|
د. حيدر إبراهيم: جون قرنق... فلنزرع زهرة!
|
جون قرنق... فلنزرع زهرة! د. حيدر ابراهيم علي من الحزن ما تفسده الكتابة والرثاء والعويل، خاصة عند موت العظماء لأن كل الدموع والأحزان لا تكون صادقة ولا تأتي من صميم القلب. لذلك لا بد من الاختلاف في طريقة التعبير، لأن هناك بعض الحزن يمثل موتاً آخر للفقيد أي يتجاوز الموت الطبيعي ويساعد في تكريس الموت الفكري والروحي للفقيد، لذا، لم تكن ذكرى فقد جون قرنق تحتاج لايقاد شمعة تطفئها الرياح سريعاً وقد تشعل كل عام وهكذا. ولكنني أظن أن روحه تنادي: ازرعوا زهرة لأفكاري ثم دعوا مائة زهرة تتفتح! وقرنق العظيم يجب تخليده برعاية وسقاية أفكاره وعلينا ألا نقتله ثانية بقبر أفكاره وتجاهلها ونسيانها. ومن المؤكد أن روحه قلقة الآن حين ترى أين رست أفكاره بعد عام من الرحيل؟ والعام ليس عادياً فقد كان عام الوصول الى سلام وبالتالي يمثل اختباراً للأفكار على أرض الواقع وكيف كان الاستهلال أو الانطلاقة وهذا ما يحدد كامل مسيرة السلام. ويقف السؤال الحقيقي والأصل: هل بدأنا في بناء السودان الجديد؟ حين نبحث عن جذر زهرة قرنق نجده بلا تردد في تراب تحقيق مهام الثورة الوطنية الديمقراطية، وهذا شعار قد يراه البعض الآن وكأنه قادم من كهوف التاريخ. ولان القوى الديمقراطية والوطنية فشلت في تحقيقها ثم تخلَّت عن الشعار وحاولت ان تنساه خجلاً من عجزها، لا يعني ذلك أن الشعار قد انتهى، وكان فكر قرنق امتداداً وإحياءً لذلك الشعار، ولكنه أخذ اسماً آخر وهو السودان الجديد! فقد بشَّر بسودان التنمية والمساواة والتنوع وقبول الآخر وبناء ديمقراطية سياسية واقتصادية واجتماعية، ومثل هذا السودان الجديد لا يقوم إلا على أنقاض سودان قديم وتقليدي ومحافظ يكفيه عاراً أنه عجز خلال نصف قرن من الاستقلال او التحرير، عن بناء دولة وطنية حديثة قائمة على حق المواطنة وتعمل على تحقيق تقدم البلاد اقتصادياً وحضارياً، واغرقت الوطن في الحرب الاهلية والنزاعات الاثنية ومهَّدت بفشلها للانقلابات العسكرية. حدث تواطؤ خبيث لحجب هذه الزهرة في فكر قرنق إذ حاول الكثيرون داخل وخارج الحركة الشعبية عدم اظهار العلاقة والامتداد بين فكرة السودان الجديد والثورة الوطنية الديمقراطية. فقد كانت هناك مجموعة داخل الحركة الشعبية حاولت تمجيد وتقديس قرنق بطريقة حاولت تصويره وكأنه فوق التاريخ (meta-history) وخشيت التقليل من مساهمته حين يضعه ضمن سياق وتطور السودان السياسي. ولا ادري هل كان الامر بحسن نية ام سوء طوية، إذ لم تحاول نخبة الحركة الشعبية نسب فكر قرنق إلى هذا التيار الذي بدأ منذ نهاية اربعينيات القرن الماضي؟ حدث العكس، حاول منتسبو الثورة الوطنية الديمقراطية ايجاد صلة قربى مع الحركة الشعبية في بدايات انطلاقتها وحين كانت شعاراتها الاشتراكية بل الماركسية صارخة وحادقة. ولم يتم أي تعميق فكري وبالتالي لم يحدث تقارب سياسي او تنظيمي. وللمفارقة، توقف أصحاب شعار الثورة الوطنية عن الحوار في اتجاه الكشف عن العلاقة، واظن ان ذلك قد يعود لخشيتهم من اختلاس شعارهم او ان الشعار لم يعد لهم شيئاً الآن!. كانت الفرصة نادرة في التاريخ السوداني: أن تلعب الحركة الشعبية دوراً طليعياً في قيادة الحركة الوطنية الديمقراطية السودانية، بعد توقيع اتفاقية السلام واكتساب الحركة الشعبية حق العمل السياسي في كامل الوطن. ولكن الحركة الشعبية أضاعت الفرصة: عمداً ومع سبق الاصرار، كما يقول القضاة. ويعود ذلك -في ظني- لسببين، الاول سلوك الحركة الشعبية المتعالي او الاستعلائي تجاه عناصر ومجموعات وتنظيمات يفترض فيها أن تكون حليفها الاصيل. والسبب الثاني، ويمكن ربطه بالأول: تعويل الحركة الشعبية على شراكتها مع المؤتمر الوطني وعلى دورها في السلطة، وحين جاءت الحركة الشعبية إلى الخرطوم كان التفاؤل يسود القريبين من زهرة قرنق التي تركها للسودانيين جميعاً. وحاول البعض ان يتقدموا نحو الحركة الشعبية ولكن تم صدهم بفظاظة وإحراج. فغدا البعض يعلن انه دخل الحركة، وقد يكون بالفعل فكرياً وليس تنظيمياً. ويتصدى بعض الحراس من الحركة لترويج ان فلاناً ليس عضواً في الحركة! ويتبع ذلك قفل الباب أمامه كي يتقدَّم بطريقة منظمة أو متعارف عليها لدخول التنظيم. وهذه نظرة استعلائية بالتأكيد تعتبر أن شرف الانضمام للحركة ليس على قارعة الطريق. مع انني اعلم ان كثيراً -من هؤلاء- تقدموا نحو الحركة بتاريخ نضالي مشرِّف. كان من الممكن والسهل ان توفق الحركة الشعبية بين زهرة قرنق والدخول في الشراكة، ولكنها تعاملت -مجدداً- باستعلاء مع حلفائها السابقين في التجمع الوطني الديمقراطي. ورغم انهم يستحقون ذلك التعامل ولكنها أساءت الى نفسها أكثر. فقد رد احد قياديي الحركة الشعبية على نقد قيادات التجمع بأن الحركة تخلَّت عن مواقعها، بالقول: إننا لن نحارب للآخرين معاركهم نيابة عنهم! وقد اخطأ القيادي لان تلك المعارك هي معارك الحركة قبل كل شئ. أليس مطالب مؤتمر القضايا المصيرية باسمرا 1995م من جوهر مبادئ السودان الجديد؟ هل التحول الديمقراطي معركة التجمع وليس الحركة؟ وهل التصدي للفساد معركة لا تخص الحركة؟ كان جميع السودانيين الديمقراطيين والوطنيين يتوقعون ان يقوم حليفهم وصاحب البرامج المشتركة معهم بتسريع ومراقبة عملية التحول الديمقراطي باعتبارها أولوية والضمانة الحقيقية لتطبيق اتفاقية السلام الشامل. ولكن نخشى ان يكون المؤتمر الوطني قد ادخل الحركة في متاهات بلا نهايات ومخارج. وكان الجميع يتوقع فتح ملف الفساد ولكن لا اظن ان الحركة الشعبية ستقوم بذلك، ولسبب بسيط: لماذا لم تطالب الحركة حين تم تعيين الوزراء والمستشارين والتنفيذيين بأن يقدم كل شخص تم تعيينه شهادة ابراء ذمة تحدد دخله وممتلكاته حين تقلد المنصب؟ فالحركة الشعبية هي الآن جزء من آليات تتعامل مع المال العام بلا قيود قانونية وارادية واضحة وهذا هو الحال منذ عام 1989م. يلاحظ المتابع الحصيف لمسيرة الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ان كل طرف -حسب اتفاق ضمني- سمح للآخر ان يتصرف باستقلالية تامة عن الآخر. ويبدو لنا احياناً، وجود خلافات ولكن كل شريك يعلم حدود اللعبة، وفي بعض الأحيان اتخيل علاقة الشريكين مثل زوجين مختلفين في كل شئ ويظلان مع بعضهما ويردد كل واحد: - والله لو ما الاطفال ديل ما اقعد معاها (أو معاه) ولا دقيقة! هكذا الحال مع الحركة والمؤتمر: لولا نيفاشا هذه لافترقا لأنهما لم يجدا ما هو مشترك بينهما في الرؤية وتناول كل قضايا. وأخشى ان يكون هذا الزواج الكاثوليكي في حالة انتظار قاس حتى فترة انتهاء الاتفاقية بعد ست سنوات. إن الحركة الشعبية مطالبة بالتوقف عند زهور قرنق الفكرية وان تتأمل فيها: فالحركة -للأسف- تتدحرج الآن في تفاصيل يومية تحجب عنها الافق. فالكل يمكن ان يحكم ولكن القليل جداً من يستطيع ان يفكر ويتأمل، فعلى الحركة ان تتمدد فكرياً وثقافياً قبل السياسي والتنظيمي. وهنا يدور اعادة قراءة الافكار التي اهتم بها قرنق رغم وجوده في الغابة وقيادة الجيش الشعبي، فهو بالتأكيد كان يرى أهمية الفكر في الحركة، وأظنه -باطنياً- كان يردد: لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية! أتمنى ألا نحاول تخليد قرنق عاطفياً، هذا مطلوب وانساني، ولكنني أكرر أن روحه القلقة لا شك تتساءل كل فجر: - يا سيلفا ويا أموم ويا بيتر ويا محمد يوسف ويا تابيتا ويا ياسر ويا اثيم ويا منصور.. كلكم! ماذا فعلتم بفكرة السودان الجديد؟ هل سقيتم زهرتي؟ www.alsahafa.info
|
|

|
|
|
|