عرض كتاب الحياة بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاﺫ الحلقة الخامسة عشر بقلم خالد الحاج عبدالمحمود

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-20-2024, 00:45 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-07-2019, 05:44 PM

خالد الحاج عبدالمحمود
<aخالد الحاج عبدالمحمود
تاريخ التسجيل: 10-26-2013
مجموع المشاركات: 158

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عرض كتاب الحياة بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاﺫ الحلقة الخامسة عشر بقلم خالد الحاج عبدالمحمود

    04:44 PM December, 07 2019

    سودانيز اون لاين
    خالد الحاج عبدالمحمود-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    عرض كتاب الحياة بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاﺫ / خالد الحاج عبدالمحمود
    بسم الله الرحمن الرحيم
    "أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"

    الجزء الثاني
    الحياة في الإسلام
    الفصل الثامن
    الانتصار على الخوف
    الانتصار على الخوف شرط أساسي، من شروط تحقيق الحياة الإنسانية – حياة الفكر والشعور.. ولقد كان الخوف، هو العامل الأساسي، من بعد الله، في تطور الحياة.. فالخوف – القهر ـ هو الذي استل المادة العضوية من المادة غير العضوية، فبرزت بذلك الحياة.. وقد صحب الخوف الحياة في جميع مراحل مسيرتها الطويلة.. وإلى الخوف، من بعد الله، يرجع الفضل في تطور الحياة، وظهور الحواس، وتتويجها بالعقل.. وعندما ظهر الإنسان، في مرحلة البشرية، وجد نفسه في البيئة الطبيعية، محاطاً بالعداوات من جميع أقطاره.. ولما كان الإنسان قد سواه الله تعالى وسطاً، فلا هو بالقوي، الذي يستغني بقوة عضلاته عن استعمال الحيلة، في حله لمشاكله، ولا هو بالضعيف، الذي لا ينهض لأي مستوى من مستويات تحدي الأعداء، فإنه سائر في طريق (الفكر والعمل)، من أجل الاحتفاظ بحياته.. وهذا الطريق هو الذي ميزه، وميز حياته.. يقول الأستاذ محمود: "ثم إن الله، تبارك وتعالى، سخر الكون لنفخ الروح الإلهي في الانسان، وذلك بإغراء العداوة بين الأحياء فيما بينهم، من طرف، وبين الأحياء والعناصر الأخرى، من طرف آخر.. فقال:(إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ، وَأَوْلَادِكُمْ، عَدُوًّا لَكُمْ، فَاحْذَرُوهُمْ).. وقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ،ٌ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا).. وكذلك خلق الانسان وسط العداوات.. (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ).. ثم كان عليه أن يسعى للمصالحة، والمسالمة، والمحبة..".. هذا هو واجب الإنسان، من أجل حياته "أن يسعى للمصالحة، والمسالمة، والمحبة".. وحتى الآن، لا يزال الإنسان بعيد جداً، من القيام بهذا الواجب، ولا بد له من القيام به.
    وقد هدى الله، الإنسان الأول، إلى تقسيم القوى التي تحيط به إلى: أصدقاء، وأعداء.. والأعداء أنفسهم، يقعون في قسمين: أعداء يقدر عليهم، وأعداء يعجزون قدرته.. وقسم الأصدقاء إلى قسمين: أصدقاء يبادلهم وداً بود، وخدمة بخدمة.. وأصدقاء يغمرونه بألوان النعم، ثم هو لا يستطيع أن يكافئهم، لأنهم أقوياء، وهو ضعيف، ولأنهم أغنياء، وهو فقير، وفاقت قدرتهم، واستغناؤهم حدود تصوره، فلزم العجز، ولجأ إلى الشكر.. وقد هدت هذه النظرة الإنسان إلى طريقه في الحياة: فأما الأعداء الذي يطيقهم، وتنالهم قدرته، مثل الإنسان والحيوان، فقد اتجه في أمرهم إلى المنازلة، والمقارعة، والحيلة، فاتخذ الآلة، يزيد بها قوته، ويعوض بها عن الأنياب والمخالب.. وذهب في تطوير هذا المجال بعيداً، في وقتنا الحاضر، فوصل لما سُمي بأسلحة الدمار الشامل، التي إذا استخدمت تكون وبالاً على مستخدمها، وعلى عدوه، في وقت واحد.. كما لجأ إلى الحيلة، وكل هذا أدى إلى نشأة العلم المادي التجريبي، الذي وصل في وقتنا الحاضر إلى قمته.
    أما الأصدقاء الذين استطاع أن يبادلهم نفعاً بنفع، فقد هدته صداقتهم إلى العيش معهم في جماعة أكبر من تلك التي يعيش فيها الحيوان.. ومن أجل ذلك نشأ المجتمع ونظامه، الذي أدى إلى نشأة العرف، والعادة والتقاليد، إلى أن توجت بالقوانين. أما الأصدقاء الكبار، والأعداء الكبار، فقد هدته الحيلة إلى التقرب إليهم، وتقريب القرابين، وإظهار الخضوع، والملق.. أما الأصدقاء فبدافع الرجاء.. وأما الأعداء فبدافع الخوف.. وكانت تلك بداية الدين.
    الآن، بلغ العلم مبلغاً عظيماً في التطور، وعرف الإنسان من آيات الآفاق، ما يفوق خيال الأقدمين.. وتطور المجتمع إلى الحد الذي توحد معه الكوكب الأرضي، فأصبح بيئة بشرية واحدة، متحدة.. وعن طريق العلم والتكنلوجيا خصبت الحياة المادية، وأظل عهد الوفرة، بصورةٍ لا نظير لها في التاريخ.
    أما الدين، فلم يبق منه إلا الدين الأرضي.. مع كل هذا التطور لم يجد الإنسان ما يصبو إليه من سعادة.. بل أكثر من ذلك، تعقدت مشكلاته بصورة أكبر، ولا يزال الخوف، له الكلمة العليا في حياة الناس.. وقد فشل الإنسان، فشلاً تاماً في إيجاد أجوبة، على أسئلته الوجودية.. وفشل في أن يجد لحياته معنى.. فأغرق نفسه في مطالب الحياة الدنيا، بحثاً عن مهرب من مواجهة واقعه، ولم يكن الهروب مجدياً، فزاد القلق والاضطراب النفسي، وتأزمت حياة الإنسان وسط الوفرة، تأزماً كبيراً، وهو لا يزال يبحث عن الخلاص، الذي يتناسب مع طبيعة وجوده، ومع ما حققه من تطور مادي.. وحتى الآن هو يبحث دون جدوى!! ولم تلح في أفق الأغلبية الغالبة الساحقة، أي لوائح أمل!! ولا بد من الحل.. ولا بد من أن يكون الحل في مستوى أزمة الإنسان الحاضر، وفي مستوى تلبية أشواقه.. وأي حل دون ذلك، ليس بحل.. وبصورة خاصة، لا بد من الانتصار على الخوف، أب الشرور جميعها، والخوف من الموت بالذات.. بل لابد من تصحيح ما تركه الخوف، من بصمة سلبية، في كل نفس بشرية.. وهذا لن يكون إلا إذا عرفنا الخوف وطبيعته، وعرفنا دوره التاريخي الإيجابي، في تطور الحياة، وما يشكله الآن من عقبة كأداء، في سبيل كمال الحياة.
    يقول الأستاذ محمود عن الخوف: "الخوف هو العنصر الغالب في مشاعر الأحياء.. وفي الحق، إن الخوف (القهر) هو الذي استل المادة العضوية من المادة غير العضوية، فبرزت بذلك الحياة.. ثم إن الخوف هو السوط الذي حشد الأحياء في زحمة سباق التطور.. فالحياة مولودة في مهد الخوف.. ومكتنفة بالخوف في جميع مدارجها.. ولولا بوارق الأمان، الفينة بعد الفينة، ولولا لوائح اللطف، الفينة بعد الفينة، ولولا غواشي الغفلة، في أغلب الأحيان، لاجتاح الخوف الحياة، ولقطع نياطها.. ولا يزال الخوف، إلى الآن، هو الأصل في سوق الحياة إلى كمالها في جانب الله..".. فبالعذاب والخوف، تطورت الحياة وظهرت اللطائف من الكثائف.. فمن قهر العناصر برزت الحياة، ومن قهر الحياة برزت العقول.. ومن جراء القهر ولد الخوف، ومن جراء الخوف ولدت الحياة، وسارت بحافز الخوف متطورة في المراقي، درجة فدرجة، إلى أن بلغت مرتبة ظهور العقل البشري.
    عن قوله تعالى للملائكة: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ".. ذكرنا أن الروح الإلهي المنفوخ في الإنسان هو العقل (إرادة الحياة).. والخوف هو وسيط النفخ، وصراع العناصر في البيئة الطبيعة هو العامل المباشر، والله تعالى وراء كل أولئك محيط.. والنقطة الهامة جداً، التي لا بد من إدراكها هي أن النفخ ما يزال مستمراً، بل هو سرمدي!! والنفخ يأخذ في اللطف كلما برزت لطائف الحياة من كثائفها، وكان لها السلطان.. فإذا اكتمل ظهور لطائف الحياة من كثائفها، وأصبح لهذه اللطائف السلطان، في تسيير حياة الحي، تستغني الحياة عن الخوف، وعن المشقة والعداوة التي تؤدي إلى الخوف.. حينئذ يكون الخوف قد أدى دوره، حتى استنفده، وأصبحت الحياة مستغنية عنه ويتم التحول إلى الأمن، كبديل للخوف.. يقول الأستاذ محمود: "وسيجيء يوم يبدل الله فيه الخوف أمناً، والحرب سلاماً، والعداوة محبة (ما يفعل الله بعذابكم، إن شكرتم، وآمنتم؟ وكان الله شاكرا عليما؟)".. هذه المرحلة هي مرحلة الحياة العليا، وهي حتمية، ومتحققة في حينها.. وقد ظل الله تعالى، دائماً، يعد المسرح لظهورها.. والآن قد أصبح المسرح يكاد يكون جاهزاً لهذا الظهور، تأذن الله بالتبشير بها، ويوشك، بمحض فضله، أن يتأذن بالتطبيق.. حينئذ، سينتهي الخوف، عند الناس إلى غير رجعة، وترفع عقابيله، من انحرافات سلوك، ومن كبت، ومن خطايا موروثة ومكتسبة.. ووقتها يسود الأمن عند كل الأفراد، وتنتهي صور الصراع الداخلي.. ويعم الأمن الأرض جميعها، فيتم الاستغناء عن الوسائل المرحلية – وسيلة الخوف وما ينتج عنه من عداء وعنف بين الأفراد، وحروب بين الجماعات.. وهذا ما يبشر به قول الأستاذ محمود الذي أوردناه، وجاء فيه "وسيجيء يوم يبدل الله فيه الخوف أمناً، والحرب سلاماً، والعداوة محبة".. هذا هو يوم سيادة الأصول!!
    الكبت:
    سبب الخوف الأساسي، هو الحرص على الحياة، وعلى الرزق، والخوف من كل ما يهددهما.. فالخوف في جميع صوره، هو خوف من الموت.. وكل نفس بشرية تدرك أن الموت حتمي، لا سبيل إلى تجاوزه، مهما اتخذنا من أسباب مادية.. وتصور الموت يتوقف على تصور الحياة.. وقد رأينا أن الحياة في الفكر الغربي، ظاهرة بيولوجية وحسب.. فإن يكن الأمر كذلك، فلا سبيل لتجاوز الموت، ولا للتخلص من الخوف!! ولكن، نحمد الله أن التصور الغربي، خاطيء بصورة شنيعة.. ولا يمكن تجاوز الموت والخوف، إلا بتجاوز هذا التصور الخاطيء للحياة والموت.. فمن أجل الانتصار على الخوف، لا بد من الانتصار على التصور الغربي، الذي يقوم على المادية.. هذا شرط أولي وأساسي.
