|
Re: محاكمة جان دارك : أشهر المحاكمات السياسية في تاريخ فرنسا والعالم وأبرز أعمال الكاتب برنارد (Re: Kamel mohamad)
|
مسرحية "محاكمة جان دارك".. رائعة برتولت بريخت الرائع.
المصدر: مجلة الحياة الجديدة الثقافية
وبريخت الذي احتفلت ألمانيا بعيد ميلاده المئة منذ ثماني سنوات، كان قد رحل عن هذه الدنيا عام 1956 بعد أن هز خشبة المسرح العالمي بنظريته الملحمية التي دعمها بعدد من مسرحياته المتفوقة حتى ليمكن القول أنه ما من مسرح حديث في العالم، لم يعرض شيئاً لبريخت أو أنه لم يتأثر به. وبريخت الذي كان مؤمناً حتى الاستشهاد بالمادية الجدلية - التاريخية، تعلم من هذه الفلسفة "فكرة التجدد والتغيير التي تحولت عنده- على حد تعبير د. مكاوي إلى دعوة مستمرة للتغيير لم يفتأ يوجهها إلى قارئ شعره ويطالب بها المتفرج على مسرحياته" ومن أهم مبادئ التجديد عنده نظرية التغريب القائلة بوجوب تذكير المتفرج باستمرار أنه في المسرح القائم على التمثيل والذي لا يمكن أن يكون بديلاً عن الحياة نفسها. ولهذا كان يرسل الجوقة لترشد المشاهدين إلى حكمة المسرحية وهدفها، وتنوب عن بعض الأحداث في الإسراع بالزمن واختزال الوقائع. ولأنه كان واضح المقصد إلى حد شرح ما يريد، فقد انتبه النظام النازي إلى خطورة أفكاره ووضعه على القائمة السوداء. وبعد سقوط النازية لم يسترح برتولت بريخت، فهو وإن كان نصيراً عنيداً للاشتراكية العالمية، ظل الناقد الذي فيه يتربص بالأخطاء وبنقاط ضعف النظام الاشتراكي ولاسيما في الشأن الديمقراطي، كما أن الأنظمة الرأسمالية ظلت تناصبه العداء وتنظر إليه بعين العداوة والشك. ولم يزده هذا إلا شعبية من الجمهور العالمي الذي أقبل على قراءة قصائده ومشاهدة مسرحياته بشغف وانحياز. وهكذا تم عرض الكثير من مسرحياته عشرات المرات، ولا يوجد مهتم بالمسرح لا يعرف شيئاً عن أعمال بريخت المسرحية مثل "حياة غاليلو - الإنسان الطيب في ستاتسوان - محاكمة جان دارك - دائرة الطباشير القوقازية - السيد بونتيلا وتابعه ماتي - الأم شجاعتا وأبناؤها - الاستثناء والقاعدة - محاكمة لوكلوس - وغيرها كثير".. وعلى شهرته الكاسحة كمؤلف مسرحي، ظل بريخت مبدعاً متنوع الإنتاج. فهو شاعر كبير بالمقاييس كلها، وكاتب سيناريو، فضلاً عن موقعه المتقدم في التنظير والتعريف بالمسرح. على أن علمانية بريخت لم تضعه في خانة المبشرين أو الدعاة السذج إلى الاشتراكية. فقد كان الإنسان هو همه الأول والأخير بكل ما تتسع له الإنسانية من المشاعر والمصالح والتناقضات، وينطلق لسان حال بريخت الشاعر فيوضح في إحدى قصائده ما يريد من المسرح بالقول:"أنا كاتب مسرحيات - أعرض عليكم ما رأيته بأم عيني - شاهدت في أسواق البشر - كيف يشترى الإنسان ويباع - وهذا ما أعرضه عليكم - أنا كاتب المسرحيات". جان دارك لا تمهد المسرحية للأحداث، بل تبدأ من صلب قضية جان دارك. فخلال خريف عام 1430 قامت فرنسا - المحتلة يوم ذاك- بهجومين عنيفين لطرد الإنكليز الذين كانوا يسيطرون على ثلثي البلاد. وكانت على رأس الهجوم فتاة في السابعة عشرة من عمرها هي جان دارك التي ستتحول إلى أسطورة في بلادها وفي العالم. يمتدح الفرنسيون البسطاء، من فلاحين وحرفيين وباعة، شجاعة جان دارك، ويتهامسون حذرين بأنها وقعت في الأسر.. ومن الحوار الجاري في الأزقة، نعلم بأن الإنكليز كانوا أذكى من أن يتولوا هم محاكمة جان دارك، فهم لا يريدون تهييج الشارع الفرنسي، ولهذا يعهدون للأسقف الفرنسي كوشون بمحاكمتها دينياً، باعتبار أنها جمعت الشعب باسم أصوات الملائكة التي تخاطبها وتحثها على الجهاد. ولقد لبست ثياب الفرسان وحملت السيف. وهو ما يعتبره الإدعاء هرطقة وزندقة، فيجمع الأسقف لفيفاً من المثقفين ليقوموا بدور المحلفين والقضاة. وفيما تستعد المحكمة لأخذ أقوال جان دارك يكون الجلاد قد أعد المحرقة لها. تصمد الفتاة الباسلة للاستجواب، فيقرر الأسقف رفع الجلسة والذهاب إلى زنزانة المتهمة بدلاً من مقاضاتها أمام الجمهور وطبيعي أن تأخذ المحكمة طابعاً دينياً، باعتبار أن ملك الإنكليز هو أفضل المسيحيين على حد زعم الاحتلال أما ملك فرنسا فهو، في نظر الإدعاء، مجرد هرطوقي يدعي ما ليس له. وهناك أربع تهم موجهة إلى جان دارك: أنها حاربت يوم عطلة، وأنها حاولت الانتحار، وأنها تسببت بمقتل رجل، وأخيراً أنها تلبس ثياب الرجال. فتدحض جان دارك هذه الاتهامات، مؤكدة أنها مؤمنة، وأنها كانت تسمع أصوات الملائكة التي تحثها على مواجهة الإنكليز الذين يحتلون بلادها. وعندها يقرر إنهاء الاستجواب وإرسال ملف القضية إلى المحكمة حتى تتخذ الإجراءات النهائية. وفي التاسع من أيار (مايو) عام 1431 تجد جان دارك نفسها محاصرة في السجن، يهددها السجانون بالتعذيب. ولما كانت منقطعة عن العالم فهي تظن أن الفرنسيين قد نسوها وأنها تواجه قدرها وحيدة. ويساومها أحد المحققين - اسمه لوفيفر- على أن تقبل بمرجعية دينية وليكن ذلك اتحاد ممثلي الكنائس الذي يضم الإنكليز كما يضم ممثلين عن جماعة جان دارك، فتتساءل هذه عما إذا كان بإمكانها أن تدخل في حمى هذا الاتحاد. وساعتها يتغير موقف التحقيق، فالإنكليز لا يريدون لها مرجعاً دينياً حتى لا يحول ذلك دون الحكم. عليها ويشتد التهديد عليها حتى تتراجع عن إفادتها الأولى وتنكر أن تكون قد سمعت أصوات الملائكة. وكان ذلك يوم 24/5/1431. يسمع الجمهور بانتكاسة جان دارك أمام المحكمة، فتثور ثائرة الغضب ويقع شغب في غير مكان. وهو ما يشد من أزر الفتاة الأسيرة فتتماسك من جديد، وتلبس ملابس الرجال، مؤكدة أنها سمعت أصوات الملائكة تدعوها إلى الجهاد ضد المحتلين. ولا يتأخر رد فعل المحكمة التي تقضي بإحراقها حية فيما تصرخ هي أنهم لن يخيفوها بعد الآن، وأنهم في طريق النهاية. وبعد مرور خمسة أعوام، تنال فرنسا استقلالها وتستعيد وحدتها، ويعاد الاعتبار إلى جان دارك بوصفها بطلة فرنسا وأسطورتها. ويفسر لجرين، الشخصية الفرنسية الوطنية، أن أصوات الملائكة كانت في صف جان دارك عندما كانت لصيقة بالشعب. وأنها اهتزت عندما حال السجانون بينها وبين الشعب، فكان طبيعياً أن تستعيد قوتها عندما علمت بما حدث وتأكدت أن المحكمة ليست بمكان أكثر سوءاً من المقبرة. وعندما يصدح الشعب بأغنية الحرية التي تمجد جان دارك يقول لجرين: هذه الأغنية تسمع الآن في جميع أنحاء فرنسا. حركتان متناوبتان لم يكن برتولت يبحث عن التجديد للتجديد عندما ألغى نظام فصول المسرحية، واعتمد نظام المشاهد المتتابعة. فقد كان يريد مواجهة التناقضات بعضها ببعض. هكذا كنا نرى مشهداً يعرض لحركة الشارع وثرثرة المارة التي تعكس اهتمامات الشعب. ويلي ذلك مشهد آخر تظهر فيه جان دارك بين القضاة والجلادين. وبين هاتين الحركتين يظهر الشارع باتساعه ورمزه لدورة الحياة، وتظهر المحكمة بانغلاقها على السجن والمحكمة والغرف الضيقة. وعندما يقتادون جان دارك إلى المحرقة، فإن ذلك يكون في الشارع. وهو يؤكد ما ذهبت إليه هذه الشهيدة من أن استشهادها سيكون تحريراً لها من الخوف، فلا عجب إذا انتهت إلى الاتساع حيث تابعها وتحلق حولها الجمهور، لتتحقق نبوءتها بقرب نهاية الغزاة..و في مكان ما من المسرحية، تردد جان دارك قول المثل:"ساعد نفسك يساعدك الرب". وعندما يعلق لجرين - ضمير المسرحية ولسان حال المؤلف برتولت بريخت - على مأساة جان دارك بأن الأصوات التي تلهمها الثورة مستمدة من روح الشعب، فإنه لا يصعب علينا فهم رسالة المسرحية القائلة إن جان دارك بإصغائها إلى صوت شعبها - وهي في ذلك تساعد نفسها- قد ساعدها الرب وأيدها بالعزيمة، من خلال أصوات الملائكة، لمواجهة المحتلين. فهذه الأصوات دليلها إلى النصر. وجان دارك تقول صراحة:"إن الأصوات تقول لي إنني سأتحرر عن طريق نصر كبير". وقد يبدو من المفارق أن يكون النصر الكبير هو إحراق هذه العذراء في وضح النهار ولما تتم عامها التاسع عشر. لكن برتولت بريخت، المؤمن بالمادية التاريخية، لا يبحث عن مصالحة بين الواقع والميتافيزيقيا، بل يختبر إيمان جان دارك في أن يتحول إلى رمز من خلال صمودها بين عالم الطغاة المغلق وعالم الحرية المفتوح على المدى. لهذا لا نراها تهتم بالجلاد الذي يسخر مما وعدت به من حرية ستنالها على المحرقة. بل تردد قائلة:أنا الآن لا أخاف. وطبيعي أن تكون قد استهلكت الخوف بعد أن وصلت إلى درجة الاستشهاد. مع أنها لم تنكر أنها كانت تخاف التعذيب وما يجره من ألم، والحرق وما يجره من موت. لكنها حين وصلت إلى لحظة الإشراق، وشاهدت الموت عياناً، لم يكن يشغلها ما سيحل بجسدها المحترق، بل كانت ترى فرنسا الحرة تحتفل بحريتها الوشيكة. ولئن قال أحد المحافظين الراضين بالواقع الاستعماري إنه غير معني بتغيير نفسه، وسأل: لماذا كان علي أن أغير نفسي؟ تجيبه بائعة السمك التي تمثل جانباً من نبض الشارع:بما كان على تلك الفتاة - تقصد جان دارك- أن تخبرك لماذا كان عليك أن تغير نفسك. فجان دارك في نظر الشارع أكثر من قيمة كبيرة، إنها مقياس للتغيير المطلوب. هكذا تكون الحركتان المتعارضتان متكاملتين. فالشارع يرى ويعلق ويصنع الأحداث، والزنزانة أو المحكمة أو الغرفة المغلقة تحاول يائسة أن تخنق صوت الحرية. والرابط بين الحركتين هو صمود جان دارك التي من شأنها أن تخبر المحافظين لماذا يجب أن يتغيروا وذلك بانتقالها من المكان المغلق إلى فضاء الحرية بواقعية الاعتراف بالخوف البشري، ووجودية الوعي بأن الحرية وإن كلفت ثمناً باهظاً، إلا أنها رديفة لمعنى الحياة الحقيقي. سيظل المتعاطف مع جان دارك أو المتحايل عليها يبذل جهده لإقناعها بالعدول عن موقفها. ولن تقتنع أو تضعف إلا إذا انقطعت صلتها بالشعب. والشعب في الشارع. ولكنها ما إن تلمح ضوء الشارع حتى تسمع صوت الملاك ميخائيل. وتلك هي لحظة الخلاص. محاكمة الساقطين كما يجري في نطاق الرؤيا التاريخية، تتحول محاكم ذوي المثل العليا إلى محاكم للطغاة والساقطين. ولعل برتولت بريخت أدرى من القراء بأنه خسر عنصر المفاجأة في اختياره عرض قضية جان دارك. فالجمهور يعلم مسبقاً أن هذه الفتاة قد وحدت شعبها بأصوات الملائكة التي قالت إنها على صلة بها، وأن المحتلين الإنكليز قد أحرقوها بعد محاكمة صورية حرصوا على أن يكون قضاتها من الفرنسيين. ولكن بريخت لم يكن معنياً بقصة إثارة ومفاجأة، بقدر ما كان معنياً بمستوى يجب أن تكشف عنه المسرحية، وهو أن الأسقف الفرنسي - وهو رمز لكل من يمالئ الاحتلال- إنما كان في موقع المحكوم عليه من الجمهور والتاريخ. فقد اختير لأنه كاثوليكي مثل جان دارك وليس إنجليكانياً مثل الإنكليز. وهو فرنسي مثلها أيضاً. فالمحتلون يعدمون هذه المناضلة وهم خارج المعادلة. لكن الشعب يعي الحقيقة والأغنية تصدح في الشارع: الأسقف كوشون صار إنكليزياً ربما بدافع الإعجاب ولكن من أجل خمسة آلاف جنيه أيضاً ولما يسأل الفتى أباه عن سبب عدم قيام الإنكليز بمحاكمة جان دارك مع أنهم أعداؤها الحقيقيون. يجيب الأب: هذا الأمر يعطيه الإنكليز للفرنسيين عن طيب خاطر. ولكن هذه المغالطة المجبولة بالنفاق لا تنطلي على التاريخ. فدم جان دارك على الإنكليز، وليس الأسقف العميل إلا لعبة بأيديهم. ولن يغفر له التاريخ أنه قال:"هؤلاء الإنكليز الأغبياء لا يعرفون أي خدمة قدمتها لهم.. أن يتدخلوا في فرنسا، هذا يمكن فهمه، لكن ليس في أرواح الفرنسيين".. ولكن وصوله إلى هذه الحقيقة يأتي - كما يحدث في التاريخ- بعد فوات الأوان. فقد وضع نفسه في موقع لابد أن يحكم من خلاله على جان دارك بالإعدام حرقاً، وبالتالي ستتحول إلى شهيدة ليكون دمها وقود الثورة التي أدت إلى الحرية والاستقلال. وعندما يقول المواطنون في الشارع:أين الإنكليز؟ ليس هناك إنكليز.. فإنهم يقصدون أيضاً أنه ليس هناك من هو على شاكلة ذلك الأسقف. فقد هبت رياح الحرية وأطاحت بالمحتلين والعملاء على حد سواء. ساقط آخر في المسرحية، يظهر من موقع مختلف.. إنه الرجل الأنيق - هل نرمز له في واقعنا بالمثقف البرجوازي الصغير؟- الذي يتحدث عن النظام في معرض هجاء المجتمع. إنه نمط المتعالي المتأفف الذي لا يحتج على نسق علاقات الاستغلال والقمع والكسب غير المشروع، بل يحتج على المجتمع كله بدعوى التخلف وعدم النظام. وهذا تفضحه الفتاة اللعوب التي سبق لها أن خرجت معه. لكنه أخذ منها ما يريد ولم يعطها شيئاً. فتعلق ساخرة على شعاراته:"إنه يتحدث عن النظام.. هذا ما أحبه، لكنه لم يدفع لي الإيجار منذ أسابيع".. إن بريخت بطبيعته الانتقادية السليطة ما كان ليواجه الاحتلال، العدو الخارجي الفظ، من غير أن يسلط الأضواء على أمراض الداخل. من ضعاف نفوس عملاء كالأسقف الفرنسي، أو منافقين اجتماعيين كالرجل الأنيق.. أما الساقط الأكبر الذي يمثل في المحكمة المعنوية فهو الاحتلال نفسه، وقد تعففت المسرحية عن التشفي بالمحتلين فاكتفت بترديد الشعب لعبارات الفرح بالحرية وتأكيد أن المحتلين إلى زوال. أما مكافأة جان دارك، فهي الأغنية التي يرددها الشعب منذ زهاء ستة قرون إلى يوم الناس هذا. كلام في الصراع ترتكز الدراما على الصراع حتى ليكاد يصبح اسماً لها. وقد يندفع الصراع إلى مقدمة المشهد عندما تفرض الموضوعات ذلك. وهل من ساحة للصراع أفضل من قاعة محكمة؟.. لهذا لن نجهد للبحث في المقومات الدرامية لمسرحية جان دارك. ولكننا نتطلع إلى ما هو أبعد من طرفي معادلة واضحة لا يخطئها النظر أو الوعي. فمن جهة تقف العذراء المجاهدة جان دارك التي حرضت شعبها على الثورة ضد الاحتلال. ومن جهة ثانية يقف أعضاء المحكمة - وهم من بني جلدتها- الذين يراوغون فلا يقاضونها بالتهمة الرئيسة وهي التمرد على الاحتلال، بل بتهم دينية تبدأ بالعمل يوم العطلة وتنتهي بارتداء ملابس الرجال، مروراً بعصيان الخالق من خلال محاولة الانتحار، ولا يخلو الأمر من تهمة جنائية تتعلق بقتل أحد الرجال. و لا يبدو الوضع الدرامي معقداً في هذا المجال، فالضدان واضحان، وإن كانت مهمة المسرحية أن تسبر غور الحقيقة فتصل إلى ما هو أبعد من أسباب الاتهام. وهو ما يعلمه القارئ والمشاهد معاً. لكن مسار المسرحية بمشاهدها الستة عشر، يشف عن وجوه للصراع تتخلل كل صفحة، وتعصف بكل شخصية. ولا خوف على الجمهور من التشتت أو صرف النظر عن جوهر القضية. فالقضية واحدة تتعلق بالعدل. وإذا كان العدل يتمحور في المسرحية حول الحرية التي يكبحها الاحتلال وتستشهد من أجلها داعية الاستقلال، فإنه يأخذ أشكالاً مختلفة من التعبير والإيحاء حسب الشخصيات التي تتداولها المسرحية. وقد لا نحتاج إلى التوغل في الشخصيات المضادة. أعني الإدعاء العام والقضاة والمحلفين والأسقف. فهؤلاء حسموا أمرهم حتى تحولوا، بالمعنى الدرامي العام، إلى شخصية واحدة، وإن كان هناك تفاوت فيما بينهم فحسب الموقع، ولكن غايتهم واحدة هي إدانة جان دارك. لهذا لا يكاد يعلق اسم واحد من هؤلاء بالذاكرة، كما أن كلامهم متشابه إلى درجة أننا نستطيع أن ننسب قول أي منهم إلى الآخر. وليس هذا مصادفة في تقديري، بل إن برتولت بريخت يريد الإشارة إلى أن منطق الطغاة فقير وخطابهم واحد، لا بمعنى أنه متماسك ولكن بواقع أنه محدود. وقد يتميز الأسقف شيئاً عن هذا الطاقم، لكنه تميز بالحيثية لا بالمنطق. فهو - كما قالت الأغنية المعارضة- أصبح إنكليزياً لقاء المال. ومع ذلك ففي قلبه مرارة من أن الأعداء لم يقدروا خدمته لهم حق قدرها. وأما بقية الطاقم فيتراوحون بين من يهدد جان دارك وبين من يمنيها بالنجاة، ولكنهم يصبون جميعاً في مجرى واحد. على النقيض من ذلك نرى في الشعب نماذج وأمزجة مختلفة، وإذا كان الشعب بمجمله يتعاطف مع جان دارك، أي أنه يلتقي عند نقطة معينة، فإن هذا لا يعني أنه لا توجد تباينات في الآراء وفي طرق التعبير عن تلك الآراء. هناك مثلاً بائع السمك، وصاحب الحانة، والفلاح، والدكتور، والفتاة اللعوب، والسيد الأنيق. وهؤلاء جميعاً نراهم في الشارع بما هو رمز لسيرورة الحياة. وبحكم تباين آرائهم فإنهم شخصيات مستقلة نميز الواحد منها بما يقول ويعمل. وهم منقسمون إلى نوعين من الشخصيات، فالقسم الأول والأعظم بلا أسماء، والمهنة تدل على صاحبها: دكتور، تاجر خمور.. إلخ، أما القسم الثاني فيمكن أن يحظى باسم شخصي مثل جاك لجرين والجد بروييه فضلاً عن جان دارك نفسها. ولا يشكو بريخت من ندرة الأسماء في قاموسه أو ذاكرته، ولكنه يقصد القول إن المتنفذين حتى لو كانوا مسطحين محدودين، يملكون حق الشهرة والإشهار، أما المواطنون العاديون فمعظمهم نكرات بلا أسماء، مع أنهم بمجموعهم محركون للتاريخ. إذا أضفنا إلى ما سبق، ما بدأنا من الإشارة إلى حركتين تتقاسمان إيقاع المسرحية، فإننا نرى هاتين الحركتين حاملتين للصراع في هذه الدراما. فحركة الاتساع التي تمثل الشارع تمثل التعدد كمرآة للمجتمع، وحركة الانغلاق تمثل الأنموذج المتفرد الذي لا يمكن أن يكون مبدعاً. وهكذا يكون بريخت قد تناول الصراع من الجذور والعمق ليس بتوزيع قسائم المهام على الشخصيات. ثم إن أي صراع يؤدي إلى نتائج، وقد سهر بريخت على صراع جان دارك وفرنسا من جهة، والإنكليز من جهة ثانية، وصولاً إلى ما حلمت به تلك العذراء الشهيدة من نصر وتحقيق للحرية. التاريخ والأسطورة سمعت باسم جان دارك لأول مرة وأنا دون العاشرة. ولم تكن فتاة شهيدة بل بارجة فرنسية عندما شاع أن فريقاً من الفدائيين المصريين بينهم البطل السوري جول جمال قد فجروا بارجة فرنسية كانت تشارك في العدوان الثلاثي على بورسعيد. واسم هذه البارجة جان دارك. وبغض النظر عن حقيقة ما حدث فإن ما يعنينا هو أن هذا الاسم الذي كان لفتاة تعرضت للمحاكمة والحرق بلا رحمة، أصبح رمزاً تاريخياً تفخر به فرنسا العريقة وتسبغه حتى على قطعة نوعية في سلاحها المركزي. ولقد رأيت جان دارك في مسرحية من تأليف جورج برنارد شو على الخشبة في دمشق، ناهيك عن الأفلام السينمائية التي كرمتها، وقد يكون أشهرها الفيلم الذي قامت بدور جان دارك فيه الممثلة المبهرة أنجريد برغمان. ولكن مجمل هذا التكريم يصب في صالح خدمة الصورة المثالية للبطلة الوطنية، وإن كان شكسبير الإنكليزي لم يعجبه ذلك، فتعامل مع اسم غير مشهور هو جان لوسيل (وجان لوسيل هي نفسها دان دارك) ليتخلص من سطوة اسمها. إذ أنه، حتى لو كان شكسبير شخصياً، يظل أعجز من أن ينتقص من الهالة المشعة من اسم البطلة التي أسهمت في تحرير بلادها من المستعمر الإنكليزي. ولكن بموازاة هذا الاهتمام التاريخي بهذه الشخصية التاريخية، كانت هناك محاولات لتصويرها فتاة ممسوسة تتوهم رؤية الملائكة، بل ذهب الإنجليز وعملاؤهم إلى الطعن في عذريتها، باعتبار العذرية علامة شديدة الأهمية عندما يتعلق الأمر بالدين. ولعل برتولت بريخت هو أول من عالج هذا الإشكال بوضوح ومن غير ارتباك. فقد أشار هذا الكاتب الماركسي إلى الملائكة التي كانت تصدر أصواتها إلى جان دارك. لكنه، من جهة ثانية قدمها إنسانة طبيعية، تخاف وتنتكس وتتماسك وتعاند. إنها شابة في التاسعة عشرة من العمر لا أكثر، وقد راعى أن تكون أجوبتها مناسبة لعمرها مع الأخذ بعين الاعتبار ما تتميز به من ذكاء وسرعة بديهة. وبالعودة إلى أصوات الملائكة فقد تعامل بريخت مع هذه الإشارة إلى أنها تنبع من الإنسان أساساً، وقد عمد إلى شرح ذلك على لسان لجرين الذي قال إن الأصوات كانت تأتي إلى مسامع جان دارك عندما كان الشعب قد نسيها. ولكنها عندما استعادت ثقتها بوطنها وشعبها، وجدت نفسها تسمع أصوات الملائكة من جديد. ولهذه الملائكة مهمة محددة: التحريض على الثورة ضد الاحتلال. ولم يكتف بريشت بتثبيت فهمه لطبيعة قداسة هذه الشهيدة، بل حرص على تقديم شخصيتها من خلال جموع الشعب وكيفية قراءتهم لنضالها واستشهادها فضلاً عن إيمانها. أما وقائع المحاكمة فقد تخيلها كما يمكن أن تحدث. إن الأسقف معني بجر القضية إلى المستوى الديني حتى تظهر جان دارك زنديقة هرطوقية، أما هي فلم تتنازل عن أن تلك قضية وطنية، وأن المشكلة الحقيقية ليس في لباسها بل في وجود المحتلين. وفي ختام المسرحية تصدح الأغنية بدلاً من قرع الأجراس أو تراتيل الترنيمات، بمعنى أن استمرار جان دارك في التاريخ ذو طبيعة وطنية وإن كان الشعب يفرح بأن تنال بطلته حظوة روحية. فالقضية الروحية، في آخر اعتبار، هي قضية معنوية أيضاً. وبهذا يمكن القول إن بريشت أعطى لقيصر مالقيصر وأعطى ما لله لله. فهي قديسة عند المؤمنين، بطلة وطنية عند قراء التاريخ. بنية المسرحية ما كان ممكناً لمن يتعرض لمسرح بريشت، ألا يقف عند مسرحه الملحمي. وقد أشرت إلى أنه، في هذه المسرحية تحديداً، لم يتقيد بالركائز التي وضعها للمسرح الملحمي، وإن كان الإخراج يمكن أن يعيدها إلى مواقعها حتى تكون مسرحية برختية بامتياز. فبدلاً من الجوقة التي يعول عليها بريخت كثيراً في التعليق على الأحداث، ترك الفلاحات يغنين، وجمهور الشارع ينشد، ولجرين يعلق التعليق الأخير الهام على علاقة جان دارك بالملائكة. وفي المسرح الملحمي يشتبك الممثلون مع الجمهور، وفق ما يسمى بهدم الجدار الرابع، وإذا لم يعتمد بريخت هذا الإجراء في النص، فإن عينه كانت على الجمهور دائماً، ولاسيما في العناوين الفرعية التي كان يضع واحداً منها لكل مشهد، شارحاً ما سيحدث، مؤكداً بذلك نظريته في التغريب حيث ينتبه المتفرج إلى أنه يشاهد مسرحاً ولا ينسى أن الحياة لها قوانينها ووطأتها وأن عليه المقارنة بين ما يرى في الحياة وما يرى على الخشبة. والجملة الأخيرة في المسرحية تقول: هذه الأغنية تسمع الآن في جميع أنحاء فرنسا والواقع أنه مع أن لجرين هو الذي يقولها، إلا أن المقصود أن يأخذ لجرين دور الجوقة التي تخاطب الجمهور في كل زمان ومكان. فكلمة الآن لا تتوقف عند القرن الخامس عشر بل تنطبق على أيامنا، لا لتوثين جان دارك أو تحويلها إلى طوطم، بل للنهوض بها رمزاً يقتدي به المناضلون من أجل حرية الأوطان على امتداد الزمن. بهذا المعنى أفسر لنفسي دوافعي الواعية واللاواعية لاختيار هذه المسرحية في أربعاء فلسطيني مليء بالأحداث، فأرى جان دارك بيننا بطبيعتها الوطنية الفلسطينية. ولن يتمكن الاحتلال من التشويش على الأصوات التي تملأ مسامع روحها.. وعلى هذا فقد نجح بريخت مرتين: مرة بكتابة مسرحية رائعة، ومرة بتوجيه رسالة تضامن مع المعذبين في الأرض وشهداء الحرية.
| |
|
|
|
|
|
|
|