|
كتاب لاتين امريكا
|
في وداع أديب بارجواي روا باستوس: عاش لهجاء الظل العالي للطاغية شريف بهاء الدين بعض الروائيين العالميين المشهورين مثل فوكنر وناريان وجارسيا ماركيز شيدوا صروحهم الادبية بعد جهد ، البعض الآخر مثل الذي توفي الأسبوع الماضي كاتب بارجواي أوجستو روا باستوس عن عمر 88 عاما نتيجة قصور في وظائف القلب . وكان قد خضع لعملية جراحية عاجلة في المخ . حظي باستوس بشهرة أدبية واسعة في جميع أنحاء العالم بعد نشر روايته ¢ أنا الأعلي ¢ عام 1974 التي تتعرض لحكم الدكتاتورية . ولد عام 1917 في أسونسيون وهو ابن لأب برازيلي ذي أصول فرنسية وأم هندية . و يصنف روا باستوس في مصاف كبار الكتاب في امريكا اللاتينية مثل جابرييل جارسيا ماركيز وماريو فارجاس يوسا . يعد باستوس من أهم كتاب بارجواي وقد أجبر علي العيش في المنفي لمدة 50 عاما في الارجنتين واوروبا . لكنه لم ينس أبدا جذوره . وفي أحوال كثيرة جمع اسلوبه بين اللغة الاسبانية الكلاسيكية واللغة المحلية للسكان الاصليين والتي يطلق عليها ¢ جوراني ¢ وهي اللغة التي يتحدث بها الهنود في بارجواي وبوليفيا وجنوب البرازيل . نتج عن هذه التوليفة اسلوب فريد ومفعم بالحيوية بالاضافة الي تميزه بموسيقي صوتية . فاز بجائزة جوجنهيم عام 1971 ومنح جائزة سرفانتس عام 1989 . مثل العديد من الروائيين بدأ حياته المهنية بكتابة الشعر و أصبح معروفا كأحد كتاب جيل الأربعينات من أمثال هيرب كامبوس سيرفيرا وجوزفين بلا وأصغر زميل له في المنفي ألفيو روميرو . في جميع أعماله كثيرا ما يتذكر فترة طفولته في قريته ¢ ايتورب ¢ القريبة من بلدة أسونسيون حيث كان والده يدير معمل تكرير للسكر . و أتخذها كخلفية للكثير من أعماله القصصية . أثناء فترة شبابه كان روا باستوس شديد الحماس تجاه عقائده وافكاره , في عمر 15 عاما تطوع في حمل نقالات الجرحي أثناء الحرب الاهلية بأحد السهول . كان مفتون للغاية بالأدب الأسباني في القرن السابع عشر وبالاسلوب الشعري المهذب الذي يتسم بالتلاعب بالألفاظ والزخرفة اللفظية والذي حاول تقليده فيالبداية . كان مهتما للغاية بلغة الجوراني الهندية . وقد كتب للصحافة مثل ¢ اندبندنت البايز ¢ وأصبح مراسلها في لندن لفترة . أيضا كان أول من كتب خصيصا للراديو . و أثناء الحرب الأهلية عام 1947 عين ملحقا ثقافيا لبارجواي في العاصمة الأرجنتينية بيونس ايرس . وهناك بدأ في كتابة القصص القصيرة والروايات ومن بينها قصته ¢ رعد في الأوراق ¢ عام 1953 التي تفوقت في تصويرها لعنف مظاهرات الأحتجاج الاجتماعي علي أعمال كاتب جواتيمالا الشهير ميجيل أنجل استورياس الفائز بجائزة نوبل في الأدب عام 1967 . وقد تأثر باستوس بروايته ¢ السيد الرئيس ¢ عندما كتب رواية ¢ أنا الأعلي ¢ . تعد رواية ¢ أنا الأعلي ¢ من أهم الأعمال الأدبية لكتاب امريكا اللاتينية . وقد كتب عنها صديق روا باستوس الحميم الكاتب كارلوس فيونتس : (( الرواية حوار بين روا باستوس و روا باستوس تغطي أحداثا تاريخية خلال فترة حكم الدكتاتور القاسي خوزيه جاسبار رودريجز (1816 1840 ) تعالج الرواية فترة الحرب في شاكو . وكالعادة فان المباديء الأنسانية في اعمال روا باستوس أثارت الشفقة علي ضحايا حرب حمقاء . الأعمال البطولية فقط ومدي صبر ودماثة خلق الذين عانوا من ويلات الحرب يمكن أن تعوض عن الشر الذي يرتكبه الإنسان ضد اخيه الإنسان )) . وفي نفس الوقت فان الطبيعة الروحانية للدكتاتور والعيوب الانسانية تم طرحها بكل صدق وأمانة في الرواية وأظهر باستوس صاحب أعلي سلطة علي أنه مؤسس وأب البلاد . وأهتم الكاتب بأن يوضح لنا امكانية ان يكون هذا الدكتاتورالفاقد لصوابه السياسي عبقريا و بامكانه التغلب علي حكومة القلة والتهديدات بالتدخل الأجنبي . وقد كان فيونتس في البداية هو الذي اقترح بتشجيع من الكاتب ماريو فرجاس يوسا مشروعا لكتاب لرواية مشتركة توحد القارة يتولي فيها كل كاتب فصلا عن أحد الطغاة العديدين في تاريخ بلاده. لم ينجح المشروع ، لكن نتج عنه ثلاث روايات جديدة رائعة : ¢ خريف البطريريك ¢ لجابريل جارسيا ماركيز (1976) _ ¢ أسباب الدولة ¢ لأليخو كاربنتيه (1974) _ ¢ أنا الأعلي ¢ لأوجستو روا باستوس (1974 ) . نشر روا باستوس عدة مجموعات من قصصه القصيرة المحبوبة منها ¢ أرض قاحلة ¢ عام 1966 عن رحلة بحث ساحرة في منطقة غير مأهولة للحياة الحديثة عن حقائق غامضة خارقة وهي نقيض لرؤية ت . اس اليوت الكئيبة عن البشرية . ونشر عمله ¢ السير علي المياه ¢ عام 1967 . وهي مقتطفات أدبية مختارة لرواياته القصيرة التي كان يصدرها ما بين الروايات الطويلة . أو فيما بعد كان يضمها الي روايات طويلة . ومن أعماله الأخري ¢ ابن رجل ¢ عام 1960 والتي ترجمت الي الانجليزية عام 1965 و ¢ قضية تحترق ¢ عام 1968 و ¢ الجسد الحالي والنصوص الاخري ¢ عام 1972 . ويقول روا باستوس : ¢ كل الطغاة يعيشون من اجل انجاز وظيفة واحدة فقط وهي أن يحلوا محل الكتاب والمؤرخين والفنانين والمفكرين وهلم جرا ¢ . وتبرز سمة الدكتاتور مرة أخري وبصورة تثير الدهشة في شخصية كريستوفر كولومبس . وقد أظهرها باستوس في روايته ¢ يقظة أدميرال ¢ عام 1992 علي أنه بطل تنقصه صفات البطولة . وبأسلوب مميز لفضح الزيف ، جرد روا باستوس كولومبس من صفته الأسطورية الملحمية وكشف عن حقيقة الرجل الذي كان يظن أنه أكتشف الهند لكنه وجد نفسه في امريكا . وعندما كان باستوس في مدريد من أجل طرح كتابه ¢ يقظة أدميرال ¢ قال أن روايته كانت محاولة لأتخاذ نظرة أكثر توازنا تجاه استعمار العالم الجديد . وقال عن الرواية انها ليست رواية تاريخية لكن علي العكس هي عمل أدبي خالص ، قصة مغامرات عن رجل ربما يكون كولومبس . مثل هذه العبارات بدت استفزازية في ذلك الوقت ، عندما كان الأسبانيون يحتفلون بالذكري المئوية الخامسة لأكتشاف كريستوفر كولومبس للامريكتين . وفي مؤتمر صحفي آخر نصح روا باستوس الشعب باغتنام الفرصة التاريخية والعمل علي توحيد الحلفاء الذين تجمعهم طبيعة ثقافية واحدة ويقصد بهم جميع الشعوب المتحدثة باللغة الأسبانية ، وطالب بالغفران عن جميع المجازر التي ارتكبها المستعمر الأسباني في حق السكان الأصليين للقارتين الأمريكتين وكشف باستوس أنه يحمل جنسية مزدوجة باراجوية / اسبانية حصل عليها أثناء قيامه بوساطات لتسوية خلافات أبان حكم الدكتاتورين المخيفين فرانكو وستروسنر . وذكر أن مسئولية التدخل الأجنبي في قارتي امريكا تقع علي عاتق الأشخاص الذين ينحدرون من أنساب هجينة أوربية وهندية امريكية . و انهم كانوا أسوأ من استغل الهنود الأصليين . و أنهي حديثه باعلان عنيف : ( إن شعوب المايا والأزتيك والأينكاز قد استغلوا ودمروا الشعوب الأضعف منهم لذا لا يوجد شخص يديه نظيفة تماما ، لا يستطيع أي شخص اتهام الآخر بالهمجية الاستعمارية ) . وبعد أن قضي 52 عاما في المنفي سمح لأوجستو روا باستوس بالعودة آخيرا الي وطنه . وقد حاولت الدولة تعويضه بمنحه جائزة أدبية قدمتها له وزارة التعليم قيمتها خمسة آلاف دولار امريكي ، وزعمت انها تقديرا لآخر رواية له ¢ مدام سو ¢ التي صدرت عام 1995 . سوف يظل روا باستوس شخصية رمزية هامة ككاتب ليس فقط في وطنه لكن لكل شعوب امريكا اللاتينية . ويؤكد باستوس علي أن الكتابة يجب أن تكافح سوء استعمال السلطة من خلال ملكة الأبداع . ويقول : ¢ السلطة ميزة هائلة وهي الجانب الخاطيء للكبرياء الذي يريد أن يسيطر علي الآخرين _ وهذه علامة علي مجتمع مريض ¢
|
|

|
|
|
|
|
|
Re: كتاب لاتين امريكا (Re: Sabri Elshareef)
|
كارلوس فوينتس يرثي فنانا خانه جسده مبكرا: ابني.. رجل حتي النهاية ترجمة: شيماء سامي كان فنانا شابا في بداية طريقه مع القدر الذي لايستطيع أي إنسان الوقوف في طريقه.. فهو لم يكن سوي لوحة رائعة لم تكتمل عندما كنا نلمس جبهته الملتهبة من ارتفاع درجة الحرارة وهوعلي فراش الموت، كانت والدته تقول أيستطيع ولدنا افنان مواجهة القدر، الوجوه المعذبة في لوحاته لم تكن أبدا وعدا بأي شيء وإنما نتيجة ونهاية حتمية لكل شيء أعلم أن ذلك أصاب والدته بالرعب التي تريد أن يكون ابنها مثال السعادة والابداع ولكن الحقيقة، أن جسده الضعيف لم يخنه، فالانسان لايملك أي إرادة علي الجسد.
كانت تنظر إليه متأملة اندماجه في العمل، يرسم وحيدا فقط لنفسه سيستطيع ابني اظهار موهبته للجميع ولكنه لن يكون لديه الوقت ليفرح بنجاجه سيعمل ويتخيل ولكن لم يتح له الوقت ليبدع ويرسم أكثر لوحاته بالفعل تحمل معاني بسيطة دقيقة لايستطيع أي أنسان إلا الانبهار بها، ربما يكون ذلك تعويضا بسيطا من الحياة ولكن لفترة قصيرة جدا.. وبالرغم من إدراكه بهذه الحقيقة، فهو لايرسم أبدا اليأس والاحباط حتي وإن كان ذلك هو السمة الغالبة في حياته. عندما بدأت في كتابة تلك السطور من عدة سنوات، اعتقدت بإمكانية قيامها بدور الرقبة لحماية ابني من خطر قادم لامحالة وليس للتنبؤ بقرب موته كنت أفكر وقتها في ولدي لوما كارلوس فوينتس الذي ولد في 22 أغسطس 73 بباريس وتوفي في بترو فالترا بجاليسكو في 5 مايو 1999 في البداية لحظنا وجود دوائر زرقاء تغطي جسمه واعتقدنا ان ذلك من اثر سقوطه المتكرر أثناء تعلمه المشي وانتظرنا الخطوة التالية التي ينطق فيها باسمنا ولكننا اكتشفنا بعد ذلك السبب كارلوس مصاب بمرض تجلط الدم. وكان من الضروري أن يأخذ كل يوم حقنة لسيولة الدم في العروق كما نعتقد بالرغم من قسوة وآلام العلاج، أن ذلك سيمد في عمره وسيحميه طوال حياته من الموت. ولكن العدوي بمرض الايدز، جعلت مريض التجلط الدموي ضعيفا بدون أدني حماية والخطأ كان واردا ربما بسبب قرارات الأطباء الخاطئة أولبعض السلوك الإجرامي غير المسئول من جانب السلطات في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية فالمريض دائما مايكون في حالة ضعف معرض لكل أنواع العدوي. كانت طفولة كارلوس مليئة بالآلام كما لوكانت مقدمة طبيعية للموت والإسراع في بدء حياته الفنية ولهذا فقد خصص وقته القصير بالكامل للفن والموسيقي وللقراءة في سن الخامسة، فاز بجائزة 'سانكر' لرسوم الأطفال التي تقام بمدينة نيودلهي بعدما أرسل المدرسون في مدرسته بريستون الابتدائية لوحاته بدون علمه أو علمنا ومن وقتها، اكتشف موهبته ولم يترك الريشة من يده أتذكر جيدا كأنه بالأمس، عندما سافرنا في الصيف إلي الأندلس، كنا نضطر للوقوف بين لحظة وأخري، ليستطيع كارلوس التقاط الصور واختطاف زهرة عباد الشمس التي يحبها كثيرا.. وعندما رجعنا زرع بذور عباد الشمس في حديقة منزلنا بجامعة كمبردج وظننا في البداية أنها بكل تأكيد لن تثمر في الجو البارد ولكن عند عودتنا في الخريف، وجدناها تفتحت كما لو كانت لوحة جميلة صنعها بدقة واتقان ومن ذلك الوقت، حدثت قفزة كبيرة في حياة كارلوس، بدأ يكتشف أنواع الفن المضيء البسيط في لوحات فناني عصر النهضة بلليني والفن التعبيري في لوحات الفنان الياباني يوتمرو. بدأت الصورة تحتل أهم جزء في حياة كارلوس من الصور العادية ثم الادبية وانتهاء، بالصور الفوتوغرافية والسينمائية فهو يري الصورة تجمع في ثناياها العديد من الحواس المهمة: السمع البصر والتذوق، وفي عام 94 فتك به مرض الالتهاب السحائي الذي علي أثره فقد حاستي السمع والبصر اللتين كانتا أهم حواسه كان لديه شغف غير عادي بسماع موسيقي بوب دبلن ورولان ستون والفيس بريسلي ملك الروك الذي كان يذهب كل عام في 6 أغسطس إلي قبره للاحتفال بيوم وفاته. لم أستطع كبقية الآباء مجاراته في شطحاته ونزواته الموسيقية وعلي النقيض، احسست برغبتي في مجاراته في شغفه للأدب: أشعار نيشته بودلبر رامبيو مسرح أوسكار ويلد ومع الوقت تجاوز الأمر حد القراءة اليومية، فقد أصبح كارلوس يتجاوز الصورة ليبحث عن الاستعارة بمعني يبحث علي تجسيد الاشياء الرمزية في العالم من منطلق علاقاتها البعيدة والغريبة ببعضها ومع ذلك فهي علاقة حقيقية فإنه يريد الوصول إلي أصل العلاقة المجهولة ولكنها طبيعية بين هذا وذاك. وعلي أسرة المستشفيات التي قضي فيها معظم حياته لم يترك في أية لحظة لا القلم ولا الورقة ولا الشعر من يديه ربما في محاولة بائسة للبحث عن المغني الخفي للأشياء التي أضاءت حياته وفي نفس الوقت سيفقدها بعد وقف قصير. استكمل كارلوس مسيرته الفنية في حالة من الآلام والمعاناة ومن أن يشتكي لأحد نظراته احيانازائفة وأحيانا متوهجة وكثيرا ما كان يقول أن معاناة الأجساد لايمكن اقتسامها مع أحد ولايتقبلها الآخرون وإذا لم نستطع تقل إحساسنا بالمرض والمعاناة من خلال وسيط أيا ماكان سواء شعرا أو لوحة، فإن الألم سيظل حبيس سجن وحيد بداخل الجسم العليل لايدركه أحد وأن هناك فرقا شاسعا بين القوي أن الجسد يؤلمني والجسد متألم وهذا بالفعل مايتساءل عنه 'الاما كساري' في كتابه الضخم 'الجسد العليل': كيف نعطي الفرصة للآلام لتنطق وتتحدث؟ وقد أدرك كارلوس مدي صعوبة الإجابة علي هذا السؤال، فكتب 'هل سأكون غدا علي قيد الحياة؟' هل سأكون غدا علي قيد الحياة؟ لا أعلم ولكني لن أغادر هذه الحياة بدون مقاومة هذه الحجرة هي عالمي أهرب وعيوني مغمضة تحت الأغطية لأسمع صوت الخوف يهرب في صمت خوف يتحطم ويواجه خطر لا أعرفه مرحبا بك في الغموض ولكن رد فعلي هوالآخر غير معروف فهو مذبذب إذن فإن خوف ليس لديه الوقت للتفكير في الخوف والجمال يستأثر علي تفكيري بالكامل أظهر ابني تعلقا شديدا بالحالات المشابهة لشباب من الفنانين توفوا في سن مبكرة أمثال جون كيتس وجيمس دون وجوديا باريسيكا.. كان كارلوس يقول عنهم ان الوقت لم يمهلهم لفعل شيء سوي ان يكونوا انفسهم فقط. أحيانا ماتتحول تعويذة الموت الي نبوءة بالموت في كتاب 'سنوات مع لورادياز' حيث شبهت فالي كارلوس الذي توفي شابا هو الآخر وكان يحلم بأن يكون شاعرا مشهورا بابني كارلوس. يبدو الأمر كما لو كان تضرعا خفيا لموت ابني الذي يمثل الجيل الثاني من عائلة لورادياز. 'صمت هدوء وحدة كان هذا مايجمعنا هكذا كانت لورا تفكر ونحن نحتضن يديه الساخنتين فاننا لانظهر الاحترام لأحدنا الآخر إلا عندما تجمعنا لحظات سكينة نقترب فيها من بعضنا إننا عادة لا نفصح عن مشاعرنا كما لوكان الأمر لايحتاج إلي ذلك ولكن اخفاء هذا الحب يعتبر خيانة لأنه لايظهر إلا في اللحظات الحرجة والمخطط لها مسبقا' 'كل تلك المشاعر جمعت بين قلبي لورا والأب سانتياجو فهما علي يقين أن سانتياجو الأبن سيموت وعليه فقد اتفقوا واجتمعوا وقرروا شيئا واحدا لا خلاف عليه اظهار الشفقة نحو الابن في نظرات الابن كانت هناك معاني عميقة يرسلها عامة وللعالم كل صباح: من له الحق في الرثاء علي؟ لاتخونني بهذه الشفقة القاتلة. فأنا سأظل رجلا حتي النهاية.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كتاب لاتين امريكا (Re: Sabri Elshareef)
|
وماركيز يكتب عن الأدب: أن تكون كاتبا جيدا أو رديئا مسألة قرار في مقابلة صحفية قديمة، قال خورخي لويس بورخيس أن مشكلة الكتاب الشباب في ذلك الحين كانت في أنهم يفكرون وهم يكتبون بالنجاح أو الفشل. في حين لم يكن يفكر في بداياته إلا بالكتابة لنفسه. ويروي قائلا: 'عندما نشرت كتابي الأول عام 1932، طبعت منه ثلاثمائة نسخة وزعتها علي أصدقائي، ما عدا مائة نسخة منها حملتها إلي مجلة 'نوسوتروس' فنظر أحد مدراء المجلة، وهو الفريدوبيانتشي، إلي مذعورا وقال: 'وهل تريدني أن أبيع كل هذه الكتب؟' فرد عليه بورخيس: 'لاطبعا. فرغم إني كتبتها، غير اني لست مجنونا'. والحقيقة ان الصحفي الذي أجري المقابلة، الكيس خ. زيسمان، الذي كان في ذلك الحين طالبا من البير ويدرس في لندن، روي علي هامش تلك المقابلة ان بورخيس قد اقترح علي بيانتشي ان يدس نسخا من الكتاب في جيوب المعاطف التي يعلقها المحررون علي المشاجب في مكاتبهم، عسي أن يتيح ذلك نشر بعض الملاحظات النقدية حوله. أثناء تفكيري بهذه الحادثة، تذكرت حادثة أخري ربما تكون معروفة، وذلك حين التقت زوجة الكاتب الامريكي الشهير شير وود اندرسون مع الشاب وليم فوكنر وهو يكتب بقلم رصاص ويسند أوراقه علي عربة قديمة. فسألته: 'ماذا تكتب؟' فرد عليها دون أن يرفع رأسه: 'رواية'. ولم تستطع السيدة اندرسون إلا أن تهتف: 'رباه!'. ومع ذلك، فقد بعث شير وود اندرسون بعد عدة أيام إلي الشاب فوكنر يقول إنه مستعد لتقديم روايته إلي ناشر، وشرطه الوحيد هو ألا يكون مضطرا لقراءتها. كان ذلك الكتاب هو Soldiers Pay، الذي نشر عام 1926 أي بعد ثلاث سنوات من نشر كتاب بورخيس الأول وكان فوكنر قد نشر أربعة كتب أخري قبل أن يصبح كاتبا معروفا، يوافق الناشرون علي طبع كتبه دون مزيد من اللف والدوران. ولقد صرح فوكنر ذاته يوما انه بعد هذه الكتب الخمسة الأولي، وجد نفسه مضطرا لكتابة رواية إثارية، لأن الروايات السابقة لم تؤمن له من النقود ما يكفي لإطعام اسرته. وقد كان هذا الكتاب الاضطراري هو 'الحرم' Sanctuary، والإشارة إلي الكتاب جديرة بالذكر، لأنها تظهر بجلاء الفكرة التي كان يحملها فوكنر عن رواية الإثارة. لقد تذكرت هذه الاحداث عن بدايات عظماء الكتاب خلال حوار دام نحو أربع ساعات، أجريته مع رون شيبرد، أحد المحررين الأدبيين في مجلة 'تايم' والذي يعد دراسة حول الأدب الامريكي اللاتيني. ثمة أمران اثنان جعلاني أشعر بالرضا عن هذه المقابلة. الأمر الاول هو أن شيبرد لم يحدثني ولم يجعلني أتحدث إلا عن الأدب. وأثبت دون أي أثر للحذلقة أنه يعرف جيدا ما هو الأدب. والأمر الثاني هو أنه قرأ بتمعن شديد جميع كتبي، ودرسها جيدا، ليس كل كتاب منها علي حدة وحسب، وانما كذلك في تسلسلها وفي مجموعها. كما أنه تجشم عناء قراءة عدة مقابلات أجريت معي كي يتفادي توجيه الاسئلة التي توجه إلي دائما. ولم تثر هذه النقطة الأخيرة اهتمامي كثيرا، ليس لأنها تتملق غروري وهو أمر لا يمكن، ولايجب استبعاده علي أي حال عند الحديث مع أي كاتب، بما في ذلك أولئك الكتاب الذين يبدون متواضعين وإنما لانها أتاحت لي أن أبين بشكل أفضل، ومن خلال تجربتي، مفاهيمي الشخصية عن مهنة الكتابة. فكل كاتب أثناء أي مقابلة معه ومن خلال ادني هفوة يدرك إن كان من يقابله قد قرأ الكتاب الذي يحدثه عنه. ومنذ هذه اللحظة، وربما دون أن ينتبه الاخر إلي ذلك، يضعه الكاتب في منزلة معيبة وينظر إليه باستخفاف. واحتفظ أنا بذكري مرحة جدا عن صحفي اسباني شاب، أجري معي حوارا مفصلا عن حياتي وفي اعتقاده أنني مؤلف أغنية الفراشات الصفراء، التي كانت شائعة في ذلك الحين، دون أن تكون لديه أدني فكرة عن أن تلك الموسيقي مستوحاة من كتاب، وأنني أنا مؤلف ذلك الكتاب. لم يوجه شيبرد إلي أي سؤال شخصي، ولم يستخدم الة تسجيل، وإنما كان يكتفي بين الحين الآخر بتسجيل بعض الملاحظات المقتضبة علي دفتر مدرسي. ولم يبد اهتماما بالجوائز التي منحت لي سابقا أو الآن، ولم يحاول أن يعرف مني ما هو التزام الكاتب، ولا عدد النسخ التي بعتها من كتبي، ولا مبلغ الأموال التي جنيتها. لن أقدم الآن ملخصا لحوارنا، لأن كل ما قلناه أثناء الحوار هو ملك له الآن وليس لي. لكنني لم أستطع مقاومة اغراء الاشارة إلي الحدث كواقعة مشجعة في مجري حياتي الخاصة المضطربة اليوم، حيث لا أكاد أعمل شيئا سوي الاجابة عدة مرات في اليوم علي الأسئلة الدائمة ذاتها، والأسوأ أنها ذات الأسئلة التي تصبح علاقتها أقل يوما بعد يوم بمهنتي ككاتب. أما شيبرد، فقد كان يتحرك، بالبساطة التي يتنفس بها، دون أن يصطدم بأشد أسرار الإبداع الأدبي زخما. وعندما ودعني، تركني مضمخا بالحنين إلي ذلك الزمان الذي كانت فيه الحياة أكثر بساطة، وكان المرء يستمتع بلذة اضاعة ساعات وساعات للحديث في الأدب وحسب. ومع ذلك، لم يرسخ شيء مما قلناه في ذهني كرسوخ عبارة بورخيس: 'الكتاب يفكرون الآن بالفشل أو النجاح'. ولقد قلت هذا الكلام بطريقة أو بأخري لعدد كبير من الكتاب الشباب الذين ألتقي بهم في هذا العالم. ولحسن الحظ اني لم أرهم جميعا يسعون إلي انهاء رواية كيفما اتفق ليقدموها في الموعد المحدد لمسابقة ما. ورأيتهم يسقطون في مهاوي القنوط بسبب نقد مضاد أو لرفض مخطوطاتهم في دار نشر. لقد سمعت مايرو بارغاس يوسا يقول يوما: 'في اللحظة التي يجلس فيها أي كاتب ليكتب، فإنه يقرر إن كان سيصبح كاتبا جيدا أم كاتبا رديئا'. ومع ذلك، فقد جاء إلي بيتي بمدينة مكسيكو بعد عدة سنوات من ذلك شاب في الثالثة والعشرين من العمر، كان قد نشر روايته الأولي قبل ستة شهور، وكان يشعر بالنصر في تلك الليلة لأنه سلم لتوه مخطوط روايته الثانية إلي ناشر. أبديت له حيرتي لتسرعه وهو مايزال في بداية الطريق، فرد علي باستهتار لازلت أرغب في تذكره علي أنه استهتار لا إرادي: 'أنت عليك أن تفكر كثيرا قبل أن تكتب لأن العالم بأسره ينتظر ما ستكتبه، أما أنا فأستطيع أن أكتب بسرعة، لأن قلة من الناس يقرأونني'. عندئذ، وبايحاء مبهر، فهمت مغزي عبارة بارغاس يوسا: فذلك الشاب قرر سلفا أن يكون كاتبا رديئا، كما كان في الواقع، إلي أن حصل علي وظيفة جيدة في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة، ولم يعد بعدها إلي إضاعة وقته في الكتابة. ومع ذلك، أفكر الآن بأن مصيره ربما كان قد تبدل لو أنه تعلم الحديث في الأدب قبل أن يتعلم الكتابة. فهناك هذه الأيام عبارة شائعة تقول: 'نريد قليلا من الأعمال وكثيرا من الأقوال'. وهي عبارة مشحونة طبعا بخيانة سياسية عظمي. ولكنها صالحة للأدب أيضا. لقد قلت منذ شهور عديدة لجومي غارسيا اكوست ان الشيء الوحيد الذي يفوق الموسيقي هو الحديث عن الموسيقي، وفي الليلة الماضية، كنت علي وشك أن أقول الكلام ذاته عن الأدب. لكنني ترويت قليلا، فالواقع أن الشيء الوحيد الذي يفوق الحديث في الادب هو صناعة الأدب الجيد.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كتاب لاتين امريكا (Re: Sabri Elshareef)
|
أنا وهو روح في جسدين فوتوغرافيا لوما فوينتس ، والنص والصورة من كتاب PORTRAITS dans le temps الذي كتبه فوينتس علي صور ابنه الفنان والمصور الذي رحل شابا سمعت لأول مرة اسم 'جابريل جارتيا ماركيز' من صديقي الفاروموتيس عندما اعطاني نسخة من رواية 'أوراق في الزوبعة' في الخمسينات علي أنها أفضل كتاب صدر دون أن يحدد المكان أو الزمان. كنت أدير إذن مع ايمانويل كاربالو مجلة الأدب المكسيكي حيث نشرنا العديد من روايات للعبقري الائب جاريثا ماركيز مثل 'جنازة الجدة الكبيرة' و'مونولوج ايزابيل وهي تنظر سقوط الأمطار علي ماكوندو' وفي عام 63، عدت من رحلة عمل إلي أوروبا لأجد ماركيز قد وصل أخيرا إلي المكسيك. عرفني به موتيس وسريعا توطدت الصداقة بيننا لأكثر من 30 عاما إذ ان وقته وخجله وحكمته وحضوره القوي جعل بيننا أشياء مشتركة قربت المسافات وأزالت الحواجز. صداقتنا كما يقول جابريل عنها ممكن ان نجعل منها سيرة ذاتية مشتركة بيننا تختلط فيها أحداث حياته بأحداث حياتي. فيما مضي كنا نجلس سويا لكتابة بعض السيناريوهات علي أمل حصولنا علي مبلغ مالي محترم يساعدنا علي نشر رواياتنا وكنا نقضي وقتا طويلا لاختيار أفضل كلمة او لفظ الوصف المزرعة في السيناريو او في المكان المناسب لوضع علامات الترقيم، أو 'حالة غريبة لرفض الحصول علي الفيزا' (فعلي مدي ثلاثة قرون ، كنا علي القائمة السوداء الممنوعين من دخول الأراضي الامريكية ولكن ذلك جعلنا نسأل أنفسنا: 'لماذا تدخل كتبنا الخطيرة للبلاد في حين أن الاشخاص الابرياء أمثلنا لايستطيعون؟، أو 'ألف أحد في سان انجيل' (كنا نستقبل علي مدار ألف يوم أحد بعد الظهر أعدادا غفيرة من الكتاب والرسامين والفنانين ورجال سياسة وملياردير حتي سقط سقف المنزل ذات يوم'. أو 'كيف كنا سنموت في السونا؟' سأحكي بالتفصيل تلك المغامرة الأخيرة. في ديسمبر 68، أخذنا أنا وجاليو كورينزر وجارثيا ماركيز قطار النوم من باريس إلي براج لأن زملاءنا التشيكين دعونا لزيارتهم كأن شيئا لم يحدث في شهر أغسطس لا الغزو السوفيتي ولا الدبابات الروسية التي تحاصر المدينة. كانت مهمة جديدة بالمخاطرة تفتفت عن ذهن رائد السخرية الحارس الشجاع. بالطبع كان يحركنا أمل ترغب في تحقيقه من وراء تلك المبادرة المجنونة ألا وهو إمكانية إنقاذ بقايا من الحرية الثقافية التي اكتسبها الشعب تحت لواء حكومة ديوبك. ظللنا في القطار نشرب البيرة ونأكل السجق في حين كان كوريتزر يبحث عن مواعيد حفلات البيانو والجاز علي أمل رؤيتها عند وصولنا. وصلنا أخيرا إلي براغ منهكي القوي. وعلي المحطة كان الجليد يغطي كل شيء وانتظرنا قليلا حتي وصول ميلان كونديرا والذي اقترح علينا لقتل التعب الذهاب إلي السونا. ووفقا لكلام ميلان، فإنه يوجد وراء كل حائط في براغ جواسيس تسمع اقل حركة وأن السونا هي المكان الوحيد المحصن من تلصص الحكومة الشيوعية. وكنا نستمع ونحن عاريين تماما انا وجاريثا الي كلام ميلان الذي كان يستر جزءا من جسده عن الخريف في براغ . ولكننا فجأة أعلنا ان الخريف يبدو لنا الآن صيفا ساخنا جدا ونحن نتمني أخذ حمام بارد. ولم يردنا ميلان في أي شيء وإنما أخذنا بمنتهي الرقة نحو باب صغير خشبي يصب الماء مباشرة في حمام سباحة من النهر المتجمد. وبسرعة تخلص منا الدب القطبي القوي كونديرا وقذف بنا في البحيرة المتجمدة وتركنا. هكذا وبمنتهي السهولة. بعد لحظات، أدركنا أنا جابو أننا سنهلك لامحالة علي أرض كافكا. وظللنا نحاول الخروج خاصة ان أطرافنا قد تجمدت وأصابنا الهذيان، فقد بدا لنا أن ميلان يشبه صورة الأب جون بول الثاني جاء يصلي علينا. وقبل نجاح محاولتنا المستميتة للخروج من حلقة تعميدنا في مياه الحرب الباردة ، نطق جابو قائلا: 'ولكني حيوان استوائي ولا أحتمل البرد!' وفي إطار لعبة الاسقاط، كنا أحيانا نتبادل الأدوار والشخوص. فالكولونيل جافيون الذي مات في روايتي 'موت ارتامينو كروز' أحياه جابو في 'مائة عام من العزلة'. وفي الاساس، قد استوحينا تلك الشخصية من فصل 'جنرال في متاهة' من كتاب 'الحملة الامريكية' الذي ظهر عام .1821 وفي عام 56 أرسل لي أول مائة صفحة من 'مائة عام من عزلة' وأخذتني رغبة ملحة بعد الانتهاء من قراءتها أن أكتب أنا الآخر مامررت به من مواقف مثيرة مع جابو. أحسست وأنا أقرأ كأني أقرا انجيل امريكا اللاتيني وأعجبني كثيرا اكتشاف عفرته أعز أصدقائي. لم يكن غريبا عليه الجنون، فقد ظهر بوضوح عندما كنا نتسكع جميعا في wernauaca واقترح علينا فكرة ان نكتب رواية بلغات أمريكا اللاتينة جميعها: فيبدأ هو بفصل باللغة الكولومية ثم فصل اكتبه أنا بالمكسيكية وفصل يكتبه كورتاثر بالارجنيية واجاك كاربانتيه بالكوبية وجوزيه دنو بالتشيلة. وأعتقد أن الغرض من وراء ذلك ان يصبح وسط أصدقائه المخلصين. فنحن دائما شخص واحد نجاحه الشخصي نجاح لنا جميعا. وقد احترمنا رأيه ووجههنا له ثناء عام عندما قال : 'خسارة أن الجوائز لاتقوم علي أساس اقتراع عام بين الشعب'. فالحياة ستكون مختلفة. وهذا صحيح. إننا أحيانا نجتمع في جنازة أحد أصدقائنا المشتركين في المكسيك. وذات مرة سألني جابو بلهجة جادة: 'هل تقومه بإحصاء عدد من توفي ومن لم يتوفي؟'. ولكني أجابته بدعوتي له بمائة عام من الحياة ومائة عام أخري. وفي المائة الاولي ، نستطيع ان نقول كما قال جابو عندما علم بوفاة صديقنا الغالي خوليو كورتاثر ان هذا ليس حقيقيا، فهو لم يمت . فاننا لا يجب ان نصدق كل ما تقوله الصحف. لان هناك علاقات حميمة ليس لها نهاية أبدا'
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كتاب لاتين امريكا (Re: Sabri Elshareef)
|
الجزيرة في منتصف النهار للروائي الأرجنتيني: خوليو كورتاثر ترجمتها عن الإسبانية : د. عزيزة صبحي أحمد زكي رأي ماريني الجزيرة لأول مرة حين كان ينحني بادب علي مقعدي الجانب الأيسر للطائرة مثبتا الحامل البلاستيك مجتهدا لتقديم وجبة الغذاء . رمقته المسافرة بنظراتها عدة مرات وهو يغدو ويروح حاملا المجلات وكوءوس الويسكي . وتأني ماريني في وضع المائدة تساءل في ضجر ما إذا كان الأمر يستحق الإجابة علي هذه النظرات الملحة . كانت المسافرة الأمريكية من بين الكثيرات من بنات جنسها . استبان ساحل الجزيرة خلال إطار النافذة البيضاوية الزرقاء “ حافة الشاطئ الذهبي تتدرج صعودا نحو الهضبة الموحشة “ ابتسم ( ماريني ) للمسافرة وهو يعد وضع كوب الجعة . قائلا ( الجزر اليونانية ) . اعتدلت الأمريكية في جلستها وقالت في اهتمام زائف : اوه نعم اليونانية . رن جرس قصير فإعتدل المضيف دون أن تفارق إبتسامته المهنية شفتيه الدقيقتين وراح يقدم عصير الطماطم لزوجين سوريين . وفي مؤخرة الطائرة اختلس بضع ثوان ليعاود النظر إلي أسفل . كانت جزيرة صغيرة منعزلة . يحيط بها بحر ايجة بزرقة قاتمة تبرز حافة بيضاء ناصعة ، بدت كما لو كانت قد قدت من حجر ، وربما كانت زبدا يتكسر علي الأرصفة والشواطئ الصغيرة هناك .. رأي ( ماريني ) الشواطئ الخالية تمتد إلي الشمال والغرب أما مادون ذلك فقد كانت جبال تخترق البحر ثاقبة . إنها جزيرة صخرية مهجورة . وإن بدت هذه البقعة الرمادية القريبة من الشاطئ الشمالي منزلا ، وربما مجموعة من المنازل البدائية ، بدأ فتح علبة العصير ، وعندما إعتدلت كانت الجزيرة قد إختفت من النافذة ولم يبق سوي البحر بزرقته اللانهائية “ نظر إلي ساعته دون سبب يعرفه ، وكانت تشير إلي منتصف النهار تماما . ود ( ماريني ) لو كلفوه بالعمل علي خط روما طهران ، فالرحلة بينهما أقل كآبة عما هي في خطوط الشمال كما أن الفتيات تبدو عليهن السعادة دائما لدي ذهابهن إلي الشرق أو إلي إيطاليا .. وبعد أربعة أيام ، وحين كان يساعد صبيا ، فقد ملعقته مشيرا اليه بطبق الحلو يائسا، لمح من جديد طرف الجزيرة كان هناك فرق ثماني دقائق ، وتبددت شكوكه عندما إنحني ناظرا من نوافذ المؤخرة ، وكان للجزيرة شكل مميز ، سلحفاة توشك علي إخراج أقدامها من المياه ، ظل يتأملها حتي نودي عليه ، و تيقن هذه المرة أن تلك البقعة الرمادية اللون كانت مجموعة من المنازل ، واستطاع ماريني أن يميز بعض الحقول المزروعة الممتدة علي الشاطئ . تصفح أطلس الضيافة أثناء توقفه في بيروت، وتساءل ما إذا كانت هذه جزر هوروس . ودهش عامل اللاسلكي وهو فرنسي يتسم باللامبالاة لهذا الاهتمام وقال : إن جميع هذه الجزر متشابهة ، فأنا أعمل علي هذا الخط منذ عامين ولكني لم اعرها أي اهتمام ، نعم ارني إياها المرة القادمة لم تكن جزيرة هوروس بل سيروس و هي واحدة من بين العديد من الجزر غير المدرجة في البرامج السياحية. قالت له إحدي زميلاته بينما كانا يتناولان كأسين في روما هذه الجزيرة لن تظل مجهولة لفترة طويلة ، فإذا كنت تفكر في الذهاب فتعجل فستعج بالأفواج السياحية في أية لحظة . واصل ماريني التفكير في الجزيرة التي ظل يشاهدها في غدوه و رواحه، كلما تذكر أو كان قريبا من إحدي النوافذ . وكان يهز كتفيه دائما ، لم يكن لكل هذا أي معني: أن يطير ثلاث مرات أسبوعيا فوق سيروس ، وفي منتصف النهار كان الأمر يبدو كأنه خيال ، كما لو كان يحلم ثلاث مرات أسبوعيا أنه يحلق فوق سيروس في منتصف النهار . اتسم كل شئ بالزيف في هذه الرؤية العبثية المتكررة ربما باستثناء الرغبة في تكرارها ، النظر إلي ساعته قبيل منتصف النهار ، الرؤية الوجيزة الثاقبة للشريط الناصع البياض علي حافة الزرقة القاتمة ، منازل الصيادين الذين يرفعون بالكاد أبصارهم ليتابعوا مرور هذا اللا واقع الآخر . وبعد ثمانية آو تسعة أسابيع ، عرض عليه أن يعمل علي خط نيويورك بكل مميزاته ، ورأي ماريني آن الفرصة قد واتته ليضع حدا لهوس ساذج مضجر بهذه الجزيرة . كان في جيبه كتاب من مؤلفات جغرافي شرقي مجهول الاسم ، يحتوي علي معلومات عن الجزيرة أكثر مما جرت عليه العادة في الأدلة الحديثة. رفض ماريني العمل علي خط نيو يورك تلبية لنداء من أعماقه: وطبيعي أن يري الدهشة ترتسم علي وجه رئيسه واثنين من السكرتيرات، فذهب لتناول الطعام في مقصف الشركة حيث كانت كارلا في انتظاره ، ولم تقلقه خيبة أملها وحيرتها. كان ساحل سيروس الجنوبي غير آهل ، ولكن كانت هناك دلائل في جهة الغرب تشير إلي وجود مستعمرة ليدية وربما كريتية حيث عثر الأستاذ ( جولدمان ) علي حجرين نقش عليهما بالهيروغليفية و يستخدمهما الصيادون اليوم كدعامات للميناء الصغير . كانت كارلا تعاني من الصداع فانصرفت علي الفور. كان صيد الإخطبوط هو المصدر الرئيسي لدخل السكان ، حيث تصلهم سفينة كل خمسة أيام تحمل الصيد وتترك بعض المؤن. قيل له في وكالة السفر أنه عليه استئجار زورق خاص من رينوس وربما يمكنه السفر في القارب الشراعي المستخدم في نقل الصيد . وهو أمر لابد من الوقوف عليه في رينوس لان الشركة ليس لها مندوب هنا . علي أية حال ، فان فكرته في قضاء عدة أيام في الجزيرة كانت مجرد(فكرة) مشروع لعطلة شهر يونيو . وخلال الأسابيع التالية اضطر للعمل بدلا من زميله وايت علي خط تونس ثم توقف العمل بسبب الإضراب . عادت كارلا إلي منزل شقيقاتها في بالرمو، في حين أقام ماريني في أحد الفنادق القريبة من بيازا نافونا حيث توجد مكتبات للكتب القديمة . وكان يشغل وقته ، دون رغبة كبيرة ، باحثا عن كتب حول اليونان. تصفح كتيبا عن المحادثة باللغة اليونانية فأعجبته كلمة كاليميرا ، واستخدمها في احد الملاهي مع فتاة حمراء الشعر . أمضي الليلة معها و أخذت تحدثه عن جدها الذي يعيش في اودوس وعن آلام في الحلق لا تعرف سببها. بدأت الأمطار في روما . وكانت تانيا في انتظاره في بيروت بأحاديثها الكثيرة عن الأقارب والآلام التي تعانيها. وفي أحد تلك الأيام عاد إلي خط طهران والجزيرة في منتصف النهار . ظل ملتصقا بالنافذة وقتا طويلا فعاملته المضيفة الجديدة معاملة الزميل المهمل وأحصت وجبات الطعام التي قدمتها بدلا منه. تلك الليلة دعاها إلي تناول الغداء في الفيروز . ولم يشق عليه أن تغفر له شروده صباح اليوم . نصحته لوثيا يقص شعره علي الطريقة الأمريكية . حدثها بعض الوقت عن سيروس وعرف أنها تفضل شراب الفودكالايم الذي يقدم في الهيلتون . كان الوقت يمضي علي هذا النحو: وجبات الطعام التي لا تنتهي ، ابتسامة لا تفارق الشفاه “ في رحلات العودة ، تحلق الطائرة فوق الجزيرة في الثامنة صباحا . وتنعكس أشعة الشمس علي نوافذ الجانب الأيسر من الطائرة فتري بالكاد السلحفاة الذهبية. كان يفضل انتظار منتصف النهار في رحلة الذهاب ، ليستطيع البقاء للحظات طوال ملتصقا بالنافذة ، بينما تقوم لوثيا ثم فيليثا بالعمل “ والتقط في إحدي الرحلات صورة لسيروس ولكنها جاءت باهتة . بات يعرف الآن بعض المعلومات عن الجزيرة من كتابين قرأهما وسطر فيهما كل ما يتعلق بها. أخبرته فيليثا أن الطيارين يسمونه مجنون الجزيرة لكنه لم يأبه بالأمر. وصلته رسالة من كارلا تخبره فيها بقرارها عدم الابقاء علي الجنين ، فأرسل إليها راتب شهرين ، وتبين له أن ما تبقي لا يكفي لقضاء عطلته. قبلت _ المال ، وأعلمته عن طريق إحدي صديقاتها أنها قد تتزوج من طبيب الأسنان في تريبيسو. بدا كل شيء تافها وغير ذي قيمة في منتصف النهار أيام الاثنين والخميس والسبت، و مرتين في الشهر أيام الأحد. أدرك ماريني بمرور الوقت أن فيليثا هي الوحيدة التي تفهمه بعض الشئ ، وكان هناك اتفاق صامت بينهما أن تتولي هي خدمة الركاب في منتصف النهار بمجرد الوقوف إلي جانب نافذة المؤخرة ، كانت تظهر لدقائق قليلة لكن الجو تميز دائما بالنقاء ، بينما يبرزها البحر بدقة متناهية بحيث تتسق تفاصيلها الصغيرة مع ذكري الرحلة السابقة: البقعة الخضراء لربوة الشمال ، منازل رمادية اللون ، والشباك التي تجف علي الرمال، وعندما تغيب الشباك كان يشعر بان المنظر العام يفتقد شيئا يهين مشهد الجزيرة .. خطر له تصوير مشهد الجزيرة سينمائيا ، ليعاود مشاهدتها في الفندق لكنه آثر ادخار ثمن آلة التصوير.. فلم يتبق سوي شهر واحد علي عطلته ، إنه لا يحسب الأيام حسابا دقيقا ، أحيانا تانيا في بيروت ، وأحيانا أخري فيليثا في طهران ، وغالبا شقيقه الأصغر في روما : فكل شيء مشوش سهل ودود، و كأنه بديل لشيء آخر يملأ الساعات قبل الرحلة و بعدها . أثناء الرحلة أيضا، كل شيء مبهم يسير وأحمق حتي لحظة الذهاب للانحناء علي نافذة المؤخرة، الشعور ببرودة الزجاج الذي يبدو حاجز أحياء مائية حيث تتحرك السلحفاة الذهبية ببطء في الزرقة الكثيفة. في ذلك اليوم ارتسمت الشباك بدقة فوق الرمال ، حتي كاد يقسم أن تلك النقطة السوداء علي الجانب الأيسر عند حافة البحر كانت صيادا ربما كان يرنو إلي الطائرة ، فتبادرت إلي ذهنه بتداع عبثي كلمة كاليميرا لا داعي للانتظار أكثر من ذلك (لم يعد هناك داع للانتظار) فسوف يقرضه ماريو ميروليس المال اللازم للقيام بالرحلة. وفي أقل من ثلاثة أيام سيكون في سيروس ،وبشفتين ملتصقتين بالزجاج ابتسم . فكر في تسلق البقعة الخضراء ، وفي الاستحمام عاريا في مياه الشواطئ الشمالية الصغيرة، في صيد الإخطبوط مع الرجال، وفي فهمهم بالإيماءات والضحكات ... لم يكن الأمر صعبا بعد اتخاذه القرار . قطار الليل “ سفينة “ ثم زورق آخر قديم قذر “ التوقف في رينوس الخلاف المستمر مع ربان الزورق ... قضاء ليلة علي ظهره هائما بين النجوم ... مذاق الانيس ھ“ لحم الخراف “ الشروق بين الجزر... هبط ماريني من السفينة مع أضواء الفجر الأولي ، وقدمه قائدها إلي عجوز يبدو انه البطريرك. أمسك كلايوس بيده اليسري وتحدث إليه متأنيا ناظرا إلي عينيه . جاء صبيان وفهم ماريني أنهما ولدا كلايوس “ و هنا كان ربان الزورق قد استنفذ كل ما يعرفه من كلمات إنجليزية : عشرون ساكنا ، الإخطبوط ، الصيد ، خمسة منازل ، الزائر الإيطالي يدفع المسكن، كلايوس . وضحك الصبيان عندما بدأ والدهما جدالا حول عدة درخمات قلائل، وضحك ماريني الذي صار صديقا للشابين ، ناظرا إلي الشروق علي بحر بدا أقل قتامة من منظره من الطائرة. كانت الحجرة متواضعة لكنها نظيفة... إبريق ماء... رائحة نبات المريميةھ وجلد مدبوغ ... صار بمفرده، فقد ذهبوا لشحن الزورق. وفي عجلة خلع ماريني ثياب السفر وارتدي سروالا قصيرا ونعلا. وبدأ التجوال في الجزيرة... لم يكن هناك أحد بعد... نبض الشمس يرتفع ... وانبعثت من الأحراش رائحة ثاقبة لاذعة تمتزج بيود الهواء... ربما كانت العاشرة عندما بلغ الربوة الشمالية ... أكبر الشواطئ ... كان يفضل البقاء بمفرده والاستحمام في شاطئ الرمال، أستولت الجزيرة علي لبه، تمتع بها وانس لها حتي أنه لم يعد قادرا علي التفكير أو الاختيار. شعر باحتراق جلده تحت أشعة الشمس وبالهواء عند خلع ملابسه ليلقي بنفسه إلي المياه من فوق تلك الصخرة... كانت باردة وكم طابت له. ترك نفسه للتيارات المخادعة حتي حملته إلي مدخل أحد الكهوف، وعاد أدراجه سابحا علي ظهره “ تلقي كل شيء برضي بما يتسق ورؤيته للمستقبل... أيقن ماريني أنه لن يغادر الجزيرة وأنه سيبقي فيها بشكل أو بآخر إلي الأبد. وتبادر إلي خياله وجهي شقيقه و فيليثا حين يعلمان أنه بقي في جبل منعزل ليتعيش من الصيد... كان قد نسيهما حين دار حول نفسه ليسبح في اتجاه الشاطئ. وجففت أشعة الشمس جسده في الحال. هبط نحو المنازل وهناك نظرت إليه سيدتان في دهشة ثم شرعتا في الركض حتي اختبأتا... حياهما ولكن دون جدوي . وهبط صوب الشباك. كان أحد أبناء كلايوس في انتظاره علي الشاطئ ... فأشار ماريني إلي البحر وكأنه يدعوه إليه ... تردد الفتي مشيرا إلي سرواله وقميصه الأحمر لكنه ركض في الحال نحو أحد المنازل وعاد شبه عار، فالقيا فقفزا في مياه البحر الدافئة الساحرة، تلفهما أشعة شمس الحادية عشر . واستلقيا علي الرمال ليجفا... شرع ايوناس في تعليمه أسماء بعض الأشياء ، فرد عليه ماريني بالكلمة الوحيدة التي يعرفها كاليميرا فانفجر الفتي ضاحكا . ردد الجمل الجديدة وعلم ايوناس بعض الكلمات الإيطالية. و في تلك الأثناء كان الزورق الشراعي يخبو في الأفق. أدرك في تلك اللحظة بالذات أنه أصبح بمفرده في الجزيرة بصحبة كلايوس و أسرته... سيقضي بضعة أيام وسيدفع أجرة حجرته وسيتعلم الصيد ، وفي إحدي الأمسيات حين يعرفونه جيدا سيتحدث معهم عن بقائه في الجزيرة والعمل معهم “ نهض ومد يده لايوناس وسارا معا في بطء نحو التل . كان مطلع التل وعرا ، ولكنه تسلق مستسيغا الماضي ، متلفتا من حين إلي أخر لتأمل الشباك المنثورة علي الشاطئ ، وأطياف النساء اللاتي يتحدثن بحماس مع ايوناس و كلايوس ضاحكات ، يرمقنه بأطراف أعينهن “ وحين وصل إلي البقعة الخضراء ، ولج عالما امتزج فيه عبق الزعتر والمريمية بحرارة الشمس ونسيم البحر. نظر ماريني إلي ساعته ثم انتزعها من يده ليضعها في جيب سرواله... كان يعتقد أنه من العسير الخلاص من إنسان الماضي ، أما الآن و فوق هذه الربوة العالية ومع كثافة الشمس وهذا الخلاء ، أدرك أن الأمر هين . هاهي سيروس ، المكان الذي طالما أرتاب من إمكانية الوصول إليه. استلقي ماريني علي ظهره بين الحجارة الساخنة ... تحمل أطرافها ومتونها الملتهبة ... رفع بصره إلي السماء وأتاه عن بعد طنين محرك . أغلق عينيه عازما ألا ينظر إلي الطائرة ، لن يلوث نفسه بأسوأ ما فيها ... إنها تحلق مرة أخري فوق الجزيرة ... ومن بين ظلال جفنيه تراءت له فيليثا في هذه اللحظة تقدم وجبات الغذاء ... ربما كان جورجيو يحل مكانه أو زميل جديد من خط آخر. شخص ترتسم الابتسامة علي شفتيه و هو يقدم زجاجات النبيذ أو القهوة. لم يتمكن من مقاومة كل الماضي ... فتح عينيه وأعتدل في جلسته... في تلك اللحظة شاهد الجناح الأيمن فوق رأسه تقريبا، تميل الطائرة دون مبرر، وتغير صوت محركاتها، وبدأت تهوي رأسيا في اتجاه البحر... انتفض وهبط التل في سرعة كبيرة متخبطا في الصخور فجرحت الأشواك زراعه... لم تمكنه مرتفعات الجزيرة من رؤية المكان الذي سقطت فيه الطائرة... لكنه عرج قبل الوصول إلي الشاطئ إلي درب كامن خرج منه إلي أول التلال ليصل إلي أصغر الشواطئ . كانت مؤخرة الطائرة تغوص علي بعد مائة متر في سكون تام... استجمع قواه والقي بنفسه إلي الماء في انتظار أن تطفو الطائرة من جديد... لكنه لم ير سوي خط الأمواج الأبيض وعلبة من الكرتون تترنح بالقرب من مكان السقوط ، وحين يئس ماريني من مواصلة السباحة ، ظهرت للحظة يد خارج الماء... لم يتأخر ماريني إلا بالزمن اللازم لتغيير اتجاهه ،فغاص حتي أخذ بإنسان يجاهد للامساك به، يتنفس بحشرجة. لم يقترب ماريني منه كثيرا بل سحبه إلي الشاطئ شيئا فشيئا... حمل بين ذراعيه جسدا يرتدي زيا ابيض وتركه علي الرمال... نظر إلي الوجه الذي امتلاء بالزبد وبدت عليه سكرات الموت ، فقد كان ينزف من جرح عميق في حلقه ، ولم يكن التنفس الصناعي مجديا إذ كان الجرح يزداد مع كل رجفة في جسده... وكان الجسد فما منفرا ينادي ماريني وينتزعه انتزاعا من هذه السعادة الوليدة ، وليدة تلك الساعات القلائل التي أمضاها في الجزيرة ... كان يصرخ هازيا بأشياء لم يكن ماريني قادرا علي سماعها... وجاء ابنا كلايوس يهرولان يتبعهما النساء ، وعندما وصل كلايوس كان الفتيان يحيطون بالجسد المسجي علي الرمال ، ولم يفهم كيف أوتي القوة للسباحة حتي الشاطئ والوصول إلي هذا المكان ... وبصوت باك همست إحدي السيدات : أغلق عينيه . ونظر كلايوس إلي البحر باحثا عن آخرين باقين علي قيد الحياة ... ولكنهم كانوا وحدهم في الجزيرة... وكان الجسد بهاتين العينين المفتوحتين هو الجديد الوحيد بينهم والبحر .
خوليو كورتاثر '1914 1984' واحد من رواد الحداثة في الادب الامريكي اللاتيني وتعد روايته 'الحجلة' احدي العلامات البارزة في الادب العالمي
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كتاب لاتين امريكا (Re: Sabri Elshareef)
|
المطر للفنانة: فريدا كالو قصة الكاتب الفنزويلي: أرتورو اوسلار بيتري ترجمة:د. طلعت شاهين =كان ضوء القمر يمر عبر فجوات سور الكوخ، وكان ضجيج الريح في حقول الذرة مكتوما كحبات المطر. وظلال الفجوات الناصعة تهز شباك صيد الزنجية العجوز ببطء، فيما كان الحبل الذي يربطها إلي القائم الخشبي يهتز بشكل منتظم، يتوافق مع صفير تنفس المرأة المتقطع التي كانت تنام علي السرير السفري المجلقي في الركن. كان انزلاق الهواء علي أوراق الذرة والأشجار الجافة يصدر أصواتا تنذر باقتراب المطر، مانحة المناخ الجاف القاسي شيئا من الرطوبة. كان صوت نبض الدم الدائر في شوق، يجسمع عميقا كما لو كان تحت ثقل من الأحجار. تنصتت المرأة الغارقة في العرق والأرق، وفتحت عينيها ببطء في محاولة لتبين الخطوط المضيئة، ركزت بصرها للحظات ونظرت إلي شباك الصيد الثقيلة الساكنة، ثم نادت بصوت خامد: ¢خيسوسو¢! صمتت في انتظار الإجابة، فيما كانت تقول لنفسها بصوت مسموع: ينام كما لو كان عصا، إنه لا يصلح لشيء، يعيش كما لو كان ميتا... عاد النائم إلي الحياة مستجيبا للنداء، تمطي وسأل بصوت مجتعب: ماذا حدث يا ¢اوسيبيا¢؟ لم كل هذا الضجيج؟ لماذا لا تتركين الناس في هدوء ولا حتي في الليل! اصمت يا ¢خيسوسو¢ وأنصت. ماذا؟ إنها تمطر، تمطر، يا ¢خيسوسو¢ وأنت لا تسمع شيئا، يبدو أنك أصبت بالصمم! اعتدل العجوز بجهد وغضب، وفتح الباب، فتحه بعنف فسقط الشعاع الفضي للقمر المكتمل علي وجهه وجسده شبه العاري. كانت الريح الحارقة الصاعدة من السفح المعد للزراعة تهز الظلال، و تضيء كل أعمدة الكوخ. مد زراعه بكفه المفتوحة في الخلاء، دون أن يشعر بقطرة مطر واحدة. ترك يده تسقط، مرخيا العضلات لتستند علي إطار الباب. أترين أيتها العجوز المجنونة؟ اللهم ألهمنا الصبر... ركزت المرأة بعينين مفتوحتين علي الضوء الغامر الذي يدخل من الباب، فيما داعبتها قطرة عرق سريعة سقطت علي وجنتها. وغمر المكان بخار حار. أعاد ¢خيسوس¢ إغلاق الباب، وسار بخفة باتجاه شباك الصيد، وتمطي وعاد صوت الخشب يجسمع من جديد. ترك ذراعه يلامس الأرض منزلقا علي التراب. كان التراب جافا كجلد خشن، كان جافا حتي أعماقه، كالعظام، وتطفو عليه حمي من العطش، لهاث، يشوي البشر. ولي السحاب الأسود الذي يشبه ظلال الشجر هاربا، ضاع خلف الهضاب المرتفعة البعيدة، ذهب كما الأحلام، كما السكون، كان النهار حارقا، والليل حارقا، كانت الدنيا مشتعلة بلهيب معدني. كان الرجال يحترقون ببلادة علي الهضاب وفي الوديان العارية المليئة بالشقوق المفتوحة كالأفواه، والرجال يحلمون بسراب الماء، يحملقون في أية علامة... كانوا يعيدون ويكررون نفس الكلمات علي كل هضبة وفي كل واد عار. قال العجوز. سوف تمطر... لن تمطرٌ! كان هذا الحوار علامة علي الإحساس بالمشقة. انفلق الشق. سوف تمطر... لن تمطر! كانوا يكررونها كنوع من تقوية العزيمة في مواجهة الانتظار اللانهائي. هدأ الأزيز، سوف تمطر... لن تمطر! الضوء والشمس كانا حارقين ويغشيان البصر. ماذا سيحدث، إذا لم تمطر يا ¢خيسوسو¢؟ نظر باتجاه الظل الذي يهتز بإعياء علي السرير السفري، وفهم هدفها من مضاعفة معاناة الكلام، أراد أن يتكلم، لكن النوم كان يسيطر علي الجسد، أغلق عينيه وجلس غارقا في النعاس.
خرج ¢خيسوس¢ إلي الحقل مع أول ضوء في الصباح وبدأ يقطعه ببطء، كانت الأوراق الزجاجية تتحشرج تحت قدميه العاريتين، كان ينظر علي الجانبين إلي خطوط الذرة الصفراء المحترقة، والأشجار القليلة العارية، وفي أعلي الهضبة، كانت الخضرة عميقة، وأشجار ¢الكاكتوس¢ البرية مشرعة، يتوقف كل فترة، يأخذ بين يديه حفنة من التراب يحركها في كفه ببطء تاركا الحبوب الجافة الميتة تقفز من بين أصابعه. كلما أخذت الشمس في الارتفاع، تزداد الحرارة التهابا، لم تكن هناك أية سحابة في السماء الزرقاء المشتعلة، كان ¢خيسوس¢ ككل الأيام السابقة يسير بلا هدف، لأن البذور التي بذرها مقضي عليها بالفناء، كان يقطع الحقل كنوع من العادة اللاوعية وفي الوقت نفسه ليستريح من عناء كلام ¢اوسيبيا¢ العنيف. سيطر اللون الأصفر بدرجاته المتعددة علي المشهد ابتداء من الهضبة وحتي الوديان الضيقة والمرتفعات الصلعاء، فيما كانت هناك بقعة من التراب الجيري تمتد مشيرة إلي وجود الطريق. لم تكن هناك أية حركة تدل علي الحياة، الريح ساكنة، الضوء ساطع، والظلال لا تكاد تفقد حجمها، كما لو كانت تنتظر حريقا. كان ¢خيسوس¢ يسير ببطء، يتوقف من حين لآخر كحيوان مجروَض، وعيناه مثبتتان علي الأرض، ويحدث نفسه من حين لآخر. الرحمة والعفو، ماذا سيفعل هؤلاء المساكين مع الجفاف؟ هذا العام لم تسقط قطرة مطر واحدة، والماضي كان شتاء مترعا، أمطرت أكثر مما يجب، فاض النهر، وقضي علي البساتين، وجرف المعبر... من الواضح أنه ليست هناك طريقة... إذا أمطرت، فلأنها تمطر... وإذا لم تمطر، فذلك لأنها لا تمطر... يخرج من الحوار مع النفس إلي الصمت الأجرد والسير الكسول، والعينان ملتصقتان بالأرض، وعندما شعر أنه في أعماق الهضبة رفع عينيه. كان جسد صبي، نحيفا وضامرا، كان في وضع الوقوف في الاتجاه المعاكس، ثابتا في مكانه ويركز بصره علي الأرض. تقدم ¢خيسوس¢ باتجاهه في هدوء، ودون أن ينتبه إليه الصبي، وقف خلفه تماما، وبفضل طوله الفارع كان يري ما يفعله الصبي. كان يجري علي الأرض خطا عشوائيا من البول، كان الخط مسطحا و يثير الغبار علي جانبيه، ويجرجر بعض القش القليل، في تلك اللحظة أطلق نملة كان يمسك بها بين أصابعه القذرة. وانتكس الخزان... وجاء التيار... بروووم... بروووم... بروووم... والناس تجري... واكتسحت حقول العم ضفدع... وبعدها قطيع العمة خشبة... وكل الجذوع الكبيرة... زاااس... بروووم... والآن العمة نملة في بللها... شعر بأن أحدا يراقبه فاستدار فجأة وحملق برعب في تجعيدات وجه العجوز ورفع وجهه ما بين الغضب والخجل. كان رقيقا، ولينا، أطرافه طويلة ودقيقة، الصدر ضيق، ومن خلف ملابس القطن الخام كان يبدو جلده ذهبيا وقذرا، رأسه لماح ذكي، وعينان لا تستقران، وأنفه حاد، وفمه أنثوي، كان يضع علي رأسه قبعة قديمة من الفلين، تبدو مستهلكة، تتدلي علي أذنين رقيقتين، فتمنحه شكل حيوان صغير سريع الحركة. تفحصه ¢خيسوس¢ في صمت وابتسم. من أين جئت يا فتي؟ من هناك... من أين؟ من هناك... مد يده في غموض باتجاه الحقول الممتدة. ماذا تفعل؟ أتمشي. كانت الإجابة ذات نغمة ومعني متسلطا ومرتفعين أثارا دهشة العجوز. ما أسمك؟ ما أطلقه عليٌ إياه القس. انزعج ¢خيسوس¢ من حركة الصبي وطريقته التهكمية. كما لو كان يريد إثارة انتباه الفتي، فنغٌم كلماته بشيء من الثقة. لا تكن سيء الأدب. بدأ العجوز حديثه، لكنه سرعان ما خفٌف من نغمة صوته لتكون أكثر حميمية. لم لا تجيب؟ أجاب الفتي بسذاجة مدهشة: لم تسأل؟ أنت تخفي شيئا. أو أنك هربت من بيت أهلك. لا، يا سيدي. ثم سأله كما لو كان يمارس لعبة دون حماس: أو حقنوك بشيء. لا، يا سيدي. هرش ¢خيسوس¢ رأسه وأضاف بابتسامة: أم أصابك القلق فقررت الهرب، آه، أيها الصعلوك الصغير؟ لم يجب الصبي، وبدأ يحرك قدميه بطريقة اهتزازية عاقدا ذراعية خلف ظهره، ومحركا لسانه إلي أعلي سقف حلقه. وأين أنت ذاهب الآن؟ لا وجهة محددة. وماذا تفعل إذن؟ ما تري.. لم يجد العجوز ما يقوله بعد ذلك، فظلا صامتين دون أن يجرؤ أي منهما علي النظر في عيني الآخر، بعد لحظات، متأذيا من ذلك الصمت والسكون الذي لم يعرف كيف يكسره، بدأ العجوز في السير ببطء كحيوان ضخم مخبول، كما لو كان يريد تقليد حيوان خرافي، ثم تنبه إلي ما يفعله لكنه واصل سيره كما لو كان يريد أن يدخل السعادة علي قلب الصبي. هل تريد أن تتبعني؟ سأله ببساطة فتبعه الطفل في صمت. عندما وصلا إلي باب المزرعة وجدا ¢اوسيبيا¢ غافلة تشغل النار، كانت تنفخ بقوة في كومة من الحطب وأخشاب الصناديق والورق الأصفر. نادي عليها العجوز بشيء من الخجل: أنظري، أنظري من الذي جاء؟ آخ. نطقت دون أن تستدير وواصلت النفخ. رفع العجوز الصبي ووضعه أمامها كما لو كان يقدمه لها، واضعا يديه المسودتين الغليظتين علي الكتفين الناحلين. أنظري يا امرأة! استدارت بعنف و مرارة فواجهتهما، وبدا الجهد الذي كانت تبذله علي عينيها الدامعتين بفعل الدخان. آه. إلا أن حلاوة خفية خففت من ردة فعلها بشكل تدريجي. وأجابت علي ابتسامة الصبي بابتسامة مماثلة. آه، من يكون؟ ... من تكون؟ تضيعين وقتك في سؤاله، لأن هذا اللعين لا يجيب. مكثت تتأمل الصبي للحظات، متشممة رائحته، وتوجه إليه ابتساماتها كما لو كانت تحاول التعرف علي شيء لم ينتبه إليه ¢خيسوس¢، ثم تحركت باتجاه الركن ببطء، بحثت في كيس أحمر وأخرجت قطعة كعك صفراء اللون، كانت متآكلة كما لو كانت قطعة معدنية قديمة، قدمتها إلي الصبي، و بينما كان يمضغ الكعك بصعوبة ظلت تتأمله والعجوز بالتبادل، كانت تبدو عليها الدهشة التي تشبه الغصة. كانت تبدو كما لو كانت تبحث عن شيء ضائع في الذاكرة. هل تتذكر يا ¢خيسوس¢، هل تتذكر ¢كاثيكي¢؟ المسكين... عادت صورة الكلب العجوز الوفي إلي ذاكرة العجوز، وحاصرته نوبة ندم شديدة. كا..ثي..كي... نطقها العجوز كما لو كان يتعلم هجاء الحروف. أدار الصبي رأسه وحملق فيه بنظرته العميقة الصافية، ونظر العجوز إلي زوجته وابتسما في خجل من المفاجأة. فيما كان النهار يتسع بعمق، كان الضوء يضع الصبي في مشهد الأسرة والكوخ الصغير، وكان لون الجلد يغذي درجة سمرة الأرض الثقيلة، فيما كانت الظلال الطازجة حية ومشتعلة في العيون. بدأت الأشياء تتخذ مكانها شيئا فشيئا وتجفسح مكانا لوجود الصبي، وبدأت اليد تمتد بسهولة علي سطح المائدة، ووجدت القدم مكانها في اختلالات المكان، واتخذ الجسد حركته المنتظرة في شهر مثل يناير، وكان يتحرك بخفة في المساحة التي كانت تنتظره. خرج ¢خيسوس¢ إلي المزرعة وفي نفسه مشاعر مختلطة من الفرح والعصبية، فيما انشغلت ¢اوسيبيا¢ محاولة طرد شعور العزلة في وجود هذا الكائن الجديد، كانت تحرك الآنية علي النار، وتذهب وتأتي بحثا عن ما تريد إضافته إلي الطعام، وحين كانت تدير له ظهرها من حين لآخر، كانت تراقب الصبي بطرف عينيها. ومن مكمنه الهادئ و يدياه بين ركبتيه، كان الصبي يلوي عنقه ناظرا إلي قدميه اللتين تضربان الأرض، وقد بدأ في الصفير الخافت الحر الذي لا يشبه أية موسيقي. بعد فترة سألت ¢اوسيبيا¢ دون أن تتوجه إليه: مَنْ هذا الدبور الذي يصفر؟ كانت تعتقد أنها تحدثت بصوت خفيض لأنها لم تتلق إجابة بل مزيدا من الصفير، ولكنه صفير أكثر مرحا ويشبه انطلاقة العصافير عند الغناء. نطق الصبي بما يشبه الخجل: إنه ¢كاثيكي¢! إنه طكاثيكي¢! شعرت هي باللذة لسماعها حديث الصبي، فقالت: أري كيف أنك أحببت هذا الاسم؟ ثم أضافت بعد قليل: أنا أسمي ¢اوسيبيا¢. فسمعت صوتا خافتا كالصدي: شمعة دهنية... ابتسمت ما بين المباغتة وعدم الرضاء: أري كيف أنك تجحب تسمية الأشياء؟ أنتِ كنتِ أول من أطلق علي أسما. هذا حقيقي. كانت علي وشك أن تسأله إن كان سعيدا، لكن العزلة القاسية التي عاشتها في هذه الحياة جعلت الأمر صعبا، وكان التعبير مؤلما تقريبا. عادت إلي صمتها وبدأت تتحرك كما لو كانت تقوم بمهمة ميكانيكية، محاولة تجنب النبض الذي يحاول أن يدفعها إلي أن تكون أكثر انفتاحا، وعاد الصبي إلي الصفير من جديد. تزايد الضوء، مما جعل الصمت أكثر ثقلا، كانت لديها رغبة في أن تتحدث عن أي شيء يدور في رأسها أو الهروب إلي العزلة لتجد نفسها في داخلها من جديد. تحملٌت دوران الصمت الداخلي حتي آخر ما تحتمل من عذاب، وعندما فوجئت بنفسها تتكلم لم تكن هي التي تفعل ذلك، بل كان الحديث ينطلق كسريان الدم من شريان مفتوح. سوف نري الآن كم تتغير الأشياء، و¢كاثيكي¢ لن يستطيع أن يحتمل ¢خيسوس¢ أكثر... مرٌ المشهد الغامض والجاف للعجوز فيما بين الكلمات، تخيلت كما لو كان الصبي قد نطق بكلمة ¢بومة¢ فابتسمت في حرج، لأنها لم تكن متأكدة إن كان هذا صدي كلماتها أم كان شيئا آخر. ... لا أعرف كيف تحملته طوال حياتي، لقد كان سيئا وكذابا دائما، لم يمنحني اهتماما... تركز طعم الحياة المر والصعب في ذكري رجلها، فحمٌلته كل الذنوب التي لم تستطع تحملها. ... حتي عمل الحقل لا يعرفه برغم السنوات الطويلة. غيره عرفوا كيف ينهضون ونحن نسير للخلف وإلي الخلف. وها أنت تري هذه السنة يا ¢كاثيكي¢... قطعت حديثها بشهقة ثم واصلت بحزم وصوت مرتفع كما لو كانت تريد أن يسمعها شخص آخر يقف علي بعد: ... لم يأت المطر. تحول الصيف إلي عجوز أحرق كل شيء، لم تسقط نقطة ماء واحدة! أضاف الصوت الدفيء إلي الهواء الحارق شيئا من الطزاجة، وشوقا إلي العطش، وازداد حضور التلال المحترقة والأوراق الجافة والأرض المليئة بالشقوق، فبدت كجسد آخر يحاول الابتعاد. صمتت للحظات ثم أنهت حوارها بصوت حزين: ¢كاثيكي¢، خذ هذا الكوب واهبط إلي السهل بحثا عن ماء. كان ينظر إلي ¢اوسيبيا¢ المجنكبة علي إعداد الغداء وشعر بسعادة كما لو كانت تعد حفلا غير عادي، أو كما لو كانت قد اكتشفت قدسية الطعام. فقد تحولت كل أدوات المائدة إلي أدوات لا تستخدم في غير أيام الآحاد، بدت لامعة، أو كما لو كانت تجستخدم لأول مرة. الطعام لذيذ يا ¢اوسيبيا¢، أليس كذلك؟ الإجابة كانت غير عادية كالسؤال تماما. لذيذ أيها العجوز. كان الصبي في الخارج، لكن حضوره كان بينهما قويا بشكل لا يمكن تجاهله. فقد كانت صورة الصغير بوجهه الحاد تثير فيهما أفكارا جديدة، حيث بدآ في التفكير في أشياء جديدة لم يعيراها اهتماما من قبل، الحذاء الصغير والأحصنة الخشبية، وعربات مصنوعة عجلاتها من شرائح الليمون، ذات نوافذ زجاجية لها ألوان قوس قزح. كانت المتعة المتبادلة تجمعهما وتجضفي عليهما مسحة من السعادة. وبدا كما لو كانا قد تعارفا قبل قليل، ويحلمان بحياة مستقبلية، وبدا الجمال حتي علي اسميهما وكانا معجبين بنطقهما: ¢خيسوسو¢... ¢اوسيبيا¢... لم يعد الزمن مجرد شيء يمر، بل شيئا خفيفا يزهر كالينبوع. عندما اكتمل إعداد المائدة وقف العجوز وعبر الباب للبحث عن الصبي الذي كان يلعب في الخارج بحشرة برية. ¢كاثيكي¢، هيا لتأكل! لم يسمعه الصبي، كان غائبا في تأمل الحشرة الخضراء الرقيقة التي بدت كعصب وريقة. كانت عيناه ملتصقتين بالأرض، ويري الحشرة تكبر بأضعاف حجمها، فتبدو كما لو كانت حيوانا خرافيا مرعبا، كانت الحشرة لا تكاد تتحرك، تستدير علي أطرافها فيما يحاصرها صوت الصبي الذي يردد منغما بلا انقطاع: أيتها الحشرة، أيتها الحشرة، ما حجم جنسك؟ كانت الحشرة تفتح ما بين ساقيها الأماميتين بشكل منتظم، وظل الصبي يردد نغمته حتي كاد شكل الحشرة يتحول في مخيلته إلي شيء آخر. ¢كاثيكي¢، هيا لتأكل! رفع الصبي وجهه ووقف بجهد كما لو كان عائدا من مشوار طويل. دخل خلف العجوز إلي الكوخ المعبق بالدخان، كانت ¢اوسيبيا¢ تضع الطعام في الأطباق، وخبز الذرة الأبيض يزين وسط المائدة. علي غير العادة، التي كان يمارسها العجوز بسبب البذور فقد عاد إلي الحقل بعد الغداء بقليل. عندما كان يعود في موعده المعتاد كان من السهل عليه تكرار الإشارات المعتادة منه، وأن يقول الججمل والتعبيرات المعتادة وإيجاد المكان الصحيح الذي يجعل وجوده ناتج عن فعل طبيعي، لكن عودته هذه المرة كانت تمثل كسرا لدورة حياته الرتيبة، فقد دخل الكوخ في خجل لأنه كان يعرف أن ¢اوسيبيا¢ تسيطر عليها الدهشة. دخل طارحا نفسه علي السرير المعلق دون أن ينظر إليها، وسمع تساؤلها بلا دهشة: آه، لقد اشتد عليك ضعفك؟ بحث عن تبرير: وماذا أفعل في هذا الوادي المججدب؟ بعد برهة عاد صوت ¢اوسيبيا¢ حلوا مع قليل من الدلال: نحن في حاجة ماسة للماء!، آه لو أمطرت لفترة طويلة وكافية، يا إلهي! الحر شديد والسماء خالية من الغيوم، ولا يظهر أي أثر للمطر من أي طرف. لكن لو أمطرت يمكن البَذر من جديد. نعم، هذا ممكن. وسوف يكون كافيا لحصاد وفير بعد هذا الجفاف الطويل. نعم، هذا ممكن. زخة مطر واحدة يمكنها أن تحول هذا السفح إلي خضرة. وبما نجنيه من حصاد يمكننا أن نشتري حمارا، نحن في حاجة شديدة إليه، ونشتري بعض الملابس الداخلية لكِ، يا ¢اوسيبيا¢. نبتت موجة الحنان بشكل مفاجيء وتحولت إلي معجزة دفعت بالابتسامة إلي شفتي العجوزين. ونشتري لك معطفا جيدا يا ¢خيسوسو¢. ثم انطلقا معا يقولان: وماذا نشتري ل¢كاثيكي¢؟ نأخذه إلي القرية ليختار ما يريد. كان الضوء الداخل من باب الكوخ يتحول إلي الشحوب، والإظلام، كما لو كان الزمن يمر رغم مرور وقت قصير منذ تناول طعام الغداء. هب نسيم مضمخ بشيء من الرطوبة مما خفف من وطأة البقاء في الكوخ. قضيا طوال منتصف النهار تقريبا في صمت، ولم يفعلا شيئا سوي تبادل بعض الكلمات المبهمة من وقت لآخر، مما حرر الأرواح من قديمها وأدخلها في حالة جديدة من الهدوء والطمأنينة، والتعب اللذيذ. كانت ¢اوسيبيا¢ تنظر إلي اللون الرمادي الذي يدخل من الباب وقالت: لقد حل الظلام. وأضافت بشكل فجائي: وماذا فعل ¢كاثيكي¢ طوال فترة الظهيرة؟... تري هل بقي في السهل يلعب مع الحشرات التي يجدها، أنظر إليه يسير ويتوقف ويحادث الحشرات كما لو كانت بشرا. وأضافت بعد ذلك، بعد أن تركت الصور تسير في مخيلتها: سوف أذهب للبحث عنه. تركت السرير المعلق بشكل متسرع واتجهت نحو باب الكوخ، كان لون السهل الجاف الأصفر قد تحول إلي اللون البنفسجي بفعل اللون القاتم الذي يغطي السماء. ونسمة قوية تهز أوراق الأشجار الجافة. قال العجوز: أنظري يا ¢اوسيبيا¢. عادت العجوز إلي الداخل وسألت: هل ¢كاثيكي¢ هناك؟ لا!، أنظري إلي السماء التي تحولت إلي سوداء، سوداء... لونها هذا تحول عدة مرات، ولم يكن بفعل المطر. ظلت في داخل إطار الباب مرة أخري، فيما خرج هو من أحد جوانبه، أفسح لنفسه طريقا بيديه، وأطلق صيحة بطيئة ومتقطعة: كاثيكي! كاثيكي! ذهب الصوت مع النسمة العابرة، المختلطة بحفيف الأوراق، وملتفة بضوضاء هادئة كما لو كانت تعويذات ساحرة تطوف الهضبة. بدأ ¢خيسوسو¢ يسير عبر أوسع الجداول في السهل. في دورته الأولي شاهد ¢اوسيبيا¢ بطرف عينيه، كانت ساكنة، ثم ابتعدت عن ناظريه. عبر الضوضاء الصادرة عن الأوراق الجافة الساقطة، فيما كان يتسمع إلي قشعريرة طيران الحمام الساكن في الهواء الصامت الثقيل، كان الهواء يعبر خلال الضوء ببرودة الماء. دون أن يشعر، كان غائبا ويعيش في أوهام غائمة ومعقدة، و يسير باتجاه سهول أكثر سرية وعتامة، كان يسير بشكل ميكانيكي، مغيرا من سرعته ما بين وقت وآخر، وكان يتوقف ليجد نفسه في مكان آخر. بدأت الأشياء تضيع شيئا فشيئا وتتحول إلي الرمادي القابل للتشكل، كما لو كانت من الماء. خجيل ل¢خيسوسو¢ أنه يري جسد الصبي الناحل يمرق بين عيدان الذرة، فنادي بسرعة: ¢كاثيكي¢. لكن سرعان ما أذابت الظلال ونسمات الهواء الصورة وعادت ترسم صورة جديدة غير معروفة. كان السحاب أكثر عمقا وأكثر انخفاضا ويزداد سوادا، ويتحرك علي سفوح الجبال، فكانت الأشجار العالية تبدو كما لو كانت أعمدة من الدخان تذوب في الفراغ المظلم. لم يعد العجوز يثق في عينيه، لأن كل الأشكال كانت تبدو ظلالا هاربة، لكنه من وقت لآخر كان يتوقف و يتنصت متسمعا الحفيف. ¢كاثيكي¢. كان ينادي بصوت خجول، ثم يتوقف ليتسمع، اعتقد أنه سمع شيئا يشبه خطواته، لكن لا، لقد كان صوت فرع جاف يتحشرج. ¢كاثيكي¢. كان قد تعرٌف علي صوته بين الأصوات الصغيرة المتفرقة التي يدفعها الهواء أمامه. أيتها الحشرة، أيتها الحشرة... كانت الأصوات هذه، كلمات تصدر عن صوته الطفولي، وليس صدي الأصوات الفحيحية للأوراق، ولم تكن لأصوات العصافير التي ضاعت ملامحها في الفراغ، ولم تكن حتي ترددات صوته التي تعود إليه خافتة ونحيفة. أيتها الحشرة، أيتها الحشرة... فيما بين الدخان فاقد الملامح الذي كان يملأ رأسه، كان هناك شعور بالغصة الباردة والحادة التي تثقل خطواته وتدفع به إلي حافة الجنون. دخل بين الأعواد وسار علي أربع، محاولا اختراق طريقه بين أعواد الذرة، وكان يتوقف باستمرار عندما يفتقد سماع تنفسه الذي يتردد بشكل قوي. ازداد إحساسه بالضياع فينادي: ¢كاثيكي¢! ¢كاثيكي¢! دار عدة دورات ما بين النداء واللهاث، ضائعا و لم ينتبه إلي أنه كان في طريقه لصعود السفح مرة أخري، ظله وسرعة جريان الدماء في عروقه لشعوره بعدم جدوي البحث جعلاه لا يتعرف علي نفسه كعجوز، بل وجد في نفسه حيوانا غريبا حبيسا في نبض الطبيعة، فلم يرَ في السفح الأشياء الأليفة التي تحيط به، بل كان يري التشوه الذي يجعلها بعيدة عن ذهنه وغاصة بالضجيج والتحركات المجهولة. كان الهواء ثقيلا وصعب الاستنشاق، والعرق يجري لزجا فيما كان هو يجري وينادي والغصة تنغص جسده. ¢كاثيكي¢! لقد تحوٌل الأمر إلي ما يشبه الحياة أو الموت، فقد كان عليه أن يعثر علي شيء لا يتوقعه يخرج من تلك العزلة الجافة المعذبة، فقد تخيل أن نداءاته الأجشة تجري في ألف اتجاه، حيث ينتظرها شيء من الليل المحيط به. لقد كانت نوعا من الاحتضار، والعطش. رائحة مجري قديم حديث الحرث يطفو علي سطح الأرض، أو رائحة وريقة لدنة ممزقة. لم يعد يتعرف علي نفسه ولا علي الأشكال الأخري، فقد ضاعت صورة الصبي في الضباب الغليظ، ولم تعد تشي بالشكل البشري، وفي لحظات كان ينسي شكله الجسماني، ولم يعد قادرا علي تذكر ملامحه. ¢كاثيكي¢! سقطت علي جبهته نقطة ماء عرق بارد،، فرفع وجهه فسقطت نقطة أخري علي شفتيه المشقوقتين، وثالثة سقطت علي يديه المجتربتين. ¢كاثيكي¢! سقطت قطرات أخري علي الصدر الدهني من جرٌاء العرق، وأخري سقطت علي العينين الغائمتين. ¢كاثيكي¢! ¢كاثيكي¢! لقد تحوٌل الالتحام البارد علي الجلد كله إلي دغدغة، وبلل ملابسه، وجري علي أطرافه. انفجرت ضوضاء مكتومة فدفعت في الهواء بالأوراق الجافة وخنقت صوته، وغرق في رائحة الجذور العميقة، وانتشرت روائح التربة التي تحمل بذورا نابتة، وجاء صمم المطر ليكمل حلقة الرائحة. لم يعد يتعرف علي صوته الخاص، الذي لفه صدي القطرات المستديرة، فصمت فمه كما لو كان النوم قد سيطر عليه ببطء، رغم صوتها العميق المتسع، جزٌ علي قطرات المطر وسكن فيها. لم يعد يعرف إن كان في طريق عودته إلي البيت أم أنه يسير في الاتجاه المعاكس، وكان ينظر إلي ملامح زوجته ¢اوسيبيا¢ عبر قطرات المطر كما لو كان ينظر عبر قطرات من الدموع، فيما كانت تقف ساكنة في ضوء مدخل الكوخ.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كتاب لاتين امريكا (Re: Sabri Elshareef)
|
أولريك قصة الكاتب الارجنتيني: خورخي لويس بورخيس ترجمة: مجدي عبد المجيد خاطر تصير قصتي حقيقية بالنسبة للواقع ، أو علي أية جانب ، بالنسبة لذاكرتي الشخصية للواقع ، والتي تشير للشئ ذاته . لقد وقعت الأحداث منذ فترة قصيرة مضت ، سوي أنني أدرك أن العادة الأدبية تقتضي أيضا إضافة تفاصيل عَرضَية ، وإبراز نقاط تبدو جوهرية . أرغب في تقييم لقائي بأولريك ، التي لم أعرف أبدا كجنيتها ، وربما لن أعرف أبدا ، بمدينة يورك . تنحصر الواقعة بليلة واحدة وصباح . يصير أيضا من اليسير القول أنني قد رأيتها أول مرة بجانب الأخوات الخمس لرعوية يورك ، اللآئي يصبغن زجاج نوافذ بريئة من أية زخارف ، أيقونات كرومويل المجبَجلة ، سوي أن الحقيقة أننا قد ألتقينا داخل مجتَكأ صغير بخان شمالي يقع خارج أسوار المدينة . كنا حفنة ضئيلة ، وكانت أجولريك تولينا ظهرها . وقد رفضت لتوها شرابا عرضه رجل . ¢ أنا أجنوثية ¢ . ¢ لم أخرج لأحاكي رجالا ، أمقت تبغهم ومشروباتهم الكحولية ¢ . قصدت الإشارة أن تكون حصيفة ، وخمنت أنها ليست المرة الأولي التي تلقي فيها عرضا كهذا . وقد أكتشفت لاحقا أنه ليس نموذجا يجمثلها ، فيما عدا أن ما ننطق به لا يشبهنا دائما . قالت بأنها قد وصلت إلي المتحف متأخرة جدا ، وأنهم سمحوا لها بالدخول ، بعد أن علموا بكونها نرويجية . تلك اشارة أخري من الإشارات الماثلة ¢ ليست المرة الأولي التي يدخل فيها النرويجيون يورك ¢ . قالت ¢ هذا صحيح ، لقد كانت انجلترا لنا ذات مرة ثم فقدناها ، كما لو كان لأحدهم أن يمتلك شيئا أو لو أن لشيئِ ما أن يجفقد ¢ . لقد كانت عند هذه النقطة حين رنوت إليها . إن شريطي ببليك يجذكر بفتيات تم صوغهن من فضة لينة أو ذهب جامح ، سوي أنه قد أجتمعت لأجولريك لدانة الفضة وجموح الذهب . كانت هيفاء رشيقة ذات ملامح حادة وعينين رماديتين . وبدرجة أقل من وجهها ، كنت واقعا تحت تأثير هالة غموضها الرصين . كانت تبتسم ببساطة ، فيما بدا أن الإبتسامة تستردها من الصجحبة . ترتدي ملابس سوداء غريبة بالنسبة لأراضي الشمال التي تحاول بث البهجة باللون السنجابي الذي يكتنفهم بإرتداء ألوان زاهية . كانت تتحدث إنجليزية مجدققة فصيحة ، مجدرجة حواشيها الأجرومية بخفة . لست مراقبا خبيرا ، سوي أنني قد تبينت هذه الأمور شيئا فشيئا . تعارفنا . أخبرتها بأنني أستاذ بجامعة آنديس في بوجوتا ، مفسرا ذلك بكوني كولومبيا . سألتني بشكل باعث علي التفكير ¢ ماذا يعني أن يكون المرء كولومبيا ؟¢. أجبت ¢ لا أدري . هي مسألة أنتماء ¢ . أيدت أجابتي بقولها ¢ مثل أن يكون المرء نرويجيا ¢ . لا أستطيع تذكر الكثير مما قيل بهذا المساء . باليوم التالي ، هبطت مبكرا حجرة الطعام ، شاهدت عبر النوافذ كتلا من الثلج تجغطي الأرض ، وبالأضواء الأولي للصباح بدت الأجمة شاحبة . كنا الوحيدين هناك ، وقد دعتني أجولريك لطاولتها وأطلعتني برغبتها في جولة تمشية إنفرادية . قلت مجستدعيا مجزحة شوبنهاور ¢ وكذلك أنا ، كلانا بوسعه الخروج سويا ¢ . تمشينا من الخان بمهبط الثلج الجديد ، ليس من ثمة روح أجخري سوانا ، وقد خمنت أننا بسبيلنا لثورجات علي مبعدة عدة أميال من النهر . فكرت بأني قد أحببت أجولريك لتوي ، ولم تكن بي رغبة في مجاورة أحد غيرها أبدا . بغتة أخترقت مسامعي أصوات بعيدة لعواء ذئب ، سوي أنه كان بالفعل ذئبا . وكانت أجولريك تبدي أنفعالا هادئا . قالت لاحقا عقيب برهة ، كما لو كانت تفكر بصوت عال. ¢ لقد هزتني السيوف القليلة التي شاهدتها بالأمس في رعوية يورك بدرجة أكبر من السفن العملاقة في مجتحف أوزلو ¢ . بهذا المساء تباينت وجهاتنا ، فأجولريك كانت معنية بمواصلة رحلتها إلي لندن ، فيما كانت أدنبره وجهتي . قالت تخبرني : ¢ سأقتفي أثر خطي دي كوينسي بشارع أجكسفورد ، في بحثه عن معشوقته آن ، التي تاهت في زحام لندن ¢ . أجبت ¢ لقد كف دي كوينسي عن بحثه ، أما أنا فطيلة حياتي لم أتوقف عن التفكير بها ¢ . قالت أجولريك بصوت خفيض ¢ ربما عَثجرت عليها ¢ . أدركت أنه ليس من ثمة شئ غير متوقع بوسعه إعاقتي الآن . وهكذا ، طبعت قبلاتي فوق فمها وعينيها . أنسحبت مني بقوة لا تخلو من رقة ، ثم باحت ¢ سأكون لك في الخان بثورجات . وحتي تلك اللحظة ، عليك ألا تحاول لمسي ، فهذا أفضل ¢ . بالنسبة لعازب علي مدي سنوات ، فإن عرضا بالحب يصبح منحة غير متوقعة إطلاقا ، ويصير للمعجزات حق إملاء شروطها . عجدت بذاكرتي لفترة شبابي ببوبيان ولفتاة في تكساس ، رشيقة وشقراء مثل أجولريك ، تنكرت لحبها لي ذات يوم . لم أرتكب خطأ سؤال أجولريك ما إذا كانت تحبني ، أدركت أنها ليست مرتها الأولي ولن تكون الأخيرة . ستصير المغامرة ، والتي ربما تكون الأخيرة بالنسبة لي ، واحدة من عدة مغامرات أخري لهذه التابعة الباهرة التي تمتلك إصرار شخصيات أبسن . تمشينا بأكفنا في عناق . قلت ¢ كما لو كنت أحلم . أنا لم يسبق لي الحلم ¢ .¢ مثل هذا الملك الذي لم يحلم أبدا ، حتي دفعه ساحر للسقوط بالنوم في بيغستي ¢ . ثم أضافت ¢ أنصت . إن طائرا علي وشك الغناء ¢ . أصخنا السمع لاحقا لدقيقة أو اثنتين ، لغناء الطائر .قلت ¢ يبدو استغراقا بالتفكير تصور رجل علي وشك الإحتضار بهذه الأراضي ، يستطيع قراءة المستقبل ¢ . قالت ¢ أوشك أن ألقي نحبي ¢ . شخصت إليها ذاهلا . ثم حثثتها قائلا ¢ هيا بنا نختصر الطريق عبر الغابة ، سنصل ثورجات سريعا ¢ . ¢ الغابة خطيرة ¢ . تابعنا سيرنا بمحاذاة الأجمة . ¢ لابد وأن أتمني دوام تلك اللحظة للأبد ¢ قلت متمتما . ¢ للأبد كلمة محظور أستخدامها علي الرجال ¢ . هكذا قالت أجولريك ، وحتي تخفف من وطأة عبارتها ، سألتني تكرار اسمي لأنها لم تحفظه . قلت : ¢ خافيير أوتالورا ¢ . حاولت نطقه بشكل سليم وفشلت . وبشكل مساو فشلت أنا الآخر مع أجولريك . قالت مبتسمة : ¢ سأدعوك سيجبورد ¢ . وأجبت ¢ إذا كنت سأصير سيجبورد ، فستكونين براينهيلد ¢ . أبطأت خطاها . سألت ¢ هل تعرفين الساغا ؟¢. قالت : ¢ بالطبع . إنها القصة المأساوية التي أفسدها الألمان بالنيبلونغز الأخيرة ¢. أجبت دونما فرصة لمناقشة هذه المسألة : ¢ إنك تمشين يا براينهيلد كما لو كنت تتمنين لو يرقد بيننا سيف علي الفراش ¢ . توقفنا بغتة قبل أن نبلغ الخان ، ولم يجدهشني هذا كما حدث بالمرة الأولي . كان يجدعي الخان الشمالي .هتفت بي من أعلي الدرج : ¢ هل سمعت عواء الذئب ؟ ليس من ثمة ذئاب علي الإطلاق بانجلترا .. هيا ..أسرع ¢. صاعدا للطابق العجلوي ، لاحظت أن الجدران مكسوة بأوراق حائط علي طراز ويليام موريس ذات لون أحمر قاني ، تحمل تصميما من فاكهة وطيور متشابكة . قصدت أجولريك إلي الأمام . كانت الغرفة المجظلمة واطئة ذات سقف مائل . تضاعف الفراش المجنتظر علي صفحة مرآة مجعتِمة ، وذكٌرني الماهوجني المصقول بالمظهر الزجاجي للأسفار المقدسة .كانت أجولريك قد تعرت توأَ ، وقد دعتني باسمي الحقيقي _ خافيير . شَعجرت بان الثلج يتساقط أسرع . الآن ، ليس من ثمة مرايا أو أثاث ، ما من سيوف بيننا ، وقد انقضي الوقت مثل الرمال . في الظلام ، تدفق عشق قرون مضت ، ولأول وآخر مرة أمتلكت ، صورة أجولريك .
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كتاب لاتين امريكا (Re: Sabri Elshareef)
|
بيلين والجدة لويزا قصة للأرجنتيني : لميمبو جياردينللي ترجمة: مها عبد الرءوف لا أستطيع أن أحدد علي وجه الدقة أكثر ما لفت انتباهي في ذلك الفتي،بيد أن نظراته كانت كما لو أنها تتوهج .وكانت عيناه تموجان بغضب هادر يشي عن آثار أمر فظيع وقع في حياته القصيرة.اقتربت منه مخالفة القسم الذي أخذناه علي أنفسنا : بألا نقيم أية علاقات شخصية مع هؤلاء الفتية وألا يكون تعاملنا معهم قائما علي أي نوع من المحسوبية وألا نسمح لمشاعرنا الخاصة أن تحكم هذا التعامل .فمنذ بدأنا ¢برنامج جدات يروين الحكايات¢ وقد اتفقنا علي أن مهمتنا هي _أو هكذا يجب أن تكون أن نوفر الأشياء الناقصة.فنحن ببساطة أناس أخذنا علي عاتقنا أن نوفر ما لا توفره أو ملا تستطيع أن توفره الدولة للجميع. وأنت ما اسمك ؟ سألته بجدية ودون أية ابتسامة كأنما أتحدث إلي رجل عجوز. ينادونني بيلين فقط . وبالنظر إلي حالة شعره كان من الممكن بسهولة فهم مغزي الاسم ،فقد كان منكوشا وقد تصلب من كثرة ما غطاه من قاذورات.هذا الشعر ينبغي أن يتم قصه هكذا فكرت _ هذا الشعر المليء بالقمل يجب أن يقص .ولكننا لا نستطيع فعل شيء حيال هذا الأمر، فليس مسموحا لنا أن نمس الأطفال .فأبناء الفقراء هم ملكية لوالديهم فقط ، وربما كانوا الملكية الوحيدة لهم أيضا. كنا في مبني سميناه ¢ملجأ بياثنثا ¢ نظرا لأننا أنشأناه بأموال أرسلها لنا أصدقاء في تلك المدينة التي تقع شمال إيطاليا. كان المبني يقع في أحد أحياء ريسستنثيا النائية ،أحد تلك الأحياء العديدة التي يعيش _ وهو تعبير مجازي إذ أن فعل يعيش غير مناسب بالمرة سبعون بالمائة من سكان المدينة.وفي الرابعة تماما من عصر كل يوم كان يتوافد علي المبني بين مائتي وثلاثمائة طفل من الحي للحصول علي اللبن الذي تعده مجموعة من الأمهات المتطوعات اللاتي زودناهن باللبن الساخن والسكر والفطائر أو الخبز. هل تناولت اللبن؟ نعم . انصرف إذا. غير أن الفتي لم يحرك ساكنا.راح ينظر لكل شيء حوله بعيني رجل ناضج.وأخذ يرقب مجموعة من الفتيان الأكبر منه سنا كانوا يلعبون بكرة جديدة.كان ينظر إليهم كما تنظر القطط ..أو كما تنظر التماسيح. من بعيد وبتركيز شديد . هيا انصرف يا بيلين فقد تناولت نصيبك من اللبن. نظر لي من أسفل كأنما بازدراء وقال بثقة الكبار: أنا أنتظر الجدة لويزا. في تلك اللحظة حولت انتباهي عنه لأجيب طلبا عاجلا لمونيكا _ إحدي الأمهات المتطوعات.فلهن دائما طلبات تفوق أية قدرة علي التنفيذ.ودائما علينا أن نضع حدودا وأن نوضح أن تعليماتنا تسري علي الجميع. منذ أسابيع ونحن نحاول أن نضع تصورا للاحتفال بيوم الرابع والعشرين من ديمسبر.ولكن من غير الفقراء يمكنه أن يدرك ماذا تعني أعياد الميلاد بالنسبة للفقراء؟ من ذا الذي لا ينتمي لهذا العالم يمكنه أن يعرف حقا مشاعر أسرة لا تعرف ماذا ستحصل علي مائدة الطعام هذا إن حصلت علي شيء؟ أو مشاعر أسرة الأمر الوحيد الذي يعلمه أطفالها علم اليقين هو الحزن والعوز وربما العنف والكراهية. في يوم الجمعة السابق للأعياد عندما وصلنا إلي الحي مع مجموعة من الجدات محملات بالخبر المحلي والكرات وكمية ضخمة من اللعب لتوزيعها علي الأطفال شاهدات الفتي ذا النظرات النارية وقلت لنفسي: علي وجه هذا الفتي يرتسم المشهد الحقيقي للأعياد في هذا الحي. ولماذا الجدة لويزا وليس غيرها؟ لأنني أحبها ليس إلا. كان بيلين يأتي لينتظر الجدة لويزا كل جمعة كما أخبرتني أولجا إحدي المتطوعات.سألته إن كان السبب في ذلك هو انه ليس لديه جدة في منزله.وهو بالطبع ليس لديه،فلديه بالكاد أطلال أسرة: أب مشغول ومدمن كثير المشاكل مع الشرطة،والأم تعمل خادمة طوال اليوم في منزل طبيب وسط المدينة وتعود إلي البيت منهكة كل ليلة ،إضافة إلي خمسة أشقاء من بينهم اثنان من المعوقين.وهناك أيام تمر علي بيلين لا يجد فيها ما يسد رمقه سوي كوب اللبن.وعندما يأتي يحمل معه إناء ليأخذ فيه اللبن لأخوته.كانوا جميعا يتكدسون في كوخ من الصفيح والخشب بالقرب من مقلب القمامة في المدينة.وأحيانا _ كما قالت أولجا _ كانت تقوم علي رعايتهم عمتها روسا التي لديها أربعة عشر ابنا منهم اثنان في السجن ،ودائما تطلب المساعدة للتخلص من الدعاوي القضائية التي تطاردها بسبب استخدام أبنائها في أعمال التسول. كنا جميعا نعرف أن الآباء في هذه الحالات غالبا غير متواجدين ،علي الأقل في الملجأ،فهم لا يحضرون أبدا ،إلا أنهم يرقبون كل شيء عن بعد ،من المنازل أو الحانات أو علي النواصي أو عندما يلعبون الكرة في الساحات .الأمهات فقط هن من يقمن بالعمل منذ الثانية ظهرا ،وتحت الشمس الحارقة في إقليم شاكو يبدأن في غلي اللبن وغسل الأكواب وإعداد الخبز وطرد الذباب والسيطرة علي هذه المجموعات من المفسدين الصغار ،وكل هذا وسط همهمات وهمسات حول هؤلاء الرجال الذين أصابهم الفراغ والغضب بالجنون ،فيبدون خطرين تارة ويظهرون لا حول لهم ولا قوة تارة أخري وقد انحنت ظهورهم جراء الهزائم المتلاحقة التي تطاردهم عن بعد. علينا أن نقدم شكوي ضد المتغيبات هكذا احتجت مونيكا فكل واحدة لها وظيفة. في تلك اللحظة وصلت سيارة صديق يحمل معه مجموعة من الجدات المتطوعات،وكان من يبنهم الجدة لويزا ،وهي متخصصة في قراءة قصص جراثيللا كابال. ولماذا تحب الجدة لويزا يا بيلين؟ صمت الفتي وأخذ يحك فخذيه بيديه أسفل سرواله المهترئ.لم يبتسم وأعتقد حقا أنه لا يعرف حتي ما هو الابتسام. لأنها تتركني أفكر. وفيم ستفكر إذا لم تحضر لك أي شيء؟ كانت كلتانا تعرف أن هذا الشيء ليس بالأمر الهين،فالبرنامج يقوم أيضا علي تزويد الأطفال بالقراءة وهي نوع آخر من الغذاء يبد أنه لم يعرف كيف يعبر عن ذلك. لا أعرف أجاب بيلين واستدرك ،في أشياء .. ونظر إلي حينئذ وكأنه يقول إنها تحضر لي الحكايات وفي كل مرة حكاية مختلفة وتتركني بعدها طوال الأسبوع أفكر،ولكنه لم يقل.لقد توجه ببساطة إلي المجموعة التي أحاطت بالجدة لويزا وجلس علي الأرض بجوارها تماما عندما بدأت القراءة.وعندما حانت لحظة الانصراف ركبنا جميعا الحافلة التي راحت تتمايل عند مرورها فوق برك المياه الصغيرة التي خلفتها الأمطار.واتصل بي صديق علي هاتفي المحمول للاتفاق علي الترتيبات النهائية ليوم الرابع والعشرين.ومع إني كنت مشتتة التركيز تماما فقد توصلت معه لاتفاق.وعندما عادت كل جدة إلي بيتها توجهت أنا أبضا إلي منزلي وأنا أفكر .أنا أيضا أفكر ،في أشياء عديدة. وجياردينللي هو كاتب وصحفي أرجنتيني ولد عام 1947 في مدينة لا ريسستينثيا عاصمة إقليم شاكو .وقضي معظم سنوات حياته رحالا ينتقل من بلد إلي آخر ومن بينها ثماني سنوات في المنفي في المكسيك عاد بعدها إلي وطنه عام 1990. له العديد من الأعمال منها روايات ¢الثورة علي دراجة¢ و¢السماء في متناول اليد¢ و ¢فقط الموتي يبقون¢ و¢القمر الدافئ ¢التي حصل عنها علي الجائزة الوطنية للرواية في المكسيك عام 1983 .كما أن له مجموعات من القصص القصيرة مثل ¢حيوات مثالية¢ و¢عقاب الرب¢.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كتاب لاتين امريكا (Re: Sabri Elshareef)
|
للفنان: ديجو ريفيرا للكاتب الكوبي: خوستو استيبان استيفانيل ترجمة: د. طلعت شاهين كم ننسي الأشياء التي تمر بطفولتنا، أو بمعني آخر كيف تظل محفورة في الذاكرة، وتجدفن لسنوات طويلة، ولا نعرف أين، إلي أن تأتي اللحظة، وفجأة دون وعي نتذكر الأيام البعيدة من مراهقتنا. كنت في يوم من الأيام أعبر الطريق، توقفت لأراقب صبيين كانا يصعدان المنحدر ويرتديان بناطيل قصيرة وأحذية من الكاوتش، ويحاولان الاحتفاظ بتوازنهما فيفردان أذرعتهما كما لو كانا يشاركان في سباق للجري. ثم سمعت شخصا ما يقول إنهما يستعدان للمنافسات الوطنية الاوليمبية، ورغم أن عيني ظلتا تتابعان هذا المشهد المرئي، لكنهما لم تتدخلا فيما كان يعتمل في ذاكرتي ، في يوم ما كان هناك بائع كراملة يقف بشجرته ذات الأرجل الأربعة أو الخمسة معلقة كالعمود الذي يشد أطراف العلم ويحتفظ به عاليا. إنهم ¢اليابانيون¢ الحمر أو الزرق أو الصفر (هكذا كانوا يسمون قطع الحلوي، بدقة وعناية) معلقون بعصي صغيرة في أفرع الشجرة، وعندما كان الرجل يحرك جذع الشجرة بين يديه تبدو الألوان في عيون المارة كقطع الماس اللامعة. بالنسبة لي فإن بائع الكراملة كان رجلا خارقا، استحوذ علي اهتمامي منذ سنواتي الأولي، وشيئا فشيئا، كنتج أتقصي حكايته لسنوات بعيدة، ترجع إلي زمن عودة الجنرال لتولي السلطة. من كان يري بائع الكراملة وهو يقايض الحلوي بالزجاجات الفارغة ، لا يفكر في سر كلمة ¢السريع¢ التي كانت تجطلق عليه، ذلك الاسم الذي ذاعت شهرته في كل المقاطعة. في يوم ما فكر الرجل في بديل للعربة التي كان يدفعها أمامه للحصول علي عشرين أو ثلاثين سنتا، فكر في عمل شيء يجعله أكثر سرعة وأكثر إنتاجا، ويمكنه من تنويع طعامه الدائم المكون من الخبز والمقليات. كان عليه أن يبتكر شيئا جديدا. ذهب إلي الجبل، اقتطع فرعا مستقيما، شذبه بسن سكين صغيرة، وصنع به ما يشبه الحلقات، وبعد ذلك صنع في الأفرع الصغيرة فتحات علق فيها الكراملة، وانطلق في الشوارع بحثا عن الأطفال، كان يحرك شجرة الألوان أمام المدرسة، فاستطاع في ساعات قليلة أن يبيع أكثر مما باعه في يوم كامل عندما كان يقايض بالزجاجات الفارغة. لم ينتبه إلي أن سرعته كانت تحرك جذع الشجرة فتصدر صوتا ¢زيق، زاق¢ فتجذب انتباه الصغار الذين يتدافعون حوله. عندما جاء الليل كانت ساقاه تؤلمانه ويداه وعضلات جسده جميعا، وفي الصباح، عندما حاول الاستيقاظ، كانت آلاف الوخزات تدب في جسده من عنقه إلي كعبيه، ظل طوال اليوم في السرير. في اليوم التالي، وقف علي قدميه في قفزة واحدة، جذب الشجرة وخرج إلي الشارع، حثٌ السرعة في حذائه القديم وصعد المنحدر، فكان الحمل ثقيلا، كما لو كانت كل قطعة من الكراملة تزن عشرة أرطال، شرب في أحد المقاهي ثلاثة أكواب من الماء بحماس، وعاد إلي البيت مثقلا أكثر مما سبق. في اليوم التالي نهض من سريره واتجه مباشرة إلي المتنزه العام، زاد من سرعته وهو يعبر الشارع الرئيسي؟ ¢ انظر إلي هذا؟ انظر إليه كيف يمشي؟. يا للهول، إنه الرجل الآلة، إنه يرقص. وأخيرا سمع صوتا طفوليا يقول: ¢ أيها السريع أعطني يابانيا¢. ما إن سمع هذا النداء بالاسم الجديد حتي شعر بالاعتزاز فتنفس ملء رئتيه واتجه يمينا، ضابطا دورانه باتزان، فكانت قطع السكر الزجاجية تتقافز كالنجوم. وصل إلي الزبون الصغير وهو يفرمل موتوراته، وتوقف أمامه تماما في حركة عنيفة، كادت تفقده توازنه فتقع الشجرة بين يديه وتتحطم قطع الحلوي الصغيرة. كلمات الاستحسان الصادرة من المارة دغدغت آذانه، يشعر لأول مرة أنه مهم وله قدرات خارقة، وبحركة إيقاعية كإشارات ¢مورس¢ نزع قطعة الكراملة وأخذ من الصغير القطعة النقدية، وفي حركة سريعة أيضا سار في خط مستقيم بين خطوط الترام. انتشر الاسم في كل الاتجاهات ¢يا سريع أعطني قطعة، اثنتين، ثلاثا¢، ودون أن يخفف سرعته أو يفرمل بعنف ظل يبيع بضاعته إلي أن أصبحت الشجرة خالية. ¢ الرجل الآلة¢ لا يوجد من يسير أسرع منه¢، ¢إنه لا يتعب¢، ¢لا كبد له¢، ¢إنه بلا طحال¢، ¢السريع¢ هذه الكلمات كانت تترد في كل مكان. انتصاراته غسلت آلام جسده. زادت شجاعته من سرعته فتغلب علي آلام قدميه ويديه، التمرينات العنيفة زادت من صلابة عضلات ساقيه وذراعيه وعنقه، وكل جسده تحول إلي عضلات مرنة، لا تتعب. لم يخفف من سرعته مطلقا، والشجرة بين يديه، كان يسير بسرعة تصل إلي عشرة كيلومترات في الساعة، ودون أن يجري كانت سرعته تتزيد، كان يتدرب مرات عديدة علي الدوران في اتجاهات مختلفة، من اليمين إلي اليسار، دورانا عنيفا حول نفسه، وبدأ يخلق فنا عبقريا، فكان الشخص الوحيد الذي ينطبق عليه اسمه. سيره الشجاع زاد من نطاق حركته ففتح له مجالات عديدة لبيع بضاعته، لاحظ أن المفاجأة هي التي تخلق حب الشراء لدي الأطفال، خاصة عندما تجقدم علي جرعات صغيرة، فزيارة نفس المدرسة مرتين أسبوعيا يعني هبوطا في عدد الزبائن والأفضل أن تتسع دائرة البيع والظهور في الأماكن بشكل مفاجئ، يبيع البضاعة ويختفي. ولذلك فهو يذهب يوما إلي ¢كاني¢ أو ¢كريستو¢ إلي ¢مايا¢ أو حتي ¢هولجين¢ أو ¢ماياري¢. في الطرق العامة كان يجقابل بإطراء من قائدي السيارات، وعندما كان يصل إلي التجمعات السكانية أو القري يجحدث هرجا كبيرا وتجري مجموعات الأطفال من خلفه إلي أن يتوقفوا من شدة التعب واللهاث. تنتعش روحه بالضجة، كان يحب الصغار، فبضحكاتهم فقط تحول إلي ¢السريع¢. لاحظ أنه كل يوم يزداد سرعة وجسده يطاوعه كل يوم بأشياء جديدة، ومع كل حركة جديدة ينضج جسده بالعرق إلي حذائه. وأنه يستطيع أن يظل سائرا ليوم وليلة دون توقف. لكي يلفت الانتباه أكثر، كان عندما يصل إلي المدرسة يطلق صافرته ويحدث أصواتا تفرقع كأصوات الموتورات الحقيقية. وازدادت شهرته في أيام الاحتفالات، فسعي السيد ¢ايدن¢ صاحب مصنع التبغ للتعاقد معه ليحمل صندوقا كبيرا عليه إعلان للسجائر ويقوم بحركات راقصة كالتي تدرب عليها وهو يحمل الشجرة. عند صعوده إلي جانب الإعلان، بعض الساهرين في الاحتفال هددوه وأطلقوا باتجاهه بعض الطلقات النارية فركبه الرعب، وأطلق موتوراته ولم يتوقف إلا عندما شعر بأنه في بيته. قالت له زوجته: إنهم يقتلون الناس. لا تخرج. فظل أياما دون أن يخرج بشجرة الكراملة. ومع ذلك، عندما ألح عليه الأطفال، وضعت زوجته الشجرة بين يديه، وخرج سعيدا يجري في الشوارع من جديد. دون أي سبب معروف، سلك طريق الشاطئ ليسخن عضلاته بالهواء القادم من البحر، في دقائق معدودة تحول إلي السريع القديم رغم أنه بذل مجهودا ليتوقف عندما طلب منه فلاح أن يبيعه قطعة كراملة. كعادته توقف ليتأمل الحجر الكبير فقال له الفلاح: ¢لا تستطيع أن تصعد بالشجرة إلي هناك¢. بدت الصخرة أمامه بين السحاب كما لو كانت تحديا، أراد أن يجرب ساقيه وشجاعته، اتجه صوب الطريق القديم، في دقائق كان هناك علي قمة النهر. في أعلي القمة كانت مياه النهر تتقافز بين الأحجار تدعوه إلي الشرب، هبط ببطء ليستمتع بصوت موسيقي الماء. فجأة تدافع سرب من الخنازير هاربا أمام عصا امرأة عجوز كانت تجري كالمجنونة،هذا جعله يتوقف. هب هواء متعفن برائحة لحم فاسد ودون أن يسأل تابع العجوز. هناك بالقرب من النهر كانت جثث بعض الرجال محطمة بالعصي . قال بصوت منخفض: ¢أيتها العجوز ما هذا؟¢ أجابته العجوز: ¢أنا أحرسهم حتي لا تأكلهم الخنازير¢. عاد يسأل: ¢من هم؟¢ نظرت إليه بغضب وشددت قبضتها علي العصا، وردت عليه بصوت قطع لحن الماء: ¢لقد جاء حرس سانتياجو وقتلوهم هنا، اذهب من هنا وإلا قتلوك أنت أيضا¢. قال برجاء: ¢يجب دفنهم أيتها العجوز¢ رفعت العصا وهوشته كما كانت تفعل مع الخنازير وهو يتراجع أمامها: ¢ قلت لك اذهب، إنهم سيعودون مرة أخري¢. شرع في العودة، فقدت ساقاه شجاعتهم، ذراعاه سقطتا إلي جنبيه وسقطت رقبته تحت ثقل العيون التي لم ترغب في النظر وضاعت بين الاحجار وتراب الطريق. وظل يكرر مرات ومرات: ¢إنهم أناس طيبون¢. ظل طريح الفراش لأكثر من أسبوع، إلي أن أصبحت زوجته متعبة من البحث عن الطعام بين فضلات المدينة. ركعت أمامه وطلبت منه أن يأخذ شجرة الحياة، لكن ذلك كان مستحيلا، لم يعد قادرا علي إضحاك الناس، لم يعد قادرا علي رسم البسمة علي وجوه الأطفال، هؤلاء الأطفال الذين سيصبحون رجالا في المستقبل، فيأخذونهم إلي النهر، فقرر أن يعود إلي عربته القديمة، يدفعها إلي أعلي المنحدر ويعود بها إلي أسفل، ويعود إلي صيحته القديمة: ¢أقايض الكراملة بالزجاجات الفارغة¢. مرت السنوات، كانت ثقيلة عليه، كان عليه أن يتحمل بذاءات الناس الذين كانوا يتهكمون منه في كل شارع: ¢السريع انتهي بنزينه، موتوره احترق، فقد سرعته¢، ويتابعونه من حي إلي آخر بسخريتهم. لكن في يوم مشمس، عادت طلقات الرصاص ودفعات الرشاشات تجسمع من جديد في شوارع سانتياجو، وبين الشباب الذين كانوا يرتدون الملابس العسكرية الخضراء بلون الزيتون شاهد صديقه القديم ¢بيبين¢ الذي كان يعمل في مصنع الكراملة. ظل يبحث عنه لمدة شهر كامل، إلي أن عثر عليه مختبئا فوق أحد الأسطح فطلب منه راجيا أن يتعاون معه، قال له إنه يعرف من هم الأشرار. في البداية لم يصدقه ¢بيبين¢ لكن شيئا فشيئا، بدأ يسلمه منشورات ثورية ليوزعها، ثم قرر أن يستخدمه في تسليم الرسائل وكانت كلمة السر ¢انظر السريع¢. ذهب سعيدا لينفذ الأوامر، لكنه عندما هبط المنحدر دفع عربته فعادت إلي أذنيه كلمات ¢انظر السريع¢. وسرعان ما عادت شجرة الحياة تظهر من جديد بين يديه، وعادت شهرته تتناقلها شوارع سانتياجو بعد عودة فنه الجديد، المشاء الاوليمبي، لكنه الآن لا يبيع الكراملة فقط. من يشك في السريع، من هذا البائع المتجول المجهول الذي يسير كمن يحمل في صدره موتورا ويحرك شجرة الكراملة في الشوارع والطرق؟. كانت الرسائل تصل إلي أماكنها وفي مواعيدها المحددة. وتبدأ الانفجارات عندما يكون هو علي بعد خمسة أو ستة شوارع من المكان. في صباح مبكر خرج بشجرته ككل الأيام وزاد من سرعته إلي أقصاها. لو كانت لديه مرآة كان لأمكنه أن يتأمل نفسه وسرعته تلتهم الشوارع. في الركن المعتاد دائما، كان الرجل الذي ينتظره يتمشي فقال له: ¢يا سريع أعطني يابانيا¢. الصوت المازح لم يفاجئه، دار بكل دقة دورة سريعة ولكن السيارة التي كانت تتابعه كانت تسير بسرعة مائتي كيلومترا في الساعة. قائد السيارة حاول التوقف ولكن ¢الاكصدامات¢ كانت قد لحقت بالسريع، فطار الفنان في الهواء وهو يمسك بشجرة الحياة . ثم اصطدم بحائط الكنيسة. ظل ساكنا للحظات ، وبشجاعة نادرة وقف علي قدميه وانطلق محاولا اللحاق بالرجل الذي كان ينتظره والذي انطلق سريعا. أسرع فجري دمه إلي الأمام، اثنا عشر كيلومترا تقريبا، لحق بالرجل، لكن نزيفه بدأ يفقده كميات كبيرة من دمه. وبدأ العد التنازلي.. عشرة.. ثمانية.. ستة.. أربعة.. اثنان.. صفر . هتف: ¢عاش فيدل¢ ثم سقط إلي الأمام، ولأول مرة سقطت الشجرة من بين يديه، وتبعثرت الأعواد الصغيرة وانتشرت قطع الكراملة الملونة علي الإسفلت الأسود.
خوستو أستيبان روائي ومسرحي ولد عام 1931 بسنتياجو بكوبا. من مؤلفاته: سنة الرصاص. التحالف، واستحالة الهروب
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كتاب لاتين امريكا (Re: Sabri Elshareef)
|
لطائر الأزرق للفنان: بوتيرو قصة الكاتب النيكارجوي:روبين داريو باريس مسرح مسل ورهيب، من بين رواد مقهي ¢بلومبير¢ العديد من الشباب الطيبين والحازمين: فنانون ومثالون وكتاب وشعراء، نعم كلهم يبحثون عن تاج الغار الأخضر القديم، لكن لم يكن أي منهم محبوبا كما كان ذلك المسكين ¢جارثين¢، كان حزينا بشكل شبه دائم، مدمن علي شراب، حالم إلي درجة انه لم يغب عن وعيه أبدا، كان بوهيميا لا غبار عليه، وعفوي الخاطر. بداخل الغرفة القديمة كانت هناك لقاءاتنا المرحة، التي يحتفظ بمرحها جص الحوائط، ما بين بقايا القهوة وملامح ديلاكروا المستقبلية، أشعار ومقاطع كاملة مكتوبة بحروف مهملة لاسم رفيقنا: الطائر الأزرق. لم يكن الطائر الأزرق سوي ¢جارثين¢. ألا تعرفون لماذا كانوا يطلقون عليه هذا الاسم؟ نحن من عمدناه بهذا الاسم. لم يكن ذلك مجرد رغبة عابرة منا، لقد كانت لذلك الفتي الطيب ملامح النبيذ الحزين، وعندما سألناه عن السبب، وبينما كنا نضحك جميعا بهزل أو كطفوليين، قطب جبينه ونظر بتعمق في السماء المسطحة، أجابنا وعلي شفتيه ملامح ابتسامة مرة: يا رفاقي: عليكم أن تعرفوا أن في عقلي طائر ازرق، ولهذا السبب“ كان يحدث ان يصبح محبا للرفقة الجديدة، عندما يحين فصل الربيع، كان هواء الغابة ينعش رئتيه، كما كان يؤكد لنا الشاعر. كان يعود من نزهاته محملا بباقات الفيوليت وبكراسات ضخمة مبكرة، مكتوبة تحت ضجيج الأوراق وأسفل السماء الواسعة الخالية من السحاب، كانت زهور الفيوليت ل ¢ناني¢، جارته، فتاة ندية ومزهرة، لها عينان زرقاوان جدا. الأشعار كانت لنا، نحن كنا نقرأها ونصفق لها، كل منا كان له إعجابه الخاص بجارثين، كان عبقريا في حاجة إلي الشهرة، لكن سيأتي زمن قادم، آه، سيطير فيه الطائر الأزرق عاليا، برافو، برافو!، إيه أيها الفتي الغر، مزيدا من الشراب. مبادئ جارثين:
من الزهور، زهور الأجراس اللطيفة. ما بين الأحجار الكريمة، يكون العصفر. من المساحات الشاسعة، السماء والحب، أي، عينا ¢ناني¢.
ويكرر الشاعر: اعتقد انه من الأفضل الإصابة بالاختلال العصبي عن الإصابة بالغباء. كان جارثين يبدو أحيانا أكثر حزنا من المعتاد. كان يسير في الحدائق، كان يري بلا اهتمام العربات الفارهة التي تجرها الخيول تمر من أمامه، والنساء الأنيقات الجميلات، حين كان يقف أمام واجهة عرض محل مجوهرات كان يبتسم، لكن عندما كان يمر بالقرب من مخزن للكتب، يقترب من واجهته الزجاجية، وحين يشاهد الطبعات الأنيقة، يعلن بجزم عن إحساسه بالغيرة، يقطب جبينه، كنوع من التنفيس عن غيظه، يولي وجهه شطر السماء ويتنهد بعمق، يجري باتجاه المقهي بحثا عنا، مغتاظا، وحانقا، يطلب كأس شرابه، ويقول لنا: نعم، في قفص عقلي يوجد طائر ازرق يطالب بحريته“ كان هناك من يعتقد انه فاقد لعقله. وصفه أحد أخصائي الأمراض العصبية بعد أن اخبروه بحالته، بأنه حاله عصبية خاصة، وان دراسته تؤكد هذا بشكل قاطع. بشكل قاطع، فان جارثين البائس مجنون. في يوم من الأيام تلقي من أبيه، عجوز ينتمي إلي مقاطعة نورمانديا، تاجر فقير، تلقي رسالة تقول ما معناه، تقريبا: ¢اعرف ممارساتك الجنونية في باريس، إذا استمر وضعك علي هذا الحال، لن تحصل مني علي سنتيم واحد، تعال لتأخذ كتبك من مخزني، وعندما تحرقها، أيها الكسول، وكذلك تحرق كتاباتك البلهاء، سوف تحصل علي مالي¢. قرأ علينا هذه الرسالة في مقهي بلومبير. أتذهب؟. بالطبع لن تذهب؟. هل تقبل؟. هل تستخف بهذه الرسالة؟. نحييك يا جارثين، لقد قام بتمزيق الرسالة، وقفزت الدماء في عروقه فقام بارتجال بعض المقاطع، التي تنتهي، فيما أذكر بالأبيات التالية:
نعم، أنت كسول دائما، وهو ما أحييك عليه وأهنئك مادام عقلي سيظل قفصا لطائر ازرق.
منذ ذلك الوقت تغير حال جارثين، تحول إلي ثرثار كثير الكلام، وغرق في حالة من السعادة، اشتري سترة جديدة وبدأ في كتابة قصيدة ثلاثية، تحمل عنوان، بالطبع: الطائر الأزرق. كل ليلة في لقائنا كان يقرأ علينا جزءا جديدا من القصيدة، كانت رائعة، وخارجة عن المعتاد. كانت هناك سماء جميلة جدا، ورفقة لطيفة جدا، بلاد تنبت كما لو كانت سحر فرشاة كوروت، وجوه أطفال تطل من بين الزهور، وعينا ¢نيني¢ دامعتان وكبيرتان، وبالإضافة إلي هذا، فان الله الطيب كان يرسل طائرا ازرق يطير، يطير علي كل هذا، ودون أن نعرف كيف ولا متي، بني عشه في عقل الشاعر، حيث بقي سجينا. عندما كان يريد الطائر الطيران ويفتح جناحيه ترتطمان بجدار الجمجمة، كان يرفع عينيه إلي السماء، يقطب جبينه ويشرب كأسه بقليل من الماء، مدخنا أيضا، سيجارة من الورق. إنها القصيدة هنا. في إحدي الليالي جاء جارثين ضاحكا ومع ذلك كان حزينا. الجارة الجميلة حملوها إلي المقابر. نبأ عاجل، نبأ عاجل، اغني لكم آخر جزء من قصيدتي، نيني ماتت، الربيع يأتي ونيني تذهب، أوفر زهرات الفيوليت للرفاق، وينقص الآن آخر جزء من القصيدة، اعرف أن الناشرين لن يكلفوا أنفسهم ولا حتي بمجرد قراءة أبياتي الشعرية، وأنتم ستنفضون عني قريبا، انه قانون الزمن، ونهاية القصيدة يجب أن يكون عنوانها هكذا: كيف يطير الطائر الأزرق باتجاه السماء الزرقاء. الربيع في تمامه، الأشجار مزهرة، السحابات وردية عند الشروق وشاحبة وقت الغروب، الهواء الرقيق الذي يحرك أوراق الأشجار، يثير الأفرع الجافة بحفيف خاص، لكن جارثين لم يذهب إلي الحقل. انه هناك، قادم بحلة جديدة باتجاه مقهانا المحبب ¢مقهي بلومبير¢، كان شاحبا، وعلي شفتيه ابتسامة حزينة. يا أصدقائي، عانقوني، عانقوني جميعا، هكذا بقوة، ودعوني، بكل قلوبكم، بكل احساساتكم، “ فالطائر الأزرق يطير“ ثم بكي جارثين المسكين، صافحنا، شد علي أيدينا بكل قواه وإيمانه. قلنا له جميعا: جارثين، الابن المدهش، يبحث عن أبيه، النورماندي العجوز، يا ربات الإلهام، وداعا، وداعا، وشكرا، شاعرنا قرر اختبار قواه، إيه، فلنشرب كأسا في نخب جارثين. جميعنا رواد مقهي بلومبير كنا في اليوم التالي، شاحبين، مرتعبين، والحزن علي الوجوه، التقينا في غرفة جارثين. كان هو في سريره، علي الشراشف المخضبة بالدماء، وجمجمته حطمتها رصاصة واحدة، وكان علي الوسادة بعض من مخه“ كان رهيبا. بعد أن أفقنا من ذهولنا، استطعنا أن نبكي أمام جسد صديقنا، ووجدنا انه كان يحمل معه قصيدته الشهيرة. وفي الصفحات كتب الكلمات التالية: اليوم، في اكتمال الربيع، اترك باب القفص مفتوحا للطائر الأزرق المسكين. آي، جارثين، ما أكثر من يحملون في عقولهم المرض نفسه
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كتاب لاتين امريكا (Re: Sabri Elshareef)
|
ما اعترفت به 'روزورا كاناليس' الملقبة ب 'محطمة الأسرة' إلي الأب 'شازان' للفنان: ديجو ريفيرا للكاتب البيروني: مانويل سكورزا ترجمة:علي باشا أقول لك الحقيقة أيها الأب لقد كذبت عليك دائما وأنت طيب كالخبز أنت تعرف ضعف الخاطئين والخاطئات أيها الأب فتيات مسكينات ضائعات تائهات في غمار الشهوة والهوي والنفاق والكذب يتخبطن في الخطايا السبع الكبري ولكنك لاتستطيع أن تتصور أيها الأب الماء المالح الذي يملأ قلبي بالخرق العفنة النتنة إنه سوء الطالع هو الذي دفعني لامتهان مهنة البغاء وهذه المهنة لها جوانبها الحسنة فمنها نأكل ونشرب جيدا وبين الرجال يوجد من كل الأجناس ولكن هناك أيضا ثورة وجنون كبار المهووسين بالجنس والمنتكسين من ممارسة الفحشاء الذين يضاجعوننا دون الشعور بأية متعة أو لذة أيها الأب إن مرارة الصبر لاتكفي لوصف هذه الحياة ففي مهنتنا الكذب فضيلة وإحسان فالتعساء الذين يلقي بهم مد وجزر الإدمان علي المسكرات الناتج عن البؤس والشقاء لا يدفعون لكي يقطفوا زهرتهم الحزينة فحسب بل لكي نقول لهم بأن ما يعطي لهم لايعطي لأنهم يدفعون ثمنه بل بدافع الحب حصيات حزن وكآبة نبذتها أنثي شريرة والله العادل الذي يري كل شيء لا يمكن أن يعاقبني فأنا عندما كنت أواسي وأقول الأكاذيب كنت دائما مخلصة وجادة وأنا لا أشكو ولا أتذمر ولكني في هذه الأيام لم أعد أستطيع النوم وقت ارتكاب الأخطاء نظن أن الأمر ليس جديا ونشعر برغبة الحصول علي إحدي المجوهرات وبعض النقود وخاصة اذا كانت جنيهات ذهبية ثم ذلك الشاب المشؤوم ذلك الجميل الغامض يا أبانا أنت لم تعرف 'ماكو ألبورونوز' أنت صالح طيب القلب قطعة من الحلوي الحقيقية يا أبانا الخاطئون والخاطئات يعرفون أنك ماء نقي طاهر لايخالطه نتن المستنقعات خطايا النفس والروح هي أسوأ الخطايا أسمع صوت المحزونين الساقطين علي القذارات إنهم يتمتمون الأب 'شازان' يفهمنا صوته كالعسل وبشأن شروري أنت تعرفها وما هو الشيء الذي لاتعرفه ولكن 'ماكو ألبورنوز' لم تعرفه ربما تكون قد رأيته في حفلات العمادة والأعياد والمواكب الدينية الاحتفالية إنك ماء نقي طاهر لم تحترق أبدا بجمر تلك العينين الخضراوين الفاسقتين الجميلتين 'ماكو' لم يكن أبيض كان أسود ليس سحابة إنه حجر لم يكن 'ماكو' كان 'ماكا' كان يكره الرجال يكره كل النساء يكره الاشجار يكره الورود يكره الظباء يكره الماء والهواء يكره الكراهية يكره الله يا أبانا لأن الشيء الوحيد الذي كان هذا الوحش هذا التنين هذا الحيوان الأسطوري الشيء الوحيد الذي كان يحبه هو أخوه 'روبيرتو' الذي لو استطاع في هذه اللحظة بالذات لكان فتح الباب المؤدي إلي كرسي الاعتراف بركلة من قدمه ولطم الملاك الحارس الذي يحمي براءتك أيها الأب ثم سردنا بالعيارات النارية وماذا يهمني ذلك كل ما أخشاه هو قصاص الرب أنت لم تعرفه ذلك الجميل الغامض ولاشغفي الشديد بالحلي والمجوهرات عندما يحين زمن الشيخوخة ماذا يمكنها أن تزين سوي جلد قرب البؤس تلك التي ما هي سوانا نحن رجالا ونساء عندما نبلغ نهاية المطاف يا أبانا هيكل عظمي أنت لم يقترب منك 'ماكو البورنوز' أبدا لم يقل لك 'زوروا' البشرية الجاهدة. تلقبني 'محطمة الأسرة' أولئك الذين يضحكون ويسخرون ولكن من يضحك ويسخر إن لم يكن علي 'محطمي الأمهات' لأن تحطيم نوابض فراش شيء وتحطيم قلب إحدي الأمهات شيء آخر وهذا ما يفعله ليلا ونهارا وعلي الدوام أولئك الأوغاد والجميل الغامض قال لي يا 'روزورا' إن اسمك يذكرني بالزمن الذي كنت فيه صالحا 'روزورا' سوف أمنحك عشرة جنيهات ذهبية كهدية فسألته أنا ولمن يجب علي أن أدس السم فانفجر ضاحكا لسنا هنا لمعاناة الألم والأوجاع بل للتمتع بالمسرات والملذات فالعالم يتكرر ويعيد نفسه وسألني ألا تشعرين بالملل أنت فأجبته بالتأكيد أنا أشعر بالملل فقال لي سوف تربحين عشرة جنيهات ذهبية يا 'روزورا' وأنا سأحصل علي مائة والموضوع يتعلق برهان هنالك حفل راقص مساء هذا اليوم لدي آل 'دياز' فسألته وماذا علي أن أفعل فقال لي عليك أن تصطحبي معك ابنتك 'ميرسيديتاس' فقلت له أنت سكران ما هذه الأفكار المخيفة التي تلقي بها علي صغيرتي علي كنزي الثمين العذراء كالطفلة الرضيعة ماذا تريد أن تفعل بها فقال لي الجميل الغامض إن أخي 'روبيرتو' هو الذي يريدها إنه لم يعد يستطيع النوم من شدة حرارة رغبته بالنوم مع 'ميرسيديتاس' ذات الثديين الصغيرين الجميلين والبطن الصغير الضامر والردفين الرائعين وأن يلحس 'حمامتها' تلك القرنفلة الصغيرة فقلت له وأنا أتصنع الغضب اذهب وابحث عمن يفعل بك الفعل الشنيع قال لي وهو يبتسم تلك الابتسامة التي تعرفها عاجلا أم آجلا تسلم النساء أخيرا غشاء بكارتهن الرقيق ربما إلي عجوز مجهول بينما أمنحك أنا عشرين جنيها مقابل ثمرة شجرتك الصغيرة وأنا كنت شاحبة كالموتي من شدة الغضب والخوف والخجل عند ذلك أخذ هو ذلك الجميل الغامض يسقط العشرين ليرة الذهبية الواحدة تلو الأخري آه يا أبانا لقد سقطت هنا علي المنضدة وكأنها قطرات من الشمس كنت أموت حسرة ورغبة أخذت أتصور كل الحلي والأطواق والأقمشة الحريرية التي يمكن شراؤها بتلك الليرات القذرة في ذلك الزمن كان يمكن شراء إحدي المزارع بأقل من ذلك المبلغ وقال لي إذن ثلاثون فصرخت ولا حتي مقابل أربعين فقال إذن ليكن خمسين وهكذا قبلت ووافقت علي هذه الجريمة التي لن يغفرها لي الله فابتسم الجميل الغامض وقال لي 'روزورا' لاتقلقي سوف يغفر لك الله فهو أيضا لديه مصاريفه ونفقاته وليس لدي أحد مزيد من المال لإنارة كنائسه يحتاج ربنا تعالي لشموع وشمعدانات وأنت تدرك يا أبانا شناعة تدنيس المقدسات وأنا قلت له أيها الوغد أيها الوغد في أية ساعة يجب أن أحضر الصغيرة فقال لي أغسليها جيدا سرحي لها شعرها عطريها وألبسيها هذا الفستان الذي يجب أن تحتفظ به للمستقبل عندما تتزوج وأحضريها إلي حفلة آل 'دياز' فقلت له خير البر عاجله عند ذلك قال لي يا للقذارة مم تشكين فصغيرتك 'ميرسيديتاس' ستعود إليك سليمة لم يمسها أحد تماما كما كانت عندما ولدتها تلك العاهرة أمها فقلت له أوضح ما تقول إني لا أفهم منه شيئا فقال لي أنا لا أدفع لك لكي تفهمي أبلغي التعليمات إلي 'ميرسيديتاس' في اللحظة المحددة التي يحملها فيها إلي السرير بالضبط ويعريها من ملابسها ويلحسها ويمصمصها ويعضها ويقبلها وعندما يشرع 'روبيرتو' بتسلق جذع قضيبه عند ذلك علي 'ميرسيديتاس' أن تقول له أسمح لي إني أشعر بالحاجة للتبول ثم تخرج فقلت له أنت تريد أن يحرق لي أخوك كوخي ويثقب فراشي مقابل خمسين ليرة بائسة أتخلي بها عن جلدي والجميل الغامض أخذ يمزح ويضحك وقال لي لن تكون هنالك خسارة كبيرة بل ربما يجني منها الناس بعض الربح فأجبته وهل تعتقد أن أخاك سوف يبقي عند ذلك هنالك هو ودبوسه جامد كشجرة الكينا فقال لي لاتهتمي بذلك ولا تقلقي فلدي امرأة أخري جاهزة تماما لتقديمها له فقلت له يا الله وصغيرتي 'ميرسيديتاس' ماذا عليها أن تفعل وأية رقصة سترقص في تلك الحفلة فقال لي وما دخلك في ذلك أنت عليك أن تهيئيها لي فقط وفي اللحظة المناسبة سوف تري امرأة ترتدي ثيابا كثيابها تقول لها أنا قادمة لأقوم مقامك وهذا ما حصل بالفعل ففي تلك الساعة المشؤومة ذهبت صغيرتي 'ميرسيديتاس' إلي الحفلة فاقتادها 'روبيرتو' إلي الغرفة الرئيسية وعند منتصف الليل خرجت من الغرفة ودخلت إليها امرأة أخري بملابس كملابسها جميلة مثلها قلقة مثلها لدرجة أن 'روبيرتو' لم يخالجه أي شك بأنها 'ميرسيديتاس' وفي حمي رغبته وخلال الظلام الدامس عانقها وقبلها وأخذ يلحسها ويعضها ودخل بها ومزق عفتها وكنت أنا أسمع قعقعة أسلحة الجسمين المتحدين في حشرجة وشهيق اللذة وحرب الأحبة والعشاق الذين يشتهون بعضهم بعضا من قبل أن يولدوا مع ضوضاء اللذة التي لا يستطيع ضجيج أية جوقة موسيقية أن يطغي عليها ويخفيها اللذة التي يعطيها المشمش للمشمشة والصقر لأنثاه وذكر السمك للسمكة والأخ للأخت إذ هاك الحقيقة يا أبانا الحقيقة التي أدمت حنجرتي وملأت بلعومي دما ف 'ميرسيديتاس' خرجت كي تستطيع الدخول شقيقة أخ الأخت لكي تكون الشقيقة المزيفة لمتعته شقيقته الحقيقية دون أن يعرف ذلك كانت الحفلة مستمرة وقبل بزوغ الفجر خرجت 'ماكوماكا' ودخلت ابنتي 'ميرسيديتاس' فاستلقت بجانب النائم ورأيت من خلال النافذة بزوغ يوم سقوط بابل وصباح يوم الدينونة والحساب الأخير المكفهر الذي ينفخ فيه الملاك بالبوق كانت الحفلة قد برد جوها وأشرفت علي نهايتها وأخذ السكاري يتساقطون وكانت الشمس قد أصبحت عالية فجلبت لهما طعام الإفطار ل 'ميرسيديتاس' ول 'روبيرتو' اللذين كانا وهما بمنتهي السعادة جالسين تحت العريشة أحضرت لهما شرائح من لحم الخنزير وبيضا مقليا وخبزا من خبز 'ميشيفلكا' وقهوة ثقيلة ثم ظهر 'ماكو ألبورنوز' الذي عاد فأصبح كما كان جميلا غامضا ورأيت في عينيه نذير الخطر فقلت لنفسي تجاهلي ذلك يا 'روزورا' واخفيه فلو بدا عليك الشحوب لتعرضت حياتك للخطر وجلس هو وقال لي اسكبي لي مزيدا من القهوة ولاحظت أن بشرته قد لوحتها السمرة ليس بتأثير شمس الوادي الضئيلة الحرارة بل بفعل حرارة غضبه البالغة الشدة التي كانت تشع من عينيه اللتين تحيط بهما هالة سوداء ولكن 'روبيرتو' كان علي العكس منه يبدو مرحا جدا وقد وضع رجله اليمني علي حافة المنضدة بينما كانت 'ميرسيديتاس' تزقه الطعام ويد 'روبيرتو' المكسوة بالشعر تعبر عن شكره بمداعبة فخذي صغيرتي 'ميرسيديتاس' العذريين أما 'ماكوماكا' فقد اشتد شحوب وجهها وقال لي 'روبيرتو' اسكبي لي مزيدا من القهوة يا حماتي فسكبت لهما بينما كان هو هي يقلب فنجانه ووضع 'روبيرتو' قليلا من السكر بوساطة الملعقة الفضية الصغيرة وعند ذلك أخذ يحترق دون أن يشعر بذلك وتابع تحريك قهوته بالملعقة الصغيرة كما لو أنه لم يكن قد غطاه زغب لهب أزرق كلهب شراب 'الروم' عندما يشتعل ألقي 'روبيرتو' الملعقة الصغيرة وأخذ يرشف قهوته بجرعات صغيرة بينما كانت النار المخيفة تلتهم ساقيه وهو مازال مبتسما وفي تلك اللحظة بدت في الباب عينا القناص 'ديكستر' الجاحظتان وكان 'روبيرتو' قد نهض مبتسما واللهب يتصاعد من صدره ومشي وهو مازال يبتسم باسطا يده لشريكه ورفيقه وعند أول خطوة خطاها سقطت ساقه وقد تحولت إلي جمر متفحم بجانب المنضدة وأراد التقدم وهو مازال يبسم ولكنه تحطم وسقط تحت أنظار 'أخيه أخته' الذي ألقي بنفسه بين ذراعيه وهو يصرخ بأعلي صوته أريد أن أحترق معك أريد أن يحترق العالم بكامله وكانت تلك هي بالضبط النار التي كانت تخرج من جسم 'روبيرتو' وتمتد إلي الحواجز الخشبية ودرفات النوافذ وإطارات الأبواب والأبواب وتلتهم كل المنزل بينما كانت البشرية جمعاء تولي الأدبار هاربة مولولة كما أن الأشجار المثمرة كان تحترق أيضا في الباحة كان القناصة المذعورون يصرخون عاليا الماء الماء ولكن أي نهر كان يمكن أن يطفيء هذا الحريق الذي كان يلتهم كل شيء ولم يبق بعد ذلك سوي الرماد وعند ذلك فقد استطاع القناصة أن يدخلوا ونحن في أعقابهم وحينئذ وجدنا جسم القديسة سليما لم يمس كانت راكعة علي ركبتيها قد أحنت رأسها وضمت يديها متضرعة إلي الله وطالبة الغفران لخطاياها من المؤكد أن الله قد غفر لها وحصلت علي عفوه ورضاه وإلا لما استطعنا أن نفسر لماذا وجدنا جسد العذراء سليما لم تمسه النار أليس كذلك يا أبانا.
مانويل سكورزا (1928 1980) مناضل اجتماعي هاجر بعد سنوات من السجن إلي باريس عام 1970 .
والفصل من رواية ' ضريح الأمل' صدرت حديثا عن دار 'ورد' بدمشق
| |

|
|
|
|
|
|
|