    لقد رسخت مرحلة الحيوان، وقانون الغابة الذي تقوم عليه، الخوف في النفوس البشرية.. ففي قانون الغابة الخوف مسيطر على المسرح، سيطرة تامة.. فالحياة تقوم كلها على الصراع الذي ينقسم فيه الأحياء، إلى صيد وصياد.. والصياد نفسه هو صيد لصياد أكبر منه!! وقد رسخت هذه المرحلة، والتي لا نزال نعيش فيها، في مستوى من المستويات، الخوف في النفوس البشرية.. وهي منذ البداية حفزت الافراد للعيش في جماعة.. والجماعة فرضت بأعرافها وقوانينها، حدوداً معينة للأفراد، إذا تعدوها نالهم العقاب، جزاء على تعديهم.. فأصبح الفرد البشري مقيداً بحدودٍ معينة، تقتضي فعل ما لا يتضرر منه الآخرون.. وقامت الأعراف والقوانين منذ البداية حول السلوك الجنسي، وحول الملكية.. وفي هذين المجالين وقعت أول صور الكبت.. فبفعل الخوف، وبفعل الرجاء، بدأ الإنسان يسيطر على نزواته، وبدواته، ويروض شهواته بعقله، فلا يفعل ما يوقع في غضب الآلهة، وغضب الجماعة، مما يوجب العقوبة، عاجلاً أو آجلاً.. ومن هذه السيطرة نشأ الكبت، وانقسمت الشخصية.. فالكبت قديم، وكل منا له نصيبه من الكبت الموروث، من التراث البشري في التاريخ الطويل، ومنه ما هو كسبه الخاص، الذي اكتسبه أثناء ممارسة حياته الطبيعية والاجتماعية في عمره الخاص.
    والسبب الأساسي في الكبت في الماضي، وفي الحاضر، هو تصور الأفراد والجماعات للواجب.. يقول الأستاذ محمود: "والذي أوجب الكبت، في الماضي، ولا يزال يوجبه، هو تصور الجماعة، وتصور الفرد، للواجب عرفا، وشرعا.. وفي يوم الناس هذا وبعد أن قطعت البشرية كل هذا العمر الطويل، فإن هذا التصور لا يزال غبيا، وجاهلا، وبعيدا عن الحكمة.. فما ظنك به يوم بدأ الكبت في صدر أول فرد بشري؟؟".. والكبت يعني عندنا: سيطرة العقل على رغائب النفس، والحيلولة دون أن تعبر هذه الرغائب عن نفسها، إلا من خلال العقل.. وبعض هذه الرغائب أصيل، ولا يوجد سبب لكبته، إلا الجهل والاستبداد، في المجتمع، وعند العقول القاصرة.
    من المهم جداً أن نذكر أنه حسب الدين، القلب هو بيت الله، وبما أنه كذلك، فهو آمن من الخوف، والكبت لا يقع فيه.. وإنما منطقة الكبت تقع على حواشي القلب، فيما بين العقل الواعي والعقل الباطن ـ القلب.. ومنطقة الكبت هذه هي موطن الإنسان في الإنسان ـ موطن الإنسان الكامل، في الإنسان الذي هو مشروعه المستمر التكوين.. والإنسان الكامل يجيء نتيجة لرفع الحجب بين العقل الواعي، والعقل الباطن بحيث تنعكس حقائق القلب على العقل دون أن تحجبها حجب.. ورفع الحجب إنما يكون بفض الكبت والتخلص من الخوف البدائي، الذي هو سبب الكبت، وسبب كل الشرور.. والتخلص من الخوف إنما يتم عن طريق العمل بالمنهاج (طريق محمد) في رياضة العقول، ورياضة النفوس.. فعن طريق هذه الرياضة، يتم تحصيل العلم الذي به التخلص من الخوف، ويتم توحيد البنية البشرية.
    التخلص من الخوف:
    لقد صحب الخوف الحياة منذ بداية ظهورها، خاصة بعد دخول التطور مرحلة (الحياة والموت)، ففي عهد الحياة والموت دخل الخوف، وأخذت الحياة تنقسم.. وهذا الانقسام يتمثل في انبثاق اللطيف عن الكثيف، وهذه بداية الإدراك، الذي كان في البداية عن طريق الحس بالجسد كله.. ومحاولة الحياة في تطورها كله، أن يكون كل الجسد لطيفاً!! أن يتوحد الجسد على اللطافة بعد أن كان توحده على الكثافة.. وبهذا التوحد تتحقق إنسانية الإنسان.. ولا تتم هذه اللطافة المنشودة، ولا يتم هذا التوحد المنشود، إلا عن طريق التخلص من الخوف، ومن الكبت، خصوصاً الخوف من الموت.
