ثمّة منظمةٌ نسويّة، أو مختلطة، ربّما، تُقيمُ هذه الأيّام مهرجاناً للحلو مُر(الآبري) المشروب الرّمضاني السّوداني القُحّ. والمهرجان يكرّسُ للمرأة البربريّة، باعتبار أنّ المشروب اخترعته امرأةٌ من بربر، كما تتحدّثُ مواقع في الأسافير، حتّى لقد وجدوا للمرأة المخترعة العظيمة اسماً وتأريخ تسجيل براءة الاختراع. وأكثر من ذلك تحدّثتُ إلى مسؤولة الإعلام في المنظمة، وهي من مدينة الباوقة، مستشكلاً على المعلومات التي تروّج لها المنظمة ويروّجُ لها البربريون في الأسافير، فزادتني من الشِّعر بيتيْن بأنْ ذكرت إنّ الدلكة والدّخان، كوسائل تجميل وتعطير للمرأة السودانيّة تمّ اختراعها في مدينة بربر. وأنّ المرأة البربريّة هي رائدة في هذه المسائل. قلتُ لها: لو فكّرتِ قليلاً، ستجدين أنّ مدينة بربر تفتقر إلى غابات الطّلح والشاف وغيره من الأشجار المستخدمة في دخان النساء السّودانيّات. وستجدين أنّ أهالي بربر ليسوا على تلك الشّهرة بزراعة الذّرة والتفنّن في صناعتها، وافتراع استخداماتٍ عنها، للتجميل والأكل والشّرب. وهو أقوى دليل عندي على انتحال أهالي بربر لهذه المعارف و "الاختراعات" النّسويّة. لستُ أشكُّ في أنّنا ننحدر يوماً بعد يومٍ في سقوف طموحاتنا واهتماماتنا. لقد قامت إثيوبيا بتسجيل "الخمرة والدّلكة" كثقافات إثيوبية في اليونسكو. وقامت قبل ذلك بتسجيل أشياء سودانيّة خالصة على أنّها ملكها. في مسرح مرقص ومطعم "يود أبيسينيا" الشهير في أديس أبابا، والذي يؤمُّه لفيفٌ من السيّاح الأجانب، تقدّم إثيوبيا أغنياتٍ لمحمّد وردي، سيّد خليفة، عثمان حسين بواسطة مغنين يرتدون الجلابية والطاقية والمركوب على أنّها جزء من فنون وغناء وأزياء إثيوبيا. وتتقدّم مصر بذات الخطوات في انتحال التراث والفنون السّودانيّة، فيما يكون همّنا منحصر في : أوّلُ من تدخّنتْ وتدلّكتْ هل هي امرأة من بربر أو من العيلفون أو نيالا؟ وأنّ أوّل من عاست الحلو مر، أو زرّعته هي من كاب الجداد أو المدينة عرب، أو من زالنجي؟ في زمان التشرذم، الهويّات الصغيرة المجحفة في حقوق الانتماء القبلي، الجهوي والمناطقي، ننحدر لنصل إلى أوّل من حفر حفرةً للدّخان. وذلك قبل أنْ تجلس المنظمة لتعرف من أين جاء اسم (الآبري)؟ للمشروب؟ هل هو نوبي، مروي؟ زغاوي؟ ولماذا انتشر بالاسم الأوحد هذا في كلّ ربوع السّودان قبل أنْ نصير إلى تعريبه فيصير الحلو مر؟ في كتاب المفردات النّوبيّة في العامية السودانيّة ذكر مؤلّفه أنّ الكلمة نوبيّة من رطانة الدّناقلة، واعترض عليه آخر، قبل أنْ ينفضّ حفل تدشين الكتاب دون أنْ يوصلنا لأصل الكلمة أيُّ من الدكاترة المناقشون. وقد يأتي أحدٌ من قبيلة القرعان فيزعم أنّ الكلمة تعني كذا في لغتهم وأنّ أول امرأة زرّعتِ الآبري وعاسته هي امرأة من بني مُرّة في سفح جبل العطرون وهو أمرٌ موثّق في نقوش عثر عليها الإيطالي فيرلليني في الجبل ذاته. ومن الغريب أنّ الذرة التي تمّ افتراع الآبري من استخداماتها، تُستخدمُ – بعد الكسرة والعصيدة، اللتين لم يرد ذكرهما في موسوعة نساء بربر – في صناعة المريسة ومشتقاتها، والمراحل التي تمرّ بها صناعة الحلو مر هي بعض مراحل صناعة المريسة ومتفرّعاتها من "البيرة المحليّة"، كما يسمّيها الخواجات في كتاباتهم عن السّودان، وهو أمرٌ لم تعرض له المنظمة ولا مهرجان الحلو مر، فالذي صنع الحلو مر، متمرّس – من المراس، وليس المريسة، أو كلاهما – في الصّناعات المشروبيّة المشتقّة من الذرة. فلماذا تمّ إهمال مكتشفة المريسة وفروعها، ليتمّ الإعلان عن مكتشفة الحلو مر؟ مهما يكن من أمر الاحتفائيّة بنساء بربر كصانعات للحلو مر وللدِّلكة والدّخان وحفر الحفر، فإنّ المهرجان يعكس تصاغر اهتماماتنا وإسفاف نوايانا في تناول التراث الوطني والتعريف والاحتفاء به، ولو كبرتْ همّتنا لما انحدرنا للاحتفالات المريضة هذه، والفخر الشوفينا المنتحِل. هنيئاً لنساء بربر بحلو مرّهن، دلكتهن، ودخانهنّ الذي يغطّي عين الشمس.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة