسانية حسّاسة.
    وفي الرواية إطار داخله الزورق في لندن، في نهر التايمز والزورق الآخر في نهر الكونجو، ومثل هذه الثنائية، ماثلة في موسم الهجرة، بين م س في لندن وم س في قرية سودانية، بين الراوي وم س.
    بين فرويد ويونج:
    نعثر على إشارات هنا وهناك في آثار الدارسين والمعلقين عن صلة ما بهذا أو ذاك، ولأننا نتوجه صوب الإلمام بالعلاقة بين نصوص الطيب من جهة، وبين عالم السيكولوجيا، فهناك لحسن الحظ دراستان اثنتان لدارسينَ كتبوا الدراستين، بالإنجليزية. كلتاهما عمل علمي مجوّد من الناحية الأكاديمية، وسنستفيد منهما في تبيان الهدف، وإن كانت الدراستان تتعاملان مع نصوص الطيب على أساس أنها وسيلة، تُستثمر لتحقيق غاية علمية، مثل جثة يطبق عليها منهج من مناهج علم التشريح، فليس المراد في الحالتين دراسة الأدب بوصفه غاية في نفسه، وإنما دراسته لتطبيق معايير خاصة بعلم النفس، والخروج بنتائج تنتمي إلى ذلك العلم.
    ومن الممكن أن تطبق معايير علم النفس مستمدة من اتجاه أكاديمي ما، على نص قديم موجود قبل ظهور علم النفس الحديث ونظرياته، مثل تطبيق عقدة أوديب على مسرحية هاملت لشكسبير والخروج بنتيجة تثبت توفر كل عناصر العقدة النفسية في شخصية هاملت.
    عن فرويد كتب باحثان من جامعة إربد الأردنية، مبحثا عن : أثر أفكار فرويد على رواية موسم الهجرة إلى الشمال، بادئين باستشهاد مستمد من اعتراف الطيب صالح أنه كتب الرواية تحت تأثير فرويد ولكن المبحث تحوّط من الجنوح إلى التورُّط، لأن هذا الاعتراف لا يؤخذ على علاته ويتم التسليم به كله وإنما سيتناول البحث الأمر اعتمادا على الأدلة.
    ولهذا تناول المقال إبراز عناصر الأثر الفرويدي في الرواية:
    نرجسية مصطفى سعيد وعلاقتها بطفولته.
    اتجاه مصطفى إلى خلق بديل لأمه وأن الطيب صالح قدم تنويعات على رسوخ عقدة أوديب في تكوين م س.
    تأثّـر الطيب صالح بنظرية الغرائز عند فرويد : الغريزة الجنسية التي ترتبط بالحياة والبناء، وغريزة الموت التي ترتبط بالموت والهدم. وأن الطيب صالح أبرز ذلك دراميا في حياة م س وفي موته. ويتجلّى ذلك أيضا في نظرية فرويد عن الماشوسادية، فالسادية سلوك جنسي مرتبط بالهدم موجها إلى الآخر: الخارج والماسوشية سلوك هادم ولكنه موجه إلى الداخل: الشخص نفسه.
    وفي النهاية يكون مصطفى سعيد مجسّما لأفكار فرويد، مجسما الجانب السلبي، لشخص مُسـيّـر، كل تركيزه منصب على نفسه، مجرد من ممارسة الحرية، في حين يمثل الراوي الجانب الإيجابي، يتجرد من الأنانية وينحاز للحب ويمثل الجانب المضاد لشخصية م س ذات الطابع العدمي المظلم.
    (Tayeb Salih and Freud, by: Yosif Tarawnah and Joseph John, Arabica, v.:35, 1989. Pp 328 – 349)
    مرة اخرى نفيد أيما فائدة من مقابلة مع الطيب صالح، فقد أجرت الكاتبة والأكاديمية اللبنانية رجاء نعمة مقابلة مع الطيب، ونشرتها في مجلة الفكر العربي المعاصر. وهي قاصّة نالت درجة الدكتوراة من جامعة السوربون، عن دراسة سيكولوجية في موسم الهجرة، ترجمتها هي من بعد إلى العربية ونشرتها في كتاب مطبوع بعنوان: صراع المقهور مع السلطة.
    في المقابلة تحدث مواجهة بين الكاتبة التي تعتمد على مقولاتها ومفاهيمها السيكولوجية،وتحاول تمريرها كمسلمات نهائية أو تحاول ان تعرف رأي الطيب صالح في مقولاتها السيكولوجية.
    في ذلك اللقاء يحدد الطيب موقفه الصريح من مدارس السايكولوجيا:
    يقول: "الغريب أن بعض الناس يعتقدون أن نظرتي إلى العالم "يونجية" نسبة إلى يونج، لكن مصطفى سعيد كما يخيل لي، الفرويدية مدخل له".
    بيد أن رجاء تحاوره مستندة إلى معالجتها السيكولوجية لرواية موسم الهجرة، وهنا يدور نزاع بين موقفين:
    " رجاء: تسأل: منطلق دراستي هو غياب الأب، كمؤشر لوجود صراع مع ما هو مستتب وقائم، إذ أن قتل الأب يعني قتل السلطة، بشكل أو بآخر، الأب وسائر الوجوه الأبوية؟
    الطيب صالح: تعتقدين إذن أن غياب الأب أو قتل الأب هو ما يسميه فرويد " تحقيق الرغبة المكبوتة" لأن هذا مثلا عنده رغبة في التخلص من شيء قائم هو السلطة، لكن لاتنسـَي أن الموت في موسم الهجرة شيء أساسي لماذا لا تبحثين عن دلالة لموت شخصيات أخرى في رواياتي.
    ..يعني لمجرد أن يذكر الأب في العمل الفني أو الموت، هل هذا يعطيه فكرة الحلم السيكولوجي؟
    رجاء: أنا لم اقصد ذلك، لكن من حيث االصراع الأساسي أخذ تُ مسألة موت الأب أو غيابه ،كدليل أو مؤشر لوجود صراع مع السلطة ، لأن الأب يمثل كافة أوجه السلطة ويمثل التقاليد والأخلاق.
    الطيب: لكن الراوي في ضوء البيت، ربط عن عمد مصيره بمصير جده لأن أباه يمثل عالما وقيما مختلفة عن قيم السلطة.
    رجاء: مختلفة بأي معنى؟!
    الطيب: أظنك لم تقرئي مريود؟
    رجاء: بلى، قرأته كما أني قرأت كل أعمالك، وإن كانت دراستي تقوم على عالم موسم الهجرة.
    الطيب: إن المستوى السيكولوجي مهم. لكن أنا شخصيا أشتغل على عدة مستويات دينية وتاريخية وسوسيولوجية.
    رجاء: مسألة نزعتي الموت (تاناتوس) والحياة ( أريوس) عند م س ن كيف تفسر أن الايروس عند م س انفصل عن الجنس؟ وان التاناتوس: الموت لازمت الجنس عنده وذلك عكس ما يحصل عادة؟
    الطيب: م س كان ممزقا بين العالم الأيروسي، وما يسميه فرويد بعالم الموت أي أن يكون له شأن في الحياة أي عالم المجد. ..لكنه حول البحث إلى الجانب الأيروسي بدون متعة الأيروس، منصبا إلى الجنس، لأن الجنس بالنسبة له يكون مثل شوق إلى الموت، هكذا يخيل لي، فالنساء اللاتي اتصلن به رأين فيه هو شخصيا رمزا للموت وليس رمزا للأيروس، وهو لم يعطهن أي سعادة في الحب وكذلك لم يحصل هو على سعادة"!
    الطيب صالح يؤكد المنزع السيكولجي الفرويدي، ولكنه يَزورّ من الاعتماد عليه وحده في المعالجة النقدية، وهذا ينبه إلى التحلي بتناول أكثر شمولا، دون إغفال الجانب الفني في الفن. أما رجاء فهي تتمسك بالنظريات السيكولوجية التي ارتضتها بوصفها أيدلوجيا يخضع لها النص الأدبي، ويـُقسر على التلاؤم مع مكوناتها!
    على أن ذلك الحوار يحتوي في ختامه على مناقشة حيوية لجوانب فنية مهمة في التعامل مع موسم الهجرة كرواية بمعنى عمل فني.
    تقول رجاء سائلة: " هناك أكثر من إشارة إلى أن البطل م س كائن غير واقعي. أحيانا تخطر لي الفكرة المزعجة أن مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقا وأنه فعلا أكذوبة أو طيف أو حلم أو كابوس ألمّ بأهل القرية ولما فتحوا أعينهم مع ضوء الشمس لم يجدوه.؟
    ويجيب الطيب صالح: يمكن لأي ناقد أن يقيم نظرية منطقية بأن م س كان وهما وأنه لم يحدث إطلاقا وأنه حلم أو وهم أو كابوس لكن من الواضح أن العلاقة بين م س والراوي فيها أعراض العلاقة بين الواقع والفن أو بين الوجه والمرآة، يعني م س حوله نوع من الغموض
    AMBIGUITY
    ثم تسأل رجاء :" الراوي هل هو مجرد راو أم أنه هو الآخر بطل في الرواية؟
    ويجيب الطيب: " الراوي مهم. وهو إن كنتِ ( الكلام موجه منه إلى رجاء) قد أقمت نظرية على أساس أن م س هو حلم من أحلام الراوي، لابد أن تفترضي أن المشكلة هي مشكلة الراوي وليست مشكلة م س ، العمل له مدلولات عدة، كل واحد حر في تفسيره، من ناحية ثانية لا تنسي أننا لا نعرف الكثير عن الراوي، هل من المعقول أن يكون عاش في لندن سبع سنوات ونال شهادة دكتوراة في الأدب الإنجليزي وأن لا يكون حدث له شيء؟! يكون قد عاد كما ذهب".
    (حوار مع الطيب صالح أجرته رجاء نعمة، مجلة الفكر العربي المعاصر، يونيو 1980، بيروت، ص ص:117- 119)
    كلام ط ص ينطوي على مهمة ثنائية، فهو يساعد القارئ على معرفة مصدره وكيفية تعامله مع هذا المصدر، وهو تعامل انتقائي لأن هذا المصدر السيكولوجي الفرويدي ليس المستوى الوحيد الذي نحصر في إطاره المحدود كل الرواية. أما الجانب الثاني، فهو يتحدث عن العمل الأدبي: الرواية كقارئ متذوق بل كناقد، وليس كمؤلف، وهذا مفيد ا يضا للقراءة المتعمقة، ولكننا نفترض أن قبسات من تكوين المؤلف العارف تنداح في ذلك وقد يكون من بينها حساسية المؤلف من تفسير ما لروايته.
    فالكاتب المفن الحاذق، إنما يكون صاحب صَـناعة ماهرا، يستخدم أدواته عن قصد ودراية، ليشكل نصا من كلمات، تكون أيقونة، رمزا لموقف أو رأي. إن النص صدفة تستبطن في نسيجها نواة، الأصل ففيها أن تكون درة ولقد صدق التحاني في قوله: وما يستبطن الدرُّ غيرُ الصَّـدَف.! هذا هو النص العزيز، والعزيز عزيز المنال.
    ومن هنا نضع يدنا على المكر الفني الذي انتهجه الطيب فهو لم يقم الرواية على أساس اعتباطي، ولكنه اجتهد في تركيبها وفق أطر ومنعرجات مقصودة، وانداح في ذلك كثير من الرؤى الفنية والقيم والرموز، وهو ما سماه هو الغموض، وهذا يشمل التعمية المقصودة، بحيث أن المُطّلع العابر العادي يقرأ المستوى الأفقي للرواية على أساس أنها حكاية مسرودة، وهذه طبقة مرئية كمعنى أول، ولكن هناك مثل ما ورد عند الجرجاني طبقات ثانية وثوالث.

    أما يونج، فإن نفي الطيب لل"اليونجية" عن عمله الفني، لا يعني بعده التام عن أفق يونج ،على صعيد المعرفة أو الاستفادة في نصوصه على نحوما.
    فضلا عن أن ذلك لا يمنع الباحثين من اتخاذ اليونجية منهجا لدراسة روايات الطيب صالح، فإن الباحث محمد صديق في بحثه الضافي المدون بالإنجليزية عن تحقق الذات المتفردة في موسم الهجرة، يستخدم مفاهيم علم النفس الحديث الذي يتضمن فرويد ولكن بصورة أساسية يونج، وهوبحث علمي رصين بصرف النظر عن نتائجه، وهو أيضا يستخدم الرواية كمادة خام يعيد تشكيلها وتخريجها وفق معطيات سيكولوجية معينة.
    (Muhammed Siddiq, The Process of Individuation in Al- Tayyeb Salih’s Season of Migration, Journal of Arabic Literature, 1978. pp. 67 -104.)
    وسيتولى علي عبد الله عباس من بعد الرد على أهم ما انتهى إليه بحث محمد صديق، فيقول بعد إيراد ما ورد في آخر الرواية على لسان الراوي وهو عار، أنه إما أن يموت في تلك الحالة وهو مهدد بموج البحر، أو أن يختار الحياة،ولكنه يختار الحياة:
    " أن يقال إن هذه الفقرة تصف نجاح الراوي في نيل الفردانية وفق مفهوم يونج عن تحقق الذات أو معرفة الذات، إنما لا يسيء فهم الفقرة فحسب، بل يسيء فهم الرواية كلها. إنه ليس التفاؤل السطحي اليونجي هو الذي يعبر عن رؤيا الطيب صالح للحياة في موسم الهجرة، وإنما المفهوم الفرويدي القاتم لوجود البشر.
    )“To say self- fulfillment that the passage describes the narrator’s success in achieving individualism in the Jungian sense of “ self – fulfilment” or “self-realization” is to misinterpret not only the passage but the whole novel, it is not Jung facile optimism which informs Tayeb Salih’s vision of life in Season of Migration, but Freud’s somber view of human existence”.
    The Strangled Impulse: The role of the Narrator in Tayeb Salih’s Season of Migration. Sudan Notes and Records, University of Khartoum, 1979. P: 83.)
    وأشار في الهامش إلى أنه يعني بحث محمد صديق، حيث أثبته ووثقه.
    والطيب صالح يتفق مع هذا القول، ويظهر أنه سعيد به، وفق شهادته التي رأيناها من قبل.

    القسم الثالث

    السينما وتيار الوعي:
    استخدم الطيب وسائل ظهرت في الأعمال السينمائية، ووجدت طريقها إلى النصوص الأدبية المكتوبة، ولاسيما السرد، مثل المونتاج أو فن توظيف اللقطات السينمائية في ترتيب مقصود لإعطاء تأثير معين، في لقطات متتابعة، يمكن أن تكون وحدات صغيرة متتابعة مثل بداية عرس الزين.
    ومنها اللقطات الاسترجاعية التي تنتقل من الحاضر الماثل إلى الماضي وتعود أو العكس.
    وكأنها نقلات الالتفات من المتكلم إلى الغائب إلى المخاطب، في الند الأدبي العربي..
    لقد أفاد من هذا الفن الذي تابعه في دور العرض بلندن، وفي المسرح في بلد شكسبير، وتعززت متابعته في هيأة الإذاعة البريطانية، عندما صار مسؤولا عن قسم التمثيليات العربية، وهذا يجعله مرتبطا بالدراما التي يقدمها قسم الدراما الإنجليزية أيضا.
    ويبدو جليا أنه من رواد الاستفادة من هذه الساليب السينمائية في الرواية العربية .

    ويبدو أن هذا المنحى ارتبط برواية تيار الوعي الذي يستخدم تداعي الأفكار، وسبق أن أشار الطيب إشارة صريحة إلى اهتمامه الخاص بكُتّاب مثل فوكنر،ولا شك في أنه عارف بقيمة جويس.