    نحن هنا نتحدث عن التخلص من الخوف من الموت، الذي هو أصل الخوف.. فنحن لا نتخلص من الخوف من الموت، إلا بعد معرفة حقيقته.. فإذا كانت الحياة ظاهرة بيولوجية، فإن الموت يكون مخيفاً جداً، إذ به تصير الحياة إلى عدم، وهذا ما يقوم عليه تصور الحضارة الغربية، وهو تصور خاطيء جداً، وشنيع في خطئه، ويقوم على أكبر الأوهام والأباطيل، وهو تصور أن المادة أصل الوجود، ولا وجود لغيرها!! وبفضل الله وبفضل العلم المادي التجريبي نفسه، ظهر أن هذا التصور شديد البطلان، فالمادة لا وجود لها إلا بسبب أوهام الحواس.. وإذا تجاوزنا هذه الأوهام ـ وقد حدث ذلك ـ ظهر أن المادة مظهر للطاقة أو الروح.. ثم أن الحياة ليست مجرد ظاهرة بيولوجية، وإنما هي ظاهرة روحية ذات مظهر مادي.. فجوهر الحياة روحي، ومظهرها مادي.. والحياة وفق التوحيد، من المستحيل أن تصير إلى عدم!! وذلك لعدة اعتبارات.. أولها: العدم نفسه معدوم!! لا يوجد شيء عيني اسمه العدم، وإنما وجود العدم، وجود عقلي، وليس وجود حقيقة راجع كتابنا (الوجود).. ثم أن الحياة كما ذكرنا، هي حياة واحدة، هي حياة الله، وما حياة كل حي إلا تلقي من حياة الله هذه، التي لا حياة غيرها، بقدر استعداد الحي وسعة مواعينه.. وعلى ذلك الحياة غير قابلة للفناء.. فمفهوم الفناء نفسه في الإسلام، يعني استمرارية الحياة!! يقول تعالى: "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ".. (هالك) هنا، تعني متحول لما هو أكمل منه.. ويبقى وجه الله: يبقى البقاء الكلي، وجه الله الذي هو ذاته، ويبقى البقاء النسبي، الوجه الذي يلي الله من الأشياء.. فالذي يهلك من الأشياء، هو الوجه البعيد عن الله، والذي يبقى هو الوجه القريب.. عملياً الذي يفنى هو الوجه الأقل استجابةً للحياة، ومعنى يفنى، يفضي إلى الوجه الأكثر استجابة، وهكذا دواليك، سرمداً.. الفناء ليس أصلاً في الوجود، وإنما الأصل البقاء.. فلا وجود في الإسلام، للفناء بمعنى الصيرورة للعدم!! يقول الأستاذ محمود: "الموت بمعنى الفناء ليس هناك.. فبالموت يغير الحي قشرته فقط.. يخرج من صدفته التي ظلت تكنه ردحاً من الزمن ــ وهو يكره مفارقتها لجهله بخير منها ــ فالإنسان لا يموت، وإنما يتخلص من القوقعة كما يتخلص أحدنا من الملابس البالية.. وتبريرالإسلام للموت أنه سير إلى الله ــ سير من البعد إلى القرب ــ وهذا لجميع الناس (يأيها الإنسان إنك كادحُ إلى ربك كدحا، فملاقيه) ومن ملاقاة الله الموت، لأن به رفع الحجاب (لقد كنت في غفلةٍ من هذا، فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك، اليوم، حديد).
    ومعرفة حقيقة الموت تبدأ بالإيمان، وتتم بالإيقان.. وصور المؤمنين الذين كانوا لا يخشون الموت عديدة.. ولقد شهدت بنفسي صورة اثنين، كانا يطلبان الموت بإلحاح، ولم يكن ذلك بسبب اليأس من الحياة، وإنما بسبب الرغبة في الموت.. الشخص الأول هو امرأة كبيرة في السن، كانت تسكن بجوارنا، وهي امرأة ذاكرة، وكان لسانها لا يفتر من طلب الموت، وقد استجاب الله لطلبها.. أما الشخص الثاني فكان شاباً، سالكاً، سليم الجسد، وقد كانت له رغبة شديدة في (السفر إلى البرزخ) ـ الموت.. وقد راجعه العديد من معارفه في مشهده هذا، وكنت تحديدا ممن راجعه.. ولكن كان مصراً على مشهده، وقد استجيب له.. وعندما أتته الإشارة بالرحيل، كان فرحاً بصورة مدهشة!! وفي اليوم الثاني، انتقل نتيجة حادث حركة!!
    المهم أننا ننتصر على الموت، عندما نعلم علم يقين بحقيقته، ووقتها قد يكون أحب غائب إلينا!! وقد كان صلى الله عليه وسلم، وهو في فراش موته، يقول لابنته فاطمة: "لا كرب على أبيك بعد اليوم".. وقد بكت السيدة فاطمة بكاءً شديداً، عندما أخبرها بأنه سيلتحق بالرفيق الأعلى، في مرضه ذاك.. ثم ضحكت، عندما بشرها وأخبرها، أنها أول من يلحق به من آل بيته!! وكان بلال في فراش موته يهز طرباً ويقول: غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه!!
    الموت الحسي ليس بالشيء المخيف، عندما تُدرك حقيقته، وإنما الشيء المخيف هو موت القلوب، بالغفلة عن الله، ومعصيته!! ويقول الأستاذ محمود: "هذا هو البعث الأعظم– بعث موتى القلوب.. وهو الموت الأعظم عند الله.. قال تعالى: (أومن كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نورا يمشي به في الناس، كمن مثله في الظلمات، ليس بخارج منها؟؟ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون..) قوله: (أومن كان ميتا) بالجهل بالله.. (فأحييناه) بالعلم بالله.. يعني أومن كان ميت القلب بظلام الكفر، فبعثنا قلبه، وأحييناه بنور الإيمان، كمن هو في ظلمات الجهالات يتخبط فيها على غير هدى؟؟ وإلى غير خروج؟؟ وبعد.. فإني أحب أن يكون البعث هو على هذا النحو.. هو بعث حياة القلوب، لأن به السلوك، وبه السير من البعد عن الله إلى القرب من الله.. وهذا هو الحياة.. أما البعث من الموت الحسي فهو حق، وواجب، وما ينبغي أن يأخذ من وقتنا أكثر مما أخذ..".. إذن القرب من الله هو الحياة، والبعد عنه تعالى هو الموت.. لاحظ أن الأحياء، بالمعنى الدارج للحياة، قد يكونون أمواتاً!! هذا، في حين أن الأموات، الموت الحسي، قد يكونون أحياء!! يقول تعالى، عن أموات الأحياء "أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ".. أما الأحياء، رغم الموت الحسي، فيقول تعالى عنهم: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون".. أما عن القصاص، فيقول تعالى: "ولكم في القصاص حياة يا أولي الأباب".. وقد يكون القصاص بالقتل، ورغم ذلك هو لصاحبه حياة!! يجب ملاحظة أن الإسلام يتعامل مع الحياة الدنيا، والحياة الأخرى – أو العليا، كوحدة!! وهذا ما يجعل الاختلاف بينه وبين الحضارة الغربية، شاسعاً جداً.
    ومن أجل ما تقدم، نحن ندعو في جميع تفاصيل دعوتنا، وما يقوم عليها من منهاج إلى (القرب من الله) إلى الحياة الباقية، الحياة التي ما دونها ليس بحياة!! من أجل ذلك قال الأستاذ محمود: "لن يهدأ لي بال حتى أرى الإنسانية قاطبة وقد قام ما بينها وبين ربها على الصلاة، وما بينها فيما بينها على الصلة".. قلنا أن القرب من الله هو الحياة، وأن (تعلموا كيف تصلون) يعني: تعلموا كيف تحيون، هذا القول، ليس مجرد مجاز، وإنما هو الحقيقة، التي لا حقيقة غيرها، في بابها!!
    من الناحية السلوكية العملية، إنما يبدأ التحرر من الخوف، عن طريق توحيد مصدر الخوف أولاً!! وذلك عن طريق تجويد وحدة الفاعل (لا إله إلا الله)، وهي تعني لا فاعل لكبير الأشياء ولا صغيرها إلا الله.. تعني الفاعل الحقيقي في الوجود، هو الله.. فطالما أن الأمور كذلك فجميع الأشياء لا تستطيع أن تضرنا بشيء، إلا بشيء كتبه الله علينا.. ولا تستطيع أن تنفعنا بشيء إلا بشيء كتبه الله لنا.. ولذلك علينا أن نوحد مصدر خوفنا من الله وحده، طالما أنه وحده الذي بيده الأمر.. يقول المعصوم: "رأس الحكمة مخافة الله".. يقول تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء".. فالعلماء لا يخشون شيئا غير الله، لعلمهم أن لا شيء غيره يمكن أن يضر أو ينفع.
    هذا الخوف في البداية ضروري وهام جداً، لأنه يبعث على العمل، ويدفع إلى اللجوء إلى الله.
    لكي ننتصر على الخوف، علينا أن نلقى الله.. والله تعالى ليس في الماضي، ولا في المستقبل، وإنما هو في الحاضر.. فإذا استطعنا أن نعيش في اللحظة الحاضرة، نلقى الله ونتحقق بالعلم الذي يحررنا من الخوف – العلم الوهبي.. يقول الأستاذ محمود: "وباستيقاننا وحدة الفاعل هذه نتحرر من الخوف.. ونستعيض عنه الثقة، والطمأنينة، ورضا البال".. وقال: "فإذا استيقنا العلم بالله، تحررنا من الخوف، الذي دفعه، إلى صدورنا، الحرص على الحياة، وعلى الرزق، وجهلنا بحقيقة الأمر، على ما هو عليه.. وقد قلنا أن أدنى منازل العلم بحقيقة: (لا إله إلا الله)، لدى السالكين، المجودين، إنما هو شهود وحدة (الفاعل)".
    ما هو العلم بحقائق الأشياء الذي به يتم الانتصار على الخوف؟؟ أول هذا العلم هو التخلص من وهم معاداة البيئة لنا!! فهذا وهم أدى إليه الاعتماد على ظاهر الأمر.. فالبيئة في حقيقتها، في جميع صورها، مسخرة لنا، يقول تعالى: "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ".. فحتى ما يظهر لنا في صور عداوة، إنما هو مقتضى الحكمة، التي تخرجنا من جهلنا إلى العلم بالأمر كما هو في الحقيقة.. فليس في البيئة شيء هو عدو لنا، وإنما كل ما فيها هو صديق، حتى ولو كان في صورة عدو!! والمعرفة بحقائق الأشياء، كما هي عليه، تقول، أن الوجود في أصله هو خير كله.. فلا مكان للشر في أصل الوجود، وإنما الشر فقط في مظهره.. الخير أصل، والشر فرع ومظهر للخير.. والفرع لا يختلف عن الأصل اختلاف نوع، وإنما اختلاف مقدار.. فالخير في الشر موجود!! وليس للفرع وجود حقيقي، وإنما وجوده وجود عقلي، وجود شريعة.. فهو موجود لخدمة الخير بالإعانة على الصيرورة إليه.. فجميع الفروع سائرة، وصائرة إلى الأصول.. هذا هو مقتضى التوحيد.. وعن طريق التوحيد يتم استيقان (سر القدر) ووقتها تتم الهزيمة النهائية للخوف.. يقول الأستاذ محمود: "قد جعل الله لكل شيء وقتاً.. قال تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر* وما أمرنا إلا واحدةً ، كلمحٍ بالبصر).. والأمر هو القضاء، وأعلاه سر القدر.. وسر القدر: أن مصير الأشياء، والأحياء، إلى الخير المطلق.. لأن سر القدر في (الذات)، وليس (عند الذات) إلا الخير المحض، فليس للشر هناك مكان".. فالإنسان من الله صدر وإلى الله يعود.. وهذه العودة هي الخير الخالي من الشر.. وإنما كان الشر في البدايات من أجل خدمة هذه الغاية.. فالشر ليس أكثر من وسيلة للخير.. وأكبر الشرور الموت.. فلا موت إلا موتتنا الأولى.. وأكبر صور العذاب هو عذاب النار، والنار فانية، ولا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وهذا هو الخير.
    إن جميع حديثنا الذي سبق أن أوردناه، عندما تحدثنا عن (المنهاج)، هو حديث في التخلص من الخوف، ونحن لا نحتاج أن نعيده هنا فقد تحدثنا عن أدب الوقت، والحضور مع الله، في اللحظة الحاضرة.. وتحدثنا عن الصلاة كوسيلة للحضور، وتحدثنا عن المعاملة، وكيف أنها معاملة الله في خلقه، ابتغاء مرضاته، وتحدثنا عن أدب العبودية.. وقلنا أن العبودية هي تكليفنا الأصلي، وهي وسيلة التخلق بأخلاق الله.. فبالعبودية لله يتم التحرر من الخوف "فالعارف المجود للمعرفة، السالك في مدارج العبودية لا يخاف شيئا على الاطلاق.. هو لا يخاف الله لأن الله عند العارف المجود يحب، ويطمأن إليه، ويرتع في بحبوحة أنسه.. نعم هناك ظل من الخوف خفيف، وذلك عندما يمد العارف نظره إلى الإطلاق، ولكن هذا الخوف هو نتيجة المعرفة، ونحن نتحدث آنفا عن الخوف الذي هو نتيجة الجهل.. فالخوف الذي هو معرفة، هو أعلى ما تبلغ معرفة العارفين، وعنده النعيم المقيم والخير المطلق، وبه المزيد المستمر، لأن العارف فيه يتحقق بقوله تعالى (كل يوم هو في شأن) وشأنه تجديد حياته كل لحظة بانطلاقه في التطور، بالاستزادة من كمال حياة الفكر وحياة الشعور، وهو في ذلك ينشر الخير بين الناس كما تنشر الزهرة المعطار شذى عرفها."..
    هذا الأمر يبدو بسيطاً وسهلاً، ولكن من المؤكد أنه، ليس بالبساطة التي تبدو من الكتابة.. ومع ذلك هو بسيط وميسور، لمن يسره الله له.. فبمجرد الدخول فيه بصدق وإخلاص، يصبح صاحبه ممدوداً، وييسر له الأمر، وتضاعف له الحسنات.. من المهم جداً أن نعلم أن هذا الأمر منذ البداية لا يقوم على التنظير، وإنما يقوم على العمل في التحقق بالعلم.. وهذا هو منهاج التقوى الذي تحدثنا عنه: علم وعمل بمقتضى العلم.. والعلم والعمل يحدثان الفرقان، وتصحيح الحال في العبودية.. إذن فهو ميسر!! ولكن وجه التيسير فيه لا يأتي من قبل العبد، وإنما يأتي من قبل الرب.. يقول تعالى: "هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ".. من ظلمات الغفلة حيث الحياة الحيوانية – وهي الموت الحقيقي – إلى نور الحضرة والمعرفة، حيث يتم تجاوز الجهل والخوف، وبذلك يتم دخول الحياة الحية الباقية.. فالعلم بالله يورث عدم النظر إلى العمل، والاعتماد عليه، كما يورث النظر إلى الفضل الإلهي، والاعتماد عليه.. فهذا هو أدب العبودية.. وأدب العبودية هو روح العبادة.. يقول تعالى: "قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ".. والفضل والرحمة، في معرفة التأويل هما: المسيح وأحمد!! وها هنا يقع جوهر البشارة!!
    وحدة البنية البشرية:
    لقد تحدثنا عن الانقسام وأسبابه.. ولا كمال للإنسان وهو منقسم.. ولا مجال للتخلص من الانقسام، إلا بالتوحيد والتخلص من الخوف.. والتوحيد المقصود في الدين، هو صفة الموحد (بكسر الحاء).. فالله تعالى إليه يرجع التوحيد، فنحن لا نوحده، وإنما ندرك واحديته عندما نوحد ذواتنا.. والتوحيد بهذا المعنى، هو الغاية من السلوك الديني، في العبادة والمعاملة.. فتوحيد ذواتنا هو الثمرة من العمل الديني، في كل مستوياته.. فالعمل في الطاعات هو وسيلة للتخلق بأخلاق الله.. وأخلاق الله أعلاها (الأحدية)، والأحدية في حق العبد، هي براءة ظاهره وباطنه من الأغيار.. وصفة الأحدية بهذا المعنى، لا يمكن أن يتم تحقيقها، فالترقي في مراقيها ترقي سرمدي.. و(الواحدية) هي الأقرب للعبد من صفات الله.. وهي في حق العبد، تحقيق فرديته التي ينماز بها عن سائر الآخرين.. والأحدية إنما تتم بتجويد الكلمة (لا إله إلا الله).. المهم أن نقرر أنه بتوحيدنا الله إنما نوحد بنيتنا.. وأدنى مراتب توحيدنا لله، من وجهة النظر السلوكية، تتمثل في وحدة الفاعل.. ووحدة الفاعل هذه جاء بها جميع الرسل.. وعلمنا بها إنما يبدأ بتعليم الرسول لنا.. وهذا هو العلم الكسبي كما ذكرنا، وهو علم قليل الغناء كما ذكرنا.. وقيمته في أن يترسخ في النفس ويصبح يقيناً.. وهذا الترسخ لا يتم إلا بالممارسة العملية، بأن يكون التوحيد حياة، وعندما يتم اليقين، يترسخ العلم في النفس، ويصبح علماً وهبياً.. وهذا العلم هو العلم الذي من خلاله تتم ممارسة التخلق بأخلاق الله، فهو وحده هو الذي يؤثر في الأخلاق.. والعلم الوهبي كما سبق أن ذكرنا هو (علم أسرار الألوهية).. فالعلم بالشريعة يوجب تجويد (العبادة).. والعلم بـ (أسرار الألوهية) يوجب تجويد (العبودية).. والعبودية هي الأدب الواجب على العبد نحو الرب.
    أعلى أخلاق الرب الحكمة.. والحكمة هي وضع الأشياء في مواضعها، هي إعطاء كل ذي حق حقه.. وتنفيذ الحكمة في الواقع المعاش، لا يتم إلا بتوحيد ثالوث: العلم والإرادة والقدرة.. فالله تعالى، خلق الخلق بالعلم والإرادة والقدرة.. وثلاثتها عند الله متحدة، وليست مفترقة، كما هي عندنا نحن.. وفي سبيل التخلق بأخلاق الله، المأمور بها، علينا أن نعمل، كل ما نعمله، بعلم دقيق بما نريد أن نعمله، ثم بتخطيط دقيق للعمل، وفق هذا العلم، ثم تنفيذ هذا التخطيط بإتقان، حسب ما أملاه العلم.. وبهذا العمل نوحد ثالوث العلم، فتكون القدرة عندنا، هي نفس التخطيط – الإرادة.. وتكون الإرادة هي نفس العلم.. وبتوحيد ثالوث: العلم، والإرادة، والقدرة، تتحقق لنا المقدرة على توحيد ثالوث الفكر، والقول، والعمل.. وهذا هو سبيل الحرية.. فالرجل الحر في أول الطريق هو من يفكر كما يريد ثم يقول كما يفكر، ثم يعمل كما يقول.. وهو دائماً مستعد لتحمل مسئولية نتيجة فكره، وقوله، وعمله، ثم لا تكون عاقبة فكره، ولا قوله، ولا عمله، إلا براً وخيراً، بالأحياء والأشياء.. وعن وحدة هذا الثالوث يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ".. هذه الوحدة هي وحدة ثالوث الفكر، التي هي: الفكر والقول والعمل.. وهي وسيلة واسلة للوحدة الكبرى – الوحدة العظيمة – وحدة ثالوث (الحياة)، وحدة: العقل والقلب والجسد.. وهذه هي الغاية والنهاية التي ليس بعدها غيرها!! وهي جماع تكاليف الإنسان، في جميع أكوان وجوده: في هذه الحياة الدنيا، وفي البرزخ، وفي النار، وفي الجنة.. وهذا هو كمال الحياة.. فكمال الحياة إنما هو في التوحيد، كصفة للموحد (بكسر الحاء).. وتوحيد ثالوث الحياة هو التوحيد.. وللتوحيد بداية، لكنه ليست له نهاية، فهو سير في السرمد.. هذه الحياة الكاملة، بكمال ثالوث (الحياة)، هي ليست تكليفنا الديني فحسب، وإنما هي القدر المقدور لنا.. فالإنسان مكتوب عليه الحرية، ومكتوب له الكمال.. يقول تعالى، في هذا الأمر: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ؟؟".. ويقول أيضاً: "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ".. فالرجوع إلى الله وملاقاته، أمر حتمي.. وفي الآية قال (الإنسان) ولم يقل (المؤمن) أو (المسلم).. فمطلق إنسان يلاقي الله، وما له في ذلك من بد، وليس له فيه اختيار.. وملاقاة الله كما ذكرنا، ليست بقطع المسافات، فليس بيننا وبين الله تعالى، مسافات نقطعها، فهو أقرب إلينا من (حبل الوريد).. فالملاقاة إنما هي بتقريب الصفات من الصفات.. هي التخلق بأخلاق الله.
    ونحن لا نلاقي الواحد إلا إذا توحدنا، وكلما توحدنا زادت حياتنا، بحسب قربنا من الله.. وقد قلنا أن الحي الأول، كان يحس بجلده كله، ثم بدأت تظهر فيه الحواس، الواحدة تلو الأخرى، حسب الحاجة إليها.. وتوجت الحواس بالحاسة الخامسة.. وهذه الحواس إدراكها ضعيف.. فكل منها له مدى محدود.. وهذه المحدودية ليست أصلاً، وإنما الأصل الإطلاق!! المحدودية ناتجة من ضعف التحقيق، وكلما زاد التحقيق – أو قل كلما زاد القرب من الله – زادت قدرة الحواس واتسقت.. فالنظر مثلاً محدود بمدى معين، فنحن لا نستطيع أن نرى أبعد من مسافة معينة، كما أن سقف نظرنا محدود، من أعلى بـ (البنفسجي) ومن أسفل بـ (الأحمر).. ولكننا نملك القدرة على أن نرى فوق البنفسجي وتحت الأحمر، كما أننا نملك القدرة على أن نرى أبعد من مدى بصرنا الحالي.. فزرقاء اليمامة ليست حالة خاصة، وإنما إمكانياتها موجودة عند كل فرد بشري كاستعداد.. بل أكثر بكثير، لكنه لا يتحقق عندنا، بصورة ثابتة إلا بتطور حواسنا، عن طريق العمل بالمنهاج.. وكذلك الحال بالنسبة للسمع.. فالمدى المحدود لسمعنا الآن ليس هو نهاية المطاف.. وإنما نحن نستطيع أن نسمع من الأصوات العالية، والخافتة، أكثر مما هو في حدود قدرتنا الآن.. والحجاب القائم الذي نتجت عنه محدودية حواسنا، هو رحمة.. فإذا زاد إدراك هذه الحواس قبل استعداد المحل عند صاحبها، لهذه الزيادة، قد يحدث التلف للحواس، أو لصاحبها نفسه.. لكن الزيادة في وقتها، وبعد الاستعداد لها، تكون أمراً طبيعياً، والزيادة في قدرات الحواس، هي زيادة في الحياة.. والمطلوب أن نتخلص من خداع الحواس، ونعمل على توحيدها.
    ولقد تحدثنا عن وحدة الحواس، عندما تحدثنا عن الحاسة السادسة، والحاسة السابعة.. فالحاسة السادسة هي "العقل حين يقوى ويستحصد، ويوحد معطيات الحواس المختلفة، حتى يكون بقوة هذا التوحيد، لدى إدراكه لكل شيء، كأنه يحسه، ويسمعه، ويراه، ويذوقه، ويشمه، في آن واحد".. عندما يتم هذا التوحيد للحواس يكون الالتذاذ بما يلذ بالحياة، أعظم مما هو عليه واقعنا الآن، بصورة هائلة.. فالتطور في الحياة، هو تطور في تحصيل الالتذاذ بما يلذ، فجميع ملاذ الحياة اليوم، منقوصة بصورة كبيرة جداً، بسبب الخوف وما أدى إليه من انقسام وتشتيت.. فاللذة تقتضي الوحدة، وتقتضي الحضور!!
    وقد يبدو للبعض، أن توحد الحواس، بالصورة التي ذكرنا، أمر غريب، ولكنه حق، وهنالك صورة علمية له اليوم!! وقد تناول د. أحمد مستجير، الموضوع في كتاب له من سلسلة الثقافة العلمية، اسم الكتاب (الثورة البيولوجية).. حيث خصص فصلاً في الكتاب، عنوانه (أن تسمع اللون وترى الصوت).. ومما ورد في ذلك قوله: "تعلمنا أن حواسنا الخمس: السمع، البصر، الشم، الذوق، اللمس، منفصلة، متخصصة، ومستقلة بعضها عن بعض، وأن كل منها مرتبط بعضو بذاته من أعضاء الجسم، فلا نحن نرى بأذننا ولا نحن نسمع بأعيننا، العلم يتحدى الآن هذه الأفكار بأبحاثه في ظاهرة (ترافق الحواس) الساحرة هذه! والتي يخبر فيها الفرد تشوشاً في حواسه، فيبدو الأمر كما لو كانت أحداهن قد (اندمجت) في الأخرى.. حاسة تقدح زناد حاسة أخرى غيرها، فصوتي عند مثل هذا الشخص ليس مجرد شيء يسمعه، وإنما أيضاً هو شيء يراه، أو يشمه، أو يلمسه – هو يستطيع أن يسمع اللون أو أن يرى الصوت أو أن يلمس الطعم.. طعم الكينين كالخشب الناعم المصقول، السكر يجعل طعم الأشياء (أكثر استدارة) أما الموالح فتعطي طعماً (مدبباً).. هي ظاهرة لا إرادية ولا يمكن للفرد أن يتحكم فيها، وتبقى معه طوال العمر، وإن كانت تضعف بعض الشيء مع تقدم العمر" 10ص 30.. ويقول: "ثمة شواهد قوية تقول: أننا نولد جميعاً ونحن نحمل هذه الخصائص.. نولد وحواسنا الخمس مبهمة وممتزجة معاً، لتتمايز مع تقدم العمر وتصبح أكثر وأكثر تخصيصاً".. ويشرح: "تبين الأبحاث أن الوليد النائم يسمع في نومه مثلما يسمع في صحوه، أما الشخص البالغ فينخفض سمعه عندما ينام".. ويقول: "تكون حواسنا عندما نولد مترافقة، ويحتفظ عدد قليل منا بهذا الترافق طيلة حياته، عدد تتراوح نسبته في العشيرة ما بين واحد في كل 20,000 فرد، وواحد في كل 2,000 وأن كان هنالك الآن من رفع هذه النسبة إلى واحد في كل مئتين.. والواقع أن ليس ثمة تقدير مضبوط يمكن الاعتداد به، لأن معظم من يحمل هذه الخصيصة لا يفصح عنها خشية أن يتهم بغرابة الأطوار".. يقول د. مستجير أن الدكتور أدموند سيويك، أثار هذه الظاهرة مجدداً في أوائل تسعينيات القرن الماضي بكتابه "الرجل الذي يتذوق الأشكال".. وقد طمن الدكتور حاملي الخصيصة أنهم ليسوا مرضى!!
    يقول د. مستجير: "الغريب أن نسبة من يتحلى بهذه الخصيصة من النساء تبلغ على الأقل، ضعفين ونصف ضعف نسبة من يحملها من الرجال، بل هنالك من رفع هذه النسبة إلى ستة أضعاف".. ويقول: "يبدو أن هذه الصفة وراثية، تجري في العائلة كما يقولون.. كان الشاعر الروائي فلادمير فانكوف، مؤلف رواية (لوليتا) يتصف بهذه الخصيصة، وكذلك كانت أمه، وكان أبنه".. راجع كتاب د. أحمد مستجير الباب الثاني (أن تسمع اللون وترى الصوت).
    ونقول أساساً أن الظاهرة مجالها ليس هو العلم المادي التجريبي، وإنما مجالها توأمه الأكبر: العلم الروحي التجريبي.. وحسب هذا العلم، وحدة الحواس هي الأصل، وتعددها مظهر لهذا الأصل.. وكل فرد بشري في تطوره، لا بد له من تحقيق هذه الوحدة.. وهذا ليس نهاية المطاف، وإنما نهاية المطاف وحدة (الحياة)، وحدة: العقل والقلب والجسد.. ثم ليس للمطاف نهاية.. والتطور في الدين يذهب إلى أن يكون كل الجسد، في رهافة ولطافة العقل.. ثم يذهب أبعد من ذلك، إلى حد أن يكون الجسد كله عبارة عن (قلب).. المهم، حسب الدين، الوحدة هي الأصل، والكمال هو الأصل، وما لم يحدث اليوم من كمال إنساني، لا بد له أن يحدث غداً، كان على ربك حتماً مقضيا.. كل ما هنالك، أن كل واقع محكوم بحكم وقته، فهو لا يمكن له أن يحدث قبل وقته أو بعد وقته.. والأستاذ محمود إنما تحدث عن الكمالات الإنسانية، التي أشرنا إلى بعضها، لأن وقتها أقبل، واستعدت لها البشرية بالحاجة إليها، والطاقة بها، فهي لا بد كائنة، قريباً، بإذن الله.. وأدق تعبير عن الوحدة، في تقديري، هو قول الأستاذ محمود: "الكون كله موجود في كل جزء منه"، وهو قول يحتاج إلى كثير من التأمل.



























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de