اقاضي الدنيا قبل أعوام صادفت ركشة متوقفة أمام بقالة في شارع الستين، مكتوب خلفها (مصطفى البطل)، ولم يكن البطل وقتها قد عاد للسودان. وقفتُ لمسافةٍ أنتظر سائقها كي أستفسرَهُ عن هذا اللغز، وجدّته شاباً وسيماً تترسم على محياه كل علامات الذكاء والحيوية. حين سألته أجابني بأنه يُطالع مقالات البطل ويحتفظ بها. وعرفتُ منه أنه تخرَّج في إحدى جامعات ثورة التعليم منذ أعوامٍ عديدة، وظلَّ بلا عمل، إلى أن مَنَّ عليه شقيقه المغترب بهذه الركشة المُتَيمِّنة بالبطل، وكتبتُ حينها عن هذه الواقعة من زاوية سريان الكتابة الشجيَّة. وبعد عام، اكتشفت أن الغسال الذي أرمي له بملابسي للكَيْ تَخرَّج في كلية القانون ويتهيَّأ لاجتياز امتحان المعادلة!! بعد عودتي الأخيرة قبل أسبوعين، ضربتُ الفجاج كي أجدَ عاملة نظافةٍ منزلية، واستعنتُ بأخواتي وجيراني حتى أصبت الظفر بها. سكوتة وخجولة وماهرة وذات يدين ترعبان الغبار وتمسح البلاط بدقة أكاديميَّة. البارحة دعوتها لنفض الغبار عن مكتبتي كي أستأنف حياتي مع ما أحب من تلك الـغلفة. لاحظتُ أنها توقَّفت طويلاً وهي تنظّف ما ران من غبار على أجزاء الحيوان الثمانية للجاحظ، وبغتةً فاجأني سؤالها عن الجاحظ، ثم أخبرتني بأنها قرأت كتاب البيان والتبيّن في الجامعة. هنا تسمَّرتُ تَسمُّرَ الراوي في موسم الهجرة إلى الشمال حين سَمِعَ مصطفى سعيد في أمبكول يقرأ له أشعار وليم شاكسبير بإنجليزية طَلِقَة. بعد أسئلة لحوحة عرفت أنها تخرجت قبل أربع سنوات من قسم العلوم السياسية ولم تجد عملاً، فبذلت يديها لنظافة منزلي كي تعالج أسنانها وتضمن وجبتين. ليس من عادتي البكاء على الميّتين، لكنني أبكي الموتى على قيد الحياة. بكيتُ. وتساءلتُ عن سرّ توقفها أمام الجاحظ الذي كان أيضا يبيع السمك في سوق البصرة، وكان من شدّة تأفُّفِه يسدُّ أذنيه بإصبعيه كي لا يسمع السوقة. رحم الله تلك الكبرياء، فقد كان أباً من أباء الحداثة العربية. بإصراري على طرح العديد من الأسئلة عليها، عرفتُ أن معظم بنات دفعتها لم يجدن عملاً ولم يحالف الحظ معظمهنَّ في الظفر بزوج، ومازلن ينتظرنَ الريح والشهب الشريفة وجودو!! أكثر ما أرعبني تصوّري بأننا ربما نُطالع في الأعوام القادمة إعلانات في الصحف، تبحث عن عاملة نظافة متخصصة في الأدب الإنجليزي، وأخرى خريجة أحياء دقيقة، وفَرَّاشة يُشترط إجادتها اللغة الفرنسية. غصةٌ ماجَت بحلقي، تبعها خدرٌ في جانبي الأيسر وغثيانٌ سيطَر على كل أمعائي، وكانت هي، في تلك اللحظة، منهمكة بجديةٍ وهي تمسح بعض الغبار من رواية الجحيم لهنري باربوي. خرجتُ كأن جبلاً ينيخ على ظهري، وكان زمهرير الأمس يجدُ متّسعاً للهجوع داخل فتحتي أنفي وأنا هزيل!! لفت الحذاء الذي كنتُ أنتعله نظري، فقد كان مُغبَّراً ومتّسخاً، فتوقفت قبالة محطة الجريف لأمسحه. كان ماسح الأحذية يضع نظارة طبية سميكة على عينيه. تخوّفت من شكله الأكاديمي، وتجنَّبتُ الدخول معه في أيّ حديث، لأن مظهره أوحى لي بأنه يحمل (بي إتش دي) فلذتُ بالصمت حفاظاً على ما تبقَّى في قلبي من نبض.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
مقالات سودانيزاونلاين
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست