الشاعر السوداني بركات جمعة سيرته ونماذج من أشعاره

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 02:04 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-06-2005, 11:17 PM

Hassan Elhassan

تاريخ التسجيل: 12-14-2004
مجموع المشاركات: 487

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الشاعر السوداني بركات جمعة سيرته ونماذج من أشعاره

    بعث الي صديق عزيز ببحث قيم خطه الأستاذ هاشم الإمام عن أحد المبدعين السودانيين المنسيين
    وهو الشاعر بركات جمعة إدريس حول بعض من سيرته ونماذج من أعماله وقد كتبت في غير هذا المكان مقترحا ضرورة الإحتفاء بمبدعينا المنسيين ممنأثروا الحياة الأدبية والثقافية في بلادنا فقط لنهزم من خلال هذا الحيز الهام ظلمة الإهمال الإعلامي الذي طالما طال الأدباء والمبدعين السودانيين إلا من رحم ربي أو إهتدي الي ساحة إعلامية خارج الوطن قدرت فنه وإبداعه بعيدا عن ظلم ذوي القربي .
    وليس من المصادفة أن كل مبدعينا الذين كسروا طوق المحلية أتانا عبقهم من الخارج ولم تحمله منابر الإعلام السوداني الي فضاء العالمين .

    ف إلي هذه السيرة لأحد هؤلاء المبدعين :الشاعر بركات جمعة إدريس :
    بعض سيرته وأشعاره

    بقلم / هاشم الإمام محيي الدين
    فرجينيا



    بركات جمعة إدريس شاعر مطبوع ،ولغويّ قدير بصير بمذاهب العرب في القول ، واسع الاطّلاع ، رحب الثقافة ، بعيد مطارح الفكر ، جزل العبارة ، له معرفة عميقة وشغف بآداب العرب وثقافتهم ، مع متانة الدِّين ، وحسن السَّمت ، والتَّواضع ، والخُلق الرَّفيع . غيَّبه الموت ولمَّا يبلغ الستين من عُمُرَه ولكن حسبه أنّه ترك أعمالاً شعريَّة عملاقة ، وسيرة عَطِرة تشنِّف آذان محبيه وعشاق شعره . ولقد فقد الشعر بموت بركات فارساً من فرسانه ، وفقدت العربيَّة علماً من أعلامها ، كما فقدت مهنة التَّعليم ركناً من أركانها . رحمه الله رحمة واسعة وأنزله منازل الصِّديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً .

    وُلِدَ بركات بقرية ( ود السيِّد ) من ولاية الجزيرة شرق النيل الأزرق ، وتلقى تعليمه برفاعة ، وحنتوب ، ومعهد المعلمين العالي ( كليّة التربية – جامعة الخرطوم ) ، ثم التحق بوزارة التربيّة والتعليم معلماً بالمدارس الثانويّة ، ثم اُنْتِدِبَ عام 1975 لمعهد الخرطوم الدَّولي ونال درجة الماجستير في تعليم العربيّة لغير الناطقين بها عام 1977 ، وفي العام نفسه تعاقد مع معهد اللغة العربيّة بجامعة أُمّ القرى ، وظلّ به يعلّم العربيَّة لغير أهلها أكثر من عشرين عاماً ، وقد حدثني قبل موته بأشهر بأنّ جامعة أم القرى تسعى لسعودة الوظائف فيها ولا بُدَّ أنه سيكون أحد ضحايا هذه السعودة عاجلاً أم آجلاً ، لذلك فهو يفكر في العودة إلى السودان آخر العام الدراسي طوعاً قبل أن يعود له كرهاً إلاَّ أن المنية وافته عقُيب انقضاء موسم حج عام 1422هـ ، وأبى الله إلاَّ أن يقبر في جوار بيته .

    حين تخرج بركات في معهد المعلمين العالي خُيِّر بين تدريس العربيّة والإنجليزيّة فاختار العربيّة لشدة شغفه بها وبآدابها رغم نظرة المجتمع السلبيّة آنذاك لمعلِّم العربية ، وإكباره لمعلِّم الإنجليزيّة ، وذلك بسبب الاستلاب الثقافي الذي خلَّفه الاستعمار الإنجليزي ، ولكن الرّجل صاحب مباديء لا يعبأ بعوارض الأمراض التي تصيب المجتمعات البشريّة في أطوارها . وحبُّ بركات للعربيَّة حبٌّ خالص مبرَّأً من كل غرض لا يسعى به لشهرةٍ ، ولا يبتغي به كسباً . ولقد بادلته العربيَّة هذا الحبَّ ففتحت له كنوزها ، وباحت له بالمغاليق من أسرارها ، فبلغ الغاية في علومها وحاز السَّبق في آدابها .

    ويبدو أن بركات ، رحمه الله ، قد سعى في إبَّان شبابه إلى نيل درجة الدكتوراة ولكن الرتابة الإدارية ، وحرفية تفسير اللوائح الجامعية حالتا دون بغيته ، ثم تصرمت الأيام والسنون وعاد الذين منعوه من قبل يطلبون منه أن يتقدم ببحث ليمنح به درجة الدكتوراة ، فأبى ، بل شنَّع بهم وبهذا اللقب غاية التشنيع في قصيدة سمَّاها " إلى اللقب العلمي الدكتوراة " ، وكتب تحت هذا العنوان " عدوت وراءه – وأنا شاب فلم ينلني غير غباره . ومشى الزمن فعاد إلىَّ وأنا أشيب – مستميلاً مستصفحاً ، فقلت :

    وَيْلُمِّه لقبٌ عُلَّقته حَدَثـــاً والشَّعْرُ ليلٌ على فَودَيَّ مُنْسَدِلُ
    ويلمِّه لقبٌ راوضتُ عاصيته فلم يروِّضه لي التربيت والغزلُ

    ويعاتب بركات ، رحمه الله ، هذا اللقب على طول تأبِّيه ، ثم استجابته له بعد أن وخطه الشيب ولاحت عليه بوادر الشيخوخة ، فيقول :

    أتجتويني وقلبي جذوةٌ ضرمــتْ والخد منصقلٌ والقدُّ معتــــدلُ
    والطرفُ يخرُق ما لا تخرُق الذُبلُ والظهر يقوى على ما ليس يحتمل
    وتقتفيني ورأسي اليوم مشتعـل شيباً أشيط له غُمــــاً وأشتِعلُ

    وينتقل من هذا العتاب الرقيق إلى لوم خشن العبارة تنبيء ألفاظه عن جرح غائر في النفس لم تبرئه الأيام ، فيقول :

    ما كان أكثر ما أنشبـت فيّ أذىً أُغضي على غائر منه وأهتــبلُ
    ألم تكن توصد الأبواب مـن قِبَلي كأنني مُعْضِلٌ مُعدٍ ومعــــتزلُ
    وكنت ترمقني شزْراً وتلمُزنـي وكنت عن جابتي تسهو وما تسلُ
    وكنت تجلب لي ذأْماً ومســخرةً وتُسلِم السَمَّ أحشائي وتنـــفتِلُ
    وكنت تقلب لي ظهر المجنِّ ضُحىً واليوم تمثلُ لي زُلفــى وتمتِثلُ

    ثم استخفته طيرة الغضب فانتقل من هذا العتاب الموجع إلى هجاء مرِّ عرّى فيه هذا اللقب " الدكتوراة " من كل فضيلة ، ورماه بكل قبيحة ، فهو الدَّخِل ، المقبوح ، وهو البغيّ ذو الوجه الجهيم . اسمعه يقول :

    طويت عنك أحابيلي وآصـرتي فاطوِ الحبائل عني لسـتُ أحتـبلُ
    وصُدَّ عني فإني عنك مرتغــبُ لا تبغينَّي يا مقبــوحُ يـا دخِلُ
    أنت البغي يميح القرش صبوتها لاالحُسنُ لاالحبُ لاالإيناسُ لاالعذلُ
    تقِلُّ وجهاً جهيماً قُدَّ من حـجـرِ لــم تُنْدِهِ بسماتٌ قبــلُ أو قُبَلُ
    فَصِلْ سواي ولاتمررْ على خَلَدي إني لغير الوصيل الوِدّ لا أصِــلُ

    والمرء يعجب كيف خرجت منه هذه العبارات الغاضبة الجارحة رغم ما اْشُتهِر به من رقة الحاشية ، والسماحة ، وسلامة الصدر . أتراه وجد في هذه الحادثة مندوحة عن الخوض في أعراض الناس فاستغلها ليبرز ملكته في فن الهجاء أم أنه أسىً مستكنٌ في أعماق النفس برز عَنْوَة ؟!

    لم تشفِ هذه الأبيات صدره فاستكملها يدعو على هذا اللقب دعاء الوجِع المكلوم :

    قُمْ نحِّ عني نحتك عاصــــفةٌ نحو الجحيم عصـوفٌ ما بها بَلَلُ
    غبراءُ محكمةٌ في الغرب قبضتها والجوُّ من هولها مستـوهلٌ وجِلُ
    وكُنْ كما كنت في لؤمٍ وفي نكـدٍ يفنى بك الصبرُ والإحسانُ والأملُ
    لا أنشر الله ذكرى منك ملحــدة لا برحت نحيساً دونـــك العِللُ

    لقد اجتمعت في شاعرنا ، رحمه الله ، أحسن ما يتمنى المرء من الخصال فهو متواضعٌ في غير ذلة ، عفيفٌ ، لين الجانب ، مهذبٌ ، ورعٌ ، ذو رزانة وحياءِ ووقار ، شديد الوفاء لأهله وولده وأصدقائه ، كل ذلك لا يتكلفه ولا يصطنعه ، بل هو سجيّة وطبع جبل عليه .

    وأما العلم فقد كان أحد أوعيته ، فهو يُعدُّ واحداً من قلَّة قليلة تحفظ الشَّعر وتتذوقه ، وتجيد الُّلغة ، وتعرف أسرارها ، تطربه العبارة العابرة في الحديث العابر إن وقعت موقعها من الحسن فيطلب منك إعادتها لما يجد فيها من الَّلذة . وهو أزهد الناس فيما يحبه النّاس من المدح والثناء ، وأصبرهم على لذة إبداء العلم ، فهو لا يبدي لك مَّما يعرفه شيئاً حتّى تسأله ، ولا يشِّنع على دعيّ أو دخيل على الأدب والشعر بل يلتمس العذر له ، كأنَّه يرى أنَّ حبَّ الأدب وحده فضيلة يستحق صاحبها الإكرام ولو كان لا يحسن منه شيئاً .

    وإنما اكتسب هذا العلم وصقل ملكته الشَّعريَّة بالدُربة وإدمان المطالعة والصبر عليها ، فهو يقرأ بعين ناقدة ، تزعجه العبارة القلقة ، والمعاني المبتذلة ، والخروج على قواعد اللغة ، فقد رأيت له تعليقات على هامش ديوان أبي القاسم الشابي تشهد له بسلامة الذوق وصفاء القريحة . ففي قصيدة الشابي ( أيها الليل ) التي مطلعها :

    أيها الليل ! يا أبا البؤس والهَوْ لِ يا هيكل الحياة الرهيب

    وصل جملة ( يا هيكل الحياة الرهيب ) بالواو ليستقيم البيت ، واستبدل بكلمة " الحياة " كلمة الزمان . ثم بدا له أن يجعل البيت هكذا :

    أيها الليلُ ! يا أبا البؤس والأهـ والِ يا هيكل الزمان الرهيب

    وفي قول الشابي :

    يهجع الكون في طمـأنينة العُمْد فور طفلاً بصـدرك الغِرِّيب

    استبدل بكلمة " الغريب " كلمة " الغربيب " .

    وعلق على بيت الشابي في قصيدته ( في فجاج الآلام ) :

    شيخٌ شاه دهر الأسى ، وحيد شتيت

    بأنه " مضطرب " ورأى أن يكون البيت هكذا :

    شيخٌ شأته دهور الـ أسى وحيد شتيت

    وذكر أن القصيدة من " مجزوء المجتث " وليس من المجتث كما قال مقدم الديوان ، لأن المجتث الكامل وزنه : مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن X 2 .

    وبركات يرى الكلام قبيحاً مهما سلم من الناحية الفنية إذا جانب صحة المعتقد ، فهو يعلق على قول الشابي في إحدى رسائله: ( فاشكر الدهر على نعمائه) بأنه كلام قبيح جداً وضعف في العقيدة ، فالشكر لله لا للدهر .

    ورغم أن بركات يرى أن الشيخ الفقعسي أشعر أهل السودان في عصره وأجزلهم عبارة ، ويعد نفسه من تلاميذه ، إلا أن ذلك لم يمنعه من القراءة الناقدة لشعره ، ففي قصيدة كرف التي نظمها في بلاد الحبشة والتي مطلعها :

    سقتك المُنى فاصح أو فاسـكرِ وأغوتك بنت الهوى المنكر

    يقول :

    وما تركت " زودنيش " المهاةُ لأترابها الغيد من مفــخرِ
    روتْ عن " نفرتي " وكلتـهما أرق وابرق من جـــؤذرِ

    ورأي بركات أن يستبدل بكلمتي " أرق وأبرق " كلمتي " أبرّ وأبرأ " ثم زاد بيتاً تحت هذا البيت قائلاً :

    لأنهما من ترابي الحبيب ومن نبت سوباط والدندر

    ورأي بركات في هاتين الكلمتين أملاه عليه ذوقه الخاص لا سلامة اللغة ولا يقدح ذلك في اختيار الشيخ كرف .
    هذه أمثلة أردت بِسَوْقها أن أُدلِّل على حسن تخيره للألفاظ والعبارات وعمق تأمله فيما يقرأ ، ولو شئت أن أكثر منها لطال بنا الحديث .

    وممن عرفوا للأستاذ بركات فضله وسعة علمه بالّلغة والشعر الأستاذ العالم اللغويّ الدكتور تمَّام حسَّان ، عضو مجمع اللغة العربيّة بالقاهرة ، فقد كان رئيساً للقسم التربويّ بمعهد اللغة العربيّة في مكة المكرمة حيث يعمل بركات . وكان تمَّام – حفظه الله – يجلّ بركات ، ويعجب لتواضعه وشدة زهده في الشهرة ، وكان بركات يرى في أخلاق تمَّام وحسن أدبه صورة من نفسه فمدحه بقصيدة رائعة جاء فيها :

    أهيم أجلّ تهيـام بِحِبِّ الضَّاد تمَّــــــامِ
    بنجم النّهضة الكبرى بـوادي النِّيل والشّـامِ
    وليث من ليوث المجمع اللغـوي ضـرغـامِ
    بِفذٍّ قُدَّ من فِكرٍ ومن عزمٍ وإقــــــدامِ
    بعضبٍ مصمتٍ صافٍ لمـوع المتنِ صمصامِ
    وبالثجاج والعجّاج والمهدودر الطامــــي

    إلى أن يقول :

    دراه النيّل في الخرطـوم ذا فيــضٍ وإِرزامِ
    وتدريه بمغربنا بواسق ذات أكمــــــامِ
    وفي بغداد تدريه جواسق ذات آطـــــامِ
    وهيَّمني به نأيٌ عــن الشـنآنِ والــذَّامِ
    وعن إسفاف أقوال وعن سفساف أقــوامِ
    بهيج القلب مبسام حيي غيــــر لـوّامِ
    وقور مُفِضل ندبٌ سنيٌ سـامق ســــامِ

    ولعمري إنها لأخلاق بركات رآها في الدكتور تمّام ففاضت بها شاعريته ، وجاءت كلماتها معبّرة صادقة خارجة من أعماق قلبه .

    إن من أبرز سمات الأستاذ بركات التواضع ، وهضم النفس ، وإنكار الذات ، والوفاء شيمة من شيمه فأصدقاؤه أمثال الدكتور بابكر البدوي دشين والأستاذ المرحوم الشَّاعر محمد عبد القادر كرف يعرفون لبركات وفاءه ، وحفظه للودّ في الغيب والشهادة ، ومرثيته في الأستاذ كرف التي بعنوان ( رحيل الفقعسيّ ) وأداء العمرة عنه تفصح عن هذا الوفاء ، ورعاية حقّ الصَّداقة ، كما تفصح عن عظيم قدره ، وطول باعه في فن القريض ، جاء فيها :

    مضى كرفٌ ربُّ القريض المجلجل وصنو زياد والخليل وجَـرْوَلِ
    به لمحةٌ من باتِك الحدِّ فيــصِل وأسمر ممشوق القوام مـثقَّفِ
    بكته بلاد كان مُزْن سمائهـــا ودفءَ حناياها وترياق دائهـا
    تبكيه للفصحى وسرِّ بهائِهـــا بأدمِع مفجوع على الخدِّ ذُرَّفِ

    وقد رأيت في آخر القصيدة فيما تبقى من الصفحة أبياتاً للشاعر الدكتور بابكر البدوي دشين يعلّق فيها على مرثية بركات قائلاً :

