|
طارد النوبي الشيء القزمي الهارب
|
للأفيال ذيول.. وأنياب الآتي قصة لي كتبتها من سنوات. أعجب بها البعض، وفهمها البعض على أنها نظرة أديب نوبي للمجتمعات المسلوبة، خاصة مجتمعه النوبي. وكانوا محقين. الأديب لا يكتب للتسلية، ولا يكتب ليضع ميدالية الآداب على صدره، أبداً. الأديب والفنان الحقيقي عموماً مهموم بقضايا إنسانية، ويركز على قضية ما تحرق أعصابه وتهري مصارينه. القصة الآتية (للأفيال ذيول.. وأنياب) أهديها لكل نوبي فربما وافقني، الصياد الهزيل العاري الذي يرعبنا وأرعب جدودنا، هو أجبن ما يمكن وأضعف ما يمكن، فقط علينا أن نواجهه وننظر إليه شذراً، سوف يهرب من مواجهتنا ويرينا سوءته الفاضحة. إذن اقرءوا معي ولعلي على حق. 06-01-2003, 06:42 Pm حجاج أدول 25/11/2002 للأفيال ذيول.. وأنياب قطعان.. قطعان.. قطعان.. كل قطيع مترامي الأبعاد تتدفق داخله كُتل داكنة. كل كتلة فيل ضخم يدب في هرولة على (أربع) أقدام، كل قدم شجرة جميز عضلية لحمية هائلة. ورعبها ضعفان، رعب من المطاردين المردة القساة، بُثت صورهم هكذا في ذاكرتهم الجماعية التي ولدوا بها، ورعب من أجرام كبارهم بأقدامهم المفزعة وخطرها أشد. مذعورون.. لم يقل لهم كبارهم صراحة: إنهم مهرولون في الشتات يأساً وجبناً إلى الموت الجماعي في المقبرة الجماعية التي يبحثون عنها. لكن.. مثلما قرر الكبار ذلك، فهمت الصغار ذلك بدون بث صريح، فهمت أن الانتحار اختيار كبارهم هرباً من الموت.
وبالتالي تقرر عليها الانتحار دون أن تستشار. الأفيال زحام.. الأفيال شتتتها الهرولة فصارت قطعاناً نائحة هاربة خارج الغابة الكثيفة حيث كان موطنها الأصلي. صارت تهرول في مساحات حشائش ممتدة والشمس فوقها مؤلمة اللهب. الأفيال جلودها تغضنت وعيونها الصغيرة ضاقت أكثر واحتلها صفار اليأس والقذى حف حوافها. والدموع تشر.. تخر.. تفر. مساحات قطعوها وخراطيمها في هرولة الهروب مهدلة ذليلة، تقطر مخاطاً عسى أن يرحمها المطاردون لها. الذكور في هرولتها سقطت منها ذكورتها بعد أن ذبلت ولفظتها بطونها اللحمية المرتخية، الإناث تيقنت أن لا فرج فانسد أسفلها ولم يعد لها فرج. صار جرحاً قديماً غلّفته قشرة صفراء بلون القذى الذي يحف العيون العليا.
زحام.. قطعان.. كتل أفيال تنجرف إلى مقبرة العدم انتحاراً. جف الأمل فيبس العقل وطُمر الإدراك، فتهاوت عزيمتهم كآذانهم الشاسعة المتهدلة على جانبي الرؤوس الضخمة الغبية. زحام.. قطعان تنحدر إلى الموت.. دخلت فيافي الجفاف. الشمس فيها تحتل قبة السماء تبث جحيماً. أقدام الأفيال تسوخ في الرمال، ظهورها خاصة الصغيرة منها تكاد تذوب شحوماً سائلة. جوفها جف وينفث ناراً.
ألسنتها تتدلى أمامها تبحث عن رطوبة ترطبها فلا تجد سوى السخونة الحنظلية. الأجيال العجوزة تخلفت عن قطعانها وصارت تترنح في المؤخرة، ثم تسقط فيلاً بعد فيل عجوز في الغابات، ثم في الأحراش، ثم ها هي تبقع صفار الفيافي بجثثها الداكنة. كل مسافة جيل يشيخ فيتهدل فيخر صريع التعب. فيل بعد فيل بعد فيل. صارت المسيرة مخرات تسقط فيها أجيال بعد أجيال بعد أجيال. صارت المسيرة الهروبية نفسها هي مقبرتهم غير الجماعية. أفيال صغيرة كثيرة وئُدت. دهستها أقدام كبارها فسحقت عظامها وتناثر لحمها مزقاً وانفجرت دماؤها واستقرت بقعاً حمراء مبرقشة بين أجداث آخر الأسلاف المقتولة إنهاكاً وجبناً. تضاءلت القطعان. أجرام الأفيال تنحل وما زالت الأجيال الأصغر مذعورة تنوح رافضة الموت الانتحاري. هرولة الآباء والأمهات مستمرة والخوف والجبن الموروثان يشلانهم أن ينظروا خلفهم في غضب ليروا مطارديهم. ذاكرتهم المو######## مازالت تتلو عليهم كوابيس صور المردة الذين أتوا إلى غاباتهم. فلما واجهوهم ليطردوهم أشهرت المردة أفرعاً خشبية تطلق من أطرافها رعداً وصواعق تصيب الفيل منهم في أذنه وتلقى به أرضاً يفرفس! ركبهم الرعب فأبعدوا رءوسهم ووضعوا مؤخراتهم مكانها لتطل ناحية الأفرع غير الخشبية القاتلة. هربوا مهرولين صارخين لأزمان وحقب حاملين معهم تهويمات مرعبة احتلت ذاكرتهم طوال هرولة الشتات. يسقط منهم فيل بعد فيل بعد… طال الهروب والقطعان احتلها التعب من طول الزمن والمسافات.
توقف فيل صغير بعد أن تحرك عقله نافضاً ما حُشر فيه، همس له العقل : الموت خلفك رعداً وصواعق.. والموت يلازمك إرهاقاً وتعباً وجبناً. الموت في الهرولة التي لا تنتهي يتهددك دهساً وسحقاً تحت أقدام آبائك وأمهاتك.. فلتقف. توقف الفيل الصغير والتفت ناحية مطارديه ومطاردي عشيرته ليزأر فيهم رفضاً. كُتل الأفيال الكبيرة تندفع من حوله. يتفاداها.. فيل بعد فيل بعد فيل وكأنهم يهجمون عليه هو! وهو يريد أن يرى مطارديه ليزأر. دهسته أم أنثى وسحقه أب ذكر. فراسخ.. توقف فيل صغير آخر. ثم فيل صغير ثالث وخامس وسابع. التفتوا ولم يعودوا معطين مؤخراتهم ذات الذيول النحيلة ناحية قاتليهم. كبارهم يكادون يقتلونهم.
غبار عظيم خلفهم يمنع عيونهم العليلة من رؤية الخوف الذي يطاردهم. معهم توقف فيل عجوز مضطراً بدلاً من أن يسقط ميتاً من الإعياء. التفت مع الصغار. توقف عجوز ثان وثالث وخامس وسابع، خفت دبدبات الأقدام والقطعان توقفت.
أعادت رءوسها إلى المكان الصحيح حيث العدو المطارِد؟! أين انفجارات الأفرع غير الخشبية؟ أين المردة القساة الذين يطاردونهم؟ أين التجسيد لما هو محمول في ذاكرتهم؟ على بعد يقف قزم عارٍ ممصوص وقد فاجأه أن الأفيال توقفت والتفتت ناحيته تنظر إليه في غضب.
لم يعد يرى مؤخراتها الراكضة بأذيالها القصيرة المرتعشة. إنه قزم حديث أرسله قومه الأقزام ليواصل مطاردة قطعان الأفيال العُشبية. أعلموه أن عليه كل مسافة أن يطلق من فمه صوتاً عالياً مقلداً الرعد والصواعق. لكنها الآن أبعدت مؤخراتها وواجهته! رءوسها رآها من قبل، كان يراها ميتة أو تلفظ أنفاسها الأخيرة. كم اندهش لعظم جماجمها وضخامة أنيابها وغلظة أقدامها. لكن.. الآن يرى الجماجم حية تنظر إليه غاضبة ثائرة! يرى الأنياب مشرعة عليه! أعطاهم مؤخرته وأسرع هارباً. الأفيال بُهتت.. فلا رعد ولا صواعق ترديها.. ولا مردة! مجرد مؤخرة ضئيلة بيضاء مرتعشة تهرول هاربة! رفعت الأفيال رءوسها عالية وخراطيمها إلى السماء وزأرت معاً فارتج الكون.
الأنياب مشرعة للأمام والعيون ترصد الهارب وقد جفت منها الدموع وبصقت قذاها فلمعت شراهة الانتقام. أفواهها العظيمة فتحات بركانية للغضب، والأنياب أسلحة عاجية بيضاء تشتهى اللون الأحمر. تقدمت تدب.
تتأوه الأرض تحت ضربات الأقدام العضلية الثقيلة وهى تطارد الشيء القزمي الهارب. (من موقع الرامس)
|
|
|
|
|
|