تركت لآخر الحكاية مفارقة مؤسية في تهزئة منصور لمفهوم المحجوب للهوية السودانية لجمهوره في ندوة الشارقة. فقد رأيناه ينهى عن فعلة الرجل الذي قصر هوية السودان على العروبة والإسلام ثم إذ به يأتي بمثلها بل أشد نكرا. فقد كتب المحجوب تصوره للقومية السودانية في الثلاثينات والجنوب كيان مغيب عن الوطن من وراء جدران المناطق المقفولة التي بنتها السياسة الإنجليزية. وهي سياسة قيل إنها عرفت ما لاينبغي للجنوب (الاتصال بالشمال) ولكن ليس ما ينبغي له. فالجنوب في السودان وليس منه في نفس الوقت. ومهما يكن فليس هذا ما يعذر الوطنيين طالما استماتوا آنذاك في عودته إلى حظيرة الوطن. ولكن متى غُيب الجنوب، على نحو ما رأينا، غاب صوته من طاولة النقاش الوطني. فلم يكن مأذوناً لطلابه الدراسة الجامعية في غير يوغندا في حين تعارف الطلاب في الشمال شعوبا وقبائل في مصهر الحركة الوطنية في ثانوية غردون ثم مدارس طقت وحنتوب وووادي سيدنا ثم كلية الخرطوم الجامعية. فإن عذرنا المحجوب لتقدم زمانه وتغييب الجنوب بالكلية عن بؤر صناعة قوميته فما عذر منصور وقد انهدم ستار الحشائش بقوة وغلظة منذ "تمرد" 1955 فصار للجنوب صوتاً بليغاً ينازع في صورة الوطن ويحاجج؟ والأنكي أن منصور كتب مقالاته الباكرة في "حوار مع الصفوة" في 1965 عام مؤتمر المائدة المستديرة الذي لم يسترد فيه الجنوب صوته فحسب بل أصواته بما اشتجر من خلاف لوجهات النظر بين القوميين الجنوبيين انفسهم من مثل وليم دينق، الذي أحسن الظن بالمركز، وبين أقري جادين الذي اعتزل. وأندلق تاريخ عصيب للشمال والجنوب في المؤتمر دار حول الرق بالذات الذي عاد له منصور في ورقته موضوع نقاشنا. وهاك يا ضحك جماهيري! وبلغت حمى ذلك التاريخ في النقاش حداً أضطر عبد الخالق محجوب لينبه المؤوعين لنا بالزبير باشا بإننا أحفاده حقاً ولكننا أحفاد صار وسطنا حزب شيوعي يدعو إلى الأخاء والإلفة. أي كما قال رمضان زايد: "خليك مع الزمن". فلم يتصاغر أستاذنا أمام التلويح بعار الجدود لأنه كان يقف فوق نضال نقابي جماهيري بين الشعب الشمالي والجنوبي للإلفة الوطنية. وواقعة عبد الخالق والترويع الجنوبي بتاريخ السلف، الذي أتقنه منصور واستخذى له اليسار،كان موضوع كتابي "حركة وطنية سودانية أم حركات وطنية؟ تاريخ ما أهمله التاريخ عن جنوب السودان" (المصورات، 2015)وعجائب منصور لا تنقضي. فهو لم يعتقد في قومية السودانية العربية، الإ قليلا، بعد نحو عشرين عاماً من كتابة المحجوب عنها في ظرف جاء فيه الجنوب بقوة إلى مائدة الحوار الوطني حول هوية السودان فحسب، بل، والأنكى، إنه نشر مقالات الستينات العروبية البلقاء بدار نشر جامعة الخرطوم في 1979 بعد تسنمه حقائب وزارية وسياسة في دولة نميري. نشرها ب"ذبابتها" لم يكترث لتأطيرها بمقدمة لقاريء زمنه تتشفع لعصبيته الأولى. وأوحى بهذا النشر غير العلمي بأنه ما زال يعتقد في ما أعتقده في الستينات الوسيطة مما لم يصح حتى في وقته. ومن شأن مثل هذه المقدمة، متى كُتبت، أن ترينا "نسب الغول" في مفهوم صفوة الحركة الوطنية مثل المحجوب وورثتهم مثل منصور الذي أشقى البلاد باستبعاده لضروب التنوع التاريخي والمعاصر فيها. فساق أهل القوميات الصغرى (أو الكبرى لو شئت) إلى الاحتقان المشاهد وعواقبه المدمرة. ولمثل هذا الوعي بأنساب الغول وغير الغول تنعقد ندوة مثل تلك التي انعقدت في الشارقة. وما لم نواف مطلوبها العلمي صار الواحد مثل منصور كوميدياً واقفاً في روتين ترويع جمهوره وإنتزاع الضحكات الكسيرة والصفقات التعويضية شفاء من عقدة الذنب الليبرالية.وأزدكم من منصور بيتاً. فقال لجريدة البيان في 6 سبتمبر (أو هي 9 يونيو لحد ما أتأكد) 2003 إن وعيه بأفريقيته حدث خلال إقامته بأمريكا خلال آخر الخمسينات وأوائل الستينات. فتصالح مع سواد لونه ونسبته للقارة السوداء بعد تجارب عنصرية أمريكية بيضاء وقف عليها خلخلت قناعته بعروبته المؤثلة الخالصة. وهذا من ذر الرماد على الأفهام. فقد كتب منصور المقالات موضوع نظرنا في منتصف الستينات (1965) وما بعدها لم نر فيها سوى فرح قديم بقوميته العربية الغراء. ثم نشرها في كتاب بعد 15 عاماً من نشرها بالصحف ولم يطرف له جفن أفريقي حتى انضم للحركة الشعبية للقوميين الجنوبيين في 1985 فصلحت أفريقيته، بل جعلها مخلبه الفكري..بدا لي من هذر منصور بحق المحجوب يضحك أرباب الجهالات البواكيا أنه مما لا يؤتمن على علم ولا سياسة ولا قسط. بدا لي، وهو الذي يعلم بأفضل من ابتزازه لجمهور بعاهة المحجوب الهويويوة، والتي لم يغادرها هو نفسه شبراً بل أضل سبيلا، أنه ممن لا يؤتمن على حرمة فكر لأنه ينتهك "حرية" الجهل لجمهوره."هيولوجيا" من اصطناع حسن موسى في غاية علمي. أحدث المقالات
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة