سنوات البشير – ما وراء الأسطورة في الحياة السودانية.. كتاب في حلقات تأليف عماد البليك

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-10-2024, 07:02 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-27-2019, 11:36 PM

عماد البليك
<aعماد البليك
تاريخ التسجيل: 12-09-2013
مجموع المشاركات: 118

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
سنوات البشير – ما وراء الأسطورة في الحياة السودانية.. كتاب في حلقات تأليف عماد البليك

    11:36 PM April, 27 2019

    سودانيز اون لاين
    عماد البليك -مسقط-عمان
    مكتبتى
    رابط مختصر




    أولا: مقدمات:
    هل كانت السنوات التي حكم فيها البشير، منذ الثلاثين من يونيو 1989، مجرد لحظة خارجة عن التاريخ السوداني، بمعنى أن النظر إليها يكون فقط من خلال ما بدأت به وما حدث فيها من وقائع؟.. أم أنها امتداد ونتيجة فعلية وواقعية لبناء الإنسان السوداني و"دوره التاريخي". هذا الدور الذي يخضع في حد ذاته إلى التساؤل حوله، هل هو قائم فعلا، أم مجرد "يوتوبيا" لم تتشكل أبدا ذات يوم؟!. حلم بدأ منذ لحظة "غامضة"، في الماضي، واستمر إلى اليوم كأسطورة غير قابلة للتشكّل.
    إن القراءة المتعمقة في التاريخ السوداني قديما وحديثا تكشف أن ما جرى خلال الثلاثين سنة الماضية من حكم البشير لم يكن منقطعا عن الأمس، بل كانت له جذوره الواضحة في تربة التاريخ. فالأسئلة التي طرحت منذ انقلاب الثلاثين من يونيو 1989، هي ذات الأسئلة التي ظل السودانيون يطرحونها منذ حوالي ألف سنة، بقيام أول "دولة إسلامية" في أقصى شمال السودان، والتي عرفت بدولة بني ربيعة، أو الكنوز.
    وهي ذات الأسئلة التي حاولت سلطنة الفونج قبل خمسمائة سنة طرحها بفرضها نظام قام على استعارة مفردة "الدين" في بعدها الماورائي وفي لاعقلانية مترتبة عن غياب المساءلة الجادة لإمكانية أن يلعب الدين دورا إيجابيا في الحياة الإنسانية، بدلا من كونه مجرد حدود تطبق وقصاص ومجازات شكلية، لا تعكس أي مضمون معرفي قابل لإقامة نظام سلطاني ومدني يتقاطع مع الحاجات البشرية في راهن الفرد.
    وقبل مائة ونيف من السنوات، كان ثمة حلم آخر ببناء نظام إسلامي مثالي (المهدوتعايشية) ، برغبة استعمار العالم وأسلمته، بدأ بطرد المستعمر عن الوطن، وانتهى بدخوله مرة أخرى، عندما أفرزت الدولة "الحالمة" تعقيدات أكبر مما ورثته من "الغاصبين"، حيث تحولت إلى عامل من عوامل التشرذم والخلافات الداخلية التي لا يزال المجتمع السوداني يعيش وجعها وعلاتها. فثقافة المركز والهوامش التي أصبحت إحدى علامات الحياة السودانية، هي نتاج تلك الفترة بإضافة عوامل أخرى تاريخية عميقة الجذور، يعمل هذا الكتاب على تتبعها في أكثر من منطقة.
    لقد أفرزت "سنوات البشير"، تيارا سيطر على الحياة السودانية، عاملا على إعادة تشكيل الوعي بروافد سلبية وإيجابية غير ملحوظة تأتى عنها جيل جديد له وعيه الخاص في مقاومة الظلم والبحث عن الحرية، وما حدث من سلبيات ساهم فيه أكثر من طرف، وتعدى مجرد السلطة التي يقوم عليها الإسلاميون بل أصبح تيارا مجتمعيا لاسيما للجيل الأول والثاني من كبار السن، في حين أن الجيل الثالث كان ثوريا استفاد من العولمة والتقاطعات الحديثة للميديا الجديدة.
    هذا التيار الذي يمكن الاصطلاح عليه بـ "ما وراء الأسطورة" يناقض العلم والدين، ويعمل على ما قبل الأسطورة الباحثة عن تبريرات ذات قبول منطقي عقلاني في حدود المفكر فيه والمدرك. وهو تيار قديم في العالم حديث في الرؤية الفلسفة بشأنه، حيث يعود إلى نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، في حين سوف يرتبط في السودان ببداية حقبة جديدة من التاريخ تزامنت مع الحراك الكوني ومشروع العولمة الإنسانية بإخفاقاتها ونجاحاتها.
    إن "المحاكمة" العلمية والمنطقية لسنوات ما عرف بـ الإنقاذ" يجب أن تقوم كما يفسرها الكاتب، على إقصاء الطريقة التقليدية في التفكير السوداني والتي تقوم على ثنائية (الخصم والحكم)، أيضا اجترار ذات المقولات السائدة في النظر إلى التاريخ في محاولة ربطه بالراهن وتلمس المستقبل، كذلك تكريس ثقافة الكراهية التي باتت إحدى الصفات "الذميمة" الملاحقة للذات السودانية، تلك التي لم تخترع بعد إذ أنها في طور التشكيل.
    بشكل عام فإن المطلوب هو تجاوز "فكر الهرطقة" إلى فكر جدلي فاعل وبنّاء، بعيدا عن مكتسبات الماضي، وإذا كانت تجارب السياسة والحكم في السودان قد عززت من الشقاق والخلافات وأورثت الأجيال القادمة جبالا من الهرطقات. فإن الفكر الـ "ما وراء أسطوري" الذي يشكّل إحدى علامات العقود الثلاثة السابقة، برغم ما فيه من المثالب والخيالية المطلقة، إلا أنه يحمل داخله خواصا يمكن أن تساهم في إعادة اختراع الإنسان السوداني، بمعنى أدق "اختراع الذات السودانية"، من رماد الخوف والقطيعة وغياب الحياة ليكون من الممكن أن تولد بذرة التجدد والنهضة من خلال المراجعات والفكر الناقد.
    كما أنه يجب أن نفهم بشكل جلي ملابسات الواقع المحلي والعالمي، لأن ما حدث في السودان لا يقوم بمعزل عن ما يجري في الكرة الأرضية عامة.
    إذا كان الإسلاميون قد حملوا تبعات هذه الفترة مدحا وقدحا، واستفاد بعضهم بشكل مادي مباشر في إطار خاصية من خواص الإنسان الأرضي، حيث رغبة الجاه والسلطان. بيد أن هذه الفترة من حكم البشير، تظل واحدة من أكثر مراحل التاريخ السوداني الحديث، تأسيسا للوعي وخلق حالة من الرغبة في اكتشاف من نحن؟ وماذا نريد؟ وإلى أين ذاهبون؟! إذ يحدث ذلك من خلال ما تم فيها من الخلخلة والارتجاج الذهني والرعب، بحيث أن مجمل الصدمة يقود إلى الانفتاح ويكون وقود التقدم.
    وليس هذا من قبيل التتويه وابتكار الأسئلة. وإنما من قبيل منطق الواقع من خلال القراءة والتحليل العقلاني، الذي ينأى عن الأحكام المسبقة، وما درجنا عليه من نمط في التفكير وإعمال الذهن في المستهلك من الفكر والرؤى.
    إذا كنا قد قلنا أن "سنوات البشير" ليست منبتة عن أمس السودان، ومنذ القدم، فلا يعني هذا أنها تجتر الماضي، لأن متغيرات كثيرة في التجربة الكونية أسست لخيارات مختلفة عن تلك التي عاشها سلاطنة الفونج أو خليفة المهدي. حيث أصبح المجتمع السوداني أكثر حراكا ودينامكية، لاسيما في إنتاج إنسان يتمتع بفردانية أكبر ومعرفية أعلى بدرجة نسبية، تخلص لدرجة ما مما اجتهد فيه الكثيرون بحثا في محاولة للوصول إليه وتحديده، والمعني (أصول الفكر السوداني) أو (الثقافة السودانية) أو (مركبات العقل السوداني) وغيرها من السياقات. وتضافر ذلك بتفاعل إيجابي مع مركبات الإنتاج والحياة الاجتماعية عموما والرغبة في بناء منظومات مدنية أكثر حداثة.
    ***
    لقد ساهمت الظروف والوقائع المتأتية عن الفعل البشري، في "سنوات البشير"، سواء تلك الوقائع التي صاغتها "السلطة" أو معارضوها أو عامة الشعب أو العالم الخارجي. على تحول مسارات ما أسمي بـ "الثورة" في البداية، من هدف إلى آخر، ومن رؤية إلى أخرى، بحيث كان النتائج المترتبة بعد حوالي ثلاثين سنة مختلفة تماما عن الأهداف والرؤى التي كانت قد طرحت من قبل الانقلابيين في صبيحة يوم جمعة الثلاثين من يونيو.
    وهو ما يدلل على أن تلك السنوات لم تكن إطارا إستاتيكيا بل مفعما بالدينامكية والحيوية، التي بقدر ما خصمت، أضافت. على الرغم من اختلاف الرؤى بالنظر إلى جدليات وخصومات "لعبة" السياسة في السودان، والصراعات التي يكون الإنسان العادي مجرد أداة من أدواتها. بمعنى أنه إذا كانت ثمة "جرم" ما، فـ "الجميع" مسؤولون عنه بتفاوت الدرجات والمسؤوليات، لأن مفهوم "السلطة" في حد ذاته، تعرض خلال حكم البشير لتفكيك بحيث أصبحت مراكز السلطة متغيرة ومتنوعة، ومفارقة للمفهوم التقليدي عن مركزية السلطة في السودان.
    إن خطورة فكر "ما وراء الأسطورة" إنه بقدر ما يمكن أن تتأتى منه قيم إيجابية مستقبلا، إلا إنه يخلف وراءه الكثير من الضحايا والموتى فوقوده بشري، قبل أن يكون أي شيء آخر. وقد مرت مجتمعات كالولايات المتحدة، وألمانيا والصين بتجارب أكثر قسوة، أدت لإبادات جماعية وخصمت من فرص المستقبل تماما. بيد أن الغد كان أكثر إضاءة. وهذا لا يعني تبرير الجرائم التي ترتكب ضد الإنسان، إنما يعني وفي إطار تحليلي بحت، أن قراءة الممارسات والتجارب يجب أن تتم بوعي أعمق، يتجاوز شروط الراهن وتعسفاته التي تضيق أفق النظر.
    في هذا الكتاب ستكون الهوامش جانبية، بمعنى أن التوسع فيها كان سيعني مضاعفة حجم هذا الكتاب ثلاث أو أربع مرات، حيث يتم التركيز على الرؤى التي يرى الكاتب أنها مفصلية وهامة بتغافل مسار الأحداث الخطي، وذلك في منهج يقوم على أسلوب تفرضه طبيعة الدارسة. والتي تقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء: الأسطورة، ما وراء الأسطورة، ومن ثم ما بعد الأسطورة أو "الحقيقة" بتعبير مجازي لدرجة كبيرة وتأملات المرتجى في المستقبل.
    .. أخيرا أؤكد على أنه قد آن الأوان للنظر إلى الأمور بعيون جديدة، وأن نضع فكر الكراهية وغياب الثقة بعيدا، بحيث نكون أكثر علمية و"براغماتية" في فهم وتحليل الواقع، متخارجين من تأثيرات الراهن، ومن ظرفيات الأيديولوجيات والتحزبات.. وحساسيات الأمس المفرطة من عرق ولون ودين وقبيلة، وهامش ومركز...

    ثانيا: مقدمات لسنوات البشير

    من الصعب اختصار ما يقارب الثلاثين سنة بجرة قلم، فالرحلة التي بدأت منذ صبيحة الثلاثين من يونيو 1989 وانتهت في 11 ابريل 2019 كانت حافلة بالكثير من التطورات في الحياة السودانية في كافة أصعدتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
    وهي رحلة بقدر ما تبدو في ظاهرها قائمة على فكرة أن انقلاب الثلاثين من يونيو جاء بالإسلاميين إلى دفة الحكم بعد أربعة وثلاثين عاما من استقلال السودان، وعن طريق توظيف القوة متمثلة في الجيش، بمعنى أن محصلة المشهد تتعلق بمجرد حكم يحاول أن يطبق الإسلام ويصبغه على الحياة في السودان، إلا أن هذه الرحلة أكثر تعقيدا إذا ما أعيد النظر فيها برؤية غير تقليدية وروتينية، لأن ما جرى خلال ثلاثين سنة كان نتاج تداخلات لعوامل كثيرة ومتشعبة تتعلق بنسيج المجتمع السوداني وتركيبته العرقية وإطاره الجغرافي والسياسي، إضافة إلى الأسئلة الأكثر إرباكا مثل سؤال الهوية، وقضية الدين والعلمانية، وبالطبع العوامل الخارجية وبروز نظام عالمي جديد أحادي الاستقطاب ما بعد انهيار سور برلين في التاسع من نوفمبر من ذات عام الانقلاب العسكري للبشير، الذي سمى نفسه بـ "ثورة الإنقاذ".
    في الأول من يناير 1956 كان أن حقق السودانيون استقلالهم بظن التحرر من سلطة الإمبريالية والنفوذ الخارجي، وبرغبة في بناء الوطن بجهود أبنائه وفكرهم الذي اعتقدوا أنه قد اكتمل بما فيه الكفاية لإدارة دولة عصرية بشروط مدنية وليبرالية غاية في الكمال، بيد أن المثال غير الواقع، والتنظير والخيال غير المماحكة العملية للأمور. هذا ما كشفت عن سنوات ما بعد الاستقلال، حيث لم تلبث أول حكومة وطنية سوى ما يقارب الثلاث سنوات ليدخل الجيش في المشهد السياسي في السابع عشر من نوفمبر 1958بحكومة عسكرية برئاسة الفريق إبراهيم عبود، استمرت حتى الرابع والعشرين من أكتوبر 1964 حيث تمت الإطاحة بها عبر نضال شعبي عرف بثورة أكتوبر.
    عادت الديمقراطية من جديد وما لبث أن عاد العسكر للسلطة في الخامس والعشرين من مايو 1969 بوصول جعفر محمد نميري مدعوما بالشيوعيين الذين حاولوا الانقلاب عليه في التاسع عشر من يوليو 1971 فاستطاع إقصائهم ومن ثم دخل في دوائر من الحروب مع الأحزاب التقليدية المعارضة في الخارج، إلى أن تمت مصالحة وطنية ومن بعدها ببضع سنوات جاءت مشاركة الإسلاميين في الحكم وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في 1983 التي عرفت بقوانين سبتمبر، وقبل أن يبارح النميري السلطة بثورة شعبية وتدخل الجيش مرة أخرى في السادس من أبريل 1985 كان أن عزل الإسلاميين وزج بهم في السجون.
    وانتهى نظام النميري لتأتي الديمقراطية مرة ثالثة بعد فترة حكم انتقالي مرحلت للانتخابات، ترأسها المشير عبد الرحمن سوار الذهب الذي هيأ الانقلاب ضد النميري، غير أن الديمقراطية الثالثة برئاسة الصادق المهدي زعيم حزب الأمة وقبل أن يشتد عودها، كانت قد فوجئت بعودة العسكر من جديد.
    وكانت صبيحة الثلاثين من يونيو، ليستيقظ الشعب السوداني على وجه جديد يقود انقلابا عسكريا للمرة الثالثة منذ الاستقلال، وقد بدا من الواضح أن ذلك الوجه لرجل تبدو سحنته من أهل الشمال، كما جرت العادة، ويبدو أنه في العقد الرابع من عمره، يرتدي بزته العسكرية برتبة فريق. إنه عمر حسن أحمد البشير الرئيس الجديد للبلد الذي تبلغ مساحته مليون ميل مربع، لدرجة أنه درج القول على تسميته بأرض المليون ميل مربع.
    أرض بمساحة شاسعة وامتداد جغرافي مهول من الشمال إلى الجنوب "طولا" ومن الشرق إلى الغرب "عرضا"، من الصحراء القاحلة في الشمال إلى الأراضي الاستوائية بغاباتها ومستنقعاتها في الجنوب، يشقه نهر النيل أطول أنهار العالم ليقطعه إلى نصفين طولا، من بحيرة فكتوريا في أوغندا عبر الجنوب "النيل الأبيض" إلى الخرطوم العاصمة "في الوسط تقريبا"، ليلتقي هناك "النيل الأزرق" القادم من هضاب أثيوبيا، ومن ثم يشكل النهران مجرى النيل الذي يأخذ طريقه إلى مصر شمالا، مع مجموعة أخرى من الأنهار الفرعية العديدة، والجبال والسهول والمراعي الواسعة والصحارى في الشمال.
    هذه الرقعة المترامية لأكبر بلد من حيث المساحة في أفريقيا والوطن العربي والخامس على مستوى العالم، والذي يلقب بـ "قلب أفريقيا" وسبق أن لقب ما بعد استقلاله بـ "سلة غذاء العالم" عندما اعتقد البعض، أنه يمكن أن يوفر بأراضيه الواسعة والخصبة محاصيل ومنتجات زراعية إضافة إلى ثروته الحيوانية الكبيرة.
    وقد كان لابد لهذا البلد بمقتضيات واقعه المضطرب أن يصبح "رجل أفريقيا المريض" وهو لقب ثالث يناقض اللقبين السابقين، فلقد عانى السودان ويلات الحروب والمجاعات والفقر المدقع والمرض والأمية، وسائر عوارض الزمن، بفعل السياسات غير الحكيمة التي قادته عقد بعد آخر إلى المزيد من المصير المجهول بشأن المستقبل.

    السياسة كهواية سودانية:

    عندما شاهد السودانيون الرئيس الجديد يتحدث على شاشة التلفزيون، استشعر أكثرهم الخير والأمل بأن تكون الحقبة الجديدة من الحكم العسكري القادم هي البداية لعلاج "الرجل المريض" وخروج البلد من نفق مظلم دخلته منذ استقلالها.
    ولأن السودانيين شعب ملول بطبعه "الطارئ"، لم يحزن كثيرا أن الديمقراطية التي اكتسبت بعد انتفاضة "شعبية" في السادس من أبريل، ضاعت بين ليلة وضحاها، فالعهد الديمقراطي الثالث، لم يأت بجديد بل تعقدت الأوضاع على كافة مستويات الحياة، لاسيما الضغوط الاقتصادية على المواطنين، الأمر الذي جعل الشعب مهيأ لأي تغيير قادم، في ظل الملل المترتب عن الإحساس شبه الدائم بأن الحلم بوطن معافى يوفر العيش الكريم يظل حلم بعيد المنال.
    فشلت الديمقراطية في تحقيق أي نجاح، بفعل غياب بنية الوعي الاجتماعي العميق، فرغم أن الشعب السوداني يفهم في السياسية ويمارس الكلام فيها يوميا وعلى قارعة الطريق كجزء من هواياته وسبيل لتمضية الوقت والتسلية، إلا أن الثقافة السودانية وبشكل عام تعاني من سيطرة الآني والوقتي، وبهذا يغيب النظر إلى المستقبل والأفق البعيد، بإزاحة التخطيط الاستراتيجي والرؤى المتعمقة بشأن بناء الغد. ونجد أن هذا الأمر ينطبق على السوداني كفرد، وكعائلة، وكمجتمع، وكدولة.
    كان انعكاس غياب الوعي جليا في تكرار ذات دورة التاريخ، بإعادة نفس الوجوه الحزبية التقليدية إلى دفة الحكم مرة ثالثة. ورغم نشوء حركات حزبية حديثة وأكثر عصرية، إلا أنها كانت تفتقد في خطابها للتماهي مع العقل الجمعي للشعب، وظلت نخبوية ذات تأثير ضيق، تمارس نموذجا مثاليا في النظر إلى الواقع وحل مشكلاته.
    كما أن الواقع نفسه ومن منظوره الاجتماعي كان يفتقد لجذور معرفية راسخة فيما يتعلق بفكرة الحكم والسلطة والدولة الحديثة، بفعل مؤثرات كالولاء الطائفي والأمية في كثير من بقاع السودان.
    ونعني هنا بدرجة أعمق المشكلة الأساسية في غياب العقل البنائي الجدلي القادر على قراءة حياته وفق منهج علمي.
    في شأن السياسة كهواية سودانية لرجل الشارع وربط هذا الموضوع بمسألة غياب الوعي الاستشرافي ومن ثم الإحساس بالملل الطارئ، وأخيرا النتيجة: تشوش الحلم بشأن المستقبل مما يفاقم المشاكل الآنية. فإن جملة هذه المشاهد تعكس لنا وفقا لتفسير جون قاي نوت يوه (باحث سياسي من جنوب السودان) أن غرام السودانيين بالسياسية إلى حد وصفهم من قبل جون بـ "من أكثر الشعوب بلاغة ولحد ما مبالغة في الحديث خاصة عند سرد الأحداث السياسية"(22003)
    يفتقد لجانب مهم هو القدرة على ربط الماضي بالحاضر، الأمر الذي يمكن من رؤية مستقبلية، أي إنتاج نقاش سياسي حداثوي يقوم على التحرك السريع في الزمن، بل ينفي فكرة الزمن التقليدية ليكتب زمن المشكلة عبر امتداده التاريخي وبالتالي يسهل تحليلها والوصول لفك عقدتها.
    بيد أن ما يحدث في الواقع، كما يرى جون قاي هو: "يعتمد غالبيتهم على تحليل الحاضر مما يجعل فرص التنبؤ بالمستقبل قليلة".
    ويمضي جون قاي إلى أبعد من ذلك ليذهب بما يفيد بأن المشكلة تتعقد بانطباق ذات المشكل على الطبقة المستنيرة أو النخبة التي من المفترض أنها عالمة وعارفة وذات قراءة غير تقليدية، ففي رأيه أن الدور الذي يمارسه المثقف الذي يكتب في الشأن السياسي لا يتعدى واحد من ثلاثة احتمالات:
    إجادة استخدام اللغة في الكتابة والمبالغة في استخدامها وبالنتيجة يضلل القارئ، دون قصد، عن المضمون أو محتوى الحدث.
    والاحتمال الثاني إجادة فن التخيل والجري وراء الأحلام الرنانة والتمنيات كما في نموذج قضية السلم والحرب في السودان.
    أما رجال السياسة أنفسهم فيفتقدون للتخطيط الاستراتيجي أيضا، في إطار غياب الرؤية الشاملة والأهداف الصحيحة، فهم مشغلون بالمصالح الذاتية الآنية والرضا عن الذات قبل إرضاء عامة الناس، بحيث تحولت لعبة السياسة في السودان إلى مجرد بحث عن أمجاد وبطولات فردية وسعادة مادية ورفاهية شخصية.

    استقراءات حاج حمد:

    رغم ذلك الغالب الأعظم من التفكير العشوائي والبحث عن حلم لا ممكن بغياب شروطه، إلا أن هناك قلة مثقفة كانت تراقب الأحداث عن كثب وتحاول إعادة قراءتها بشكل علمي وأكثر منطقية، ومن هؤلاء محمد أبو القاسم حاج حمد الذي أنفق جزءا مقدرا من حياته في إنجاز مجلدين عن الأزمة السودانية جاءا بعنوان "السودان.. المأزق التاريخي وآفاق المستقبل"، وبدرجة أقل أنجز منصور خالد كتابه "النخبة السودانية وإدمان الفشل" في مجلدين أيضا، وغيره من الكتب.
    بيد أن الأول كان أكثر دقة في تفسير الواقع بربطه بجذور الماضي منذ الممالك الوثنية فالمسيحية القديمة في السودان الشمالي، إلى العصر الحديث، واعتمد على قراءة حداثوية في الربط والتحليل والتفكيك البنيوي لمركب الحياة السودانية، لاسيما في بعدها السياسي وتقاطعات ذلك مع الثقافة والمجتمع والاقتصاد.
    أما الرجل الثاني ورغم أنه أكاديمي ورفيع المستوى من حيث الدرجة العلمية (دكتوراه) بخلاف حاج حمد الذي لم يدرس الجامعة، فقد كان، أي منصور خالد غير خارج عن ذلك الوصف الذي جاء به جون قاي في التلاعب باللغة والتركيز على مجرد الحاضر وغياب أي منظومة مستقبلية في كتاباته، رغم أنه ممارس سياسي حيث سبق له أن شغل منصب وزير خارجية في عهد النميري، ومن ثم مستشارا للحركة الشعبية التي قادها جون قرنق في حرب الجنوب.
    كما أن منصور لم يتخلص من النزوات الشخصية في الحكم على الأحداث السياسية، باعتباره مشاركا فيها بشكل مباشر.
    وإذا كانت الأزمة عند حاج حمد تقوم على فوضى من التناقض والتداخل الجدلي، ومحاولة تلمس الحلول بكيمياء ذهنية بحتة، فإن خالد كان لا يقوم بسوى دور الكاتب المسلي الذي يمتع بقراءته لمجرد تمضية الوقت والإضحاك أحيانا بحيله اللغوية وعبقريته في ابتداع المفردات وثقافته المتمكنة من اللغة.

    "النظام يتجه إلى حتفه التاريخي":

    كان حاج حمد وبحكم منهجه الشفاف في رؤية الأحداث قد تنبأ بتغيير قد يحدث في السودان، وكتب عن ذلك في مجلة الاتجاه الصادرة عن شركة الدينونة في قبرص، والتي كان يرأس تحريرها ويمتلك الدار الناشرة لها، وهي مجلة يحررها وحده بشكل عام، ولم يصدر منها غير عدد واحد لغياب الميزانية الكافية لذلك.
    ومن المصادفات الغريبة أن العدد الأول صدر في شهر يونيو 1989، ذات الشهر الذي وصل فيه البشير لدفة الحكم، وحمل على الصفحة الأولى مانشيت يقول: (السودان: النظام يتجه إلى حتفه التاريخي) وكان يعني نظام الصادق المهدي أو الديمقراطية الثالثة.
    لكن رؤية أبو القاسم أخفقت هذه المرة في جزء منها، ربما لإحساس كان بعيد التفاؤل بشأن المستقبل، أن ثمة قوى اجتماعية حديثة تتحرك في الباطن الاجتماعي وأن ثمة جيل جديد قادر على التغيير وإزاحة الكيانات التقليدية التي تحكم.
    الواقع أن ما كان أبو القاسم يكتب عنه، ليس إلا مجرد تصور لإمكانية الحل من منظوره الذاتي، ما كان يحلم أن يكون، ولم تكن قراءته لفكرة الجيل الجديد الذي نشأ في عهد النميري منبتا عن الفكر الطائفي بإضافة ما يسميه بالقوى الاجتماعية الحديثة، وإمكانية قيامها بدور إصحاحي، ببعيدة، لو أن الأمور سارت بناء على صدق في النوايا أولا وقبل ذلك التخلص من أسر قصر النظر في استبصار الأزمة.
    كما أن الجيل الذي يتحدث عنه حاج حمد كان يعاني البطالة والتشوش وفقدان بوصلة المثال الذي يحتذى به إضافة إلى أن تعقد الوضع الاقتصادي والذي جعل الكثيرين لا يفكرون بسوى الهجرة إلى أي مكان في الدنيا ينقذهم من براثن الفقر.
    إذن جرت الرياح بما لا تشتهي سفن أبو القاسم، رغم صدق نبوءته القائمة على قراءة وتشريح الواقع، حيث أن ما تخوف منه كان قد حدث، حيث كتب في ذلك المقال: "ليس المطلوب انقلابا عسكريا يضيف إلى همومنا هما جديدا ويدخلنا في متاهات الاستقطاب الإقليمي، وبمعزل عن أي تصور استراتيجي أو اجتماعي أو اقتصادي أو حضاري واضح، وكفانا ما جربنا خلال انقلابين عسكريين أخلا بكل معادلات السودان الداخلية والإقليمية والعالمية. علما بأن العسكريين أنفسهم قد فقدوا الميل نحو تدبيج البيان رقم واحد، ولكنهم لم يفقدوا القدرة على التأثير تحت ضغط ما يحملونه من أثقال المشكلات السودانية".
    إذن فقد كان المتحقق هو العكس، فالعسكريون لم يملوا تدبيج البيانات أبدا.
    كانت إشارة حاج حمد برفض انقلاب عسكري مبنية على ما كان قد حدث على أرض الواقع من تمهيد من قبل الجيش لتغيير مرتقب، فقد كان الجيش قد تقدم بمذكرة مشهورة في العشرين من فبراير 1989، يطلب فيها من حكومة الصادق المتحالفة مع الجبهة الإسلامية، الاستجابة لعدد من المطالب المتعلقة ببنية الجيش حيث أنه يعاني من أوضاع لا يحسد عليها لاسيما في الجنوب، وكان من تداعيات هذه المذكرة الشعور بأن ثمة أمر ما قد يحدث من قبل الجيش، لاسيما أن المذكرة كانت تتضمن بندا يشير بشكل واضح إلى أن ولاء الجيش لله والأرض والشعب، ولم يرد ذكر الدستور، وهو ما يمكن تفسيره كإشارة مبدئية وتهديد ينذر بإمكانية أن تشق القوات المسلحة عصا الطاعة عن الحكومة.
    رغم أن الحكومة قدمت ردا ركزت فيه على دفاعها عن سياستها تجاه الجيش، إلا أن المذكرة طالبت الجيش بالإقرار بالشرعية الدستورية والانضباط، الأمر الذي جعل بعض الأصوات داخل المؤسسة العسكرية تشعر بالامتعاض وتتحدث بصوت عال بضرورة التغيير العسكري لنظام الحكم.
    وقد أفضت الأزمة إلى تشكيل حكومة جديدة في 27 مارس1989، عرفت بـ "حكومة الجبهة الوطنية المتحدة"، سبقها توقيع كل القوى السياسية على برنامج عمل مشترك ينص على المحافظة على الشرعية الدستورية والتعددية ودعم القوات المسلحة ومعالجة الواقع المتردي على كافة الأصعدة بقيام ما اصطلح عليه بـ "المؤتمر الدستوري".
    كل هذا التحول السياسي كان أن عارضته الجبهة الإسلامية وبالتالي كانت خارج الوفاق الوطني والحكومة. وهو الأمر الذي فسر لاحقا من قبل محللين سياسيين كانوا عاجزين عن صنع الرؤى قبل حدوث الوقائع، أن الجبهة الإسلامية كانت تدبر لنقض عهد الديمقراطية والاستيلاء على السلطة بالقوة، وتم تدعيم التفسير السابق بحقيقة تاريخية وهي أن الجبهة الإسلامية كانت قد رفضت من ذي قبل التوقيع على "ميثاق الدفاع عن الديمقراطية" بعد انتفاضة أبريل.
    لكن إشكالية جملة القراءات السياسية في السودان أنها تفتقر للعلمية وتظل محدودة الأفق، يضاف إلى ذلك أن السياسة في حد ذاتها هي نظام معرفي تجريبي كما فسرها هارولد لازويل، تصعب بشأنها قطيعة القول ويغلب الشك والظن.

























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de