محاكمة جان دارك : أشهر المحاكمات السياسية في تاريخ فرنسا والعالم وأبرز أعمال الكاتب برنارد شو

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 03:14 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-28-2006, 02:50 AM

Kamel mohamad
<aKamel mohamad
تاريخ التسجيل: 01-27-2005
مجموع المشاركات: 3181

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
محاكمة جان دارك : أشهر المحاكمات السياسية في تاريخ فرنسا والعالم وأبرز أعمال الكاتب برنارد شو

    محاكمة جان دارك : أشهر المحاكمات السياسية في تاريخ فرنسا والعالم وأبرز أعمال الكاتب برنارد شو.



    المصدر: كتاب الترجمة العربية لأعمال الكاتب المسرحي والأديب الأيرلندي الساخر برنارد شو

    وتعد جان دارك من أبرز أعماله علي الإطلاق.

    و


    من كتاب أصول المرافعات الجنائية



    نص المحاكمة:




    نحن الان في 21 شباط – فبراير من عام 1431 . في ذلك اليوم ، وفي قاعة باردة من قصر روان ، حيث جلس بشكل نصف دائري خمسة واربعون من رجال الكنيسة بدأت محاكمة جان دراك في مركز الدائرة ، وعلى كرسي صغير جلست المتهمة " الساحرة " مكبلة بالاصفاد - امام هؤلاء الرجال . افتتح الكاهن كوشون المحاكمة بسيل من المتهم صبها على رأس المسكينة وتتراوح بين الشعوذة والفجور . والواقع ان احداً من الحضور لم يكن مخدوعاً بحقيقة الامر . فالتهم التي ذكرت ليست سوى تغطية لما هو أدهى وأكثر خطرا على البعض . لقد طردت جان داراك هذه الانكليزية من اورليان عام 1492 . وبعد شهرين توجت ولي العهد ملكاً على فرنسا تحت اسم شارل السابع مكان الملك الانجليزي هنري السادس .


    هذا هو سبب محاكمة " الساحرة " وهذا هو ايضاً سبب محاكمتها في روان ، التي تعتبر عاصمة الانكليز في فرنسا ، ومن قبل جماعة تعتبر عملية لانكلترا .

    عندما طلب منها رئيس المحكمة كوشون ان تقسم على الانجيل بأن تقول الحقيقة في اجابتها عن اسئلة القضاء ، رفضت ان تقسم الا على ما يتعلق ، في هذه الاجابات ، بها وبعائلتها اما فيما يختص بالامور الاخرى ، كالوحى الذي ينزل عليها وينير خطواتها من وقت لاخر ، فقد اجابت بتصميم انها لن تفصح عنه الا لملكها شارل السابع ، حتى ولو كلفها رفضها هذا حياتها .
    لم يفد اصرار رئيس المحكمة امام ثبات موقف جان . وعندما سألها ان تذكر اسمها والقابها ومكان ولادتها ، اجابت بكل هدوء ان اسمها جان وانها ولدت في دومريمي من أب فلاح وام علمتها الخياطه والحياكة ، اما الالقاب ، فليس لها شئ منها وقد انتهزتها فرصة لتذكر مآسي قريتها مع الجنود الانكليز الذين كثيراً ما كانوا يقومون بأعمال النهب والسلب والحرق فيها ، مما كان يدفع أهلها للنزوح والالتجاء الى اماكن اخرى مجاورة .
    لم يرق للرئيس ، لكنه احتوى الانفعال . بعدها ، سألها :
    - مم تشكين ؟
    - من الاغلال التي تقيد رجلي
    - هذه الاغلال وضعت لانك حاولت الهرب من السجن
    - هذا طبيعي . فكل سجين يتمنى الهرب .
    هنا انتقل الرئيس الى موضوع اخر وسأل المتهمة :
    - متى بدأت بسماع الاصوات الخفية او ما تسميه الوحي ؟
    - منذ سن الثالثة عشرة وكنت عندها في حديقة البيت ظهر احد الايام ، انه صوت آت من عند الله لهدايتي الى الطريق القويم.
    - باي شكل ظهر عليك هذا الصوت ؟
    - لن أعطي جواباً عن هذا السؤال . كل ما يمكنني قوله هو أن الصوت أمرني بالتوجه الى اورليان لتحريرها من الانكليز وتتويج ملك فرنسا عليها .
    - هل استقبلك الملك بسهولة ؟
    - نعم
    - لماذا ؟
    - لان الملك ، هو ايضاً ، لديه بعض الايحاءات .
    - كيف ؟
    - لا يمكنني الاجابة يمكنك ان تذهب عنده وتسأله .

    هنا رفع الرئيس الجلسة لتعقد يوم السبت في 24 شباط فبراير وفي ذلك اليوم ايضاً حاول الرئيس كوشون مرة اخرى ان ينتزع من جان داراك ما عجز عن انتزاعه منها في السابق وهو ان تقسم على ان تقول كل شئ بما في ذلك حقيقة مصدر الوحي واسراره ولكن اصرار جان داراك على موقفها الرافض عمق لديه الخيبة ، وهذا الاصرار على ان علاقتها بربها هي علاقة مباشرة ولا تمر بأي وسيط والكنيسة وسيط جعل الفتاه تقع في الفخ الذي نصبه لها كوشون . هنا وبعد نجاح خطته ، أعطى الرئيس الكلام لعضو المحكمة جان بوبير ، الذي بدأ باستجوابها بما يلي :

    - متى سمعت هذا الصوت اخر مرة ؟
    - سمعته البارحة واليوم .
    - في أية ساعة ؟
    - سمعته ثلاث مرات ، صباحاً وظهراً ووقت القادس .
    - ماذا كنت تفعلين البارحة عندما اتاك الصوت ؟
    - كنت نائمة ، والصوت هو الذي ايقظني .
    - كيف ؟ بهز الذراع ؟
    - ايقظني دون ان يلمسني .
    - هل كان الصوت في غرفتك ؟
    - كلا ، كان في القصر .
    - هل شكرت الصوت وركعت على ركبتبك ؟
    - نعم . وطلبت منه ان يساعدني . والان ، يطلب مني هو ان أكون شجاعة .
    وهنا ، التفتت الى كوشون ، كما لو كانت تنفذ ما طلب منها الصوت في شجاعة ، وقالت له :
    - احذرك ، انت من تقول انك حاكمي ، مما تفعل . أنا مرسلة من الرب فتنبه للخطر ....
    كان من الممكن ان يكفهر جو المحكمة لهذا التهديد يصدر بوجه الرئيس من فتاة بسيطة كجان دراك ، لولا أن احتواه كوشون على مضض ، ولولا ان تدخل بوبير على الفور قائلاً لها :
    - وهل تعتقدين أن قول الحقيقة يغضب الله ؟
    لم تعر جان أي اهتمام للسؤال ، بل أكلمت :
    - لقد أوصاني الصوت ان أبوح به للملك دون سواه . وهذه الليله بالذات ، كلفني برسالة له على قدر كبير من الاهمية بالنسبة اليه . واريد ان تصل اليه .
    - الا يمكنك اقناع صاحب الصوت ان ينقل الرسالة بنفسه الى الملك ؟
    - لا أعرف . فهذا يتعلق بارادة الرب .
    - هنا ، بدأ بوبير يفقد صبره :
    - أليس لهذا الصوت وجه وعيون ؟
    - لن أقول لك شيئاً من هذا .
    - اتعتقدين انك تحت رحمة الرب ؟
    - ان لم أكن كذلك ، فالرب يحيطني بها ، وان كنت ، فهو يديمها علي .

    لقد أدهش الجواب الحضور ، وجلهم من كبار اللاهوتيين . وهذا الجواب ، بجرأته وعمقه وصفائه ، أعطى برهاناُ اخر على ان هذه الفتاه تنعم بسر الهي خارق .
    لكن المحكمة معقوده ، لا لتظهر اعجابها ودهشتها ، بل لتحاكم جان دراك بتهمة الشعوذة لذلك ، كان لا بد من تبديد ما علق في الاذهان من ايجابيات للفتاة ، وهذا ما فعله كوشون عندما رفع الجلسة .
    ولما عادت المحكمة والتأمت ، كان لا بد من محو الانطباع السابق المتألق في أذهان الحضور ، هذه المهمه اخذها بوبير على عاتقه :
    - هل كنت تلعبين مع اولاد قريتك وترعين معهم القطعان ؟
    - نعم . عندما كنت صغيره .
    - هل تعرفين شجرة الجن ؟
    - نعم . وكنت اذهب اليها احياناً مع بعض بنات القريه . لكني لم اجد ايه جنية . كما اني لا اومن بوجود الجن .
    - هنا ايضاً ، لم يوفق بوبير في الايقاع بالفتاه المسكينة .
    - هل تودين يا جان لبس ثوب امرأه ؟
    - لا مانع لدي ، على الرغم من أن ما البسه يعجبني لان الرب لم يعترض عليه .
    لقد قصد بوبير ان يبرز جريمة جان ، كما كان ينظر الى انذاك ، يلفت انتباه المحكمة الى ما تلبسه جان وهو بزة عسكرية يلبسها المحاربون ، دون سواهم .
    - هل ينبعث امامك نور عندما يتحدث اليك الصوت ؟
    - نور وهاج !

    هذه الجرأة ، تبديها فتاه بسيطه امام محكمة بهذه الضخامة وذاك المقام ، كلفت جان اجراءات مشددة في سجنها فيوم السبت في 17 اذار – مارس 1431 ، كان قد مضى عليها اسبوع كامل دون ان تخرج من زنزانتها . واذا ما أضيف هذا التشدد الى اجراءات اخرى عرفنا مدى ما تركه موقفها من اثر سئ في نفوس حاكميها . لقد نقلت الى سجن علماني يحرسه جنود انكليز . ومعروف كم حاربت دارك الانكليز . وهذا مخالف للقانون الذي يفرض على من يحاكم كنيسة ان يحجز في سجن كنسي . يضاف الى ذلك ان يجب ان تكون في سجن نسائي ومحروسة من قبل حراس من النساء . ومما يبرز التحيز ، هو انه لم يعين محام للدفاع عنها . ناهيك عن ان اتعاب هيئة المحكمة كانت على عاتق الانكليز دون سواهم . والفضيحة الكبرى في هذه القضية هي ان المحكمة أعلنت ، منذ انعقادها في الجلسة الاولى ، ان جان ستسلم الى الانكليز لتحاكم من قبلهم ، اذا ما قررت المحكمة تبرأتها . كل هذا يعني بوضوح ان المحاكمة برمتها ليست سوى تمثيله يراد بها تغطية الحقيقة وهي مطالبة الانكليز لرأس من اقسمت على اخراجهم من فرنسا .
    الجلسه الان تعقد في زنزانة السجينة . وفيها تولى جان دي لافونتين الاستجواب مكان بوبير :

    - هل لك ان تقيمي حبك للكنيسة وخدماتك لها ؟
    - أحب الكنيسة واتفانى في دعمها بكل ما اوتيت من قوة ، وأود لو تسمحون لي بحضور القداديس . اما اعمالي ، فأترك لرب السماء تقييمها ، الرب الذي ارسلني الى شارل ، الملك الحقيقي لفرنسا ، وبالمناسبة أقول لكم ان الفرنسيين سينتصرون على الانكليز في معركة حاسمة . تذكروا اني قلت لكم ذلك يوماً .
    - هل تقبلين حكم الكنيسة مهما كان ؟
    - انا اقبل بحكم الرب . ولما كان الرب والكنيسة واحداً ، فلماذا نوقع انفسنا في متاهات السؤوال؟
    - هناك كنيسة مظفرة يذوب فيها الرب والقديسون والملائكة . وهناك كنيسة ملتزمة تشمل البابا والكرادلة والاساقفة . هذه الكنيسة معصومة عن اي خطأ لانها بأمره الروح القدس فهل تنصاعين للكنيسة الملتزمة ، الكنيسة الارضية ؟

    سؤال محرج . هل ترد بالسلب وتعتبر خارجة على الكنيسة وتحاكم على هذا الاساس ؟
    لقد فهمت المأزق . لكنها اختارت طريقها منذ وقت طويل .

    - لقد أرسلت الى ملك فرنسا من قبل الرب . والى الرب اقدم حساب ما فعلت وما سافعل .
    - هل تقبلين بالافصاح عما رفضت الافصاح عنه امام قداسة البابا ؟
    - بالتأكيد . خذوني امامه وسأقول له كل شيء.
    كان الجواب واضحاً ومحكماً . لكن المرسوم هو ان تقاد جان دارك امام الانكليز وليس امام البابا . وهذا السؤال يدل على النية المبيته من قبل لافونتين :
    - هل يكره الرب الانكليز ؟
    - لا أعلم مشاعر الرب اتجاه الانجليز كل ما اعرفه هو انهم سيطردون من فرنسا ، باستثناء من سيموت منهم على ارضها .
    - من دفعك الرسم ملائكة بأذرع وأرجل وثياب ؟ هلى يظهرون عليك على هذه الصورة ؟
    - هكذا هم مرسومون في الكنيسة .
    - لماذا هم اثنان فقط ؟
    - لان رايه الجيش المهاجم للانجليز يقودها الرب بواسطة القديسة كاترين والقديسة مارغريت . اللتين قالتا لي : " تسلمي انت هذه الرايه باسم رب السماء " ؟
    - هل يعتمد الامل في النصر على الراية او عليك بالذات ؟
    - انه يعتمد على الرب .
    - لماذا كانت رايتك وحدك حاضرة عند تنصيب الملك وليست رايه سائر القواد ؟
    - لانها هي التي جاهدت . فهي اذا التي تستحق هذا التكريم .
    - هل تقبلين خلع لباسك العسكري ولبس ثوب نسائي للذهاب الى القداس ؟
    - اقبل . ولكني سأعيد بزتي العسكري واعود الى الجهاد حالما اخرج من الكنيسة .

    هنا ، وقد اخذ الضيق مأخذه في نفس رئيس المحكمة ، أمر برفع الجلسة . وما هي الا لحظات حتى رأت جان دارك نفسها ثانية في زنزانتها وجهاً لوجه امام حراسها الانكليز .

    ثلاثة اشهر مرت والفتاة حبيسة الزنزانة . ثلاثة اشهر عاشت فيها بعذاب نفسي وجسدي فلما أصاب سجيناً اخر . ومع ذلك ، فانها لم تركع . ولما كان يقتضي الانتهاء من هذه القضية خوفاً من تفاقمها وانعكاساتها ، فقد قررت جامعة باريس ، الملتئمة بكامل هيئتها في 15 ايار- ما يو 1431 ، ان تتبنى لائحة من اثنى عشر اتهامياً رئيساً. هذه اللائحة قدمت من قبل كوشون نفسه مرفقه بكتاب من ملك انكلترا . جميع هؤلاء وجهوا الى جان داراك تهمة الشعوذة والهرتقة والوثنية ، كما وجهوا اليها تهمة قتل الانكليز والتعطش للدم المسيحي .

    وفي 23 ايار مايو ، طلب من المتهمة العودة عن " اخطائها وتصرفاتها المشينة " لكنها رفضت باصرار " حتى ولو رات النار التي سيحرقونها بها تشتعل " .

    24 ايار – مايو في هذا اليوم كان كل شئ قد هي للحكم وللتنفيذ . الحكم بالموت حرقاً . واستكمالاً لفصول المهزلة ، دعي الناس لحضور الجريمة . وعلى رأس هؤلاء ، ملك انكلترا الحقيقي ، اسقف ونشستر وهيئة المحكمة . ومقابل المنصة الرئيسية ، منصة الشرف ، وقفت جان داراك .

    بدأ " الاحتفال " بخطاب القاه في وجه المتهمة المحامي غليوم ، صديق كوشون الشخصي :
    - جان انت ساحرة ومهرتقة وخارجة على الكنيسة . وملكك الذي اراد استرجاع ملكه بواسطة امرأة هو ، في الواقع ، مثيلك . ثم أكمل بلهجة أكثر ليونة :
    - انا ارثي لحالك . عودي عن اقوالك والا ، فان الحكم سيكون قاسياً عليك .
    - انك تتعب نفسك كثيراً لتثني عن عزمى ولتحضني على انكار الحق .
    هنا ، انبرى جاك كالو ، سكرتير ملك انجلترا ، وأخرج من كم سترته ورقة سطر عليها عليها بضعة أسطر ، هي الدليل على ان كل شئ قد هيء مسبقاً، صرخ غليوم ملتفتاً نحو جان :

    - وقعي على هذه الورقة والا فانك ستنتهين الى النار .

    أذعنت جان بصوت ضعيف . لكن مفاجأة غير متوقعة حصلت . فقد ثار الانكليز الموجودون في المنصة على الرئيس كوشون نفسه وسائر اعضاء المحكمة متهمين اياهم بنقض الاتفاقية والخيانة: لقد اعتبروا ان الورقة التي عرضت على جان دراك للتوقيع ستؤدي ، عند توقيعها ، الى تبرئة المتهمة وعدم تسليمها الى الانكليز . ماذا كانت تحوي هذه الورقة التي وقعتها الفتاه المسكينة بعد ان شنت عليها حرب نفسية رهيبة ؟ انها اعترف منها بالشعوذة ونكران لسماعها صوت الرب كما انها تعهدت بالامتناع عن لبس الثياب العسكرية . أما كوشون ، العميل الامين الاسياده الانكليز ، فقد سارع ، عندما ثارت ثائرة هؤلاء الاسياد ، الى تطمينهم ، وامعاناً في ذلك فقد عجل في اصدار حكمه على جان داراك : السجن مدى الحياة على الخبز والماء لتغسيل خطاياها ولتكف عن اقتراف غيرها .

    امتقع لون المسكينة عند سماعها الحكم وعرفت انها وقعت في الفخ الذي نصب لها ، فتوقيعها على الوثيقة لم يكن الهدف منه سوى اهانتها وهدر كرامتها ، لانقاذها ، كما ذكر امامها.

    اما الانكليز فقد ظلوا على انفعالهم . صحيح ان جان دراك ستمضي بقية ايامها في السجن ، لكن الصحيح ايضاً هي انها ستبقى حية ، في حين دبروا ما دبروا ودفعوا ما دفعوا لتنتهي عدوتهم الى النار وليتخلصوا منها الى الابد .

    عادت جان دراك الى زنزانتها لتلبس ، كما تعهدت ، لباس امرأه لكن ، لم تمض سوى ثلاثة ايام حتى شوهدت تعود الى لبس الزي العسكري . فما الذي حدث حتى تنقض السجينة تعهدها ؟ الامر غاية في البساطة ، لقد امرها سجانها الانكليز بذلك بقصد اعادتها الى محاكمة جديدة وبالتالي ، اصدار الحكم بحرقها حية .وهكذا وفي اليوم الرابع للمحاكمة الاول، بعد يوم واحد من نقضها القسري لتعهدها ، عادت المسكينة لتواجه المحكمة والمصير المرسوم ، جرت المحاكمة – المهزلة وحكم على جان دراك بالاعدام حرقاً ، ورضي الانكليز .

    خمسة وعشرون عاما مرت على موت جان دراك ففي 7 تموز سنة 1456 ، كان اناس كثيرون يتجمهرون في باحة قصر روان ليستمعوا خاشعين الى حكم اخر يقضي ، هذه المرة باعادة اعتبار الشهيدة . كبار رجال الكنيسة في باريس وريمس وكوتانس ومعهم شقيق جان دراك التأموا في اجتماع تاريخي ليعلن كاهن ريمس ياسمهم ما يلي .

    " نعلن باسم الرب ، الحسيب الوحيد على اعمالنا ، ان المحاكمة التي ذهبت جان داراك ضحية انحرافها وعمالتها ، باطلة ، وان الحكم الصادر عنها هو ايضا باطل كما نعلن ان جميع الاتهامات بالشعوذه والهرتقة الموجهة الى الشهيدة باطلة ، هي الاخرى لذلك فاننا نحكم بالغائها جميعاً " .

    ما ان انتهى الكاهن من قراءة وثيقة البراءة ، حتى ظهرت علامات الرضى على وجوه الحضور وهمهمات الموافقة على شفاههم . وامعاناً في التكريم ، توجه الجميع الى مقبرة سان
    - اوين ، حيث انتزع، احتيالاً اعتراف جان دراك بالشعوذه وانكارها لسماع صوت الرب . وهناك قرأ كاهن ريمس حكم البراءة ثانية على مسمع من الحضور . وقد تكرس هذا الحكم من قبل البابا نفسه .

    كان هذا تتويجاً لجهود دامت سبع سنوات ، سبع سنوات مليئة باجراءات باعادة محاكمة شاقة ومثيرة . اعيد النظر بكل الوثائق . فندت كل الاقوال ودحضت جميعاً . وقد اشرف على هذه العملية كبار القضاة ورجال القانون من الملك شارل السابع ، ملك جان دراك ، الذي تنبأت المسكينة بانتصاره على الانكليز وبعودته الى عرش بلاده . وقد صدقت النبوءة .

    وهكذا انتهت اول محاكمة سياسية في تاريخ فرنسا . كانت محاكمة مثيرة اظهرت بوضوح ما يمكن ان تؤدي اليه عمالة ضعاف النفوس . ان جان دارك اصبحت بطلة وطنية ويطلق اسمها على الساحات والشوارع والمؤسسات في فرنسا وخارجها ، لكن الصحيح ايضاً هو انها ماتت حرقاً ، وهذا المصير ، لمجرد تخيله ، رهيب فكيف به عند المنفذ به ؟ واذا كان من عبره لهذا القضية برمتها ، فهي ان الحق هو المنتصر الاخير في الجولة الاخيرة ذاك هو منطق الامور . ولكن ... كم من الضحايا تسقط وكم من الرؤوس تتدحرج قبل ان تصل الامور الى نهاية منطقها او ، بالاخرى الى منطق نهايتها ؟ قد تكون التضحية بالذات هي القربان الامثل الذي يقدمه المرء لاحقاق حق او لابراز حقيقة . وهذا في نظر الكثيرين ، قمة العطاء .






    (عدل بواسطة Kamel mohamad on 11-09-2006, 11:12 AM)

                  

08-28-2006, 06:04 PM

Kamel mohamad
<aKamel mohamad
تاريخ التسجيل: 01-27-2005
مجموع المشاركات: 3181

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محاكمة جان دارك : أشهر المحاكمات السياسية في تاريخ فرنسا والعالم وأبرز أعمال الكاتب برنارد (Re: Kamel mohamad)

    محاكمة سقراط:


    المصدر:
    من كتاب اشهر المحاكمات.



    خمسمائة قاض وقاض جلسوا ، الواحد بجانب الاخر ، على المدرج ذي المقاعد الخشبية المغطاه بالحصر ، وفي مواجهتهم ، رئيس المحكمة محاطاً بكاتبه والحرس . وفي اسفل المدرج وضع الصندوق الذي سيضع فيه القضاه احكامهم بعد انتهاء المحاكمة . الجلسة علنيه . ولا يسمح فيها لغير الرجال بالحضور . اما الطقس ، فقد كان جميلاً ، مما ادخل الارتياح الى نفوس الجميع وجعلهم يأملون بجلسة كاملة لا يربك مجراها مطر يهطل على الرؤوس او برد يعطل تواصل الافكار . واذا بدا لنا ان انعقاد محكمة في الهواء الطلق امر مستغرب بل وطريف ، اليوم ، فلنتذكر اننا في اثينا ، في صباح من اصبحة ربيع عام 399 قبل الميلاد .

    اثينا هذه التي قدمت الديمقراطية للعالم ، تعيش فترة عصيبة ، لقد هزمتها سبارطة في حرب دامت بينهما سبعاً وعشرين سنة ، وفرضت عليها شروطاً قاسية . منها نظام "الثلاثين مستبداً " بقيادة احد ابنائها ، كرينياس ، الذي تخلص منه الاثنيون منذ وقت ليس ببعيد . في هذا الجو من القنوط الوطني . كثرت الاحقاد وتعددت حوادث تصفية الحسابات لكن العدالة ظلت تعمل والقضاة في اثينا ، وعددهم ستة الاف ، مواطنون متطوعون يجري اخبارهم سنوياً بشكل عشوائي . وهم يوزعون ، بعد الاختيار، في اثنتي عشرة محكمة في كل واحدة منها خمسمائة قاض وقاض .

    متهم اليوم شيخ ذو لحية بيضاء وثياب رثة . انه ابن النحات سوفرونيسك والقابلة فيلا ريت وهو الملقب بسقراط . لكن ما هي التهمة التي سيحاكم اليوم على اساسها؟ لقد اتهمه احد المواطنين ، ويدعى مليتوس ، بالكفر بالالهه وبادخال شياطين جديدة الى المدينة وافساد الشبية . وهي تهمة تستحق عقوبة الموت . ومن هو سقراط هذا ؟ انه رجل بلغ السبعين من عمره ، قبيح المنظر بعينية الجاحظين وانفعه الافطس ووجهة الممتلئ ناهيك عن ثيابه المهملة والمكونة من معطف صوفي لا ازرار له ولا حزام . وفوق كل ذلك ، فأنه لا يمشي الا حافي القدمين ، في الصيف كما في الشتاء . ولد سقراط في اثينا عام 469 ق .م في عائلة تعمل في النحت وعبثاً حاول ابواه تعليمه المهنة . كان لا يميل الا للحوار ومناقشة الاخرين حول مختلف المواضيع داعياً اياهم الى التفكير معه والتأمل . كان يجوب المدينة يتحدث الى المار ويستوقف الشباب يفقههم في امور الوجود وجوانب الحياة . واثينا في ذلك العصر من الديمقراطية ، كانت تعج بالفلاسفة ورجال السياسة والاخلاق يسعى الناس اليهم عنهم اصول الفكر وكان هؤلاء يتقاضون عن تعليمهم اتعاباً باهظة في معظم الاحيان . اما سقراط فكان يرفض بيع فكره كان يعتبر ان الفلسفة ممارسة عضوية ويومية ، وانها وبالتالي ، نمط حياة . وغنى عن القول ان سقراط لم يكن مواطناً اثينيا كالاخرين . فهو لم يأبه لماديات الدنيا على لارغم من زواجة وانجابه ثلاثه اولاد بل كان دائم الزهد في ما يشغل الناس . وهذا ما جعله غامضاً ، بل وموضع سخرية في الكثير من الاحيان . غير ان سقراط لم يعدم وسيلة لتوضيح حقيقة أمره كان يرد على مسامع محاوريه ان حقيقة الهية تدفعه للتصرف وان هذه الحقيقة يمكن ان لا تكون سوى ضميره القابع في اعماق نفسه . تلك المشاعر وهذه الافكار هي التي لم ترق للبعض ، وهي التي اوصلته لان يمثل اليوم امام المحكمة ، باعتبار انه " يفسد الشبيبة ولا يؤمن بالهة المدينة " .

    في بدء الجلسة ، ولم يكن في نظام المحاكمات انذاك ما يسمى اليوم بالادعاء العام ، وقف المدعي الاول مليتوس يتكلم عن مفاسد سقراط في المجتمع . واعقبه مدعيان اخران ليكون وانيتوس وكلهم طلبوا الحكم بالاعدام على " العجوز الشرير " . ولانيتوس هذا مبرر اخر للادعاء على سقراط فقد كان ابنه تلميذا من تلاميذ الفيلسوف و " مضللاً به " وهذا ما يفسر انشغاله عن صنعه ابيه وهي الاتجار بالجلود . يضاف الى ذلك ان سقراط تهكم عليه مرة امام الناس خلال مناقشة ظهر فيها الجاهل وحديث النعمة على قدر كبير من السخف . ومن سوء طالع العجوز ايضاً ، ان كريتياس ، المستبد الدموي والعميل لسبارطة ، كان من بين تلاميذه ، في فترة من فترات حياته . اتخاذه كريتياس واخرين غيره ممقوتين في مجتنعهم تلامذه له هو من قبيل انفتاحة على الجميع ودون النظر الى ارائهم الساسية والفلسفة او الى نمط الحياة التي يعيشون . واذا توخينا الاختصار ، قلنا ان سقراط ، بأفكاره ومناقشاته ، بدأ يصبح شخصاً مزعجاً ، ليس للسلطات فقط ، بل للاباء الذين راى بعضهم ابناءه يخرجون عن طاعته ويلحقون بالمعلم.

    بعد انتهاء المدعين الثلاثة من كلامهم ، جاء دور المتهم . ومن اجراءات المحاكمة الاثينية في ذلك العصر ان يتولى المتهم شخصياً الدفاع عن نفسه . واذا كان غير قادر ، فان محترفاً يقوم بتلقينه الدفاع وتحفيظه اياه عن ظهر قلب . يجب ان يستغرق الوقت الذي استغرقه الادعاء لا اكثر . بدأ سقراط دفاعه برد التهم ومن ثم ، بالانتقال الى الهجوم ، قال ان من يدعي العلم ، من بين كل من ناقشت وحاورت ، وانما هم جهلة ولا يفقهون من العلم شيئاً والحقيقة هي اني أعلم الناس . ذلك لان الناس يعتقدون انهم يعرفون شيئاً وهم ، في الواقع ، لايعرفون اي شئ . اما انافأني اعرف اني لا اعرف . وانتهى سقراط بتحذير القضاه من الحكم عليه بالموت . وأن فعلوا فانهم لن يجدوا مثله وسيغرقهم الاله والاثنيين في سبات ابدي . أما اذا لم يفعلوا فسيعود الى نشر افكاره كما فعل دائماً وكما اوحى له ضميره . لم يستدر سقراط عطف القضاه كما يفعل عادة المتهمون الماثلون امام مثل هذه المحكمة . لقد قال ما قاله وجلس دون اي انفعال . اما القضاه ، فقد بدأوا ينزلون المدرج ليضع كل واحد منهم حكمة في الصندوق . هذا الاقتراع هو أولي . انه ينحصر في تقرير تجريم او عدم تجريم المتهم .

    قضت نتيجة التصويت بتجريم سقراط بفارق بسيط في الاصوات : 281 صوتاً ضد 220 . ويقتضى القانون الاثيني ، في هذه الحال ، ان يعين المتهم نفسه العقوبة التي يراها ، هو مناسبة . وقف سقراط وأعلن انه يسره ان تتعهده البريتانية ! وتعالى الصخب وصياح الاستنكار من الحضور الذين رأوا في كلامه تهكماً وسخرية من هيئة المحكمة ومن كل الموجودين . ذلك لان البريتانية مؤسسة اثينية تتعهد عظام الرجال وتتولى تأمين معيشتهم بشكل لائق وكريم .

    ما أن سمع القضاة كلام سقراط ، حتى قرروا ان يصتوا بأنفسهم على نوع العقوبة ومستواها . نزلوا ثانية الى حيث الصندوق وصوتوا على ان يكون الحكم بالاعدام هو الجزاء الذي يجب ان يناله سقراط وذلك بأغلبية كبيرة . لقد اوقع الرجل نفسه في التهلكة بعد ان كان يمكنه ان ينقذها بتصرف اخر اكد للجميع انه يسعى للموت بكل رغبة وحماس .

    مضى شهر على صدور الحكم . اما طريقة للتنفيذ فهي الاسهل من بين لائحة لا يخلو بعض بنودها من العنف : تجرع كمية من سم يحضر خصيصاً للمناسبة . خلال هذا الشهر . جاءه كريتون ، احد تلامذته المخلصين ، عرض عليه ان يقبل الهرب من السجن ، بعد ان يتدبر كريتون امر رشوة الحراس ، فرفض سقراط قائلاً بوجوب احترام العدالة وقوانينها ، حتى ولو كانت هذه القوانين جائزة .

    هذا الشهر الذي فصل بين صدور الحكم وتنفيذه ، امضاه سقراط بهدوء أدهش المتصلين به من حراس ونزلاء . اما لماذا ابقي شهراً كاملاً ينتظر مصيره ، فهذا يعود الى ان تنفيذ احكام الاعدام لم يكن مسموحاً به في الشرائع الدينية انذاك الا بعد عودة الكهنة من جزيرة ديلوس .
    وفي اليوم التالي لهذه العودة ، تجمهر تلامذته في السجن ووصلت زوجته . وما ان رأته والحراس يفكون اصفاده تمهيداً للاعدام ، حتى اجهشت بالبكاء ونتفت شعرها ومزقت ثيابها:
    - اه يا زوجي ! هذه اخر مرة تتكلم واخر مرة ترى فيها اصدقاءك ! .. تأثر سقراط وطلب اليها ان تذهب . ثم التفت نحو اصدقائه وبدأ يحدثهم ويتناقش واياهم في مواضيع مختلفة في الفن والموت والروح .... وبينما هو كذلك ، اذ بالجلاد يقاطعه :
    - لا تتحرك كثيراً يا سقراط ، والا يفقد السم مفعوله وللمرة الاولى ينفعل سقراط ويقول للجلاد:
    - لماذا لا تضع كمية مضاعفة ؟ هذه مهنتك .
    وعاد الى التحدث مع تلامذته الذين لم يتمكنوا من اخفاء اعجابهم ودهشتهم . لقد استطاع هذا الانسان ان ينتصر على غرائزه وعلى مخاوفه . وعندما اقترب الوقت المخصص لتجرع السم ، دخل سقراط غرفة مجاورة ليستحم وهو يقول :
    - اريد ان اوفر على النساء تنظيف جثة ميت . طال الاستحمام والجلاد ينتظر على الباب . ولما خرج سقراط ، اقترب منه الجلاد وفي يده كأس السم . قدمه اليه وقال له :
    - سقراط اعرف انك لن تشتمني كما يفعل الاخرون . انت عاقل وتستطيع ان تتحمل قدرك .
    - مرحى لك ! هيا . ماذا علي ان افعل ؟
    - لا شئ سوى خطوات قليلة بعد التجرع . وعندما تشعر بثقل في ساقيك ، عليك ان تستلقي والباقي يتولاه السم نفسه .
    وتناول سقراط الكأس وتجرعه دفعة واحدة بكل هدوء . لم يتمالك تلامذته مشاعرهم فانفجروا يجهشون بالبكاء مثيرين غضب المعلم :
    - ماذا تفعلون ؟ لقد أمرت زوجتي بالرحيل حتى لا أرى ما يشبه مظاهر الضعف هذه أريد ان أموت بصمت الخشوع . فتمالكوا مشاعركم .
    وصمت الجميع فوراً . بعدها استلقى سقراط كما اشار جلاده . وجاء الجلاد يقيد رجليه ويقول له :
    - هل تشعر بشيء؟
    - كلا
    وطفق الجلاد يشرح للحاضرين ان الموت يصل الى القلب بعد تبلغ البرودة الرجلين والبطن.
    وعندما شعر سقراط بهده البرودة تصل الى بطنه ، اشار الى تلميذه المخلص كريتون بالاقتراب ليقول له بصوت ضعيف :
    - كريتون ، في ذمتنا ديك لا يسكولاب . ادفع له ثمنه دون نقاش .
    - حاضر يا سيدي . هل تريد شيئاً اخر ؟
    لم يجب سقراط . لقد اغمضت عيناه ...
    " ديك لايسكولاب " انها لا شك عبارة اراد بها سقراط التهكم على اله الطب . لم يوفر سخرياته على الالهة ، حتى وهو على وشك ان يموت ! وما الموت بالنسبة له ؟ اليس هو التحرر ؟ اليس الشفاء من مرض هو الحياة ، كما كان يردد دائماً ؟

    هذه الجمله التي قالها سقراط قبل موته ، والتي تمثل التشاؤم الهادئ والساخر بأبرز معانيه ، كانت عبارة رسالة من اول رجل أعدم في التاريخ بسبب افكاره .

    (عدل بواسطة Kamel mohamad on 08-28-2006, 06:08 PM)

                  

08-29-2006, 06:06 PM

Kamel mohamad
<aKamel mohamad
تاريخ التسجيل: 01-27-2005
مجموع المشاركات: 3181

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محاكمة جان دارك : أشهر المحاكمات السياسية في تاريخ فرنسا والعالم وأبرز أعمال الكاتب برنارد (Re: Kamel mohamad)



    مسرحية "محاكمة جان دارك".. رائعة برتولت بريخت الرائع.

    المصدر: مجلة الحياة الجديدة الثقافية



    وبريخت الذي احتفلت ألمانيا بعيد ميلاده المئة منذ ثماني سنوات، كان قد رحل عن هذه الدنيا عام 1956 بعد أن هز خشبة المسرح العالمي بنظريته الملحمية التي دعمها بعدد من مسرحياته المتفوقة حتى ليمكن القول أنه ما من مسرح حديث في العالم، لم يعرض شيئاً لبريخت أو أنه لم يتأثر به.
    وبريخت الذي كان مؤمناً حتى الاستشهاد بالمادية الجدلية - التاريخية، تعلم من هذه الفلسفة "فكرة التجدد والتغيير التي تحولت عنده- على حد تعبير د. مكاوي إلى دعوة مستمرة للتغيير لم يفتأ يوجهها إلى قارئ شعره ويطالب بها المتفرج على مسرحياته" ومن أهم مبادئ التجديد عنده نظرية التغريب القائلة بوجوب تذكير المتفرج باستمرار أنه في المسرح القائم على التمثيل والذي لا يمكن أن يكون بديلاً عن الحياة نفسها. ولهذا كان يرسل الجوقة لترشد المشاهدين إلى حكمة المسرحية وهدفها، وتنوب عن بعض الأحداث في الإسراع بالزمن واختزال الوقائع. ولأنه كان واضح المقصد إلى حد شرح ما يريد، فقد انتبه النظام النازي إلى خطورة أفكاره ووضعه على القائمة السوداء. وبعد سقوط النازية لم يسترح برتولت بريخت، فهو وإن كان نصيراً عنيداً للاشتراكية العالمية، ظل الناقد الذي فيه يتربص بالأخطاء وبنقاط ضعف النظام الاشتراكي ولاسيما في الشأن الديمقراطي، كما أن الأنظمة الرأسمالية ظلت تناصبه العداء وتنظر إليه بعين العداوة والشك. ولم يزده هذا إلا شعبية من الجمهور العالمي الذي أقبل على قراءة قصائده ومشاهدة مسرحياته بشغف وانحياز. وهكذا تم عرض الكثير من مسرحياته عشرات المرات، ولا يوجد مهتم بالمسرح لا يعرف شيئاً عن أعمال بريخت المسرحية مثل "حياة غاليلو - الإنسان الطيب في ستاتسوان - محاكمة جان دارك - دائرة الطباشير القوقازية - السيد بونتيلا وتابعه ماتي - الأم شجاعتا وأبناؤها - الاستثناء والقاعدة - محاكمة لوكلوس - وغيرها كثير".. وعلى شهرته الكاسحة كمؤلف مسرحي، ظل بريخت مبدعاً متنوع الإنتاج. فهو شاعر كبير بالمقاييس كلها، وكاتب سيناريو، فضلاً عن موقعه المتقدم في التنظير والتعريف بالمسرح.
    على أن علمانية بريخت لم تضعه في خانة المبشرين أو الدعاة السذج إلى الاشتراكية. فقد كان الإنسان هو همه الأول والأخير بكل ما تتسع له الإنسانية من المشاعر والمصالح والتناقضات، وينطلق لسان حال بريخت الشاعر فيوضح في إحدى قصائده ما يريد من المسرح بالقول:"أنا كاتب مسرحيات - أعرض عليكم ما رأيته بأم عيني - شاهدت في أسواق البشر - كيف يشترى الإنسان ويباع - وهذا ما أعرضه عليكم - أنا كاتب المسرحيات".
    جان دارك
    لا تمهد المسرحية للأحداث، بل تبدأ من صلب قضية جان دارك. فخلال خريف عام 1430 قامت فرنسا - المحتلة يوم ذاك- بهجومين عنيفين لطرد الإنكليز الذين كانوا يسيطرون على ثلثي البلاد. وكانت على رأس الهجوم فتاة في السابعة عشرة من عمرها هي جان دارك التي ستتحول إلى أسطورة في بلادها وفي العالم. يمتدح الفرنسيون البسطاء، من فلاحين وحرفيين وباعة، شجاعة جان دارك، ويتهامسون حذرين بأنها وقعت في الأسر.. ومن الحوار الجاري في الأزقة، نعلم بأن الإنكليز كانوا أذكى من أن يتولوا هم محاكمة جان دارك، فهم لا يريدون تهييج الشارع الفرنسي، ولهذا يعهدون للأسقف الفرنسي كوشون بمحاكمتها دينياً، باعتبار أنها جمعت الشعب باسم أصوات الملائكة التي تخاطبها وتحثها على الجهاد. ولقد لبست ثياب الفرسان وحملت السيف. وهو ما يعتبره الإدعاء هرطقة وزندقة، فيجمع الأسقف لفيفاً من المثقفين ليقوموا بدور المحلفين والقضاة. وفيما تستعد المحكمة لأخذ أقوال جان دارك يكون الجلاد قد أعد المحرقة لها.
    تصمد الفتاة الباسلة للاستجواب، فيقرر الأسقف رفع الجلسة والذهاب إلى زنزانة المتهمة بدلاً من مقاضاتها أمام الجمهور وطبيعي أن تأخذ المحكمة طابعاً دينياً، باعتبار أن ملك الإنكليز هو أفضل المسيحيين على حد زعم الاحتلال أما ملك فرنسا فهو، في نظر الإدعاء، مجرد هرطوقي يدعي ما ليس له. وهناك أربع تهم موجهة إلى جان دارك: أنها حاربت يوم عطلة، وأنها حاولت الانتحار، وأنها تسببت بمقتل رجل، وأخيراً أنها تلبس ثياب الرجال. فتدحض جان دارك هذه الاتهامات، مؤكدة أنها مؤمنة، وأنها كانت تسمع أصوات الملائكة التي تحثها على مواجهة الإنكليز الذين يحتلون بلادها. وعندها يقرر إنهاء الاستجواب وإرسال ملف القضية إلى المحكمة حتى تتخذ الإجراءات النهائية. وفي التاسع من أيار (مايو) عام 1431 تجد جان دارك نفسها محاصرة في السجن، يهددها السجانون بالتعذيب. ولما كانت منقطعة عن العالم فهي تظن أن الفرنسيين قد نسوها وأنها تواجه قدرها وحيدة. ويساومها أحد المحققين - اسمه لوفيفر- على أن تقبل بمرجعية دينية وليكن ذلك اتحاد ممثلي الكنائس الذي يضم الإنكليز كما يضم ممثلين عن جماعة جان دارك، فتتساءل هذه عما إذا كان بإمكانها أن تدخل في حمى هذا الاتحاد. وساعتها يتغير موقف التحقيق، فالإنكليز لا يريدون لها مرجعاً دينياً حتى لا يحول ذلك دون الحكم. عليها ويشتد التهديد عليها حتى تتراجع عن إفادتها الأولى وتنكر أن تكون قد سمعت أصوات الملائكة. وكان ذلك يوم 24/5/1431.
    يسمع الجمهور بانتكاسة جان دارك أمام المحكمة، فتثور ثائرة الغضب ويقع شغب في غير مكان. وهو ما يشد من أزر الفتاة الأسيرة فتتماسك من جديد، وتلبس ملابس الرجال، مؤكدة أنها سمعت أصوات الملائكة تدعوها إلى الجهاد ضد المحتلين. ولا يتأخر رد فعل المحكمة التي تقضي بإحراقها حية فيما تصرخ هي أنهم لن يخيفوها بعد الآن، وأنهم في طريق النهاية.
    وبعد مرور خمسة أعوام، تنال فرنسا استقلالها وتستعيد وحدتها، ويعاد الاعتبار إلى جان دارك بوصفها بطلة فرنسا وأسطورتها. ويفسر لجرين، الشخصية الفرنسية الوطنية، أن أصوات الملائكة كانت في صف جان دارك عندما كانت لصيقة بالشعب. وأنها اهتزت عندما حال السجانون بينها وبين الشعب، فكان طبيعياً أن تستعيد قوتها عندما علمت بما حدث وتأكدت أن المحكمة ليست بمكان أكثر سوءاً من المقبرة. وعندما يصدح الشعب بأغنية الحرية التي تمجد جان دارك يقول لجرين: هذه الأغنية تسمع الآن في جميع أنحاء فرنسا.
    حركتان متناوبتان
    لم يكن برتولت يبحث عن التجديد للتجديد عندما ألغى نظام فصول المسرحية، واعتمد نظام المشاهد المتتابعة. فقد كان يريد مواجهة التناقضات بعضها ببعض. هكذا كنا نرى مشهداً يعرض لحركة الشارع وثرثرة المارة التي تعكس اهتمامات الشعب. ويلي ذلك مشهد آخر تظهر فيه جان دارك بين القضاة والجلادين. وبين هاتين الحركتين يظهر الشارع باتساعه ورمزه لدورة الحياة، وتظهر المحكمة بانغلاقها على السجن والمحكمة والغرف الضيقة. وعندما يقتادون جان دارك إلى المحرقة، فإن ذلك يكون في الشارع. وهو يؤكد ما ذهبت إليه هذه الشهيدة من أن استشهادها سيكون تحريراً لها من الخوف، فلا عجب إذا انتهت إلى الاتساع حيث تابعها وتحلق حولها الجمهور، لتتحقق نبوءتها بقرب نهاية الغزاة..و في مكان ما من المسرحية، تردد جان دارك قول المثل:"ساعد نفسك يساعدك الرب". وعندما يعلق لجرين - ضمير المسرحية ولسان حال المؤلف برتولت بريخت - على مأساة جان دارك بأن الأصوات التي تلهمها الثورة مستمدة من روح الشعب، فإنه لا يصعب علينا فهم رسالة المسرحية القائلة إن جان دارك بإصغائها إلى صوت شعبها - وهي في ذلك تساعد نفسها- قد ساعدها الرب وأيدها بالعزيمة، من خلال أصوات الملائكة، لمواجهة المحتلين. فهذه الأصوات دليلها إلى النصر. وجان دارك تقول صراحة:"إن الأصوات تقول لي إنني سأتحرر عن طريق نصر كبير". وقد يبدو من المفارق أن يكون النصر الكبير هو إحراق هذه العذراء في وضح النهار ولما تتم عامها التاسع عشر.
    لكن برتولت بريخت، المؤمن بالمادية التاريخية، لا يبحث عن مصالحة بين الواقع والميتافيزيقيا، بل يختبر إيمان جان دارك في أن يتحول إلى رمز من خلال صمودها بين عالم الطغاة المغلق وعالم الحرية المفتوح على المدى. لهذا لا نراها تهتم بالجلاد الذي يسخر مما وعدت به من حرية ستنالها على المحرقة. بل تردد قائلة:أنا الآن لا أخاف. وطبيعي أن تكون قد استهلكت الخوف بعد أن وصلت إلى درجة الاستشهاد. مع أنها لم تنكر أنها كانت تخاف التعذيب وما يجره من ألم، والحرق وما يجره من موت. لكنها حين وصلت إلى لحظة الإشراق، وشاهدت الموت عياناً، لم يكن يشغلها ما سيحل بجسدها المحترق، بل كانت ترى فرنسا الحرة تحتفل بحريتها الوشيكة.
    ولئن قال أحد المحافظين الراضين بالواقع الاستعماري إنه غير معني بتغيير نفسه، وسأل: لماذا كان علي أن أغير نفسي؟ تجيبه بائعة السمك التي تمثل جانباً من نبض الشارع:بما كان على تلك الفتاة - تقصد جان دارك- أن تخبرك لماذا كان عليك أن تغير نفسك. فجان دارك في نظر الشارع أكثر من قيمة كبيرة، إنها مقياس للتغيير المطلوب.
    هكذا تكون الحركتان المتعارضتان متكاملتين. فالشارع يرى ويعلق ويصنع الأحداث، والزنزانة أو المحكمة أو الغرفة المغلقة تحاول يائسة أن تخنق صوت الحرية. والرابط بين الحركتين هو صمود جان دارك التي من شأنها أن تخبر المحافظين لماذا يجب أن يتغيروا وذلك بانتقالها من المكان المغلق إلى فضاء الحرية بواقعية الاعتراف بالخوف البشري، ووجودية الوعي بأن الحرية وإن كلفت ثمناً باهظاً، إلا أنها رديفة لمعنى الحياة الحقيقي.
    سيظل المتعاطف مع جان دارك أو المتحايل عليها يبذل جهده لإقناعها بالعدول عن موقفها. ولن تقتنع أو تضعف إلا إذا انقطعت صلتها بالشعب. والشعب في الشارع. ولكنها ما إن تلمح ضوء الشارع حتى تسمع صوت الملاك ميخائيل. وتلك هي لحظة الخلاص.
    محاكمة الساقطين
    كما يجري في نطاق الرؤيا التاريخية، تتحول محاكم ذوي المثل العليا إلى محاكم للطغاة والساقطين. ولعل برتولت بريخت أدرى من القراء بأنه خسر عنصر المفاجأة في اختياره عرض قضية جان دارك. فالجمهور يعلم مسبقاً أن هذه الفتاة قد وحدت شعبها بأصوات الملائكة التي قالت إنها على صلة بها، وأن المحتلين الإنكليز قد أحرقوها بعد محاكمة صورية حرصوا على أن يكون قضاتها من الفرنسيين.
    ولكن بريخت لم يكن معنياً بقصة إثارة ومفاجأة، بقدر ما كان معنياً بمستوى يجب أن تكشف عنه المسرحية، وهو أن الأسقف الفرنسي - وهو رمز لكل من يمالئ الاحتلال- إنما كان في موقع المحكوم عليه من الجمهور والتاريخ. فقد اختير لأنه كاثوليكي مثل جان دارك وليس إنجليكانياً مثل الإنكليز. وهو فرنسي مثلها أيضاً. فالمحتلون يعدمون هذه المناضلة وهم خارج المعادلة. لكن الشعب يعي الحقيقة والأغنية تصدح في الشارع:
    الأسقف كوشون صار إنكليزياً
    ربما بدافع الإعجاب
    ولكن من أجل خمسة آلاف جنيه أيضاً
    ولما يسأل الفتى أباه عن سبب عدم قيام الإنكليز بمحاكمة جان دارك مع أنهم أعداؤها الحقيقيون. يجيب الأب: هذا الأمر يعطيه الإنكليز للفرنسيين عن طيب خاطر. ولكن هذه المغالطة المجبولة بالنفاق لا تنطلي على التاريخ. فدم جان دارك على الإنكليز، وليس الأسقف العميل إلا لعبة بأيديهم. ولن يغفر له التاريخ أنه قال:"هؤلاء الإنكليز الأغبياء لا يعرفون أي خدمة قدمتها لهم.. أن يتدخلوا في فرنسا، هذا يمكن فهمه، لكن ليس في أرواح الفرنسيين".. ولكن وصوله إلى هذه الحقيقة يأتي - كما يحدث في التاريخ- بعد فوات الأوان. فقد وضع نفسه في موقع لابد أن يحكم من خلاله على جان دارك بالإعدام حرقاً، وبالتالي ستتحول إلى شهيدة ليكون دمها وقود الثورة التي أدت إلى الحرية والاستقلال. وعندما يقول المواطنون في الشارع:أين الإنكليز؟ ليس هناك إنكليز.. فإنهم يقصدون أيضاً أنه ليس هناك من هو على شاكلة ذلك الأسقف. فقد هبت رياح الحرية وأطاحت بالمحتلين والعملاء على حد سواء.
    ساقط آخر في المسرحية، يظهر من موقع مختلف.. إنه الرجل الأنيق - هل نرمز له في واقعنا بالمثقف البرجوازي الصغير؟- الذي يتحدث عن النظام في معرض هجاء المجتمع. إنه نمط المتعالي المتأفف الذي لا يحتج على نسق علاقات الاستغلال والقمع والكسب غير المشروع، بل يحتج على المجتمع كله بدعوى التخلف وعدم النظام. وهذا تفضحه الفتاة اللعوب التي سبق لها أن خرجت معه. لكنه أخذ منها ما يريد ولم يعطها شيئاً. فتعلق ساخرة على شعاراته:"إنه يتحدث عن النظام.. هذا ما أحبه، لكنه لم يدفع لي الإيجار منذ أسابيع".. إن بريخت بطبيعته الانتقادية السليطة ما كان ليواجه الاحتلال، العدو الخارجي الفظ، من غير أن يسلط الأضواء على أمراض الداخل. من ضعاف نفوس عملاء كالأسقف الفرنسي، أو منافقين اجتماعيين كالرجل الأنيق.. أما الساقط الأكبر الذي يمثل في المحكمة المعنوية فهو الاحتلال نفسه، وقد تعففت المسرحية عن التشفي بالمحتلين فاكتفت بترديد الشعب لعبارات الفرح بالحرية وتأكيد أن المحتلين إلى زوال. أما مكافأة جان دارك، فهي الأغنية التي يرددها الشعب منذ زهاء ستة قرون إلى يوم الناس هذا.
    كلام في الصراع
    ترتكز الدراما على الصراع حتى ليكاد يصبح اسماً لها. وقد يندفع الصراع إلى مقدمة المشهد عندما تفرض الموضوعات ذلك. وهل من ساحة للصراع أفضل من قاعة محكمة؟.. لهذا لن نجهد للبحث في المقومات الدرامية لمسرحية جان دارك. ولكننا نتطلع إلى ما هو أبعد من طرفي معادلة واضحة لا يخطئها النظر أو الوعي. فمن جهة تقف العذراء المجاهدة جان دارك التي حرضت شعبها على الثورة ضد الاحتلال. ومن جهة ثانية يقف أعضاء المحكمة - وهم من بني جلدتها- الذين يراوغون فلا يقاضونها بالتهمة الرئيسة وهي التمرد على الاحتلال، بل بتهم دينية تبدأ بالعمل يوم العطلة وتنتهي بارتداء ملابس الرجال، مروراً بعصيان الخالق من خلال محاولة الانتحار، ولا يخلو الأمر من تهمة جنائية تتعلق بقتل أحد الرجال. و لا يبدو الوضع الدرامي معقداً في هذا المجال، فالضدان واضحان، وإن كانت مهمة المسرحية أن تسبر غور الحقيقة فتصل إلى ما هو أبعد من أسباب الاتهام. وهو ما يعلمه القارئ والمشاهد معاً.
    لكن مسار المسرحية بمشاهدها الستة عشر، يشف عن وجوه للصراع تتخلل كل صفحة، وتعصف بكل شخصية. ولا خوف على الجمهور من التشتت أو صرف النظر عن جوهر القضية. فالقضية واحدة تتعلق بالعدل. وإذا كان العدل يتمحور في المسرحية حول الحرية التي يكبحها الاحتلال وتستشهد من أجلها داعية الاستقلال، فإنه يأخذ أشكالاً مختلفة من التعبير والإيحاء حسب الشخصيات التي تتداولها المسرحية.
    وقد لا نحتاج إلى التوغل في الشخصيات المضادة. أعني الإدعاء العام والقضاة والمحلفين والأسقف. فهؤلاء حسموا أمرهم حتى تحولوا، بالمعنى الدرامي العام، إلى شخصية واحدة، وإن كان هناك تفاوت فيما بينهم فحسب الموقع، ولكن غايتهم واحدة هي إدانة جان دارك. لهذا لا يكاد يعلق اسم واحد من هؤلاء بالذاكرة، كما أن كلامهم متشابه إلى درجة أننا نستطيع أن ننسب قول أي منهم إلى الآخر. وليس هذا مصادفة في تقديري، بل إن برتولت بريخت يريد الإشارة إلى أن منطق الطغاة فقير وخطابهم واحد، لا بمعنى أنه متماسك ولكن بواقع أنه محدود. وقد يتميز الأسقف شيئاً عن هذا الطاقم، لكنه تميز بالحيثية لا بالمنطق. فهو - كما قالت الأغنية المعارضة- أصبح إنكليزياً لقاء المال. ومع ذلك ففي قلبه مرارة من أن الأعداء لم يقدروا خدمته لهم حق قدرها. وأما بقية الطاقم فيتراوحون بين من يهدد جان دارك وبين من يمنيها بالنجاة، ولكنهم يصبون جميعاً في مجرى واحد.
    على النقيض من ذلك نرى في الشعب نماذج وأمزجة مختلفة، وإذا كان الشعب بمجمله يتعاطف مع جان دارك، أي أنه يلتقي عند نقطة معينة، فإن هذا لا يعني أنه لا توجد تباينات في الآراء وفي طرق التعبير عن تلك الآراء. هناك مثلاً بائع السمك، وصاحب الحانة، والفلاح، والدكتور، والفتاة اللعوب، والسيد الأنيق. وهؤلاء جميعاً نراهم في الشارع بما هو رمز لسيرورة الحياة. وبحكم تباين آرائهم فإنهم شخصيات مستقلة نميز الواحد منها بما يقول ويعمل. وهم منقسمون إلى نوعين من الشخصيات، فالقسم الأول والأعظم بلا أسماء، والمهنة تدل على صاحبها: دكتور، تاجر خمور.. إلخ، أما القسم الثاني فيمكن أن يحظى باسم شخصي مثل جاك لجرين والجد بروييه فضلاً عن جان دارك نفسها. ولا يشكو بريخت من ندرة الأسماء في قاموسه أو ذاكرته، ولكنه يقصد القول إن المتنفذين حتى لو كانوا مسطحين محدودين، يملكون حق الشهرة والإشهار، أما المواطنون العاديون فمعظمهم نكرات بلا أسماء، مع أنهم بمجموعهم محركون للتاريخ.
    إذا أضفنا إلى ما سبق، ما بدأنا من الإشارة إلى حركتين تتقاسمان إيقاع المسرحية، فإننا نرى هاتين الحركتين حاملتين للصراع في هذه الدراما. فحركة الاتساع التي تمثل الشارع تمثل التعدد كمرآة للمجتمع، وحركة الانغلاق تمثل الأنموذج المتفرد الذي لا يمكن أن يكون مبدعاً. وهكذا يكون بريخت قد تناول الصراع من الجذور والعمق ليس بتوزيع قسائم المهام على الشخصيات. ثم إن أي صراع يؤدي إلى نتائج، وقد سهر بريخت على صراع جان دارك وفرنسا من جهة، والإنكليز من جهة ثانية، وصولاً إلى ما حلمت به تلك العذراء الشهيدة من نصر وتحقيق للحرية.
    التاريخ والأسطورة
    سمعت باسم جان دارك لأول مرة وأنا دون العاشرة. ولم تكن فتاة شهيدة بل بارجة فرنسية عندما شاع أن فريقاً من الفدائيين المصريين بينهم البطل السوري جول جمال قد فجروا بارجة فرنسية كانت تشارك في العدوان الثلاثي على بورسعيد. واسم هذه البارجة جان دارك. وبغض النظر عن حقيقة ما حدث فإن ما يعنينا هو أن هذا الاسم الذي كان لفتاة تعرضت للمحاكمة والحرق بلا رحمة، أصبح رمزاً تاريخياً تفخر به فرنسا العريقة وتسبغه حتى على قطعة نوعية في سلاحها المركزي. ولقد رأيت جان دارك في مسرحية من تأليف جورج برنارد شو على الخشبة في دمشق، ناهيك عن الأفلام السينمائية التي كرمتها، وقد يكون أشهرها الفيلم الذي قامت بدور جان دارك فيه الممثلة المبهرة أنجريد برغمان. ولكن مجمل هذا التكريم يصب في صالح خدمة الصورة المثالية للبطلة الوطنية، وإن كان شكسبير الإنكليزي لم يعجبه ذلك، فتعامل مع اسم غير مشهور هو جان لوسيل (وجان لوسيل هي نفسها دان دارك) ليتخلص من سطوة اسمها. إذ أنه، حتى لو كان شكسبير شخصياً، يظل أعجز من أن ينتقص من الهالة المشعة من اسم البطلة التي أسهمت في تحرير بلادها من المستعمر الإنكليزي.
    ولكن بموازاة هذا الاهتمام التاريخي بهذه الشخصية التاريخية، كانت هناك محاولات لتصويرها فتاة ممسوسة تتوهم رؤية الملائكة، بل ذهب الإنجليز وعملاؤهم إلى الطعن في عذريتها، باعتبار العذرية علامة شديدة الأهمية عندما يتعلق الأمر بالدين.
    ولعل برتولت بريخت هو أول من عالج هذا الإشكال بوضوح ومن غير ارتباك. فقد أشار هذا الكاتب الماركسي إلى الملائكة التي كانت تصدر أصواتها إلى جان دارك. لكنه، من جهة ثانية قدمها إنسانة طبيعية، تخاف وتنتكس وتتماسك وتعاند. إنها شابة في التاسعة عشرة من العمر لا أكثر، وقد راعى أن تكون أجوبتها مناسبة لعمرها مع الأخذ بعين الاعتبار ما تتميز به من ذكاء وسرعة بديهة. وبالعودة إلى أصوات الملائكة فقد تعامل بريخت مع هذه الإشارة إلى أنها تنبع من الإنسان أساساً، وقد عمد إلى شرح ذلك على لسان لجرين الذي قال إن الأصوات كانت تأتي إلى مسامع جان دارك عندما كان الشعب قد نسيها. ولكنها عندما استعادت ثقتها بوطنها وشعبها، وجدت نفسها تسمع أصوات الملائكة من جديد. ولهذه الملائكة مهمة محددة: التحريض على الثورة ضد الاحتلال.
    ولم يكتف بريشت بتثبيت فهمه لطبيعة قداسة هذه الشهيدة، بل حرص على تقديم شخصيتها من خلال جموع الشعب وكيفية قراءتهم لنضالها واستشهادها فضلاً عن إيمانها. أما وقائع المحاكمة فقد تخيلها كما يمكن أن تحدث. إن الأسقف معني بجر القضية إلى المستوى الديني حتى تظهر جان دارك زنديقة هرطوقية، أما هي فلم تتنازل عن أن تلك قضية وطنية، وأن المشكلة الحقيقية ليس في لباسها بل في وجود المحتلين. وفي ختام المسرحية تصدح الأغنية بدلاً من قرع الأجراس أو تراتيل الترنيمات، بمعنى أن استمرار جان دارك في التاريخ ذو طبيعة وطنية وإن كان الشعب يفرح بأن تنال بطلته حظوة روحية. فالقضية الروحية، في آخر اعتبار، هي قضية معنوية أيضاً.
    وبهذا يمكن القول إن بريشت أعطى لقيصر مالقيصر وأعطى ما لله لله. فهي قديسة عند المؤمنين، بطلة وطنية عند قراء التاريخ.
    بنية المسرحية
    ما كان ممكناً لمن يتعرض لمسرح بريشت، ألا يقف عند مسرحه الملحمي. وقد أشرت إلى أنه، في هذه المسرحية تحديداً، لم يتقيد بالركائز التي وضعها للمسرح الملحمي، وإن كان الإخراج يمكن أن يعيدها إلى مواقعها حتى تكون مسرحية برختية بامتياز. فبدلاً من الجوقة التي يعول عليها بريخت كثيراً في التعليق على الأحداث، ترك الفلاحات يغنين، وجمهور الشارع ينشد، ولجرين يعلق التعليق الأخير الهام على علاقة جان دارك بالملائكة.
    وفي المسرح الملحمي يشتبك الممثلون مع الجمهور، وفق ما يسمى بهدم الجدار الرابع، وإذا لم يعتمد بريخت هذا الإجراء في النص، فإن عينه كانت على الجمهور دائماً، ولاسيما في العناوين الفرعية التي كان يضع واحداً منها لكل مشهد، شارحاً ما سيحدث، مؤكداً بذلك نظريته في التغريب حيث ينتبه المتفرج إلى أنه يشاهد مسرحاً ولا ينسى أن الحياة لها قوانينها ووطأتها وأن عليه المقارنة بين ما يرى في الحياة وما يرى على الخشبة. والجملة الأخيرة في المسرحية تقول:
    هذه الأغنية
    تسمع الآن في جميع أنحاء فرنسا
    والواقع أنه مع أن لجرين هو الذي يقولها، إلا أن المقصود أن يأخذ لجرين دور الجوقة التي تخاطب الجمهور في كل زمان ومكان. فكلمة الآن لا تتوقف عند القرن الخامس عشر بل تنطبق على أيامنا، لا لتوثين جان دارك أو تحويلها إلى طوطم، بل للنهوض بها رمزاً يقتدي به المناضلون من أجل حرية الأوطان على امتداد الزمن.
    بهذا المعنى أفسر لنفسي دوافعي الواعية واللاواعية لاختيار هذه المسرحية في أربعاء فلسطيني مليء بالأحداث، فأرى جان دارك بيننا بطبيعتها الوطنية الفلسطينية. ولن يتمكن الاحتلال من التشويش على الأصوات التي تملأ مسامع روحها.. وعلى هذا فقد نجح بريخت مرتين: مرة بكتابة مسرحية رائعة، ومرة بتوجيه رسالة تضامن مع المعذبين في الأرض وشهداء الحرية.



                  

11-09-2006, 11:10 AM

Kamel mohamad
<aKamel mohamad
تاريخ التسجيل: 01-27-2005
مجموع المشاركات: 3181

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محاكمة جان دارك : أشهر المحاكمات السياسية في تاريخ فرنسا والعالم وأبرز أعمال الكاتب برنارد (Re: Kamel mohamad)

    !!!!!!!!!!!!!
                  

11-13-2006, 02:29 AM

Salah Musa
<aSalah Musa
تاريخ التسجيل: 03-29-2004
مجموع المشاركات: 891

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محاكمة جان دارك : أشهر المحاكمات السياسية في تاريخ فرنسا والعالم وأبرز أعمال الكاتب برنارد (Re: Kamel mohamad)

    ألأخ كامل
    الشهيدة جان دارك كانت ضحية للهوس الديني الكنيسي الذي كانت تغلفه ألأهداف السياسية ويكفي بعد 25 عاما علي إعدامها أعيد الإعتبار لها وأعترف بها كقديسة لعن الله رجال الدين الذين يتخذون الدين مهنةوحرفة يتكسبون من ألأديان سوي كانت أسلام مسيحية يهودية\

    أذكر في الستينات والسبعينات أطلقت مدرسة كوستي الثانوية بنات إسم جان دارك علي أحد الفصول الدراسية \
    أرأيت أين كنا وأين صرنا الان
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de