الإنسان بين الإسلام والحضارة الغربية الحلقة التاسع والعشرون بقلم محمد الفاتح عبدالرزاق عبدالله

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 07:19 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-23-2019, 11:09 PM

محمد الفاتح عبدالرزاق
<aمحمد الفاتح عبدالرزاق
تاريخ التسجيل: 09-14-2018
مجموع المشاركات: 59

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الإنسان بين الإسلام والحضارة الغربية الحلقة التاسع والعشرون بقلم محمد الفاتح عبدالرزاق عبدالله

    11:09 PM March, 23 2019

    سودانيز اون لاين
    محمد الفاتح عبدالرزاق-Sudan
    مكتبتى
    رابط مختصر



    بسم الله الرحمن الرحيم
    (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ، وَالْمَلآئِكَةُ، وَقُضِيَ الأَمْرُ، وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمور)


    الإنسان في الإسلام
    الباب الثالث
    التطور
    الفصل الخامس
    مرحلة البشرية

    لقد قسّم الأستاذ محمود، مراحل تطور البشر في الأرض إلى أربعة مراحل.. وقال إن هذا التقسيم هو للتبسيط، وإلا فإن كل مرحلة، تنطوي على مراحل لا حصر لها.. المرحلة الأولى، من مراحل نشأة الإنسان، هي تشمل تطوره في المادة غير العضوية، منذ أن برز الإنسان في الجسد _في أسفل سافلين_ وهو بروز تم في الأزل، في بدء الزمن وقد انتهت هذه المرحلة ببروز المادة العضوية.
    أما المرحلة الثانية، فتبدأ ببروز الحياة، فببروز المادة العضوية من المادة غير العضوية، برزت الحياة.. ثم تطورت الحياة.. وهذه المرحلة التي بدأت بظهور حيوان الخلية الواحدة في القاعدة تنتهي عند أعلى الحيوانات الثديية في القمة.
    أما المرحلة الثالثة، مرحلة البشرية التي نعيش فيها اليوم، فقد بدأت بقفزة جديدة، مذهلة، بها دخل الإنسان كما نعرفه اليوم في مسرح الحياة.. هذه المرحلة قد بدأت يوم ظهر آدم النبي _الإنسان المكلف_ في الأرض.. وكما سبق أن ذكرنا، آدم النبي، ليس هو آدم الأول، آدم الخليفة، الذي خلقه الله، في الجنة، كاملاً، أو يكاد، وأسجد له الملائكة.. آدم الأول خلق في الجنة _في الملكوت_ ثم أهبط بالأمر التكويني إلى الأرض.. فرد من أحسن تقويم، إلى أسفل سافلين _نقطة بدء الخليقة.. ثم بدأ سيره، في الرجعى إلى الله _إلى موطنه الذي عنه اغترب (أحسن تقويم)_ تكلأه العناية الإلهية، وهو يتقلب في مراقي القرب، حتى بلغ مبلغ النبوة على الأرض، فكان بهذا التكليف، هو الإنسان المكلف الأول، وبذلك بدأ ينزل، بصورة محسوسة، أول منازل القرب من مقام الخلافة العظيمة، التي فقدها بالمعصية.. وكانت تلك، مجرد البداية، وهي بداية بعيدة عن كمال الخلافة.. ولكنها على كل حال، هي المنزلة الشريفة، التي أصبح له بها ذكر في الملكوت، بعد أن لم يكن له ذكر، زمناً طويلاً.
    بداية خلافة الأرض:
    آدم هو صاحب أول نبوة في الأرض، وبذلك هو أول خليفة في الأرض.. وكما سبق أن ذكرنا، قد سبق، قبل آدم هذا، أوادم كُثر، حاولوا نزول هذه المنزلة، ولكنهم فشلوا، ولما كان الفشل نصيب سلالة الطين من الآوادم، استقر في ذهن الملائكة أنهم لن يفلحوا.. فتأذن الله تعالى بنزول آدم أبي البشر، منزلة الخلافة الأولى.. وقد قص علينا تعالى، موقف الملائكة، وقد سبق أن أوردناه.. كما سبق أن ذكرنا أن معارضة الملائكة كانت بسبب تجربتهم مع الآوادم السابقين.. فكشف الله لهم كمال النشأة البشرية.. المتمثل في مقدرتها على التطور، والترقي، والخروج المستمر، من الجهل إلى العلم، فعندها أذعنوا.
    نشأة العقل:
    مع النشأة البشرية، توجت الحواس الخمس بالعقل.. والعقل هو الطرف اللطيف من الحواس، كما أن الحواس هي الطرف اللطيف من الجسد.. وكما أن الحواس ظهرت بصهر كثافة الجسد، تحت قهر الإرادة الإلهية، كذلك الحال بالنسبة للطائف العقول.. والعقل هو الذي انمازت به المرحلة الثالثة من مراحل ظهور الإنسان وتطوره.. ولم يكن العقل، في المراحل السابقة، غائباً، وإنما كان كامناً.. فهو برز بعد كمون.
    عن حركة بروز العقل، ووسيلة بروزه، يقول تعالى: "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا* إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا".. وقد سبق أن تناولنا هذا الأمر، فيمكن الرجوع إليه في موضعه..
    وقد ذكرنا أن سر الآية في كلمة (نبتليه) فهي مفتاح الأية، وموضع السر منها.. فهي تشير إلى صهر العناصر في الفترة التي سبقت ظهور المادة العضوية.. كما تشير إلى صراع الحي مع بيئته _الطبيعية والإجتماعية_، هذا الصراع الذي ظهر مع ظهور أول حي وهو مستمر إلى اليوم.. هذا الصراع.. الابتلاء _ هو العامل الأساسي في التطور.. وحسب الآية، "جعلناه سميعاً بصيرا"، نتيجة لهذا الابتلاء و"سميعاً بصيرا" إشارة إلى بروز الحواس في الحي، الواحدة تلو الأخرى.. وبعد أن اكتملت الحواس الخمس، أصبح الحي حيواناً سوياً، وبذلك اختتمت المرحلة الثانية.. وبدأت المرحلة الثالثة ببروز العقل، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: "إنا هديناه السبيل، إما شاكراً، وإما كفورا".. وكل هذا سبق أن أوردناه، ونعيده هنا للتوكيد..
    الحياة:
    لقد رأينا المبدأ التوحيدي الهام جداً، والذي يقول إن الله تعالى في ذاته هو وحده صاحب الوجود الحقيقي.. ولا وجود لشيء قبله، ولا لشيء معه، كما لا وجود لشيء بعده.. فهو تعالى: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن.. فالوجود بحكم طبيعته، وجود واحد.. وكل وجود سوى الله، هو وجود بالله، وليس مع الله.. هذه الحقيقة ينبنى عليها كل شيء في الوجود، وإذا غابت، يغيب، لغيابها كل شيء، ولا يبقى إلا الوهم والضلال.. وإنطلاقاً من هذه الحقيقة الجوهرية يجيء كلامنا عن الحياة، وعن الفكر، والأخلاق والحرية، وكل ما يتعلق بالوجود الإنساني.. ففي قوله تعالى: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم".. (القيوم) تعني الذي تقوم به جميع الأشياء، فلا شيء على الإطلاق يمكن أن يقوم بذاته.. وفي نفس المعنى تجيء كلمة (الحي) من الآية، فهي تعنى أن الله تعالى، في ذاته، هو وحده الحي بذاته، وكل من عداه، وما عداه، هو حي به تعالى، ولا يمكن أن يكون حياً بذاته.. فطالما أن الوجود واحد، فلا بد أن تكون الحياة واحدة.. لا توجد حيوات، بعدد الأحياء، كما يتوهم البعض، وإنما هي حياة واحدة، يتلقى منها كل حي المقدار الذي يطيقه من الحياة، حسب استعداد المحل عنده.. فحياة الأحياء، جميعها، هي عبارة عن تجلي الله تعالى، على هذه الأحياء، باسمه "الحي".. فالحياة واحدة وما التعدد إلا مظهرها.. فتعريف الحياة هي أنها تجلي الله باسمه الحي!! وأي تعريف آخر، يقع تحت هيمنة هذا التعريف الأساسي، وعن ذلك لا يشذ شاذ.
    ولما كان الله تعالى، متجلياً على جميع ما في الوجود، فلا يوجد شيء في الوجود، ليس بحيّ!! المادة العضوية، والمادة غير العضوية في ذلك سواء.. فالاختلاف ليس في مبدأ الحياة، وإنما هو في درجة الحياة.. ولكن لما كنا نحتاج للتمييز بين الأشياء، فإننا اصطلحنا على إطلاق كلمة حي على المادة العضوية وحدها، واعتبرنا المادة غير العضوية غير حية _ ميتة..
    الموت بمعنى الغياب التام للحياة، أو عدم الحياة، في الحقيقة غير موجود.. ولا يمكن أن يكون موجوداً.. فالموت هو وجه من وجوه الحياة كما سبق أن بينا!! ولقد سبق أن تحدثنا، في هذا الكتاب، عن الأصول والفروع.. وقلنا عن الحياة والموت: "الحياة هي الأصل، والموت فرع ومظهر لها، وهو لا يختلف عنها اختلاف نوع، وإنما اختلاف درجة.. والأصل في الحياة، هو حياة الله، في ذاته المطلقة.. وكل حياة أخرى، هي مظهر لهذه الحياة، ومستمدة منها، وتقوم عليها.. وأدنى مستويات الحياة، هي حياة المادة غير العضوية _تلك التي نسميها ميتة_ لأن حياتها كامنة فيها.. أما البداية بالنسبة للحياة التي نصطلح على تسميتها حياة، فهي حياة حيوان الخلية الواحدة.. وكل حياة، في أي مستوى من المستويات، هي نامية، ومتطورة تطلب أصلها".. ولما كان هذا الأصل في الإطلاق، أصبح تطور الحياة حركة صيرورة نحو المطلق، فهي حركة لا نهاية لها.
    الأصل في حياة الإنسان، هو ما كان عليه في الملكوت "في أحسن تقويم".. والحياة في هذا المستوى هي أكمل حياة، دون المطلق.. وعندما رد الإنسان إلى أسفل سافلين، رد إلى أدنى درجات الحياة، ثم دعي ليسترد، عبر التجربة، حياته الأصلية، في أحسن تقويم.. فالكمال هو أصل الحياة، كما أنه غايتها ومآلها، فهو لابد كائن في حينه.. وهو كمال له بداية، وليست له نهاية، لأن نهايته المطلق.
    لما كان أصل الحياة هو ما كانت عليه في الملكوت، فإنه يتبع من ذلك أن أصل الحياة روحي، ومظهرها في حياة الملك، مادي.. الروح، بالنسبة للحياة، هي الأصل، أما المادة _البايولوجيا_ فهي فرع ومظهر، وتستمد حياتها، من الأصل الروحي.. والروح، بالنسبة للحياة، لها حكم وهيمنة، على الجانب البيولوجي.. فهي التي تعطيه حياته، وإذا غابت تغيب هذه الحياة.
    ولقد رأينا كيف تطورت الحياة في الأرض، من حيوان الخلية الواحدة، وحتى مرحلة البشرية الحاضرة.. وعبر هذا التطور الطويل، اكتسب الحي، الحواس الخمس، كوسائل هامة لزيادة الحياة.. ثم في مرحلة البشرية، قفزت الحياة، قفزة كبيرة، بظهور العقل.. بهذه القفزة أضيف عندنا لحياة الشعور _وهي ماكانت عليه الحياة قبل العقل_ حياة الفكر، بعد ظهور العقل.. وحياة الفكر والشعور، هي حياة الإنسان، وهي حياة واحدة.
    بين حياتين:
    عندما نقول حياتين، لا نقصد حياتين مختلفتين، وإنما نقصد مستويين من الحياة الواحدة.. فالحياة في مرحلة البشرية تقع في مستويين: مستوى إرادة الحياة، ومستوى إرادة الحرية.. وإرادة الحياة، أمر مشترك بين الإنسان والحيوان، بينما إرادة الحرية، هي ما يميز حياة الإنسان عن ما سواها من الحيوات.. وهي الروح الإلهي المنفوخ في البنية البشرية، وقد سبق أن ذكرنا أن هذا الروح هو العقل.. فالعقل هو الطرف الرفيع من إرادة الحرية.. وقد سبق أن ذكرنا أن إرادة الحياة قانونها هو السعي لتحصيل اللذة بكل سبيل.. والفرار من الألم بكل سبيل، ولذلك هي حيوانية.. أما قانون إرادة الحرية فهو "الحلال والحرام".. وبهذا القانون، دخلت (القيمة) في الوجود الإنساني، فاختلفت حياة الإنسان عن حياة الحيوان بصورة جذرية.. بذلك أصبحت "القيمة" هي معيار حياة الإنسان، كما هي معيار إنسانيته..
    يقول الأستاذ محمود عن الإرادتين: "فلما تهيأ المكان في الأرض خلق فيها "إرادة الحياة" وهي قوة تعمل بدافع حب البقاء، والاحتفاظ بالحياة.. وقانونها السعي وراء اللذة، والفرار من الألم، وأصبح تسيير الله لمخلوقاته في هذا المستوى، وهو مستوى النبات والحيوان، شبه مباشر، ومن وراء حجاب "إرادة الحياة"، وهي إنما سميت بإرادة الحياة، لأنها تتمتع بما يسمى الحركة التلقائية، وذلك لأن دوافع حركتها، وقوى حركتها، فيما يظهر، مودعة فيها، وهي حركة يستخدمها الحي في تحصيل قوته، وفي الاحتفاظ بحياته، والاحتفاظ بنوعه، ثم لما ارتقى الله سبحانه وتعالي بالحياة إلى مرتبة الإنسان، زاد على "إرادة الحياة"، عنصراً جديداً، هو "إرادة الحرية"، وهي إنما تختلف عن "إرادة الحياة"، اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع.. ثم سير الله تعالى البشر من وراء إرادة الحياة، ثم من وراء إرادة الحرية، وأصبح بذلك تسييره إيانا تسييراً غير مباشر".
    إرادة الحرية لا تخلتف عن إرادة الحياة اختلاف نوع، وإنما تختلف اختلاف مقدار، ونعني أن إرادة الحرية هي الطرف الرفيع، والشفاف، من إرادة الحياة.. أو قل هي الروح، حين تكون إرادة الحياة بمثابة النفس.. فإرادة الحياة حواء البنية البشرية، وإرادة الحرية آدمها.. والعقل هو نتيجة اللقاء الجنسي بين آدمها وحوائها هذين.. وفي مرتبة اللقاء الجنسي الذي ينتج العقل، فإن لإرادة الحياة اسماً آخر، هو الذاكرة، وإرادة الحرية هي الخيال.. والذاكرة هي حصيلة التجارب السوالف جميعها، ومن ثم فقد اسميناها النفس، في موضع آخر، وقد ورد أن القصاص المراد به تقوية التخيل عند من يحتاج أن يوضع بالقصاص في موضع ضحيته.
    "والتخيل هو اسم آخر للذكاء، هو القوة الدراكة، والإرادة الكابتة لرغائب النفس التي لا يرضى عنها القانون.. والذكاء يعمل في توجيه رغائب النفس بفعل الخوف فيه _أو قل بفعل الرغبة والرهبة فيه_ وهو كلما أحسن السيطرة على رغباتها، كلما زاد قوة ومقدرة على التمييز، وهي قد تزداد مطاوعة، أو تزداد تمرداً، تبعاً لمقدرته على العدل، أو عجزه عنه، وركوبه مركب العنف والشطط.. وسيطرة الذكاء هذه هي ما أسميناه "الكبت".. وهو مرحلة هامة جداً من مراحل التطور البشري، ولكنه عقبة، في النهاية، أمام الكمال، فلا يمكن أن يحدث كمال للحياة، إلا بعد التخلص من الكبت".
    الإسلام يقسم الحياة البشرية إلى درجتين، الحياة الدنيا، والحياة العليا.. والدنيا هنا من الدونية.. فالحياة الدنيا حيوانية، في حين أن الحياة العليا إنسانية.. والإسلام ينفر عن الحياة الدنيا، ويزهد فيها كثيراً، بغرض الانتقال منها إلى الحياة العليا.. والقاعدة، بالنسبة للحياتين هي: "الإنسان مادامت مسيطرة عليه صفات الحيوان، خضع لها، أو قاومها، فهو في الحياة الدنيا".. فإذا تخلص من صفات الحيوان، بفضل الله، ثم بفضل المجاهدة المستمرة، لدواعي هذه الصفات، فقد أصبح في الحياة الأخرى.. وهي التي يرد التعبير عنها، أحياناً، بالدار الآخرة.. وقد جعل الموت الحسي، فاصلاً بين الحياتين، فكأنه ليدخل الإنسان المجاهد لدواعي صفات الحيوان فيه، في الحياة العليا، لابد له من تجربة الموت الحسي.. ولكن الموت المعنوي يحقق طرفاً من هذا الدخول.. والموت المعنوي يعني أن تسكن دواعي صفات الحيوان في الإنسان، تحت قهر العلم في مستوى علم "حق اليقين"، وهذا ما جعل المعصوم يقول: "موتوا قبل أن تموتوا"، فهو يشير إلى الموت المعنوي، فالإسلام عندما يعمل على إزعاجنا من الحياة الدنيا، وينفر منها، إنما يرمي إلى إبعادنا عن "حيوانيتنا" نحو "إنسانيتنا".
    ولقد سبق لنا أن تحدثنا عن "الفطرة"، فطرة الله التي فطر الناس عليها.. هذه الفطرة هي "الحياة".. هي حياة الإنسان.. وما حياة الحيوان إلا الخطوة الأولى في السير إلى حياة الإنسان.. والاختلاف الأساسي بين الحياتين هو أن حياة الإنسان عالمة، وحياة الحيوان جاهلة.. حياة الإنسان هي الحياة الأخرى، وحياة الحيوان هي الحياة الدنيا.. ولما كانت حياة الإنسان عالمة، كانت أيضاً طائعة لله، مؤمنة به، ولذلك هي آمنة من الخوف "الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ".. وقد قال تعالى عن الحياتين: "وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"، و"الحيوان" تعني المبالغة في الحياة _الحياة الكاملة.. وكما سبق أن ذكرنا، أن الله تعالى خلق الإنسان ابتداءً على هذه الفطرة، وهو عندما يعود إليها إنما يعود إلى أصله الذي منه صدر.. وهذه العودة هي تكليف الدين الأساسي، وهي الغاية الأساسية من تربية النفس وفق منهج الإسلام.
    وللحياة الدنيا العقل الذي يناسبها.. وهو عقل المعاش.. وللحياة العليا العقل الذي يناسبها، وهو عقل المعاد.. وعقل المعاد هو نفس عقل المعاش بعد أن تروضه وتهذبه التجربة الدينية، فهو يعمل على الحفاظ على الحياة العليا، والتسامي في مراقيها.. هذا، في حين أن عقل المعاش، يعمل على الحفاظ على الحياة الدنيا.. ونحن لنا إلى العقلين عودة عندما نتحدث عن الفكر.
    حياة الإنسان وحياة الحيوان:
    لقد تطور الإنسان من مرحلة الحيوان إلى مرحلة البشرية، وفي هذا المستوى يمكن أن يقال، أن الإنسان حيوان نزل منزلة الكرامة بالعقل.. فقبل مرحلة البشرية، كما ذكرنا، كانت هنالك إرادة الحياة، وعند دخول مرحلة البشرية، أضيف لإرادة الحياة، إرادة الحرية، وهي العقل، وهي الروح الإلهي المنفوخ في الإنسان.. وقد أصبح في الإنسان نزاع بين الإرادتين: إرادة الحياة تشده إلى أصله الحيواني، وإرادة الحرية تدفعه نحو إنسانيته.. فغلبة أي منهما هو ما يحدد وضع الإنسان، وموضعه في الحياة: الحياة الدنيا _حياة الحيوان.. والحياة العليا _حياة الإنسان.. وللحياة الدنيا المستوى الذي يناسبها من العقل، وهو ما يسمى في الدين بعقل المعاش أو (العقل الأداتي)، كما تعبر بعض الدوائر الفلسفية في الغرب.. والحياة العليا _حياة الإنسان_ العقل الذي يناسبها هو عقل المعاد.. ولقد سبق أن ذكرنا أن الإنسان طالما سيطرت عليه صفات الحيوان، قاومها أو خضع لها، فهو في الحياة الدنيا _حياة الحيوان.. فالفيصل هو سيطرة العقل على الشهوة.. فهذه هي بداية إنسانية الإنسان.. وكل ما تقدم الإنسان في إنسانيته، خضعت شهواته، أو قل هواه، لعقله.. والعكس صحيح، كلما زادت سيطرة الشهوة _الهوى_ على العقل، كلما ارتكس الإنسان نحو الحيوانية.. وبداية مرحلة الإنسانية، التي تلي مرحلة البشرية، كما بينا، هي العقل والجسد المتسقين.. وفيها تتم سيطرة العقل على الشهوة _الهوى_ ويتجاوز الإنسان تماماً عقابيل الحيوانية، التي ظلت تكبله طوال مرحلة البشرية.. وبهذا الاتساق بين العقل والجسد، تتحقق (الوحدة) للإنسان، ويتخلص من عقابيل الإنقسام، الذي أقعده زمناً طويلاً، عن تحقيق كمالاته.. فبالوحدة تبدأ حياة الإنسان، وتتحقق كمالاته.. ونحن في الفصل القادم سنتحدث عن هذه الكمالات.
    إذن التقدم عند الإنسان، يقوم على مقدار سيطرة العقل على الشهوة، وإخضاعها لمقتضياته، ومعاييره.. والتخلف هو بمقدار سيطرة الشهوة على العقل، وإخضاعه لرغباتها ومعاييرها.. وقد قلنا منذ البداية إن إرادة الحياة قانونها هو ابتغاء اللذة بكل سبيل، واجتناب الألم بكل سبيل.. أما إرادة الحرية، فقانونها هو قانون الحلال والحرام، وهذا هو قانون العقل.. وذاك قانون الهوى.. وعقل المعاش يخدم أغراض هوى النفس.. وقانون عقل المعاد يخدم أغراض الإنسان، ويعينه على التسامي، في مدارج إنسانيته.
    على ما تقدم نحن بين حياتين: إما أن نعيش حياة الحيوان، وتخضع عقولنا لرغائبنا وأهوائنا، وبذلك نكون في الحياة الدنيا.. أو نخضع أهواءنا لعقولنا، فيصبح الذي يسير حياتنا هو العقل، بدل الهوى في الصورة الأولى، وبذلك نحقق حياة الإنسان: حياة الفكر وحياة الشعور.
    وفي هذه المرحلة، من تاريخ الحضارة، وتحت هيمنة الطبيعة المادية للحضارة الغربية، الهيمنة للحياة الدنيا.. ومن هنا تأتي كل الشرور والمشاكل التي تعانيها الإنسانية، أفراداً وجماعات.. ولا تملك الحضارة الغربية بحكم طبيعتها، أي إمكانية لتجاوز الحياة الدنيا.. بل إنها عملياً تحت سيطرة النظام الرأسمالي القائم، ترتكس أكثر وأكثر، في مستنقع الحياة الحيوانية.. وهي لا بد لها من تجاوز هذه المرحلة، ودخول مداخل الإنسانية، فإن تطور الحياة لا يقف.. ولتحقيق هذا التجاوز، لا بد، أولاً، من تجاوز إطار التوجيه الذي تقوم عليه الحضارة الغربية، وهو العلمانية، وما تقوم عليه من عقل أداتي، لا يعمل إلا وفق قوانين الحياة الدنيا.. ثم الانتقال إلى عقل المعاد، فلا يمكن تحقيق إنسانية الإنسان، إلا بالعيش وفق قوانين الحياة العليا.. وهذه ليس لها من سبيل إلا الإسلام، بالمعنى، وفي المستوى الذي نتحدث عنه.
    لقد أصبحنا بين خيارين: إما أن نرتكس أكثر في الحياة الحيوانية، أو نرتفع للحياة الإنسانية.. وعندنا، بفضل الله، الخيار الثاني حتمي، ووشيك، إن شاء الله.. بل إن كل الشروط المادية لتحقيقه، قد اكتملت، ولم يبق إلا أن يتأذن الله بقيامه.
    يقول السيد المسيح: "مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ".. ويقول تعالى: "أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا؟ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ".. (كان ميتاً)، يعني بالكفر والغفلة عن الله _وإن كان حياً بيولوجياً.. (فأحييناه) يعني بالعلم بالله.. فالحياة البيولوجية وحدها، ليست حياة _ليست حياة إنسانية.. وذلك لأنها فانية، ولذلك هي في حكم اللاحياة.. هي (عيش)!! والحياة الإنسانية هي الحياة، لأنها باقية، فهي لا تفنى وإنما يفنى منها الجزء الذي لا يستجيب لتطورها.. يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ".. وهذا يعني قبل الاستجابة، نحن لسنا أحياء، وإنما نكون أحياء عندما نستجيب لما يدعونا له الله والرسول، وتكون حياتنا بقدر استجابتنا.
    الحضارة الغربية لا تملك شيئاً أكثر من (العيش) _الحياة البيولوجية_ وهي لا نصيب لها من الحياة الإنسانية.. ولذلك كل الأحياء، وفق شروطها، هم أموات، مهما كان نصيبهم من العيش.. وعيشهم هذا إلى زوال.. ولذلك الحياة عندهم، إنما هي حياة من أجل الموت، كما يعبر هيدجر.. وفي دعوة الأستاذ محمود للإسلام عقل المعاش يقوم عليه (العيش)، وعقل المعاد تقوم عليه (الحياة).. حياة الإنسان.. وهذه وحدها هي الحياة، التي هي غاية في ذاتها..
    الباب الرابع
    الحياة
    الفصل الأول
    حياة القلوب

    قلنا إن الله تعالى خلق آدم على صورته، وليس لله تعالى صورة حسية، عن ذلك تعالى الله علواً كبيراً.. وإنما الصورة المقصودة هي الصفات النفسية السبع: فالله تعالى حي، عالم، مريد، قادر، سميع، بصير ومتكلم.. وأعلى هذه الصفات هي صفة الحياة، والصفات الأخرى متعلقة بها.. وقد خلق الله الإنسان، وأنعم عليه بهذه الصفات، وبذلك أصبحت صفاته تعالى، هي في نفس الوقت صفات عبيده.. إلا أن صفات الله تعالى، في مطلق الكمال، في حين أن صفات عبيده في طرف النقص.. والله تعالى حي بذاته، وعالم بذاته، ومريد بذاته، وقادر بذاته، سميع بذاته، وبصير بذاته، ومتكلم بذاته، ولا يقع منه شيء من هذه الصفات بجارحة على نحو ما يقع منا نحن.
    وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وأوجب الواجبات، ليسير عباده، إليه ليلاقوه.. وملاقاة الله _كما سبق أن ذكرنا_ ليست بقطع المسافات، وإنما بتقريب الصفات من الصفات _تقريب صفات العبد التي هي في طرف النقص، إلى صفات الرب التي هي في مطلق الكمال_ ولقد جاء القرآن ليعرف بهذه.

    23/3/2019م























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de