    يتناول الناقد : عنيد ثنوان قضية " تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة" الذي "تأثر الكتاب العرب بأسلوبه" ويجد في ذلك "هروبا" لدى كتاب الستينات "من قيود السرد والحبكة التقليدية". وتتمثل عنده في رواية ما تبقى لكم لغسان كنفاني، ورواية السفينة لجبرا إبراهيم وكانت السماء زرقاء لفهد إسماعيل، وبعتبرهم "أفضل ممثلي المحاولات" التي استخدمت هذا الأسلوب: " تعتمد تلك الروايات على المونولوجات الداخلية للأشخاص المتكلمين على التداعي والارتجاع الفني، حيث تتقاطع أو تتشابك الأفكار والأحاسيس والذكريات والشعور بالتداعيات".
    فغسان في روايته "يعتمد على أسلوب الارتجاع الفني" وأسلوب المونتاج السينمائي والانتقال من مشهد إلى مشهد عن طريق تداعي الأفكار"، ثم يأتي بعد ذلك إلى رواية موسم الهجرة فيقول:
    "يبدو أن استخدام الطيب صالح لهذه الخاصية الفنية كان استخداما مقنعا، لأن المشاهد المستذكرة في ذهن م س تعطي القارئ رؤية تامة عن استغراقه في ماضيه" .
    (عنيد ثنوان، تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة، مجلة الأقلام، بغداد، يوليو 1988،. ص ص :140 -141)

    القسم الرابع

    السمات:
    هنا نستعرض مجموعة من الخصائص المستمدة من النقد الدائر حول ظاهرة الطيب صالح.
    تراث النقد الذي تناول ظاهرة الطيب صالح تراث ضخم ومتكاثر، فهو يشمل رسائل جامعية باللغة العربية واللغة الإنكليزية وغيرهما من اللغات، في السودان وفي بلدان عربية وأوربية وفي أمريكا، بمناهج مختلفة، ومن قبل باحثين مختلفين، إلى درجة أنك تجد من بينهما باحثا "روسيا" كتب رسالة ماجستير في جامعة الخرطوم باللغة العربية بإشراف الأستاذ محمد الواثق.
    ومن بينها ما يعالج الروايات والقصص في إطار العمل الأدبي في قسم اللغة العربية، ومنها ما يتناوله في إطار الأدب المقارن مثل باحثة في قسم اللغة الألمانية قارنته بكاتب ألماني.
    وهناك دراسات عن أعمال الطيب صالح في مناهج أخرى مثل رسالة الباحث السوداني: أحمد عبد الرحيم نصر للماجستير في جامعة أمريكية بالإنجليزية تناولت الفولكلور في مستوى الإسلام الشعبي، ورسالة دكتوراه عن الفولكلور في أدب الطيب صالح، كتبها باحث سوداني آخر هو: محمد المهدي بشرى، في كلية الدراسات الآسيوية والأفريقية بجامعة الخرطوم وهي منشورة في كتاب.
    فضلا عن أعمال منشورة في كتب خاصة أو ضمن كتب ومقالات علمية أو مقالات منشورة في المجلات والصحف. وقد استوفينا حصر كل ذلك في: ببليوغافيا شاملة مستقصية منشورة في كتاب: الطيب صالح.
    ولهذا سنلم في هذا القسم بملامح مهمة من تلك الأعمال ومزاياها.
    1: الشاعرية:
    من أجل تبيان موقف الطيب صالح ، نورد ما ورد في رسالة كتبها هو بخطه وأرسلها إلى توفيق صائغ رئيس تحرير مجلة حوار، بعد أن قرأ قصيدة نثر كتبها توفيق صائغ ونشرها بعنوان: بضعة أسئلة أطرحها على الكركدن:
    "ساعة قرأت" بضعة أسئلة أطرحها على الكركدن" استولى علي حزن غير معقول فكتبتُ إليه بأنني لم اكن أتخيل أن الشعر الحديث لديه قدرة على التأثير إلى هذا الحد.. أظن أنه من أفضل شعراء المدرسة الحديثة". (عن مقابلة معه)
    ويهمنا هنا قول عن قدرة الشعر الحديث على التأثير وهو يعني هنا نصا نثريا بلا وزن ولا قافية، وله طاقة تأثير مماثلة ومشابهة لما هو معهود في الشعر العربي، وانطلاقا من هذا المفهوم نفهم وصف نصوص الطيب صالح بالشاعرية في بعض المواطن.
    فكتب عصام محفوظ : " عرف الطيب صالح كيف يجمع الشعر إلى الواقع..في موضوعية شخصية مميزة أقرب إلى موضوعية الشاعر الملتزم "( دفتر الثقافة العربية الحديثة، دار الكتاب اللبنانين بيروت،1973.. ص:116)
    وهو عند محمد حسن عبد الله: ": بلغ بالفن القصصي مستوى التشكيل الفني الجمالي والشاعرية". ( نفسه . ص 315 و320).
    وقصص " المقدمات" عند توفيق حنا مرتبة " في الشكل الشعري" تريد أن تؤكد أن " الشعر والفن القصصي شيء واحد". بل يرى فيها نموذجا "للقصيد السيمفوني"
    مستمد من الموسيقى الغربية في أرفع نماذجها.
    ووفق هذا المفهوم تحتوي أعماله على شاعرية تنبض في شرايينها ونسيجها، وقد تتبدى في مقاطع أو فقرات كاملة.
    بل إن عصام محفوظ يجد الطيب جمع " بين الواقعي والشعري" في أسلوب ينطبق عليه وصف ت. س. إليوت لما يسميه: البديل الموضوعي في القصيدة " الذي شاع في بيئة النقد الحديث باسم " المعادل الموضوعي" . متشكلا في جزئيات تجسم المواقف: خوار، صورة، مونولوج، وأحلام، ويقف عصام عند " الصورة الشعرية المفضية إلى الحلم" ويجدها في موسم الهجرة حيث " شارف الطيب صالح الهلوسة الحلمية" ( نفسه. ص ص : 117-118-120) وهذا يذكرنا بما سماه الطيب صالح التعمية أو الغموض.
    وهو أسلوب ارتضاه الطيب وقصده ، مما يمكن أن تكون له علاقة بمفهوم اللاشعور عند فرويد وتشابك مكوناته وتعرجاتها، وقد نجده في شعر الفرنسي رامبو والسرياليين، ولكن مصدره القريب هو التصوف وشعره وما يسمى الترجمة أو الكلام بالسرياني.
    فمن الممكن أن يكون النص غير مفهوم عقلانيا ولكنه بصوره ورموزه المكثفة وجرسه يمكن أن يترك أثرا وجدانيا ممتعا أو مؤثرا على الشعور.
    وقد نظر النقاد في التكوين اللغوي لأعمال الطيب، فوقفت سيزا قاسم عند سمة التشبيه في موسم الهجرة، فالتشبيه المعتمد على أداة هي : كأن، يفيد الشك أو الظن عند البلاغيين، ولكن الطيب وظـّفه لغاية أخرى خاصة به، وقد استخدمت هذه الباحثة المنهج الإحصائي، فوجدته يقارن بين "عقل م س والمدية أربع مرات في الرواية، ثلاث مرات منها في هذه الصيغة (عقلي كأنه مدية حادة) وتتم المقارنة بين القاهرة والمرأة الأوربية ( وأحسست كأن القاهرة ... امرأة أوربية) ويقدم مشهد الزواج من خلال هذا الشكل البلاغي: (فراشي كأنه قطعة من الجحيم، أمسكها، كأنني أمسك سحابا، كأنني اضاجع شهابا كأنني أمتطي صهوة نشيد بروسي، كأنني شهريار رقيق تشتريه من السوق بدينار) ". وتتوصل من هذا العرض المستقصي والتحليل إلى نتيجة مهمة:
    " هذه الأداة تقوم كالحاجز النفسي، مستخدمة لا لإثبات وجوه التشابه، ولكن لطرح وهم نابع من النفس." (سيزا قاسم، موسم الهجرة، مجلة فصول، القاهرة، يناير 1981، ص : 228)
    ويدرس الناقد سامي سويدان موضوع الوصف في موسم الهجرة ويستعين في تحليله باإحصاء، فيحصي ستة مواقع للوصف الصريح ويصنف الوصف في قوالب أربعة: شخصيات تصف ولا توصف وشخصيات توصف ولا تصف وشخصيات تصف ولا توصف وشخصيات لاتصف ولا توصف. ويتناول علاقة الوصف بالسرد. وهو ينبه منذ البداية إلى أن " الوصف يعتبر لفترة طويلة أحد ميادين الشعر الأساسية". ولكن استخدام الوصف انتقل متطورا إلى ساحة الرواية، ولم يعد " قدرة معجمية أو بلاغية" بل صار "مستوى من مستويات التعبير يتداخل مع المستويات السردية". "الوصف في الرواية مجال رحب لدراسة الشخصيات والأمكنة الحية والجامدة، فضلا عن البيئة العامة للنص كله." ويقرر في ختام دراسته:
    "كان النص..نموذجا من حيث الأداء، ويتحوّل بالتالي إلى مادة تعليمية ذات شأن".
    (سامي سويدان أبحاث في النص الروائي العربي،مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1976.ص ص : 131 – 166 وهوامش ص:166)
    إن النموجين السابقين يطلعاننا على دراسات أكاديمية مجوّدة تتناول قضايا بيانية متعمقة في لغة النص وأدواته، وهذا يمثل نقلة نوعية في نقد الرواية، فقد كانت مثل هذه القضايا خاصة بالشعر ومن قبل بكتاب العربية الأكبر: القرآن ، ولكن انتقل النهج إلى الرواية وأصل الرواية أنها قائمة على شخصية البطل أو الشخصية الرئيسة، فهي المركز ومركز الدائرة، ولقد جُبل النقد على أن يتناول حركة السرد أفقيا عبر الزمان والمكان والعلاقة بالظروف والشخصيات الأخرى، ثم حدثت هذه النقلة التي ارتبطت برواية موسم الهجرة لأنها لم تقتصر على ذلك المستوى الأفقي والإستاتيكي، بل جاءت مكتنزة بحشد من الدلالات الظاهرة على السطح والمتوارية وراء حجب، وخرجت بلغة فيها قيم الشعروأعلى الأدوات اللغوية التي يحفل بها الشعر، ولهذا يمكن أن يُدرس نص رواية موسم الهجرة في حدود ظاهرة نقدية أو أداة لغوية أو منحى بلاغي، كل نمط على حدة.
    وهنا ريادتان في الدراسة النقدية قائمتان على ما تتضمته هذا النص الطليعي الرائد من مقومات الفن البياني المبدع الجديد الذي أحدث تحولا في خارطة الدراسة الأدبية.
    ومن بعد سنشهد أعمالا متساوقة مع هذا النهج في الدراسة النقدية مثل يمنى العيد وخالدة سعيد.
    وحسبنا أن نُجمل القول في إيراد بعض مزايا ذلك النقد وما يتصل بها:
    • اللون الصوفي في نسيج أعمال الطيب صالح، فضلا عن نقد يتناول ملامح التصوف السوداني ولا سيما شخصية الحنين أو ما سماه د.الحجاجي الوليَّ وهو تصوف سوداني النكهة، وسنجد دراسات تقارن بعض أعمال الطيب بتجارب صوفية أخرى في روايات أفريقية مدونة بالإنجليزية أو الفرنسية.
    • بيد ان الدراسات المقارنة تتناول جوانب أخرى مثل مقارنة موسم الهجرة برواية هندوكة وهي رسالة ماجستير باللغة الأ لمانية أعدتها باحثة مصرية قي كلية الألسن في جامعة عين شمس بالقاهرة عام 1996.
    أو ما كتبته فاطمة موسى عن روايةالتجوال: البيكارسك في الأدب العربي الحديث، قارنت موسم الهجرة بروايات عربية تناولت علاقة الشرقي بأوربا: الحكيم وسهيل إدريس.
    أودراسة مختار عجوبة التي يرى فيها أن الطيب صالح استفاد من قصة "سره الباتع" ليوسف إدريس، في روايته: عرس الزين، لما بينهما من تشابه، وأن يوسف إدريس هو السابق زمانيا.!
    ويرى شكري عياد أنه من الممكن مقارنة موسم الهجرة برواية مدام بوفاري، فكما أن مدام بوفاري تقدم النظرة الواقعية من خلال امرأة روما نسية مغرقة في الخيال، فكذلك موسم الهجرة تقدم نظرة واعية إلى الشخصية العربية من خلال سيرة شبه أسطورية" ( شكري عياد، الرواية العربية المعاصرة وأزمة الضمير، مجلة عالم الفكر، الكويت، 1972، ص:18).
    • من اللفتات المهمة في الدراسات، اهتمام علي عبد الله عباس بمركزية شخصية الراوي في موسم الهجرة وملامحها النفسية ومزاياها في مقالات بالإنجليزية تصلح لأن تكون كتابا، وقد انتهى إلى نتيجة مهمة هي أن الراوي هو الشخصية الرئيسة في موسم الهجرة، وليس شخصية مصطفى سعيد بحال (مرجع سبق ذكره، 1979. ص:56)
    • و سنجد الباحث خير الله عام 1985، يعتبر الراوي أهم من مصطفى سعيد وأنه هو بطل موسم الهجرة، وذلك في دراسة منشورة في بيروت زمانيا، بعد دراسة علي عبدالله عن الرواية المنشورة في الخرطوم عام 1979 ، ( أميوني، منى: تحرير، 12 دراسة عن موسم الهجرة، بيروت، 1985) ( مرجع سبق ذكره)
    ويضم هذا الكتاب دراسة لعلي عبد الله عن الراوي.
    وهناك يبرز عالم الفزياء السوداني المثقف، صاحب نظرية التحليل الفاعلي الذي أصدر كتابا طبّق فيه نظريته الفلسفية المدعّمة بنظرية في الفزياء، على روايتين للطيب صالح، بعنوان: الإنسان والتحليل الفاعلي، تحليل الشخصية السودانية من: "موسم الهجرة" و"عرس الزين"، الخرطوم، 1989.
    وما كتبه مختار عجوبة عن النيل عند منحناه في شمال السودان، ورمزية ذلك الإله الأفعى وهو النيل وعلاقته بالأساطير القديمة.
    أو ماكتب عن أن القرية تمثل : يوتوبيا، وأنها تمثل الماضي، ومفهوم الطيب صالح عن أن الاب هو ضحية الجد والابن، وأن الجد يرمز للماضي.
    • كتب حليم بركات عن موسم الهجرة أن م س لديه شعور بالتفوق على الأوربيين:
    M S HAS A FEELING OF SUPERIORITY TWARDS THE EUROPEANS
    وهذا يتصل بموسم الهجرة كعمل أدبي ينتمي إلى ظاهرة الكتابة المناوئة للاستعمار التي تجد نموذها الأول وزينتها ومنطلقها المؤسس عند فانون وكتابه وهو" معذبو الأرض". ولقد أصاب جورج سالم عنما قال:
    " إن ما فعله فانون في معذبي الأرض، عن الأدواء النفسية والعصبية التي يسببها الاستعمار للمستعمرين، تتخذ في روايات الطيب صالح لحما ودما وتبدو أمامنا مجسدة حية" (مرجع سبق ذكره. ص:170)
    منح النتائج النظرية للتجربة الأليمة الباهظة حياة نابضة وموّارة، وحولها من فكرة إلى ماثل تراه العين وتلمسه اليد. بيد أن الطيب صالح يعترف بأنه لم يطلع على فانون قبل كتابته رواية موسم الهجرة ولكنه حين اطلع من بعد على كتاب فانون ، ووجده مطابقا لرؤاه وأفكاره ومنطلقاته.! يبدو أن أصداء فانون وصلت إليه بصورة غير مباشرة.
    ثمة باحثة عربية مقيمة في الغرب، في دراسة بالإنجليزية، ترى أن موسم الهجرة تناول الحاضر، ويفتح إمكانات للمستقبل، و" أن الحداثة الأوربية في الثقافة، هي سرد وارد من الإمبريالية الأوربية ومن منطلق أوربي، وأن موسم الهجرة تمثل الحداثة العربية المضادة لتاريخ الإمبريالية، المتمازج مع تلك الحداثة الأوربية، ومن منطلق غير أوربي ردا على أوربا". وأن "موسم الهجرة مكتوب للأجيال القادمة".
    (Saree Makdisi, Empire Renarrated, Critical Enquiry, summer 1992. P: 809)
    لعله مما يكمل اللوحة في هذا المقام أن نقف عند عوامل قد تبدو خارج النصوص في أصلها العربي أو صارت منفصلة عن كاتبها، ولكنها مؤثرة أيما تأثير في النقد، وعلى رأسها الترجمة التي شملت عدة لغات، ولكن الترجمة الإنجليزية على وجه التحديد، لها أثر واضح، فكثيرون كتبوا عن الطيب صالح بالإنجليزية معتمدين على ترجمة . "جونسون دنيس" وحدها، بل هناك ترجمات اعتمدت على الترجمة الإنجليزية وحدها وترجمات أخرى أفادت متها، مثلا في كتابة أسماء الشخصيات والأمكنة في لندن، وغيرها من المعلومات مثل أداء المعاني التي يمكن أن يجد المترجمون صعوبة في تأديتها.
    ومن حسنات جونسون ديفز أنه يستعين بالطيب نفسه في الترجمة ويستشيره، وهو الذي تولى تقديم الطيب إلى العالم فترجم إلى الإنجليزية كل رواياته ونشر الموسم والعرس في كتابين ومع العرس بعض القصص في كتاب واحد ملتم، وبدأ أولا بترجمة بعض القصص ونشرها في مجلة أدبية إنجليزية مرموقة. بل هو الذي نشر قصة : دومة ودحامد بالعربية في مجلته العربية التي أنشأها في لندن، وتولى تحريرها: أصوات.
    ترجمة جونسون ديفز ترجمة رفيعة ذات حظ من الإتقان، وبيا نها جديد يبدو وكأنه غير مترجم من لغة أخرى بل هو خلق مبدع، والسبب ليس راجعا إلى أن الرجل يترجم إلى لغته وإنما لأنه يعرفها ويحسنها ويدرك أسرارها ويتذوقها ، فيترجم في عرس الزين، عبارة تصف بائع اللبن أنه :غش المشترية وهو يُفرغ لها ما يساوي المبلغ الذي دفعته من اللبن أي " غشّ اللبن"
    Gave her short measure
    وفي مكان آخر يصف ناظر المدرسة : من الدهشة :
    "فغر فاه":
    Headmaster’s lower jaw dropped
    ولكن بعض الباحثين يأخذون عليه ما يمكن أن يكون من اللمم أو يمكن تخريجه على أساس أنه صواب، مثل ترجمة جونسون ديفز، لقول الطيب : مثلنا تماما:
    Exactly like them
    التي يريد لها : محمد صديق" أن تكون كالآتي:
    Exactly like us
    ومن تلك العوامل الخطيرة مقابلات الطيب صالح التي يقدم في ثناياها أحيانا إضاءات مفيدة ومعينة للقارئ المتذوق، بل يقدم فيها معالم هادية في الطريق مثلما رأينا في موضوع فرويد وشكسبير . وربما يقدم معلومة جديدة كل الجدة، مثل قوله في المحاضرة التي أقامها محمد شاهين في عمان بالاردن، عن : جين مورس: أنها شابة إنجليزية قابلها مرة واحدة في لندن في مناسبة ثقافية ولم يلقها من بعد ولكنه أعطاها أو بالأحرى أعطى اسمها لشخصية في رواية موسم الهجرة.
    ويمكن أن ندخل في هذه العوامل نوعية المجلات التي نشر فيها أعماله الأساسية وخرج من صفحاتها إلى العالم الفسيح مثل مجلة حوار وما أحاط بسمعتها ومجلة : إنكاونتر الإنجليزية التي تصدر عن الدار نفسها التي صدرت عنها مجلة حوار. ومجلة أصوات العربية اللندنية التي حررها جونسون ديفيز. وهي الأخرى لم تكن بعيدة ولا مصونة من التهم.!
    ويلحق بذلك جيش من الفنانين الذين رسموا لوحات مرافقة لأعماله في المجلات والكتب وعلى رأسهم فنانا العظيم إبراهيم الصلحي.




    القسم الخامس

    المساهمة السودانية:
    عندما نشرت أعمال الطيب صالح في مجلة حوار بدءا بموسم الهجرة عام 1966، تداولت الأيدي هذا العدد وأقبل الناس على قراءته بإعجاب، وسط المتعلمين والمثقفين الذين يعرفون فن الرواية ويدرسونه بالإنجليزية في المدارس الثانوية ممثلا في النماذج العليا للرواية، ويطلعون على الرواية العالمية في الإنجليزية، فضلا عن متابعتهم للرواية العربية في مصر وسوريا ولبنان، ومن آثار هذا الإعجاب أن رواية عرس الزين التي نشرت في كتاب صادر عن مجلة حوار، يضم معها مجموعة قصص قصيرة أيضا، أعيد نشرها في عدد من مجلة الخرطوم التي تصدرها وزارة الإعلا م في الخرطوم. وبلغ من إقبال القراء واحتفائهم أن أصحاب المكتبات صاروا ينتزعونها من المجلة من بين كل مواد العدد، ويبيعونها وحدها كأنها كتاب وبسعر أكبر من سعر المجلة كلها مجتمعة ملتمة.
    ومجلة حوار يومئذ مجرّمة مرفوضة من قبل اليسار العربي، ولا سيما الناصري في أوج ريعان الناصرية،، لأنها تصدر عن جهة مشبوهة، وأنها من أحابيل المخابرات الأمريكية، فما يصدر من داخل إناء ملوث هو بالضرورة يعروه التلوث من كل جانب.

    ولكن في هذا الجو انبرى الكاتب السوداني الروائي الذي يعمل صحفيا في جريدة الصحافة في الخرطوم، فكتب عن رواية موسم الهجرة، في مقال أول: أنها إضافة متميزة للرواية العربية ووثبة تاريخية مجيدة، حين نشر مقالين في جريدة الصحافة عام 1966، وخصص المقال الثاني لشخصية بنت مجذوب، وننشر المقال الأول كله في الملحق التالي ومعه صورة المقال في جريدة الصحافة الخرطومية وهو يحمل تاريخ صدوره.
    وهدفنا أن نثبت هذا الحق لهذا الكاتب والروائي المجيد وللسودانيين، ولنضع لهذه المهزلة التي تروج للزيف والباطل من أن رجاء النقاش هو أول من كتب عن الطيب صالح وموسم الهجرة، في مقاله المنشور في مجلة المصور عام 1968.!
    على العكس تمامأ كان رجاء النقاش يرأس تحرير مجلة الكواكب القاهرية التي شن فيها حملة ضارية ضد مجلة حوار والعملاء الذين يكتبون فيها بل إن الحملة ضدها تولى كبرها وقادها بصوت جهوري رجاء النقاش بالموقع الذي كان يحتله في كواليس العمل الصحفي الموالي لعبد الناصر!
    كان مراسل حوار في القاهرة هو الكاتب السوداني المقيم في القاهرة: محي الدين محمد، فقد أدّت تلك الحملة التي قادها رجاء النقاش إلى اعتزال محي الدين الكتابة في الدوريات المصرية سنين عددا، بل فـُرض عليه بالإرهاب أن يفرض على قلمه الاحتجاب وأن ينزوي هو اجتماعيا في وسط مجتمع ثقافي معاد له ومدين له في وطنيته، وهو كان متفوقا جدا بمستوى يستجلب الحسد له والكيد والتآمر. وذلك لأنه مراسل مجلة حوار في مصر وكان من قبل مراسل مجلة الآداب البيروتية.
    أما رجاء النقاش فقد كتب مقاله عام 1968، بعد أن صار الطيب صالح رئيسا لقسم الدراما ( التمثيليات) في القسم العربي لهيأة الإذاعة البريطانية في لندن، وصار القائم على كنز مفيد ماليا لمجموعة كبيرة من الذين يكتبون من المثقفين العرب.
    ومن بعد كتب كثير من الكتاب السودانيين عن الطيب صالح مثل الشاعر جيلي عبد الرحمن في جريدة الصحافة ومحمد الحسن فضل المولى في مجلة الإذاعة.
    ثم توالى الاهتمام بالطيب صالح في الصحف اليومية والمجلات وصدرت كتب عنه ومقالات علمية بالعربية والإنجليزية. وكُتب ورسائل جامعية شتى.
    ومن ينظر في النتاج الوفير الذي تناول ظاهرة الطيب صالح يجد أن السودانيين ينالون نصيب الأسد بما كتبوا عنه كما وكيفا. وبمناهج شتى: كُتبت دراستان عن الفولكلور في أعماله، وتناول باحث مفهوم اللامنتي في موسم الهجرة في كتاب، وقد ظهر موسم الهجرة مطبوعا في أوان ازدهار قضية اللامنتمي ضمن كتابات كولون ولسون، ووجدت تلك القضية ترحيبا في العالم العربي وظهرت ترجمة لكتبه إلى العربية، ومصطفى سعيد في جيله في الرواية ومواقفه يمكن أن يصلح نموذجا ذا علاقة باللامنتمي.
    ومضى بعض الباحثين لدراسة غياب المفعول المطلق في روايات الطيب صالح، معللين ذلك بتاثره باللغة الإنجليزية التي تخلو من المفعول اللمطلق مثل أكل "أكلا" في العربية.
    وهناك من حاكم رواية الموسم إلى الواقع الفعلي في السودان، ولهذا تبدو غريبة فما يحدث فيها لا يمثل النمط المألوف في المجتع السوداني، وكأنه يريد مضاهاة الواقع والنسج على منواله، وتجنب الخيال !
    هناك مرجع نشر في طبعة وحيدة ومحدودة هو كتاب علي أبو سن، تناول في الجزء الأول منه مسألتين مهمتين في باب المساهمة السودانية.
    الأولى : قال علي أبو سن: إن الطيب صالح: أيام عملهما معا في ال: بي بي سي، بلندن هام 1961 :" قال لي..أريد غدا أن أطلعك على قصة قصيرة كتبتها، أريد رأيك فيها، وأرجو أن لاتخبر أحدا بهذا الأمر!. في صباح اليوم التالي، جاء الطيب صالح إلى مكتبي، وسلّـمني قصة قصيرة كان اسمها : دومة ود حامد"، أعجبتني القصة جدا، واستغربت حرصه على إخفاء كتابته عن الناس... حينما اقترحت عليه نشرها رفض الفكرة بشدة وحاول نزع الورقة من يدي، قلت له: اسمع لن أعيد القصة إليك مالم توافق على نشرها.... بعد أن اقتنع حقيقة بنشرها سلمته إياها...نُشرت دومة ود حا مد أول ما نشرت في مجلة " حوار" التي لم تُعمَّـر طويلا، ظل الطيب ينتظر ردود الفعل والتعليقات على قصته في خوف وقلق، وحينما لم يسمع شيئا أصيب بإحباط قاتل جعلني أندم على إلحاحي بشأن نشرها، وبعد أن يئسنا تماما، قرر الطيب أنه لن يكتب بعد ذلك،.
    وصلني خطاب من العم جمال محمد أحمد.. قال في آخره: " قل للطيب صالح إن قصته أعجبتني بقدر ما أغاظتني". جريت من مكتبي..إلى مكتب الطيب..قرأت عليه تعليق جمال، فتهلل وجهه العابس، وبدا وكأنه ولد من جديد."
    (علي أبو سن: المجذوب والذكريات، ج1، نشر خاص، القاهرة 1997، ص ص 114- 115)
    أولا القصة نشرت عام 1961، ولكن في مجلة أصوات في لندن التي أصدرها جونسون دنيس وهوالذي ترجمها من بعد ونشرها في مجلة: إنكاونتر الإنجليزية في لندن.
    هذا الكلام نشر والطيب صالح موجود ، وتوفي بعد ذلك بأكثر من 10 سنوات، ولم يرد منه نفيٌ لذلك. المهم هنا أن علي أبوسن أعجب بالقصة ومن بعده جمال محمد أحمد، ومن المهم أن نثبت هنا أن الاستحسان الوارد من قبل علي وجمال حدث في العام التالي للعام الذي نشر فيه قصته في الخرطوم وكتب حامد حمداي رأيه الذي لا يمكن أن يوصف بالاستحسان، ولكن عبارة أبوساق القصيرة التي عرضناها من قبل، يجب أن تضاف إلى الرأيين المستحسنين، وأنها سابقة لهما تاريخيا.
    ولكن علي أبوسن يكتب إضافة حزينة:
    "بعد أكثرمن ربع قرن من وصول هذا الخطاب، المشار إليه، الطيب صالح في مقالة يؤبن فيها جمال محمد أحمد، نشرها في عدد الجمعة 6 مارس 1987 من صحيفة الأيام قال فيها ما نصه :
    ( فأرسل لي عن طريق أحد اصدقائه المقربين يثني على قصة لي نشرت، قال: إن القصة أعجبته وأغاظته في آن واحد)
    ولا أعرف لماذا اختصر الطيب دور ذلك الخطاب وما منحه إياه من طمأنينة وثقة بالنفس، في أول تجربة له ككاتب قصة، أو لماذا اختصرني أنا إلى أحد أصدقائه واسقط اسمي؟!" ( نفسه. ص: 115)
    وواضح أن علي أبو سن غير سعيد إطلاقا بموقف الطيب، ويكفي أنه أثبت المصدر واليوم وتاريخ ذلك اليوم. ولنا أن نفهم من ذلك، فقدان تقدير للجميل!.
    وهي القصة الثالثة التي نشرت للطيب، وليست الأولى، ولكنها كانت علامة ساحرة أجاد فيها وجذبت إليه الأنظار وهي أول قصة له ترجمت إلى الإنجليزية، عام 1962. أما القصة الثانية التي نشرت فهي : حفنة تمر في مجلة أدب البيروتية عام 1960.
    ولا نعرف لماذا أغاظت جمال محمد أحمد ولكننا نعرف أن الطيب صالح نشر أعماله الأساسية من رواية وقصة في مجلة حوار أو نشرتها في كتاب، وكان جمال محمد أحمد سفير السودان في إثيوبيا المستشارَ الثقاافي لمجلة حوار.
    في مكان ثان من الكتاب أورد علي أبو سن موقف محمد المهدي المجذوب من رواية موسم الهجرة: أن المجذوب لم يكن يهتم بالطيب صالح إلا حين نشر موسم الهجرة، التي يرى المجذوب إن فيها عنصرا بوليسيا :
    "الأحداث الأوربية منها يغلب عليها الطابع البوليسي والإجرامي،أما الأحداث السودانية فقد خلت من العنصر البوليسي... الكاتب ( الطيب صالح) يتلذذ بالأحداث الدموية" (نفسه. ص: 126)
    ويفهم من ذلك أنه قرأ الرواية وراقته على نحو ما ولكنه يأخذ عليها هذه الهنة التي تعتبر سمة في الروايات الخاصة بالمغامرات، والتي لا ترقى إلى أفق الرواية الراقية.!
    ويمكن أن نذكر هنا علي عبد الله عباس بوصفه أول من درّس الطيب صالح في الجامعات السودانية ولكن درّس أعماله بالإنجليزية في قسم الإنجليزية بجامعة الخرطوم واهتم بشخصية الراوي في الموسم وهو صاحب السبق في وصف الراوي بأنه الشخصية الرئيسة أي البطل في الرواية وأنه مراوغ وكذاب، ورأينا من قبل كيف أن بعض الناس أتوا من بعده وسطوا على هذا الرأي، مثل الكاتب الأمريكية المذكورة قبلا!
    ومثل الكاتب جوزيف جون الذي كتب عن الطيب صالح مقالات وأجرى معه مقابلة عام 1992، وقال فيها :
    " إن الراوي هو البطل في رواية موسم الهجرة، وليس مصطفى سعيد ، دون أن يشير إلى من سبقه إلى هذا الرأي:
    “I think that the real hero is the narrator, not Mustafa Saeed.”
    ( Joseph John, A Dialogue with Mr. Tayeb Salih on Season of Migration, Islamic Quarterly, no. 3, London, 1992. P.213)
    بل إن بعض الكتاب العرب أتوا من بعد وسطَوا متعمدين على هذا الرأي كغنيمة، واستولوا عليه بوضع اليد، ومنهم بعض الأكاديميين المصريين الذين حضروا مؤتمرات في الخرطوم، مؤتمرات جائزة الطيب صالح وتكلموا بالرأي المسروق وكذلك أحد الكتاب المغاربة! كل ذلك دون أن يشيروا إليه موثقين ملتزمين بالأمانة.!
    أما أول من درس الطيب صالح في نصه العربي الأصيل في الجامعات السودانية فهو كاتب هذه السطور.
    ومما يكمل عمود اللوحة أن نورد بعض ما يمثل علاقة التضاد، فنذكر هنا أن محمد عبد الحي يرى أن الطيب احتذى نهج إدوارد عطية في روايته: الطليعي الأسود التي ظهرت بالإنجليزية في لندن في مطلع الخمسينات، ورد ذلك في مقابلة صحفية معه، وقد سمعتُ هذا الرأي من خالد الكد في جلسة خاصة، وقال لي إنه حدّث الطيب صالح بهذين الرأيين وكلا الرجلين درس الإنجليزية على مستوى البكالوريوس وتخصص في الأدب الإنجليزي على مستوى الدراسة العليا، وهما من ذوي الاهتمام بالأدب العربي والإنجليزي، مما يعني أن النتيجة التي انتهيا إليها ، كل بطريقه الخاص، استندت إلى معرفة ركينة وتذوق وقدرة على النظر المتعمق.

    وهونظر نقدي، يختلف عن منحى نقدي أخر تجلّى في دراسة عبد القدوس الخاتم عن الموسم ومقارنته بين سرير مصطفى سعيد، وحركة القطار في مسرحية : عربة اسمها اللذة للكاتب الأمريكي : تنسي وليامز، وهي علاقة تشابه وتواز وحوار أجراه الطيب مع المسرحية العروفة قبل ظهور الموسم بسنوات. وهو ملمح لم يره كاتب آخر غير عبد القدوس.
    وأذكر هنا أنني قراتُ كلاما لعله ورد على لسان الطيب وربما أيضا على لسان ناقد أيضا، المقارنة بين الموسم ورواية: دكتور جيكل ومستر هايد، في المقارنة بين شخصية تمثل الشر وأخرى تمثل الخير، وهما شخصية واحدة ذات نمطين متناقضين، وذلك ما يجعل شخصية مصطفى سعيد في حالين متناقضين خيرا وشرا، مماثلة لهما.
    ومن الكتاب السودانيين الذين اهتموا بالطيب صالح نذكر هنا الناقد الأكاديمي السوداني
    عبد الرحمن الخانجي الذي نشر كتابا تناول فيه رواية موسم الهجرة تضمن دراسة عن اللغة في موسم الهجرة وكتابا آخر عن : الموت في أدب الطيب صالح.
    لعلنا من العرض السابق نكون قد ألممنا بصورة دالة عن تجلي الطيب وأعماله في مرآة الكتاب والدارسين.

    الملحق
    محمود محمد مدني
    موسم الهجرة إلى الشمال: الوعي الجديد في القصة السودانية
    جريدة الصحافة يوم 8|12| 1966، الخرطوم
    (هذه هي الحلقة الأولى لمجموعة من الدراسات النقدية عن قصة الاستاذ الطيب صالح الطويلة، "موسم الهجرة" ليس لأن الكاتب "مَحلي" كما قيل عنه، ولكن لأن هذه القصة الطويلة طرحت قضايا في غاية الأهمية، تتطلب منا النقاش الذي يستوعب جميع أوجهها، وسأحاول الوصول إلى أعماق هذا العمل خلال دراسة زوايا معينة لشخصياته، حتى أتمكن من استقطاب المفاهيم التي طرحت من خلاله أيضا)
    رافد جديد من روافد الإبداع صبّ في الأسابيع الماضية، أطل على حياتنا الفكرية بعد ركود طويل. ممثلا في رواية كتبها الأستاذ الطيب صالح في مجلة " حوار" في عددها الأخير. اسم الرواية: " موسم الهجرة إلى الشمال"، عمل فني مكتمل على المستوى العالمي. والرواية مشحونة بالأحداث والرموز والتيارات الزاخرة التي تستدعي أن أقف عندها طويلا لأن حياتنا الفكرية لم تشهد منذ فترة طويلة مثل هذا العمل الفني المكتمل والأصيل معا.
    أول ما نقف عنده في رواية الطيب صالح هو مصطفى سعيد بطل الرواية. وهو شخصية مزدحمة ومثيرة ورامزة ومن الممكن أن نجد لها عشرات التفسيرات. ويظل سؤال حاد منذ الانطباع الأول لقراءة الرواية: من هو مصطفى سعيد؟ ماحدود الإمكانيات الواعية التي خطّها والتي جعلته شخصية مزدحمة ومثيرة ورامزة.؟ طفولة مصطفى سعيد نقطة انطلاق سيكولوجية في طول وعرض حياته. طفولة منسية في لاوعيه، لا يذكر منها سوع علاقة فاترة أو لا وجود لها بينه وبين أمه. ووالد لم يره في حياته، وبجانب هذا عقل حاد مشتعل. مصطفى سعيد الطفل شبّ حادا مشحوذا ولكنه بارد، رغم كل هذا. وانتقل الطفل الذي نشأ من صلب تاجر جمال لم يره في حياته، نقلة فكرية وحضارية واسعة، حيث تم إرساله إلى لندن بعد أن فشلت كلية غردون القديمة في استيعاب هذا العقل الصغير المارد. وكانت هذه النقلة الحضارية والنفسية نقطة سيكولوجية أخرى تفسر لنا هذه الشخصية المشحونة الرامزة.
    وفي لندن اكتملت هذه الدائرة السيكولوجية. الحياة الجديدة شحذت العقل المارد أكثر. لم ينبهر مصطفى سعيد أمام أضواء لندن بقدر ما كان يريد الانتقام من لندن ويراها خاشعة تبكي تحت قدميه كل مساء. كان يغزو لندن بعقل جهنمي وتفكير جنسي من بلاد أحرقت فيها الشمس الاستوائية كل شيئ. ومشى في طريق الغزو الطويل خطوات، ما لبث أن اضطربت بعدها الصورة التي رسمها في عينيه لغزو لندن وغزو الحضارة الغربية بصفة عامة. ومع اهتزاز الصورة التي وضعها مصطفى سعيد صورة لندن، وهي تبكي تحت صفعاته المتشنجة، واهتزّ أمام هذا العقل المارد الجبار، بدأ م س الرحلة الحقيقية في حياته رحلة البحث عن حقيقته في عالم يتطهر فيه الإنسان بالشك. بدأ م س وهو في لندن يحاول تحقيق ذاته، وهي محاولة لم يقم بها في بلده ، لأنه عاش طفولة مضطربة، لأنه كان يحمل عقلا أكبر من أي طفل، ولعل عملية البحث المتأخر عن الحرية الحقيقية ومواجهة الوجود مواجهة التعري الكامل هي النقطة السيكولوجية والأساسية الثالثة في تكوين شخصية مصطفى سعيد، وزاد المجتمع الخارجي اللندني م س تعقيدا، فزعم أنه كان صديقا للوردات وعضوا في الهيآت العلمية وصاحب نظريات اقتصادية وأستاذا في جامعة لندن، إلا أن كل هذا لم يكن حقيقيا ولم يساعده في مواجهة ذاته. فظل في حالة هروب دائم من هذه الذات التي تعذبه. وهروبه جعله يتنقل من فاتنة إنجليزية إلى أخرى. واللحظة التي كان مصطفى سعيد يحقق فيها انتصارا جنسيا على بنت ما، هي إلا لحظة مزدوجة أو واجهة ثنائية لهذه الشخصية المزدوجة. هي لحظة انتصار لذات خارجية تنكر صاحبها وينكرها ثلاثا مع الفجر، ولكنها تلتصق به ويلتصق بها. وهي لحظة فشل في نفس الوقت للتيار الأصيل في هذه النفس المضطربة التي تبحث عن مرسى ترمي فيه أحزانها الطويلة.
    وكان زواج م س من فتاة إنجليزية، عينيها الرماديتين جرح للتاريخ نفسه، قمة المأساة. مأساة الإنسان الذي يترك حقائبه الغارقة فوق صدر امرأة عارية. وهو بهذا يؤكد أن شخصيته تحمل عقلا ماردا جبارا، تسلحت بالعلم وأصول الحضارة الغربية ولكنها فقدت الجذور، فلاهي استطاعت أن تستقر على التايمز ونوادي لندن التي تبكي كل يوم فشل مليون قصة حب خاسرة، ولا هي استطاعت أن تنطلق من البيئة التي نشأت فوقها بطفولة مضطربة غير مستقرة. كان لابد لهذه النفس أن تتخبط ويعذبها الشك في ليالي لندن الباردة الطويلة. وكان لا بد لنفس مثل هذه أن ترى في الواجهة المزدوجة التي أسلفت الحديث عنها، قمة الأنانية والانتقام من حضارة جاءت لتستقر عندها فزادتها اضطرابا وتعقيدا وقاد هذا الطريق القصير م س إلى الجريمة وسبع سنوات في السجن. أصبح هو الذي أعدّ الأنشوطة وخنق بها نفسه. أصبح القاتل والقتيل في آن واحد. بعدها تقول الرواية إن م س عاد إلى شمال السودان الذي لم يولد فيه ورأى أن يلقي حقائبه المضطربة بصورة نهائية، واشترى لنفسه قطعة أرض وتزوج حسنة بنت محمود وأنجب منها ولدين. تنتهي حياة م س في الرواية بأن يبتلعه النيل ذات غضبة موسمية من غضباته. ولكن هل انتهت شخصية م س.؟ لا ، لسبب واحد هو أن تركيز الكاتب على هذه الشخصية فيه محاولة فكرية وروائية جادة لمعالجة عدة قضايا يمر بها الرائد أو المثقف أو المتعلم السوداني في حياته المتنازعة التي يفشل في ربطها بأرضية سيكولوجية مريحة تجعله يلعب دورا اساسيا في مجتمعه وفيها محاولة جادة أيضا لمعالجة قضية الوجود الإنسان وحريته وتحقيق ذاته عن طريق مواجهة هذه الذات مواجهة كاملة في لحظة عري كامل أيضا. والشخصيات العديدة في الرواية ابتداء من " ود الريس" إلى بنت مجذوب لم تكن إلا الروافد الإنسانية الصغيرة التي تنسج المحيط المضطرب في نفس م س. كل هذه الشخصيات خدمت عملية الانتقال من مفاهيم إلى أخرى باحتكاك جاد في نفس بطل الرواية. وم س نموذج للإنسان السوداني النفس الذي يعيش في ظل الحضارة الغربية وفي نفس الوقت يمد رقبته إلى تراثه الذي لا يمكن أن يكون بخامته الحالية بديلا عن الحضارة الإنسانية وتظل هذه الرقبة ممدودة قد تقود من الطريق القصير إلى الجريمة أو الجنون أو العهر الفكري أو التصوف ولكن الحقيقة التي تدلنا عليها رواية "موسم الهجرة" هي ضرورة البحث في ذاتنا المضطربة بين الإسلام والوثنية والتقاليد المتمثلة في الرواية في جد الراوي وودالريس وبت مجذوب ومحجوب، ذاتنا المهتزة الراجفة أمام بارات لندن و مخابئ "التابو" وأنهار النبيذ . هي قضية تستحق النقاش المثقف. ولنا عودة مع بت مجذوب وود الريس.

    تعليق

    هذا أول مقال يُنشر عن الطيب صالح واتّـضح أنه مقال ناضج ومتعمق كُتب عن الطيب صالح، سبقه مقال قصير في فقرتين أو ثلاث فقرات، كتبته ليلى البعلبكي عن الكتاب، وصفته بالتفوق على الرواية العربية في ذلك الحين، ونشر في جريدة لبنانية ثم نشر من بعد في جريدة الصحافة السودانية، ربما قبيل نشر السابق فيها، وهذا المقال الذي هو من حيث السبق امتاز بأنه دراسة نقدية مجودة فأول ما خرج به هو المرتكزالسيكولوجي الفرويدي في بناء الرواية وهو ما أثبته الطيب من بعد سنوات وأقر بوجوده في نسيج الرواية، ووجودهذا الازدواج في تركيب شخصية م س وهو ماسماه محمود مدني الثنائية وأثر طفولته المضطربة في تشكيل شخصيته الناضجة المتأزمة، ولاوعية. مثلما تنبه إلى رمزية الرواية وقابليتها للتفسير وفق مفاهيم ورؤى وتخريجات شتى. بل جعل من وجوه رمزيتها أنها تعالج أزمة الوجود الإنساني كله، والأزمة الوجودية التي يعيشها إنسان القرن العشرين ولا سيما الذي يعيش في أوربا وقد ظهرت الرواية إبّان عنفوان الوجودية وأوجها، وكان محمود مدني على إطلاع جم واهتمام حيوي بذلك التيار الفلسفي وتجلياته الأدبية، ومما لا ريب فيه أن شخصية م س تحمل في جينات تكوينها أمشاجا من التمرد الوجودي وبوهيميته ولامبالاته بالمصائر.
    لقد وضع محمود يده في صميم النبض الحقيقي والدافق للرواية، وتكاد أصداء هذا المقال ترن في نصوص كثيرة جادة تناولت الرواية من بعده، دون أن يكون كتابها على معرفة بمقال محمود مدني، هذا الذي تناول قضية كينونة الذات السودانية، وأزمة المتعلم الحديث وتمزّقه، وهو يدمج في دراسته مفاهيم يونجية: تحقيق الذات في معالجته لشخصية م س، ويبدو أن بعض الدارسين من النقاد ينفرون من اتجاه دارسين آخرين إلى ربط م س بيونج، ويكاد ط ص يميل إلى الارتباط بفرويد، على أن قرن الرواية وشخصية م س، بفرويد ويونج معا على نحوما، أقرب إلى العدل والحصافة.
    وهي رواية تجمع بين الحُسنيين، فهي متميزة إلى حد التفوق المذهل من الناحية الفنية، تبدو جديدة ومتقدمة على رصيفاتها بمدى واسع، من الناحية الفنية البحتة، وهي في الوقت نفسه تطرح قضايا فكرية جادة وحارة بمستوى الطرح الفني وسموقه ، ويبدو من البين أن نص الرواية المتميزة فنيا لا يكتمل جماله إلا بنفعه، بأن يتناول قضايا حيوية فالجمال يرتبط ويمتزج بالجدّ أي النفع، وإلا كان جمالا سطحيا مفلسا من حيث القيمة، كنوع من الخواء والزيف.
    ومحمود مدني درس في جامعة الخرطوم، وتعمّق في معرفة الأدب الإنجليزي ولغته وثقافته، وهو روائي وكاتب محترف، مما جعله على حظ عظيم من معرفة الأدب العالمي ولا سيما الرواية فضلا عن متابعته لحركة الأدب العربي الحديث، ويدل مقاله على عقليته وذوقه ومعرفته ونضج وعيه الثقافي. ولهذا فإن ريادته للكتابة الناضجة عن ظاهرة الطيب صالح، بهذا المقال الرحيب الماهر السابق لكل النقد الدائر حول ط ص، ليجعله وكأنه الإمام في الطليعة، شقّ الدرب وأتوا من بعده أرتالا، ولم يكن له حافز من خارج النص ودائرته، وإنما نبع الاهتمام وانبجس من داخله هو، من صميم وعيه ووعيه بالوعي. وهو ما يسمى الربيئة الذي يتقدم قومه مستشرفا لهم مواقع الماء والخضرة، يشيم الآفاق البعيدة.





























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de