صفحات من أيام المهدية - من مذكرات السجين الألماني شارلز نيوفيلد

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-10-2024, 05:27 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-19-2017, 07:30 AM

jafar hashim

تاريخ التسجيل: 04-25-2005
مجموع المشاركات: 293

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
صفحات من أيام المهدية - من مذكرات السجين الألماني شارلز نيوفيلد

    06:30 AM July, 19 2017 سودانيز اون لاين
    jafar hashim-
    مكتبتى
    رابط مختصرصفحات من أيام المهدية: من كتاب الألماني شارلز نيوفيلد : سجين الخليفة - اثنتا عشرة سنة من الأسر في أم درمان
    https://archive.org/details/prisonerofkhalee00neufrichhttps://archive.org/details/prisonerofkhalee00neufrich


    تمهيد: تعتبر فترة المهدية (1885 – 1899) من الفترات المثيرة للجدل بالنسبة لكثير من الأجيال المعاصرة ومن ضمن الأسباب قلة المراجع التاريخية المتاحة التي تغطي تلك الفترة وخاصة الحياة الاجتماعية وندرة كتب السيرة الذاتية لتلك الفترة. تكاد
    تقتصر المراجع العربية المعروفة على ما خطه يوسف ميخائيل وابراهيم فوزي إضافة إلى ترجمة مذكرات سلاطين .من ضمن المراجع التاريخية الأوربية التي تعتبر من المذكرات الشخصية عن فترة المهدية كانت من تأليف سلاطين والأب أوهرفالدر وجوسيب كوزي والأب روزيقنولي وشارلز نيوفيلد، والملاحظ أن المرجعين الأولين تولى تحريرهما ومراجعتهما السير ونجيت باشا بينما الثلاثة الأخيرة لم يتدخل في مراجعتها ونجيت مما يضفي نوعاً من المصداقية والتجرد لما ورد في متنها (توجد بالمراجع الملحقة صفحات مترجمة عن جوسيب كوزي والأب روزيقنولي).فيما يلي ترجمة لفصلين من كتاب الألماني شارلز نيوفيلد الذي كان مسجونا بامدرمان وفيه عرضاً لمشاهداته وانطباعاته الشخصية خلال فترة وجوده بامدرمان (وقد كان اسمه عبد الله المسلماني، والمسلماني صفة للنصارى والأقباط الذين أعطاهم الخليفة الأمان وكانوا يعيشون في حي اسمه المسلمانية (حرفت إلى المسالمة - المترجم). الشكر الجزيل للأستاذ بدر الدين الهاشمي الذي قدم عدداً من الترجمات – تجدونها في المراجع الملحقة – لبعض ما كتب عن تلك الفترة من تاريخ السودان. وشكري الجزيل للأستاذة نجاة محمد علي بسودان فور اول ، فقد كان مقالها – ملهماً للسير في هذا الطريق ، فبعد انتظار طويل لخروج ترجمتها المكتملة للفصل السابع من هذا الكتاب، رأيت أن اقتحم العقبة وأقدم ترجمة الفصل السابع (وهو الفصل الوحيد الذي يشرح فيه الكاتب بالتفصيل الأوضاع في أم درمان وحياته خلال فترة السجن) ثم قمت بإضافة الفصل الثامن لمزيد من التفصيل.للأستاذة نجاة العتبى حتى ترضى ويبقى الهدف الأخير واحداً.- جعفر هاشم
    mailto:[email protected]@outlook.com

    (عدل بواسطة jafar hashim on 07-24-2017, 05:32 AM)
    (عدل بواسطة jafar hashim on 07-24-2017, 09:09 AM)
    (عدل بواسطة jafar hashim on 08-17-2017, 07:38 AM)
    (عدل بواسطة jafar hashim on 08-17-2017, 07:40 AM)
    (عدل بواسطة jafar hashim on 08-17-2017, 07:44 AM)
    (عدل بواسطة jafar hashim on 08-17-2017, 07:46 AM)
























                  

07-19-2017, 07:35 AM

jafar hashim

تاريخ التسجيل: 04-25-2005
مجموع المشاركات: 293

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: صفحات من أيام المهدية - من مذكرات السجين ا� (Re: jafar hashim)

    مقدمة الأستاذة نجاة بسودان فور اول

    عرض لكتاب الألماني ش. نوفيلد: سجين في يد الخليفة: اثني عشر عاماً من الأسر بأمدردمان، دار شابمان آند هول، 1900.
    Charles NEUFELD, A Prisoner Of The Khaleefa: Twelve Years' Captivity At Omdurman, Chapman and Hall, 1900
    نقلاً عن الترجمة الفرنسية للكتاب:

    شارل نوفيلد، "السودان (1887-1899)، اثني عشر عاماً من السجن في أسر الخليفة بأمدرمان"، دار لارماتان للنشر، سلسلة جذور الحاضر، باريس، 1998.

    الكتاب الذي أقدمه إليكم هنا، كتبه ألماني يدعى شارل نوفيلد، يسرد فيه مذكراته لفترة اثني عشر عاماً قضاها في أسر الخليفة عبد الله التعايشي (1887-1899)، قضى معظمها سجيناً بسجن أمدرمان الذي كان يطلق عليه في ذلك الوقت "سجن السائر" أو "السائر" فقط، وسأتعرض لأسباب هذه التسمية لاحقاً.

    في عام 1887 وصل شارل نوفيلد للسودان قادماً من مصر برفقة قافلة محملة بالأسلحة بعثت بها الحكومة البريطانية إلى رئيس قبيلة الكبابيش الشيخ صالح ود سالم، الذي كان مناهضاً للثورة المهدية. يقول شارل نوفيلد أن زيارته تلك كانت بقصد شراء كميات من الصمغ العربي ليعود بها إلى مصر، حيث يعيش متنقلاً بين القاهرة وأسوان. وقد انتهز فرصة سفر هذه القافلة التي غادرت وادي حلفا في أول أبريل عام 1887، ليصل السودان في صحبتها، نسبةً للأمان الذي توفره له من ناحية، ولوجود دليل مرافق للقافلة وعده بمرافقته إلى كردفان لشراء الصمغ، من ناحية أخرى. إلا أن هذا الدليل نفسه هو الذي نقل إلى ود النجومي، في دنقلة، أمر القافلة المتوجهة إلى ديار الكبابيش والألماني الذي يرافقها.

    يصف شارل نوفيلد في كتابه كيف انتهى أمر هذه القافلة بوقوعها في يد قوة أرسلها ود النجومي من دنقلا للهجوم عليها ومصادرة البضائع والأسلحة المحملة بها، وأَسْر من بقي حياً من رجالها (تصحبهم خادمة نوفيلد) ليمثلوا أمام ود النجومي، الذي أمر بإعدام معظمهم، وفق هذه الرواية. ومن ثم، أرسل عبد الرحمن النجومي قوات من الأنصار إلى ديار الكبابيش قامت باغتيال الشيخ صالح ود سالم وأبادت جيشه.

    وعلى الرغم من أن شارل نوفيلد يؤكد أن قدومه كان بغرض شراء الصمغ وحسب. إلا أن عدداً من المعلومات التي أوردها في سرده توضح علاقته الوثيقة بالحكومة البريطانية. فقد سبق له أن أتى للسودان قبل حملة غردون، ليعود مرةً أخرى مع جيوش الحملة.. .
    هل كانت زيارته الأولى للسودان بغرض استكشاف الأوضاع قبل وصول جيوش غردون؟ وهل كان قدومه الذي وقع أثره في أسر ود النجومي بغرض معرفة الأحوال العامة في البلاد قبل حملة كتشنر؟ هذا هو ما يستشفه القارئ. هذا، إلى جانب العديد من القرائن التي وردت في كتابه مشيرةً إلى صلته بالحكومة البريطانية، كجامع معلومات على الأقل. من بين هذه القرائن أن حكومة بلاده جردته من جنسيته أثناء فترة وجوده بأمدرمان في أسر الخليفة عبد الله التعايشي.





                  

07-19-2017, 07:40 AM

jafar hashim

تاريخ التسجيل: 04-25-2005
مجموع المشاركات: 293

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: صفحات من أيام المهدية - من مذكرات السجين ا� (Re: jafar hashim)

    الفصلين السابع والثامن من مذكرات شارلز نيوفيلد - ترجمة جعفر هاشم
    الفصل السابع
    زج بي في السجن

    عند دخولي السجن وجدت نفسي برفقة حوالي المائة من الغوغاء المساكين بعضهم سودانيين وبعضهم مصريين وكلهم مقيدين بالسلاسل. وعلى الفور أخذوني إلى سندان مغروز داخل الأرض لدرجة أن الجزء الذي يضرب عليه يكاد يكون متساوياً مع مستوى سطح الأرض، وتم ربط إحدى القدمين بالسندان ثم قيدت الأخرى بينما يتم إضافة المزيد من السلاسل وتقييدي بها. أنا الآن لدي ثلاثة سلاسل وحلقة أخرى وسلسلة مربوطة برقبتي. وخلال الاثنتي عشرة سنة التي قضيتها مقيداً ومن بين المئات الذين لاحظتهم أمامي، لم أشاهد مطلقاً، وكما أوضحت بعض الصحف، أي سجين ربطت رقبته بمعصمه أو كعبه وكان كل السجناء مقيدين بسلاسل كما يظهر في صورتي، أما السلسلة المتدلية من الرقبة فكانت تترك مسدلة على الكتفين.
    وبعد اكتمال التكبيل، أخذت إلى غرفة بمقياس ثلاثين قدما ً بكل اتجاه ولها عمود في الوسط بعرض أربعة أقدام ليدعم السقف وهكذا ينقص الفراغ الفعلي من كل اتجاه إلى ستة وعشرين قدماً بين كل وجه من أوجه العمود والجدران. وخصص لي مكان بجانب الجدار الأبعد من الباب وبين رجلين اثنين، مقيدين، على وشك الموت بالجدري. وكان هناك حوالي ثلاثين سجيناً آخر بالغرفة، بعضهم راقدين من أثر المرض ولم يعرهم أي أحد أي اهتمام لعدة أيام إذ يظهر على أجسامهم آثار استفحال المرض. وبالقرب من السقف كانت هناك فتحات صغيرة، ربما كانت للتهوية ولكن الهواء الوحيد الذي كان يمكن أن يدخل إلى المكان كان من خلال الباب نفسه عند فتحه. كانت رائحة الغرفة الكريهة تبعث على المرض – رائحة كريهة نفاذة. لم يكن أملي في البقاء أكثر من بضعة أيام في هذه الحفرة، ولابد أنني أغشي علي عندما أدخلت فيها لأنني لم أكن أتذكر شيئاً أو بالكاد أتذكر القليل عندما أوقظوني بعد مغيب الشمس، عندما تمكنت وسط العتمة من تبيّن ما بدا لي موجة لا منتهية من المساجين الداخلين من الباب ليغلق الباب بعدها متبوعاً بضجيج وجلبة فظيعة. ومع قرقعة السلاسل المختلطة بتأوهات الموجوعين وآهات الهالكين المتضرعين لله لينجيهم كانت تصدر أفظع لعنات ودعوات المساجين وهم يتقاتلون لفسحة من المكان بالقرب من الجدران أو العمود القائم الذي يسندون عليه ظهورهم، فلم يكن هناك مجال للنوم الذي لم يكن لهم اقتناصه إلا لحيظات خلال اليوم عندما يتم إخراجهم داخل الزريبة (حوش السجن). ولا تسألوني عن محاولة وصف ليلتي الأولى، فهذا كابوس مشوش مخيف بالنسبة لي.
    وعند فتح باب الزنزانة صباح اليوم التالي أغمي علي للمرة الثانية وأخذوني إلى الهواء الطلق بحوش السجن ليعود إليّ وعيي وهذا ما حدث حيث أعادوني – كما أخبروني – " لأتعود على المكان". ومرت أيامي الثلاثة الأولى بين الحمى والكوابيس وكانت رجلاي متورمتين من ثقل السلاسل والأطواق. وكانت ذكرياتي الواضحة عن الأيام الأولى هي ما عرفت مؤخراً بأنه كان اليوم الرابع عندما أرسلوا لي حسن جمال المصري ليتعرف على حالي. وفي نفس هذا اليوم أرسلوا لي خادمتي (الاثيوبية حَسينة) لتعد لي الطعام وتغسل قدمي. وحتى الآن لم أكن قد أكلت أي شئ ولا أتذكر إن كنت قد شربت الماء. عندما أخذوني إلى السجن، كانوا قد أخذوا (حَسينة) إلى حوش حريم الخليفة ولكنها عندما أخبرت الحريم والخصيان بأن لديها طفل، سرعان ما صرفوا النظر عنها. أما أموالي التي جلبتها معي والتي أخذت مني عند وصولي أم درمان، وأرسلت إلى بيت المال، فقد أعطيَت لـ(حسينة) لتشتري لي بها طعامي. وعند دخولها حوش السجن، أخذ منها (ادريس الساير) رئيس السجانين الأموال قائلاً بأنه سيهتم بالأمر وتم تقييدها بسلاسل خفيفة وأرسلت إلى حوش حريمه.
    الآن تم السماح لي بالجلوس في الخارج بحوش السجن خلال النهار، كما سمح لي بالتحدث إلى المساجين الآخرين. عند دخولي السجن في اليوم الأول حذروني وتحت تهديد السياط من التحدث إلى أي شخص ، كما تم تحذير المساجين الآخرين تحت نفس التهديد بعدم التحدث معي. وقد كانوا – كما هو أكيد – متشوقين للتحدث إليّ لمعرفة أخبار العالم الخارجي، لكن أسئلتهم كانت مرصودة. كان هناك الكثير من السجناء الذين يسعون إلى كسب ود السجان (ادريس الساير) أوالخليفة من خلال عدم التردد في توصيل أي حديث مما يعتبر شكوى من سوء المعاملة أو رغبة أي واحد في الهروب أو التعبير عن الأمل في احتمال إرسال الحكومة لقوات تقوم بالإفراج عنا. ولمعرفتي بأن الحكومة قد صرفت النظر ، في وقتنا الحالي، عن كل الأفكار الداعية لإعادة احتلال السودان، فقد كنت أقول لرفقائي المساجين الذين كانوا يتحدثون عن قوات مشتركة تتقدم نحو الخرطوم، بأن عليهم بالصبر حتى انقضاء الفصل الحار. ولو أني أخبرتهم بما أعرفه، لأصيبوا بالإحباط ولوصل الخبر بسرعة إلى مسامع الخليفة. كان بعض السجناء من قدامى عساكر الجيش المصرى الذين أسِروا عند سقوط الخرطوم وغيرها من المناطق، وكانوا ينتظرون، يوماً وراء يوم، واسبوعاً وراء أسبوع، وسنةً وراء سنة، لا يفارقهم الأمل بأن الحكومة التي حاربوا لها سترسل القوات للإفراج عنهم، ولكن مع تزايد الأعداد، ما كان يأتيهم الفرج إلا عن طريق الموت – عند المشانق أو مذابح الخليفة أو بالمرض والجوع.
    كان معي بالسجن ذات مرة محمود ود سيد شيخ قبيلة الدبانية ، التي كانت عبر السنين تضع حداً لتحركات الأحباش جهات الحدود المصرية بشرق السودان. وقد كان له نفوذ كبير وكان يملك الكثير من المواشي والعبيد والأراضي ولكن تم أسره في بدايات الحركة المهدية، وعندما سجن لمدة ثلاث سنوات أو أربع، أصيب بالشلل، وكان إطلاق سراحه بناء على أمر أصدره الخليفة متعاطفاً معه ليتركه يموت وسط عائلته التي كانت موجودة آنذاك بأم درمان تنتظر في صبر إطلاق سراحه الذي وعِدوا به. وبعد الرعاية المكثفة والمداواة، تماثل الشيخ الكبير للشفاء، الذي ما إن سمع به الخليفة، حتى أمر بإلقائه بالسجن مرةً أخرى ليقضي فيه ثلاثة عشر شهراً أخرى ثم يتم الإفراج عنه مرة أخرى ولكن على شرط أن يقوم بجمع ما تبقى من أفراد قبيلته والهجوم على عدوهم القديم – الأحباش الذين كانوا في حالة حرب يومها ضد الخليفة. وبعد عدة أشهر سمعت بموت محمود، وتقول بعض الروايات أنه مات هماً وغماً وتقول أخرى بأن الخليفة أصدر أمراً بعزله لفشله في تجميع قبيلته التي كان الخليفة نفسه قد استأصلها تقريباً.
    ومن رفقائي في مصيبتي أيضاً عجب أبو جن من قبيلة الحمادة وكان قد حارب إلى جانب قوات الحكومة في سنار وعندما هزمتها قوات المهدية تراجع إلى دياره مصحوباً برجاله وبعد سقوط سنار تم الهجوم عليه وهزيمته وصودرت ممتلكاته وعندما أخذ أسيراً إلى أم درمان، أخذت زوجته إلى حوش حريم الخليفة. وبعد أن قضى أربع سنوات في السجن، اعتبر تعليمه كافياً وأطلق سراحه، وبعد عدة أشهر تم السماح له بالعودة إلى دياره حيث ما لبث أن أعد العدة لمهاجمة قوات المهدية ومحاولة التواصل مع الحكومة بشتى السبل. وكان الكثير من رجاله يحضرون لمقابلتي بالسجن على أمل أن أمدهم بأخبار عن تحركات قادمة.
    كان معي بالسجن أيضاً ثلاثة من أبناء الشيخ عوض الكريم (أبو سن)، عمدة قبيلة الشكرية، وكان والدهم قد مات بالسجن قبل وصولي بقليل. وبعد حبس الاخوة الثلاثة – عبد الله ومحمد وعلي – لمدة تسعة عشر شهراً، وَعَدَ الخليفة بإطلاق سراحهم شريطة أن تحضر قبيلتهم إلى أم درمان وتقدم فروض الولاء والطاعة، وهو ما فعلوه، ولكن وبعد قدوم القبيلة، ولم تكن تحمل معها زاد، وبعد أن ظلت القبيلة لمدة أربعة أو خمسة أشهر في الانتظار على مشارف أم درمان، وهلكت نتيجة المرض والجوع، عندها، وعندها فقط، أوفى الخليفة بوعده وأطلق سراح شيوخ القبيلة.
    وكان أحد الذين أنشأت معهم صداقة حقيقية الشيخ حمد النيل وهو من رجال الدين المعروفين في منطقة النيل الأزرق، ولما كان يتمتع به من نفوذ لدى الكثير من الناس، فقد خشي الخليفة من تزايد أتباعه، وأمر بجلبه إلى أم درمان. ولكن هنا ظهرت مشكلة، فما هي التهمة التي ستنسب إليه حتى يدان بالسجن، فلم يكن الشيخ حمد النيل مع هذا الطرف ولا مع ذاك – لا الحكومة ولا المهدية وكانت كل حياته مكرسة لكتاب الله وتعاليمه، ولذلك لم يجرؤ أي قاضٍ على إدانته بأي تهمة، أو بشهود الزور كما يريد الخليفة. ولما كان الخليفة مصمماً على تلبيسه تهمة بأي طريقة، ولما كان الشيخ حمد النيل غنياً، وكان بيت المال بحاجة للأموال، فقد أرسل بعض الرجال لبيت الشيخ حمد النيل وأمروا بإخفاء بعض التمباك في الأرض – ليرسل آخرون لاكتشافه وتقديمه كإدانة لأن التمباك كان محرماً منذ زمن المهدي. ورغم اعتراضات ونكران الشيخ حمد النيل للتهمة، حكم عليه القاضي بالسجن ومصادرة أملاكه. وبعد ثمانية عشر شهر من الحرمان اعتلت صحته وتم إطلاق سراحه، ولكن وما أن استعاد صحته، وتماماً كما حدث مع محمود، إلا أن أعيد إلى السجن مرةً أخرى ليموت فيه بعد بضعة أسابيع. ومن بين كل الذين كانوا بالسجن، كان الشيخ حمد النيل هو الوحيد الذي يجرؤ على القول صراحةً إلى من يثق بهم بأن المهدي وخليفته ما هما إلا كاذبين. وقد قضيت حوالي سنتين من سنواتي الأربع الأولى بالسجن في تعلم كتابة وقراءة العربي على يدي الشيخ حمد النيل ومناقشته في تعاليم الإسلام والمسيحية وكنت أحدثه عن العادات والحياة الاجتماعية الأوربية.
    وكان من بين القادمين إلى السجن الذين سعدت برؤيتهم - أحمد عبد الماجد – من منطقة بربر وهو من كبار مناصري المهدي والخليفة وأحد ألد أعداء المسيحيين والأوربيين. وهو – بالسبة للسودانيين – من أفضل المتعلمين، كما كان غنياً وكان له نفوذ كبير ، ولكن مباهاته أودت به. فهو يظهر ثروته في أبهة ملبسه وفخامة عيشه وهو ما وصل إلى مسامع الخليفة إذ أنه حتى الآن لم يستجِب لأي من دعوات الخليفة المتلاحقة بالحضور إلى أم درمان. وكان أحمد عبد الماجد قد قرر الزواج للمرة الثانية – ولكن من فتاة صغيرة وجميلة، وقد صاحب التجهيزات وحفل الزفاف صرف بذخي كبير. وكان المهدي قد حدد مهر العروس بعشر ريال، ولكن أحمد عبد الماجد دفع لأهل العروس الجديدة مبلغ ألف ريال، مما يعتبر خروجاً على أوامر المهدي، وما أن سمع الخليفة بذلك حتى أرسل قوة إلى بربر لتحضره وعروسته إلى أم درمان. وكانت القوة قد حضرت أثناء الاحتفالات، فما كان من أحمد عبد الماجد إلا أن يلبي دعوة الخليفة هذه المرة. وعندما جاء إلى أم درمان وهو بصحبة عروسته، التي عرفت بأنها أجمل إمرأة بالسودان، مثُل على وجه السرعة بين يدي الخليفة والقاضي. ولما كان قرار الأخير جاهزاً، فقد اتهم أحمد عبد الماجد بالخروج على أوامر المهدي وبحبس الأموال عن بيت المال الأمر الذي يظهر في ثروته الكبيرة في الوقت الذي كانت فيه خزائن بيت المال خاوية. وهكذا تم مصادرة أملاكه وتحويلها لبيت المال وتم أخذ عروسته لتكون ملكاً للخليفة ويلقى به هو نفسه في السجن حيث قضى ستة أشهر قضى جلها منشغلاً بسب ولعن وجه عروسته الجديدة الذي جلب عليه هذه المآسي والأحزان. وبعد انقضاء الستة أشهر تم الإفراج عنه بعد "تعليمه" بالسجن وأعيد إلى بربر وذلك مع توصيات مشددة من الخليفة بعدم المباهاة بثروته في المستقبل. ولكن الخليفة احتفظ بأموال أحمد عبد الماجد – كما احتفظ بعروسته أيضاً. وهذا هو أحمد عبد الماجد نفسه الذي قام بعد هروب سلاطين، بمطاردة وتعقب الأشخاص الذين ساعدوه من أهالي بربر وقام بإرسالهم إلى أعالي النيل الأبيض حيث مات منهم مؤخراً من نجا من الموت أثناء السفر إلى تلك البقاع.
    كان الذين ذكرتهم أعلاه هم من يمكن أن أسميهم أفضل طبقة من السجناء الذين رافقتهم خلال السنتين الأوليين لي بالسجن، أما الباقين فكانوا من العبيد واللصوص والمجرمين العاديين والمدينين والقتلة وغيرهم.
    عندما عاد إليّ وعيي بعد نوبة الحمى، وضعوني على ظهر جمل وساروا بي عبر الأكواخ والرواكيب والزرائب التي كانت تشكل وقتها مدينة أم درمان. كان هناك عدد من قبيلة الهدندوة الذين جاءوا لتقديم فروض الولاء والطاعة للخليفة وانتهزها الخليفة فرصة ليعرضني أمام المؤمنين كما أراد أن يحدث أيضاً بعض التأثير على الهدندوة. وتوقفنا أمام كوخ الأمير سيد محمد طاهر ، أحد أقرباء المهدي، الذي قام بعد تقديم روايته لمصرع هيكس باشا وتدمير جيشه، وهما حدثان قام بهما، وفقا لروايته، الملائكة الذين بعثهم النبي لهذا الغرض، قام بأعطاني محاضرة طويلة عن المهدية وسألني في نهايتها عن رأيي فيها، فقلت له بأنه لو رغب هو أيضاً في بعض الدروس الدينية عن كيفية ثواب الرب الذي أعبده للمؤمنين به والوسائل التي يتبعها رجال الدين في أوربا لهداية الناس لطريق الدين، فإني سأكون سعيدا بذلك. وقد أغضبه هذا الرد، وقامت مجموعة كاملة من السجناء بتلقيني محاضرة طوال ذلك اليوم عن المهدية. وفي الوقت الذي كنت فيه على أتم الاستعداد للحديث عن الدين الإسلامي وفقاً لما ورد بالقران، إلا أني لم أكن مؤمناً برسالة المهدي أو بدينه الجديد. وعندما سأل (طاهر) عن التقدم الذي أحرزته في عملية "تعليمي"، قيل له بأنه لا يزال عند موقفه بخصوص المهدية ولكنه على استعداد لاعتناق الإسلام. وكنت أعرف جيداً ما يعنيه قبولي التام وإيماني بالمهدية –إطلاق سراحي ولكن سيجعلوني مسؤولاً عن بعض القوات، ولكن بما أني حاربت مع البريطانيين ضد قوات المهدية، فلم يكن لدي رغبة في أن يأسروني وأنا في صفوف قوات المهدية محارباً ضدهم، أو أن يعثر علي في الميدان بعد القتال بجبة المهدية، وأنا مقتول برصاصة بريطانية.
    لم يسر (طاهر) بردودي ورفع الأمر للخليفة. وفي اليوم الخامس عشر تقريباً أخذوني بالباخرة إلى الخرطوم بصحبة الهدندوة الذين جاءوا لتقديم فروض الولاء والطاعة بغرض التأثير علي والوقوف على جوانب من نفوذ الخليفة وحقيقة المهدية. أخذونا أولاً إلى قصر غردون القديم، حيث استقبلنا (خليل حسنين)، الذي كان يشغل محافظ المدينة عن المهدية وفي نفس الوقت مدير الترسانة، وأكرم وفادتنا بوجبة من الطعام. وأخذونا عبر الغرف التي كانت مهدمة حينها وعرضوا علينا عند بداية السلالم ما قيل لنا أنه آثار دماء غردون باشا. وبعد ذلك وضعونا على حمير وأخذونا حول التحصينات حيث أعطانا مرشدونا عن المهدية ، وهم يشيرون إلى الهياكل العظمية والجثث القديمة المتناثرة، صورة بالكلمات مقدماً لما ستكون عليه حصون وادي حلفا والقاهرة بعد هجوم الخليفة عليها بمساعدة الملائكة المنزلين. كانت تلك رحلة كئيبة بالنسبة لي، ولا أخجل من القول أنه بينما عادت بي فكاري إلى يوم كربكان حيث تصورنا، وكلنا أمل، إنقاذ غردون، تلاشت تلك الجثث والهياكل حتى غابت عن ناظرينا في العتمة وسقطت دموعي السخينة على يدي.
    وعندما أعادوني إلى السجن مرة أخرى صارت حالتي أسوأ، فمع ثقل السلاسل والقيود التي أجرها، واحتكاكها بجلدي مسببة تهيجه، وقذارة وأوساخ السجن قد شكلت تقرحات كبيرة. وبينما كنت أرقد مضطجعاً في الظل ذات صباح، وكان يوم عيد الأضحى، مر بحوش السجن شخصان على الجمال وتوقفا وأناخا أحد البعيرين أمامي وأمراني بالركوب لأن الخليفة أرسل بطلبي. وتجمع السجناء الآخرين وهم يودعوني وقال لي محمد ود سيد أن أتمالك نفسي وأتصرف كما فعلت "في الوقت الذي يحاولون فيه تفجير رأسي بأم بيا". كان هناك استعراض كبير للقوات في هذا اليوم، وما من أحد إلا ويعتقد أنه سيجري تنفيذ إعدامي أمامهم.
    لم يكن لدى الرجلين شيئاً يقولاه سوى أن الخليفة أرسل بطلبي، وكان عليهما أن يحضراني حياً أو ميتاً. رفعوني على الجمل وانطلقنا إلى ساحة العرضة خارج البلدة. ومع حركة خطوات الجمل الطويلة المتمايلة واهتزاز قيودي وسلاسلي، وصلت إلى حيث الخليفة وأنا في حالة إغماء وقروح مفتحة تخرج صديدها على خاصرة الجمل. وعندما لاحظ الخليفة ذلك، سأل أحد الأمراء عما جرى، ورغم أني كنت قريباً منه إلا أنه لم يكن يتحدث إلي مباشرةً، رغم أنه كان بمقدوري أن أسمع ما يقوله وكان بمقدوره أن يسمع جوابي. وعندما عرف بالسبب أصدر أمره بإزالة القيود في تلك الليلة وتركيب قيود أخف. كان الخليفة محاطاً بأمرائه وحراسه من الملازمين وقد اصطف أمامنا في الساحة جيش عطيم من الخيول والهجانة والجنود المشاة. وكان علي أن استعرض الجيش بكامله، ولكن قبل الوصول إلى الخيالة قال الخليفة للأمير علي ود سعد " قل لعبد الله (يعنيني أنا) أنه لم يستعرض إلا ربع الجيش فقط، على أن يحضروه غداً للساحة".
    وقد اندهش السجناء عندما شاهدوني أعود حياً ذاك المساء، كما زادت دهشتهم للأوامر التي صدرت (لإدريس الساير) بفك القيود على الفور، ووضع قيود خفيفة. وللحظة كان من الممكن عدم تنفيذ أوامر الخليفة ، فلما كانت أقدامي متورمة و السلاسل داخلة في اللحم، فقد كان من الصعب تقريبها للسندان لإكمال عملية الضرب والتقطيع. وفي اليوم التالي أحضرت أيضاً إلى ساحة العرضة وأنا في نفس حالة الأمس من الانهيار والإعياء. وقد اشتاط الخليفة غضباً لذلك، فهو لا يريد أن يعرض أمام قواته ، وهي علامة سطوته ونفوذه، رجل يتم تثبيته على ظهر الجمل. وتم استدعاء السجان وسئل عن سبب عصيانه للأوامر. وكانت أسبابه أنه أولاً ليس لديه قيود أخف وثانياً أن أقدامي كانت متورمة لدرجة لا تسمح له ببلوغ السندان. وكان جواب الخليفة أنه يجب إزالة القيود في تلك الليلة، وقد تم ذلك، ولكن ذلك كان فظيعاً بالنسبة لي. وقبل مغادرة ساحة العرضة، أرسل لي حمار سيد جمعة وحصان سلاطين قائلاً أنه يمكنني ركوب أي منهما والعودة للبلدة، لأن حركة مشيهما ستكون أفضل لي من حركة الجمل، ولكنني اخترت البقاء على الجمل.
    وقد فعلت ما بوسعي للاقتراب من سلاطين للتحدث إليه، ولكنه لم يكن يقترب إلا لحظات إلى جانب الخليفة، فقد كان يركض من هذا الطرف إلى ذاك الطرف من الجيش ملقياً بأوامره. وقد سألني علي ود سعد، الذي كان بجانب الخليفة، عن رأيي في الجيش، وأجبته "لديكم الأعداد (الكبيرة) وليس التدريب"، وهي إجابة لم ترضِ الخليفة، الذي أمكنه سماعها دون انتظار ود سعد بإعادتها عليه. كانت هذه آخر مرة أرى فيها الخليفة ولكني عشت مؤملاً رؤيته مرةً أخرى.














    الفصل الثامن
    حياة السجن

    كان أول عهدي بالسجن ذاك الذي كان قبل أربع سنوات. وبعد تسعة أشهر أزيلت السلاسل والقيود عن رقبتي ، أما قيودي التي كنت مكبلاً بها على الدوام – باستثناء ثلاثة عشر يوماً – فقد ظلت تكبلني طوال مدة أسري. ويصعب سرد الوقائع التي حدثت لي يوماً بيوم إلى جانب عدم أهميتها حتى لو تمكنت من سردها. وعلي أن اكتفي ببوصف عام لسير الحياة هناك وتقديم فكرة عن مجريات اليوم العادي بالسجن.
    عندما وصلت إلى أم درمان كان السجن الرئيسي المكون من الزنزانة المشتركة التي ذكرناها سلفاً (أم حجر) المسورة بزريبة كبيرة من أشجار السنط والشوك بارتفاع ستة أقدام تقريباً. وكان هناك ثلاثين حارساً كل منهم مسلح بكرباج. لم يكن هناك تجهيزات صحية ولا حتى من أكثر الأشكال بدائية وكان كل السجناء يحصلون على طعامهم عن طريق أقاربهم أو أصدقائهم، ومن لم يكن لديه قريب ولا صديق، فسيموت جوعاً. وقد كان السجناء كريمين ويتقاسمون الطعام مع بعضهم وغالباً ما يأكلون نزراً يسيراً يبقي أجسادهم وأرواحهم، أما النصيب الأكبر من الطعام الذي يرد إلى السجن فكان يأكله الحراس.
    مع شروق كل صباح كان يفتح باب الزنزانة المشتركة ويسمح للسجناء بالنزول إلى شاطئ النيل الذي يبعد خطوات عن المكان وذلك للوضوء وماء الشراب وبعد ذلك نصطف للصلاة الأولى في اليوم وكان لزاماً على الجميع الانضمام للصلاة. وعندما لا يكون لدينا عمل، كنا نقرأ راتب المهدي وهو كتاب ديني يضم مقتطفات من القران مع إضافات المهدي لها. وكان لزاماً على كل المؤمنين دراسة الراتب وحفظه عن ظهر قلب، ولهذا كان على كل سجين إما أن يشتري نسخة من راتب المهدي أو أن يكتبها بنفسه. وعند الظهر تقام الصلاة الثانية وتتبعها أخرى في الوسط ما بين الظهر وغروب الشمس ورابعة عند غروب الشمس وكان علينا تكرار صلاة العشاء عند حلول الليل، ولكن بما أنه يتم إدخالنا إلى أم حجر عند المغرب، فكان موعد أداء هذه الصلاة يذهب كلياً في المشاجرات والعراك وألفاظ الشتائم التي يعرفها العرب والتي تبدأ من لعن "أبو" الآخر إلى جدود جدوده بما في ذلك (الحبوبات).
    ومن المؤكد استحالة تسجيل صورة حية بالكلمات، حتى باستخدام أكثر الأساليب و التعابير المغلفة، لوقائع ليلة من ليالي سجن الساير. فمشاهد البهيمية والقذارة والوسائل المستخدمة لتركيع أقوى الرجال بلكمة واحدة والعديد من الجرائم التي يعف اللسان عن ذكرها والتي كانت ترتكب ليلة بعد ليلة وسنة بعد سنة لا يمكن لكتاب أن يحويها. وفي بعض المرات، وهو ما كان يحدث أحياناً لعدة أسابيع متتالية، كان يلقى بحوالي 250 إلى 280 سجين إلى داخل هذه الغرفة الصغيرة، فقد كنا محشورين في بعضنا البعض، ونادراً ما كنا نجد متسعاً لتحريك أيدينا. وكانت (العراريق) التي يلبسونها تعج بالحشرات والطفيليات التي كانت تجعل النوم من المستحيلات وتحيل حياتنا بؤساً. ومع تزايد الحر والجو الملوث برائحة المكان الكريهة وتلاصق الأجساد المتعرقة وغير ذلك كانت تنتفي كل مظاهر الإنسانية. وكانت القاذورات تتنقل من أحد جوانب الغرفة إلى الجانب الآخر عندما يقذفها من يستطيع تحريك يده، وما تلبث الجموع أن تبدأ في التمايل من جانب إلى جانب لتجنبوقوعها عليه ، مع يصاحب ذلك من العراك والعض والضرب لمن يتمكن من التحرك والكل يضرب بالسلاسل سيقان من يقف بجانبه إلى أن يتحول المشهد إلى مشهد لا يستطيع توصيفه إلا دانتي. وكل سجين مر بتجربة قضاء ليلة كهذه لا يعود أبداً للحياة، فصرخاته لايمكن أن تسمع فوق ضوضاء السلاسل والقيود واللعنات والشتائم وكان كل من يحاول الانحناء للمساعدة، إذا سمع الصوت، كان ذلك يعني نهايته. وفي الصباح عندما كان يسمح لنا بالتدافع للخروج، كنا نجد خمسة أو ستة جثث ملقاة على الأرض ممن أزهقت أرواحهم.
    ومراراً، عندما تكون الجلبة والضوضاء أكثر من المعتاد، كان الحراس يفتحون الباب ويقفون عند المدخل ويضربون المساجين الخارجين على رؤوسهم بالسياط المخفية. ودائماً، كلما حدث هذا، كان الموت يحصد ضحاياه الخمس أو الست الذين تزهق أرواحهم. أريد أن أدعي بأني قد قدمت صورة من خيالي بما ورد أعلاه، ولكني أؤكد بأن هذا لا يعطي إلا فكرة طفيفة عما حدث في الواقع.
    وإلى أن سمح لنا بعمل قوالب الطوب وبناء سور يحيط بسجننا، فقد كانت حياتنا، مقارنةً بما حدث مؤخراً، قابلة للتحمل نوعاً ما. فقد كان يسمح لنا بالنزول إلى النهر بالنهار كلما رغبنا في ذلك تقريباً عندما ندفع بقشيش للحراس، وتلك الطلعات التي كنا نقول إنها بغرض الوضوء والشرب، قد سمحت لنا بفرص التحدث مع الناس في البلدة. ولم استمتع بتلك الحياة إلا لأشهر معدودة. وقد نجح عدد كبير من السجناء في الهروب. ونتيجة لذلك، فقد أصدر الخليفة الأوامر بحفر بئر لماء الشرب للسجناء وبناء سور للسجن بأسرع ما يمكن.
    كان معظم السجناء الذين هربوا من العبيد، وبما أن الكثير من العبيد كانوا يقيدون لمنهم من الهروب من أسيادهم- وهناك المئات يتجولون في المدينة وهم مقيدين- فلم يكن الهروب من السجن أو من أم درمان صعباً بالنسبة لهم. وعندما كان يسمح بالنزول إلى النهر للاغتسال كانوا يخوضوا مع الشاطئ حتى يقابلوا تجمعاً من الناس وعند الخروج إلى الشاطئ بحيث لا ثير قيودهم الشبهات لأنه وكما قلت آنفاً هناك المئات يجوبون شوارع البلدة وهم مقيدين. وعند ذهابهم لأقرب حداد، يقوم بنزع قيودهم في لحظات من أجل الحصول على الحديد، الذي يعتبر قيماً بالنسبة له.
    لم نكن وقتها منقطعين تماماً عن الأخبار، فقد كانت الصحف التي تطبع في مصر تصل باستمرار، حيث كان يحضرها جواسيس الخليفة الذين يسافرون بانتظام جيئة وذهاباً بين أم درمان والقاهرة محافظين على التواصل بين الخليفة وبعض المتشددين من المسلمين القاطنين بالعاصمة. ومنذ عودتي فأنا أتقصى عن حادثة وقعت على الحدود لها علاقة بالجيش قبل عدة سنوات. وسأشير إلى ما سمعناه فقط ، وما بدر عن الخليفة وأمرائه. وفقاً للتقرير الوارد فقد تم إعفاء كل الضباط الانجليز، وتركوا مع السردار. وقد تم نقل العساكر الانجليز أيضاً من مصر، وذا ما سر الخليفة وجعله يتطلع للمستقبل القريب حينما تحاول القوات المصرية مهاجمته حيث سيقومون بإبادتهم عن آخرهم. وكنت سأكون شاهداً على معارك تحارب فيها ملائكة الله إلى جانب المؤمنين وتساعد الأنصار في القضاء على الأتراك. وبينما كان هذا هو موضوع المحادثة، وصل رسول آخر يقول بأن هناك مصيبة حدثت، فالضباط والعساكر الانجليز لن يغادروا، ومع تضاؤل آمال الخليفة تزايدت آمالنا.
    لم يتبق من كل الشخصيات التي عينها المهدي بنفسه في منصبه حتى موعد احتلال أم درمان، على حد علمي، إلا اثنان: كان أحدهما خليل حسنين مدير الترسانة أما الآخر فهو ادريس الساير – السجان. كان ادريس – وهو لا يزال على قيد الحياة – من أبناء قبيلة الجوامعة، وهي من القبائل التي ستسبب بعض المشاكل للحملة الأولى، ويذكر في نسبه ونشأته أن والدته كان لها أخت ضاقت ذرعاً بالعزوبية والوحدة فكانت لها علاقة مع أحد الرعاة الذين يترددون على بيتهم، ولكن أم ادريس نفسها كانت تريده زوجاً لها وفي يوم زواجه من أختها وبخته ام ادريس وهي تحمل ادريس بين يديها واستنكرت فعله الجرئ المخالف لعادات القبيلة بطلب يد فتاة بكر رغم أن أختها – هي نفسها – لها طفلان! كلمة "الساير" في لغة الجوامعة تعني المعتاد وقد ارتبطت كلمة الساير مع ادريس في مقبل السنوات ولا يوجد تفسير مقبول لعدم انتسابه لأب. وبعد ذلك تزوجت أم ادريس واستقرت ومعها ابنها الشرعي مع أسرة الساير. وعند تم تعيينه مسؤول عن السجن، كان السجن يسمى "حوش الساير" ثم اختصر إلى "الساير" حيث أصبحت كلمة الساير مرادفاً لكلمة السجن، ثم أطلق على كل السجون كلمة "الساير" وكل مسؤولي السجون "الساير".
    كان ادريس من اللصوص والسارقين المعروفين وهو لا يتوقف عن الإشارة أن مآثره وما آل إليه حاله إنما كان بفضل تحوله للمهدية، فقد أصبح الحارس الوصي على اللصوص والسارقين والقتلة مما يبعد الشبهة بينه وبين أي علاقة بماضيه المشين.
    كما كان (ادريس الساير) يؤمن بالخرافات، ورغم منع المهدي وخليفته لأعمال التنجيم وكتابة (الحجبات) ، إلا أن ادريس كان يسير في طريق الخليفة نفسه الذي كان يلجأ باستمرار للعرافين والمشعوذين، فكان ادريس ينفق الكثير من ماله غير الشريف لصالح العرافين والدجالين وقد كان لديه بين خمسة وعشرين إلى ثلاثين لوحاً خشبياً وهي مربعات ضلعها بين ثمانية عشر إلى عشرين بوصة يكتب عليها سورة من القران كل يوم. وكان الحبر الذي تكتب به السور خليط من سواد بقايا الحريق (السكن) والصمغ وقليل من الماء والعطر. وبعد الانتهاء من الكتابة يقوم ادريس الساير بغسل يديه جيداً ويحضر إناء يسع تقريبا كوبين من أكواب الشاي ثم يغسل الكتابة عن الألواح لتنزل على الإناء بحرص شديد دون أن تسقط أي قطرة على الأرض لأن (المحاية) تتضمن آيات قرآنية وأسماء الجلالة. بعد ذلك يقوم ادريس الساير بشرب (المحاية) ثم يأتي إلينا ليلقي على مسامعنا الخطبة التالية ، من خلال سماعها مرتين تقريباً أو ثلاث مرات في الاسبوع لعدة سنوات، فقد حفظتها حرفياً:
    " لقد ولدت لصاً وسارقاً وكان أهلي يقتلون الناس ويسرقون ممتلكاتهم ، وشربت وأسرفت في الشراب وفعلت كل ما هو مخالف للتعاليم والدين، ثم جاء المهدي وعلمني الصلاة وأن أترك ممتلكات الناس (ودائماً ما كانت هذه العبارة الأخيرة تثير ابتسامة مريرة على سامعيه لأن ادريس الساير كان يعذبنا ليأخذ منا أي (قرش) أو أي شي ذا قيمة يكون بحوزتنا ليقوم بتقديمه للخليفة.
    " كيف يمكنني أن أشكر المهدي الذي جعل مني رجلاً صالحاً ومتديناً وسيكون شاهداً علي يوم القيامة ويدخلني إلى الجنة مع الأنصار.تأملوا كيف كنت وكيف أصبحت! كنت أسوأ من أي واحد منكم. إذا كنتم قد سرقتم، فقد سرقتم وانتم بجانب الحكومة التي كانت تفعل نفس الشئ وقد فعلتم ما كان يفعله الجميع. لقد كانت لديكم السلطة. ولكني كنت أسوأ منكم، لم تكن لدي سلطة، وقد تاب علي ربي وسيتوب عليكم إذا استغفرتم ووهبتم لبيت المال ما أخذتم من أموال المساكين، لأن هناك الآن الكثير من المساكين في المدينة يتضورون جوعاً وليس في بيت المال ما يكفي لشراء الطعام. لقد وهبت كل أموالي لعمل الخير وأصبح أولادي وزوجاتي يشكون من الجوع. فليس لدي مراكب تجلب لي الأموال وليس لدي أراض زراعية أحرثها تنبت لي الذرة" (الذرة: حبوب غذائية تحل محل القمح عندنا). " أنا سجين مثلكم. وما أتقاضاه من معاش لا يكفي لإطعام أسرتي. بالأمس لم يكن في بيتي ذرة ليأكلها العيال، وباتوا القوى فحمدت الله وشكرته على هذه الابتلاءات التي سيجزيني عنها الله خير الجزاء في الدار الآخرة. أنا ذاهب الآن لأطفالي الجائعين وسأدعو الله أن يفك أسركم وأن يهديكم إذا تبتم وأن تنالوا عطف الخليفة. الخليفة يعرف كل ما تفعلونه وهو يرى ويسمع ما تقولون ، لأن النبي الخضر يخبره ليس فقط بما تقولون وتفعلون وإنما يعرف فيم تفكرون.
    عندها ينهض الجميع ويقبل يدي ادريس الساير إلا أنا لم أفعل ذلك على الإطلاق. وعند نهاية أول خطبة أحضرها بعد إدخالي السجن وبنهاية كل خطبه في الأسابيع الأولى لي بالسجن كان ادريس الساير يكرر: وانت أيها القادم من العالم الشرير، أنت الآن تعرف العربي، لقد أمرني الخليفة أن أهديك إلى دين الحق وسيخبرك زملاؤك المساجين كيف قامت الملائكة بالقضاء على هكس باشا وجيشه بالكامل من دون أن يطلق الأنصار طلقة أو رمح، كانت الرماح تطير من أيديهم لتأخذها الملائكة وتقذف بها في صدور الكفار ، فتحرق أجسادهم. الله أكبر. ستدرك قريباً أن دنياك هي دار الغرور وأن الدين الحق هو دين المهدي. فما أسعدك وأنت تعيش في زمن المهدي وتدخل في زمرة أنصاره. فالله يحبك الآن وهو الذي جاء بك إلينا وببركة الخليفة ستزيد قوة الأنصار ستقاتل معنا ضد الكفرة والأتراك كما فعل الآخرين الذين أصبحوا أسلموا وأصبحوا أنصارا. أنت رجل ذكي والخليفة لا يكرهك ولتشكره على إبقائك حياً وعدم قتلك فالخليفة رجل عطوف. أعلن إسلامك وسأكون فخوراً بك وسأفرح لأجلك وسأصبح بمثابة الأب بالنسبة لك. وأنتم يا جماعة، لقد رأيتم المهدي وخليفته ومعاملتهم فاحكوا له عن ذلك. وأنت يا شيخ حمد النيل أنت رجل متعلم وأعرف مني بالدين فحدث "عبد الله" ليعرف الله تعالى ويعرف نبيه صلى الله عليه وسلم".
    وعند نهاية محاضرتي، سألني أبو جن كم معي من المال، فقلت له لماذا، قال لي ألا تفهم؟ "الساير" يريد منك بعض المال. فقلت له عن المال الذي كان مع "حسينة" والذي أصبح تحت تصرف " الساير". فتبسم وقال لي إن "الساير" لا يريد أن يأخذ منك المال لنفسه وإنما يجعلني أعطيه المال ليأخذه لعياله "الذين يتضورون جوعاً". وبعد بضعة أيام أرسلوا في طلبي للاستماع للخطبة الساير. وهذه المرة اختتم الساير بأنه لابد أن بعضكم قد ارتكب خطأ، لأن "النبي الخضر" أخبر الخليفة بذلك وقد أمر الخليفة بزيادة القيود على كل منكم وعليكم أن تتقبلوا ذلك ولا تغضبوا من الخليفة ولكن في حالة التوبة عن الأفعال القبيحة فإن النبي الخضر سيخبر الخليفة بذلك وسيأمر بإزالة القيود المضافة. بعد ذلك توجه كل السجناء الكبار ومن بينهم أنا إلى موقع الوتد حيث تمت إضافة سلاسل جديدة إلى قيودنا الموجودة. ولكن في هذه المرة تركوني لأني كنت قد وعدت ادريس الساير أن يأخذ من مالي خمسة عشر دولار ويعطيها "عياله الذين يتضورون جوعاً" وكان ذلك بناء على نصيحة وتوصية زميلنا السجين أبو جن. وقد اجتمعنا نحن السجناء وقررنا تقديم المزيد من المال.وقد أخذنا يومين كاملين لتجميع المبلغ - خمسين دولار – التي أضفت إليها أنا سبعة عشر دولار من مالي. وقد كان لذلك النتيجة الإيجابية ليس بإزالة سلاسلنا الإضافية فقط، بل إزالة سلاسل "حسينة" أيضاً. وقام ادريس الساير بجمعنا وألقى علينا خطبة عن التوبة والسلوك الحسن ووصانا أن نستمر على هذا المنوال حيث يبدو من الشواهد أن النبي الخضر قد رضي عنا.
    ولكن النبي الخضر هذا لم يكن قد رضي عنا أبداً منذ فترة طويلة فقد كان لديه كل شهر ما يقدمه للخليفة وكانت السلاسل تضاف على قيودنا بانتظام إلى أن نقوم بإعطاء ادريس الساير بضعة دولارات للمساكين فتجعله يقدم للخليفة تقريراً إيجابياً عنا. وكانت كل هذه الأموال، كما أسلفت، تذهب إلى العرافين والمنجمين والدجالين الذين يعتقد ادريس الساير بقدراتهم الخارقة كما يذهب بعضها إلى حراس وحاشية الخليفة لتجعلهم يبقوا ادريس الساير في وظيفته.
    كان ادريس الساير يعلم جيداً أنه ما من أحد منا كان يؤمن بحكاية النبي الخضر، ولكن بما أنه ، وخارج دائرة السجناء الرئيسيين – الذين تأتي منهم الدولاارات - عادةً ما يتجمع الجهلاء والغوغاء ممن يستميتون في سبيل الخليفة، فقد ابتدع هذه القصة التي كان يرددها عاماً بعد عام بدون أي تغيير طفيف في الكلمات، لكي يخدعهم بها ويحول دون وصول أي قصص للخليفة مما قد يؤثر في انسياب الأموال التي يتحصلها من السجناء.


    حاشية:
    • "النبي الخضر شخصية مثيرة للجدل في الإسلام وقد اختلفت الطوائف في كونه نبي أم لا. ولم يرد اسمه في القرآن، وقد أورد بعض الكتاب القدماء أنه كان رفيقاً لنوح وابراهيم وموسى. ويعتقد البعض أنه خالد وموجود في أحد المناطق المقدسة لأنه شرب من ماء الخلود. أما مكان تواجده وشخصيته فقد طلت مجهولة على الدوام. وقد ضرب المهدي عصفورين بحجر واحد بتقمصه شخصية هذا النبي أولهما أن ظهوره في أم درمان يجعل منها بقعة مباركة (لأن النبي الخضر يظهر في مكان مقدس) وثانيهما أنه ومن خلال استغلاله ومع تلك القوى الخارقة التي ذكرها ادريس الساير، كان بمقدوره التأثير على أتباعه الأكثر جهلاً بأن قدراته وتنقلاته - وخليفته من بعده – كانت بفضل النبي الخضر. ولكن ادعاء المهدي لمرافقة النبي الخضر والتشبه به كان أول ما جعل الشيخ حمد النيل وغيره يتشككون في أمر المهدي ودعوته". جعفر هاشم - 19 يوليو 2017م







                  

07-19-2017, 07:47 AM

jafar hashim

تاريخ التسجيل: 04-25-2005
مجموع المشاركات: 293

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: صفحات من أيام المهدية - من مذكرات السجين ا� (Re: jafar hashim)
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de