رغم أن الجانب القانوني للصراع بين دولتي ارمينيا واذربيجان، حول اقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه بين الدولتين واضح المعالم الا أن مصالح القوى الكبرى جعلت منه صراعاً طويل الامد، وعلى نحو متصاعد مع نذر حرب قد يشتد أُوَارُها ويحمى وطيسها مع مر الايام، في منطقة سيطر عليها روح العداء بين الأرمن والأذربيجانيين فيما يعرف بمنطقة القوقاز قديماً، ويرجع العداء لأسباب عرقية ودينية وتاريخية، وبالأخص إبان بسط الإمبراطورية العثمانية سيطرتها على تلك المناطق قبل عدة قرون. بيد ان بوادر تفجر الصراع في إقليم ناغورنو كاراباخ تحديدا تعود إلى العشرينيات من القرن الماضي. وتأتي أصل تسمية الاقليم بناغورنو كاراباخ الى كلمتين باللغة الروسية ، حيث نجد اولاهما ناغورنو وتعني جبال أو مرتفعات أما كلمة كاراباخ فتعني الحديقة السوداء فلذلك يمكن ترجمة الاسم إلى جبال الحديقة السوداء. ويعرف الإقليم باسم ارتساخ في أرمينيا وهي كلمة مكونة من جزئين الأولى أرا وهو إله الشمس عند الأرمن القدماء والكلمة الثانية هي تعني الغابة أو الكرمة لذلك يعني الاسم الأرميني غابة أو كرمة الإله أرا. أما الأذر فيعرفونها باسم بخاري قرة باغ أي قرة باغ العليا. يقع إقليم ناغورني كاراباخ داخل الأراضي الأذربيجانية و يشكل الأرمن الغالبية العظمى من سكان الاقليم ويخضع لسيطرة أرمنية رغم وجوده في عمق أذربيجان ، وقد قطن الأذربيجانيون من المسلمين الشيعة الإقليم حين كان تحت السيطرة الأذربيجانية قبل انهيار الإتحاد السوفياتي عام 1991 . ويعود هذا الصراع العسكري والقانوني لعام 1991، عندما أعلنت كل من أذربيجان وأرمينيا استقلالهما عن الاتحاد السوفياتي، الذي تم حله رسمياَ في ديسمبر 1991، حيث كانتا جمهوريتين تابعتين للاتحاد السوفيتي حين أقدم ستالين عام 1923 على ضم إقليم ناغورني كاراباخ إداريا إلى جمهورية أرمينيا، رغم أنه يقع في قلب أذربيجان، وفي المقابل -ولكي تتم سياسة تأجيج الصراع العرقي- فقد ضم ستالين إداريا منطقة ناختشيفان التي تقع جغرافيا في قلب أرمينيا وتسكنها أغلبية أذرية إلى أذربيجان، واضعاً بذلك البذرة الاولى لهذه الفتنة التي تؤيدها شواهد تشير الى سلوك مماثل انتهجه المستعمر في العديد من البلدان وان كانت العلاقة الروسية بدول الاتحاد السوفيتي السابقة ليس علاقة استعمارية فإنها بلا شك علاقة هيمنة مطلقة. وهكذا وفي وقت لاحق من العام 1993 أعلن الأرمن من سكان ناغورنو كاراباخ استقلالهم عن دولة أذربيجان وأعلنوا عن قيام دولة جديدة منفصلة بعد عقد استفتاء تم مقاطعته من قبل الأذربيجانيين القاطنين بالإقليم. وقد أدلت الأغلبية الساحقة من الناخبين بأصواتهم لصالح قيام جمهورية مستقلة في ناغورنو كاراباخ مما أدي إلي نشوب النزاع المسلح حول ناغورنو كاراباخ ما بين أرمينيا وأذربيجان ولقد تم قتل الآلاف وتشريد مئات الآلاف من الأشخاص بسبب هذا النزاع، ما لبثت الحرب ان توقفت عام 1994. وما حدث مؤخراً يعتبر انهيار مفاجئ للهدنة الطويلة الامد والتي بدأت في عاصمة قرغيزستان "بيشكيك" يوم 5 مايو 1994 بالتوقيع على وثيقة بيشكيك مع روسيا و قرغيزستان و المجلس البرلماني لرابطة الدول المستقلة ، وأذربيجان وغورنو كاراباخ وأرمينيا . وفقا لتلك الوثيقة ، وافق أطراف النزاع إلى وقف لإطلاق النار اعتبارا من 12 مايو 1994 ، واستمرت الهدنة حتى الثاني من أبريل الحالي، حيث وقعت مواجهات بين القوات الأرمينية والقوات الأذربيجانية بحسب ما أعلن الطرفان اللذان تبادلا الاتهامات بالمسؤولية عن التوتر. ومن سياق ما تقدم يمكننا تناول شقين قانونيين لهذا الصراع ، ففي الشق المتعلق بالقانون الدولي العام يعتبر اقليم ناغورنو كاراباخ من الناحية القانونية جزأ لا يتجزأ من اراضي الدولة الأذربيجانية. وطالما أن الامم المتحدة لم تعترف بالإقليم كدولة مستقلة فإن أي تدخل عسكري يشكل انتهاكاً للمادة (2) الفقرة (4) من ميثاق الامم المتحدة والتي تنص على ان "يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة". بيد أن الواقع يقول انها منطقة اراد غالبية السكان الارمن الانفصال عن اذربيجان، ولكن هذه المحاولة الانفصالية غير معترف بها دولياً حتى يومنا هذا، ومن المفارقة انه لا توجد إحصاءات رسمية لسكان الاقليم، فيما يقدر عدد السكان بها بحوالي 140000 ألف نسمة، ومهما يكن من قول فإن هذه البؤرة الساخنة هي من مخلفات الحرب الباردة تعكس تشابك المصالح الجيوسياسية و العرقية بين تركيا و روسيا و أرمينا و أذربيجان وكذلك إيران، وهكذا بدأ هذا الصراع بعد ربع قرن من اندلاعه او مرة يجر معه أقطاب المعمورة الى حرب تبدو بالغة التعقيد وقد يصل مداها الى أبعد ما يمكن ان يتصوره المراقبون. اما في الشق القانوني الاَخر فقد سجل المراقبون ضعف الالتزام بالقانون الدولي الانساني في هذه الحرب، حيث كان ولازال يفتقر هذا القانون الي الاحترام من قبل جميع الاطراف في هذا النزاع. حيث ازهقت الحرب ارواحا عديدة ولكن أعداد القتلى غير معروفة على وجه الدقة، فيما تقدر أعداد النازحين جراء حرب 1992- 1994 بنحو 300 ألف نازح، جلهم جاء من مناطق كانوا يسكنونها داخل أذربيجان. ويعاني هؤلاء النازحون مثل نظرائهم الأذربيجانيين من قسوة الظروف التي يعيشون في ظلها وما يصاحبها من مظاهر الفقر والبطالة ونقص الخدمات التعليمية والصحية. وتتحدث تقارير المنظمات الدولية عن التسرب من التعليم وانتشار لبعض الأمراض لا سيما المتعلقة منها بقلة الطعام ورداءة نوعيته وغير ذلك مما هو شائع في حالات اللجوء والنزوح والتشريد والترحال المتزامن مع نقص المساعدات الحكومية والدولية. وتتحدث تلك التقارير أيضا عن الظروف المعيشية لهؤلاء وكيف أن تلك الملاجئ لا تحميهم من هطل المطر وبرودة الطقس، والانتشار الكبير لأمراض سوء التغذية لا سيما بين الأطفال منهم فضلا عن قلة الخدمات التعليمية والصحية المقدمة لهم والبطالة السائدة في أوساط الغالبية منهم. هذا النزاع المسلح يمكن تصنيفه قانوناً – حسب القانون الدولي الانساني - على انه نزاع مسلح دولي في شقه المتعلق بين ارمينيا واذربيجان، ونزاع مسلح غير الدولي في شقه المتعلق بين اذربيجان وبعض السكان الارمن الذين يقطنون اقليم ناغورنو كاراباخ والذي يعتبر ارضاً اَذرية وفق القانون الدولي، كما ان السكان يعتبرون أذربيجانيون الجنسية على الرغم من انتماؤهم لاثنية الأرمن . والعلامة لهذا النزاع هو ان المدنيون يشكلون الضحايا الرئيسيين لانتهاكات القانون الدولي الإنساني التي ترتكب من قبل أطراف النزاع. وما فتئت طبيعة النزاع تفرض تحديات حيال القانون الدولي الإنساني في عدة مجالات مثل استخدام التقنيات الحديثة وتصنيف النزاعات المسلحة. وهناك حاجة للتدخل دولي لفهم تلك التحديات والاستجابة لها من أجل ضمان استمرار القانون الدولي الإنساني في توفير الحماية من فظائع الانتهاكات الجسيمة. عوائق التوصل إلى حل سلمي لازلت كثيرة، مع ضعف حوافز يمكن البناء عليها لإيجاد حل لمشكلة بأي سيناريو من سيناريوهات التسوية التي ترقى لتلبية رغبات شعب الدولتين، فضلا عن مصاعب اخرى تلوح على الافق، الا وهو السباق والصراع التركي الروسي المتجذر، والقديم قدم التأريخ، حيث تدعم روسيا الموقف الارميني بقوة، فيما تستفيد من ثراء اذربيجان فتكتفي ببيع السلاح لها. هذا فضلاً عن وجود ايران على الخط لاعتبار تاريخية ولاعتناق معظم مسلمي المنطقة ان يكن جلهم المذهب الشيعي، وهناك اللاعب الدولي الاكبر الولايات المتحدة الامريكية صاحبة النفوذ التي لا ترضى ان تخرج بلا نصيب من هذا الصراع في تلك المنطقة الاستراتيجية والغنية في ذات الوقتِ، وهكذا يتفرق دم هذه الشعوب بين التحالفات والمصالح والتناقضات، دون أمل يلوح على الأفق مع توافر فرص لا يستهان بها لتدويل الصراع وامتدادها نحو أركان المعمورة، وتحولها الى خطر داهم يضاعف من محن البشرية، في هذا القرن الملئ بالنزاعات وآثارها من لجوء ونزوح ودمار للإنسان والاقتصاد والبيئة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
محمود ابكر دقدق
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست