ما أتناوله في هذه السطور قد يراه البعض بعيدا عن الأولويات المنتظرة من حكومة الثورة ، لكني أزعم أن ذلك مفتاح ضروري للتغيير ..... التغيير الذي اتخذته قوى الثورة مع مفهوم الحرية مسمى لها ، بإعتباره مطلبا من مطالب جماهير الثورة يجب أن يبدأ بتغيير المفاهيم حتى يمكن تحقيق أهداف الثورة وقد اكدت الآية الكريمة ذلك ( لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .........الآية .........) وكبداية للتخلص من إرث الإنقاذ من المفاهيم التي حاولت بها صياغة المجتمع ، نريد أن يكون شعار الفترة الإنتقالية ( تنمية الإنسان السوداني ).....الإنسان السوداني الذي أهدرت الإنقاذ كرامته وأهانته وأفقرته وجردته من كثير من قيمه وخصاله التي عرف بها ، نريد لهذا المفهوم أن يكون مفهوما مختلفا عن مفهوم التنمية الذي ساد ردحا من الزمن في أذهاننا وهو المفهوم الذي رسخته الأنظمة الشمولية التي لا تكترث للإنسان ، ذلك المفهوم الذي يجعل من التنمية أداة من أدوات التخدير للمواطن يروج لها إعلامهم على أنها مشاريع عملاقة لتحقيق الرخاء والرفاهية للمواطن وهي في الأساس مشاريع وهمية خطط لها بغرض نهب تمويلها من مؤسسات التمويل لمنفعتهم الشخصية ، ولم تهدف تلك التنمية المزعومة إلي تنمية المواطن وتغاضت عن قضايا أساسية لها تأثير علي حياة الناس ، وفي نهاية المطاف كانت النتيجة تدهور حياة هذا الإنسان بل إنحطاطها . مفهوم التنمية الذي يجب أن يسود في عهد التغيير هو تنمية الإنسان وذلك لا يأتي إلا من خلال تنمية مفاهيمه حتى ترتقي حياته ويحس أنه إنسان ، إنه لا يتعلق بحياته اليومية البسيطة فحسب ، فما يعكر حياتنا ليس فقط الجري وراء الحصول على الخبز أو الغاز أو الوقود لكن هناك أشياء أخرى لها تأثيرها النفسي على حياة الإنسان ، لأنها هي التي توجه سلوكه وتصرفاته ، فإن كان إدراكه لها سليما كان نتاج ذلك سلوكا وتصرفا إيجابيا وإن كان هذا الإدرك مغلوطا كان النتاج سلوكا وتصرفا سلبيا . روجت ثقافة الإنقاذ لكثير من المفاهيم التي تركز على الروح الفردية والأنانية وإستغلال المنصب والكذب والغش وتجاوز القوانين واللوائح وإحتقار المواطن وغيرها من المفاهيم التي اسست لسلوك أصبح مقبولا من الذين ماتت ضمائرهم من الإنتهازيين وعاطلي القدرات للتلاعب بمقدرات الدولة وأصبحت نموذجا يحتذى ، تلك المفاهيم هي التي أوصلتنا إلي هذا المستوى من التردي في حياتنا وجعلت حياتنا تتحول من حياة مفعمة بالأمل والمستقبل والثقة في قدراتنا التي أسهمت في بناء العديد من الدول الشقيقة إلي حالة من فقدان الثقة في المستقبل وفي أنفسنا وقتل روح الإبتكار والأبداع في عقولنا ، حياة بغيضة جعلت البعض يفر منها إلي حيث يجد ما أفتقده في بلده . استمرار تلك مثل تلك المفاهيم يعطل قدرات الإنسان وتشل تفكيره وتقتل فيه روح الإبداع بل وتصيبه بالإكتئاب وهذا ما حدث لكثير منا . هذه الثورة المجيدة غسلت أدران كثيرة لوثتنا بها الإنقاذ ، ومطلوب أن نغير كثير من المفاهيم حتى لا نعيد إنتاج نفس المشكلات التي خلقتها الإنقاذ ونستخدم نفس المنهج الذي إتبعته لإستمرار هذه المشكلات والأزمات . فمثلا المفهوم الذي تعاملت به الإنقاذ مع قضية السلام قصرته على طرفين الحكومة والحركات المسلحة ، ومن قبل الثورة كان معها المعارضة السياسية ، ولأن إستمرارها في السلطة هو ما يهمها أكثر من الوطن حصرت حلول أزمات الوطن وأولها قضية السلام في المشاركة في السلطة ولم تلتفت للمواطنين في مناطق الحروبات ، وعامة سكان البلاد ، فالسلام يهم جميع السودانيين حتى وإن لم تكن مناطقهم داخلة في خريطة النزاعات . وهكذا عزل مفهوم الإنقاذ الضيق للسلام الشعب فلم يشركوا في أي مفاوضات بداية من مشكلة الجنوب ، رغم أن موضوع السلام يمس كل فرد يعيش في هذا الوطن ، فالسلام لا يعني وقف القتال فقط في مناطق النزاعات إنما هو مفهوم مرتبط بالمواطنة يشتمل على كثير من الإستحقاقات التي يجب أن تعيها الدولة و كل الشعب وهي أن تحترم الدولة جميع مواطنيها وتوفر لهم الحياة الكريمة والأمن والمساواة والعدل بينهم دون تمييز وأن تحترم حقوقهم ، وعلى جميع مكونات المجتمع أن يقبل كل منهم الآخر ، وأن يسود الإحترام بينهم ، وأن يكون الإنتماء للوطن فوق كل انتماء آخر ، هذه الإستحقاقات وغيرها يجب أن تكون ملزمة للكل . وعليه ، لماذا لا يكون هناك صيغة جديدة تخاطب موضوع السلام يشارك فيها كل السودانيين من خلال التمثيل الجغرافي والسياسي مثلا . مثال آخر من المفاهيم التي رسختها ثقافة الإنقاذ وهو أن يعتمد الإختيار للمنصب العام على المحاصصات ، ورغم أن قوى الحرية والتغيير بعد الثورة ألغت هذا المفهوم وأعلنت أن الكفاءة هي المعيار لإختيار وزراء حكومة الثورة لكنها للأسف أول من قام بخرق هذا المعيار . في جانب المفاهيم الحضارية التي تؤسس لمجتمع متحضر نجد الدولة تفرض غرامات على المخالفات المدنية مثل تجديد الرخص السنوية للسيارات والمحال التجارية ، ولكنها لا تفرض غرامة على الذين يخالفون الذوق العام ويلقون قوارير المشروبات من سياراتهم في قارعة الطريق والذين يضعون القمامة في الطريق امام محلاتهم ، وكذا يفرضون غرامة على الذي لم يدفع رسوم النفايات ولكنهم لا يغرمون الذي يضع كيس النفايات خارج حاويات القمامة . ومن المهم أن يكون مفهوم صحة البيئة من الاولويات . المفاهيم الجديدة التي تؤسس لمجتمع إنساني حضاري يمكن الوصول إليها بسن القوانين ، ومن خلال التوعية المستمرة من خلال أجهزة الإعلام ، وقبل ذلك كله أن تكون أجهزة الدولة حاضنة لهذه المفاهيم ومن ثم التبشير بها ونشرها وسط شرائح ومكونات المجتمع .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
د.الصادق محمد سلمان
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست