|
المغرب بعيون سودانية ... كم أنتِ جملية يا أكادير (5)
|
بسم الله الرحمن الرحيم
د.ابوبكر يوسف إبراهيم [email protected]
المغرب الجميل بعيون سودانية....وكم أنت جميلة يا أكادير!! (5)
لندخل اليوم إلى ما يبهج النفس من الفنون المغربية التي تشكل عالم لا محدود من التنوع وعلى وجه الخصوص ذاك الجزء من هذه الفسيفساء الذي يسمى بالموشحات الأندلسية فقد وظفًّ المغرب كل الموزاييك وقطع فسيفسائه الرائعة المتجانسة في نسيج بهيج تطيب له النفس التي أضناها الترحال فقد نجح المغرب بإثراء منتجه السياحي بذكاءٍ وحرفية منقطعتي النظير ، وأمام ذلك لا يملك مثلي إلا أن يقول إن دواء النفس العليلة هو الفن الأصيل الضاربة جذوره في عمق تاريخ المغرب والأندلس. لقد أسعدني الحظ وحضرت وشاهدت وسمعت وطربت لحفلٍ غنائي أندلسي الوجدان كلمةً وطعماً واللون. ... عشت في موقع (شالّو) الأثري يوماً خالدٌ يُسجَّلٌ فيما تبقي من ذاكرة العمر، وهي حقيقةً لحيظات خوالد تجترها الذكري والذاكرة يوم تركن وتعود إلى جذورها بعد طول اغتراب وترحال، وكان من إيجابيات ذلك الترحال تنامي عشق الوطن فغدا حنيناً تراكمياً متجددا. المكان موقع (شالّو) الأثري حيث أبدع الجوق( الأركسترا) وقد ازدهى المكان بجمال أخاذ جملته اليد المغربية بإضاءة محترفة نبشت لنا عبق تاريخ المكان لنعيش حقبته؛ الجوق الكبير المنظم بحرفية وذوق رفيع من ملبس وآلات عزف وأصوات يبهرك ويشدك ؛ إضافةً إلى الشرح الوافي الذي يجعلك تقر بأن المغرب يجيد فن حفظ التراث والتاريخ وإستعادته؛ ولقد قدمَّ الفنان (رشيد الصباحي ) خلفية هذا الفن بمقدمات تحملك إلى عهود وزمانات المجد الأندلسي .. و هنا حقيقة علينا الإقرار بها وهي أن ( الفنان رشيد الصباحي) هو كنزٌ من الفنٌ الأندلسي يتحرك على قدمين؛ ولعمري لم أشاهد جوقاً بهذا الحجم والإنتظام ودقة الإيقاع؛ ولا حتى تلك الجِوَق التي تعزف السيمفونيات العالمية الكلاسيكية لموزارت أو بتهوفن أو تشاوكوفسكي، لقد ذُبت وجداً حينما أنشد الجوق ( يا ليل الصب متى غده؟) أبحرت بي الكلمات عبر تاريخ ثر وجميل ...أين نحن من هذا الفن والذوق الرفيع ونحن في مفتتح القرن الواحد والعشرين حين تطل علينا فتاة شبه عارية لتسمعنا ما يطلق عليه (كليب) فتشرع عقيرتها (شقشقلي .. شقشقتلو ..شقق.. شوق) فشتان بين هذا وذاك!! فبالله عليكم هل هذا مغنى يطرب له بني البشر الراشدون!!؟ الإجابة متروكة لك القارئ العزيز!!... تلك الليلة الساهرة حملتني إلى مجلس الخليفة هارون الرشيد في المشرق وإلى مجلس المعتمد بن عباد في الأندلس ومجالس ابنته الولادة بنت المستكفي بالله المعتمد بن عباد في المغرب ؛ وأخالني في حضرة ابن حزم وابن زيدون وابن عدوس ؛ فلا أملك غير أن تتمايل فرائصي طرباً بعد أن إنتشلت من قاع حضيض الهاوية وأستدعي تاريخ شعرنا وطربِنا حتى الثمالة أيما طرب!!.. وتحسرت على(زرياب والموصلي ) والحمد لله أن مطربينا في السودان ما جنحوا لمستوى(شقشقتلي) ولجئوا للتراث حيث عنفوان الكلمة المرتبطة بالحس والمشاعر والعفة وبحداثة محمودة لأنها لم تمس الجوهر أو المظهر بل كأنه اعتراف صريح منهم بفضل السلف على الخلف، فها نحن ما زالنا نستنشق عبق التراث بعنفوانه المتجدد دوماً في أرواحنا وهذا يدل على رفض النفس لكل ما يمت إلى الإسفاف والركالة بصلة؛ وأنه رفض ضمني وصريح لما هو دون مستوي ذاك التراث. ومن نافلة القول أن أقول أنني قبل ذلك بيومين حضرت مهرجان الموسيقي العالمية في (كازا) حيث التقى كمٌ هائل من مطربي العالمين العربي والغربي من فئة الشباب ليشاركوا بلغة الفن التي لا تؤمن بالحواجز ولا بأي تفرقة في لون أو عرق أو معتقد في التقريب بين بني البشر... أيضاً كانت تلك ليلة رائعة بكل المقاييس ، والذي يميز هذا المهرجان هو أن جميع المطربين المشاركين وصلوا إلى اتفاق ضمني غير مكتوب بالبعد كل البعد عن الكلمة الهزيلة التي هي على وزن(شقشقلي .. شقشقتلو) وكأنما أرادوا أن يسترجعوا مجد الكلمة في عرش قصيد الأندلس فآثروا أن لا يدنسوا النفوس التي أتت لتستمع إلى فن وطرب أصيل!! ... برز سؤال ملح على النفس وقلت : لماذا لم يشارك السودان وموسيقاه أقرب وأشبه بموسيقى الأمازيق كأنما هما توأم رضعا من ثدي واحد؟!!... أين عبد الكريم الكابلي الذي أؤكد أنه لو زار المغرب كسفيرٍ للفن السوداني لكان فعل فعل الساحر في تنمية وتقوية الأواصر السودانية المغربية . أما صاحب ( مدلينا ) فمكانه مهرجان (أكادير) حيث تنطلق فعاليات الفن الأمازيقي الذي هو توأم الإيقاع السوداني وأخال أن أكادير كلها سترقص على ألحانه لأن أهل أكادير أهل فن وطرب وهي أرض بطولات... وعموماً كل مناطق الأطلس الجبلية لقنت المستعمرون دروساً في كيفية الحصول على الحرية من براثن اللئام. المهرجانات الفنية التراثية تقام بين أشهر يونيو, يوليو وأغسطس, و تتسارع وتيرتها وتسابق الزمن كل ولاية ومنطقة بالمغرب لرغبتها أن تشارك بإبداعاتها الفنية والتراثية بغيرة محمودة وكمنتج سياحي وثقافي يرتاده البشر من كل بقاع الدنيا!! ، ولأن الوطن ملك للجميع وله دين في الأعناق فكلاً يريد أن يسجل مساهماته ويعمل بجدٍ وإخلاص حتى يضمن لعطائه التميز عن بقية المناطق؛ إنه تنافس محمود محبوب ومُشَرِّف في حب الوطن، مما يجدر ذكره ولعل من المناسب أن نسجل وننوه بعطاء المرأة في ضروب الحياة ومجالاتها في المغرب ، أن مشاركة المرأة في الفنون هي أمر أساس وجوهري ورئيس، خاصة في ميدان الفنون والتراث، فالغناء المغربي يعتمد على الإيقاع السريع الذي يحرك كل خلجات الجسم والروح والنفس، أما الرقص الشعبي فهو عبارة عن ملاحم تروى على إيقاعات معبرة، ومن لم يشاهد إيقاعات الرقص التعبيري للمايسترو (محو الحسين الشيبان) فهو لم يشاهد فناً تعبيرياً راقياً يعتمد على الحركة والإيقاع والكلمة ، وقد أسبغ عليه أهل المغرب لقب ( المايسترو) حتى غلب اللقب على الاسم فأصبح رمزاً وطنياً يشار إليه بالبنان، وقد جاب هذا الرجل البسيط بفنه العملاق كل دول أوروبا فأدهشها، والتقيت بعض السياح البلجيك وتناقشنا عن فن الأمازيق المغاربة، فتحدثوا عنه بخلفية من يملك ناصية الأمر، وقالوا لي أنهم حضروا خصيصاً لمشاهدة المايسترو وفرقته!! ومن المناسب أن نذكر هنا أن المايسترو هو ذاك السبعيني ـ حسب تقديري ـ الذي ما زال يرقص ويهزج على إيقاعات فرقته وأهازيجها, وخوفاً من أن يندثر هذا الفن الإيقاعي الراقي فقد نقل كل أسرار هذا الفن إلي أبنه الذي هو عضو في فرقة أبيه كما إن أسرار هذه الإيقاعات الساحرة عميقة وكلٌ منها ملحمة بذاتها، وفي بعض العروض يترك لابنه قيادة الفرقة ويجلس الأب مع المشاهدين ليشاهد الابن وهو يرقص ويقود الفرقة وفي ذات الوقت ويبدي الأب ملاحظاته على أداء الابن فيطرب ويتبسم الحضور؛ قلت في نفسي أن الإبن سر أبيه كما يقول المثل لأنني شاهدت الأداء حين تتبعت أثاره ولحقت به في سوق الأحد في (أكادير)، وكأن الرجل يريد أن يضمن استمرارية هذا الفن الأصيل من بعد رحيله ـ بعد عمرٍ طويل ـ إنشاء الله. وهذا الفنان يؤمن بالفن من أجل الفن والجماهير وأن الفن غذاءٌ روحي . إن يوم المايسترو يبدأ بعد صلاة الفجر وبعد أن يتناول هو والفرقة طعام الإفطار يبدأ وفرقته في تسخين الدفوف وهي تماماً ( كطار المداحين لدينا) ثمَ يجوب القرى في سيارته ( البيجو إستيشن) في أيام الأسواق فلكل منطقة يوم سوق ٍ جامع يؤمه الناس، لأن كل سوق( عمالة أو قرية أو ولاية) يختص ويشتهر بما يميزه من المنتجات التي يحتاجها الناس في حياتهم المعيشية اليومية ولعمري أنه نوع من التكامل والتمازج والتكافل الفريد، وحيث ما توقف المايسترو يبدأ وفرقته ممارسة هذا الفن الأصيل حيث يحتشد الناس من شتى بقاع العالم من السياح الأجانب وأيضاً المغاربة فيهزجون ويمرحون ويطربون ويرقصون على أنغام تلك الإيقاعات الراقصة ؛ وبذلك يدخل هذا الرجل البسيط السرور إلى تلك الأنفس المطمئنة القانعة و المستقرة في القرى وبين الحقول حيث ينتقل الفن إلى حيث المتلقي!! ... إنها رسالة الفن الفريدة جسدها ( محو الحسين الشيبان) وقد منحه الملك محمد السادس وساماً ملكياً رفيعاً في عيد العرش ضمن من أعطوا وأسهموا في رفعة الوطن بفنهم الرفيع الذي أبهر به العالم. دعوني أعرج بكم إلى عالم المجاذيب و(عبد الرحمن) المجذوب الذي عاش في نهايات القرن قبل الماضي وقد اشتهرت الآن أقواله وأصبحت حكماً بعد أن كان يوصم بالجنون في عصره ، والمجاذيب لدينا في السودان وهم أصحاب النفوس الشفافة التي تصوَّفت وارتقت أنفسهم وهجرت دنيانا واغتربت بروحها من عالمنا وغدت تتغزل في جمال وبهاء الذات الإلهية ويوصفهم العافون بالله بأنهم أهل ( الحال) ويتخاطبون مع بعضهم برمزية وروحانية مفهومة لكليهما، ومن هؤلاء مجذوب أشتهر في المغرب وقد أصبح سائحاً يجوب مدن المغرب ويتحدث بلسان الحال ، ومن أشهر ما قاله :ـ(أخطر الأسواق سوق النساء , فمن دخله عليه أن ينتبه لنفسه حتى لا يكون عرضة للبلاء). المجاذيب أكثر الناس شفافية وهم أعقل أهل الأرض وعندما فطنوا لجنون من حولهم اغتربت أرواحهم وبقوا بأجسادهم يتعاملون معنا بالظاهر لأننا بالتأكيد نحن المجانين وهم العقلاء ولأنهم قد انشغلوا بالحب الإلهي بينما نحن انشغلنا بالدنيا وهي كالظل لا يمكن اللحاق به، فهم اختصروا الطريق واغتربوا بأرواحهم عنا حتى لا تُدنس شفافيتها بطلب الدنيا ونسيان الآخرة والأصل أن الله خلقنا لعبادته وفي ذات الوقت قال سبحانه وتعالى (أسعوا في مناكبها) والسعي حركة زمنية مؤقتة لكسب الرزق وهو وسيلة لغاية هي سد الرمق ولو صبر الناس لأتاهم رزقهم. قال لي:ـ محدثي الأستاذ/ سعيد وشاطر وهو شاب مغربي مثقف ومستنير يعمل محاسباً في الفندق الذي أنزل فيه عن مقولة هذا المجذوب إن كانت تنقص أو تحط من قدر المرأة؟. فأجبته: ليس هذا صحيحاً بالضرورة, فربما كان هناك ما يحدث من بعض النساء في تلك الحقبة قد يستوجب ما قاله، فلكل مقام مقال، ونحن لم نعش تلك المرحلة لنتحقق من عدالة أو ظلم أو صحة ما قاله بحقها، فالإسلام كرّم المرأة وأنزلها منزلتها اللائقة بها، ومن الظلم أن نصف الرجل بعد قرنين ونيف من الزمان بأنه تجنى على المرأة أو أنه مجنون ، ربما أن حواء عصره طغت وتجبّرت ولأن أهل الصُفّة يؤمنون بالباطن مثلما يؤمنون بالظاهر، فهم يعتقدون أن الله قد خلق كل شيء في أحسن تقويم وإستخلف الإنسان في الأرض ليعمرها وليأمر بالمعروف وينهى عن المنك،, فلما لم يستطيعوا تحمل الفعل المخالف من الناس أو المرأة في تلك الحقبة أغترب وأصبح لسان الحال لديه تحذيريا حتى يقوم الناس من أنفسهم!!, هذا اجتهاد شخصي، وأنا من جانبي أقول لك إن المرأة هي الأم، والخالة؛ والعمة، وهي الأخت؛ وهي الزوجة؛ وهي الابنة، ومن أجل أمي أحببت كل نساء العالمين... في رحم المرأة يا أخي استودع الله خليفته في الأرض.. الإنسان!! أخي, أنا لست أخير منك فو الله أنت أخير وأنقى مني. فما كان من الرجل إلا أن قال لي باللهجة المغربية ( صافي ) لقد أقنعتني فو الله لقد اتضح لي أننا نجهل أهل السودان الذين يغلب عليهم التواضع مع العلم والثقافة... قلت له إن البشر يتعلمون بطريقة أفضل من بعضهم البعض بالاحتكاك والتواصل وقال تعالى( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). ومن قال أنه ملك ناصية العلم فقد جهِل، وأسأل الله لي ولك براءة الذمة من هكذا ذميمة. دعاني الأخ سعيد وشاطر لزيارة منزله وأسرته ووالديه وأخواته حيث يريدني أن أفتح حواراً مع أخته الملتزمة الآنسة ( الزهراء) بتشدد بتعاليم الإسلام وأن أشرح لها أن الدين يسرٌ وليس عسر . كان منزلهم منزلاً شرعياً روعيت فيه آداب الإسلام من غير تفريط ، ولكن الأخت (الزهراء) تميل إلى العمل بالنصوص دون مراعاة للزمان والمكان فناقشتها إن كانت تكفر بني البشر فردت :ـ ( لكم دينكم ولي دين ) , وعقّبت بالآية الكريمة :ـ ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر *إلا من تولى وكفر فيعذبه العذاب الأكبر). ثمّ وجهت حديثي لسعيد فقلت: لا أجد أي مغالاة أو شطط أو تطرف في التزام الأخت الزهراء في ممارسة إسلامها وآدابه . فقال لي: أن الموضوع هو أنها لا تريد أن تعيش سنها مثل رصيفاتها، ألم يقل النبي الكريم عليه صلوات الله( التقوى ها هنا .. التقوى ها هنا)؛ عندها فهمت أن العزيز سعيد يتضجر من أخته لارتدائها الحجاب وهذا حال الغالبية العظمى من نساء المغرب؛ فإذا بي أخاطبها أن تبدي رأيها فيما ألمح به أخوها سعيد فما كان منها إلا أن قالت بضع كليماتٍ أذهلت أخاها سعيد فقالت : ( هل يعيبني أن أكون مستورة!!)... استوقفني تعبير ( مستورة) كثيراً وملياً ودعوت لها بعفوية أسأل الله لك دوام الستر في الدارين, الدنيا والآخرة )... لقد شعرت بأني وسط أهلي وعشيرتي فقد كان كرم عائلة وشاطر غامراً... لقد قدموا لي كل ما يمكن أن يشتهيه ضيف غريب وأهمه أنهم أشعروني بأن واحد من هذه العائلة الكريمة التي تجسد الروح المغربية الإسلامية العربية الأصيلة. ...يتصل.
(عدل بواسطة ابوبكر يوسف إبراهيم on 05-20-2006, 08:51 AM)
|
|

|
|
|
|