    فديتك يا ابن جمعةَ من وفـيِّ إلى خُلاّنه شهم أنــــيسِ
    لقد أرضيت شيخك فـي رثاءٍ فريد كان يعجبه نفـــيسِ
    شأوتَ به البُكاةَ وزدتَ فضلاً بعمرتكم له يوم الخــميسِ
    فحيَّا الله عمرتكم وأسقــى بها كَرَفاً كؤوس الخَنْدريـسِ

    ويتجلّى وفاء بركات لأساتذته في علاقته المتينة بالأستاذ الشاعر العظيم الهادي آدم الذي تلقى على يديه علم العربية في مدرسة حنتوب الثانويّة ، فهو دائم الّلهج بشكره ، والثناء عليه ، والاعتراف بفضله عليه ، وأنَّه ثمرة من غرسه ، ففي قصيدته التي يحيي فيها أستاذه الهادي آدم قال :

    شيخي وودي وقنديلي ومغفرتـي إذا سريتُ مع المسفار في سَفَرِ
    عايشت بعدك أعلاماً ، وما قدحوا كما قدحت فلم تشرق بهم فكري
    وَلَّوْ ولم أقفُ آثاراً لهم طُمسـت وفي حياتي كم ختمتَ من أثـرِ
    الشمس أنت وهم زُهْر مشعِشَعة وأين ضوء ذكاء من سنا الزْهَُرُ

    والقصيدة أكثر من خمسين بيتاً لا تدري أيّها بيت القصيد لجودة سبكها وجزالة لفظها وبراعة الوصف فيها . وقد بادله أستاذه التحيّة بتحيّة أحسن منها في قصيدة بعنوان ( كنتَ السموءل ) جاء فيها :

    ما زلت أرسف في ليلاء حالكــــة أعشو لجذوة صال أو رؤى خبـرِ
    حتّى أتاني رسول منك في يــــده قميص يوسف ألقاه على بصـري
    فصحتُ بالملأ الغافين أَنيّ قـــــد أُلقي إليَّ كتابٌ ثاقب الفــــكرِ
    هذا كتابـــــــك في كفيّ أقلّبهُ تقليب صبٍّّ بما يحويه منبــهرِ
    أوردتني فيه بحراً لو نهلت بــــه مجاجةً أقعدت خطوي عن الصدرِ
    ونُطت بي فيه فضلاً أنت كاسبـــه وهالة أنت منها موضع القــمرِ
    مالي إليه – وإن أصررت – من نسب إلاّ لنبع وفاءٍ فيك مســــتترِ
    فما قدحتُ زناداً غير واريـــــةٍ ولا نفخت بمثقوب من الأُطـــرِ
    ولا سبرت سوى مستحصد عـــلكٍ على الشكيم أُداريه على حــذرِ
    فما شددت حزاماً دون لبَّتـــــه إلاّ توقيته من شدّة البطــــرِ

    إلى أن يقول :

    كنت السموءل في محض الوفـاء وفي مصقولة برئت من ربقة الحصرِ
    عصماء أوردها الجوزاء ممتلـك منها أعنَّة منظوم ومنتــــثرِ
    ما حيلتي وهي تطويني وتنشرني فلا أطيق لها ردّاً وذا قــدري
    فإن أعدتُ صدى منها إليك فكـم مستبضع في الورى تمراً إلى هـجرِ

    وحين أصدر الأستاذ الشاعر الهادي آدم ديوانه ( نوافذ العدم ) حيَّاه بركات بموشحة سنية جاء فيها :

    لنوافذ العدم استطال تنظري وتلفــــتي
    وإليه ظلت مهجتي تصدى وتندى مقـلتي
    أهديتنيه أنيسَ بَيْنٍ ناصبٍ وتشــــتتِ
    يا مَنْ لنا يُهدي ولا يلقى كفاءَ هـــديَّة
    أشعاره تتوكـــفُ
    وطروسه لا تـخلِفُ
    أودعته ما سرَّ ربَّك والبلاد وذا الحــجا
    والهائمين بلا بلادٍ تُنْتَحَى أو تُنْتَـــجى
    هو منبت الأمل الوريق منضراً مستبهجا
    هو منهل مرّ النسيمُ عليه بشاً سجسـجا
    يفرُ القِرى لضيوفه
    والّبِشر ملءُ حروفه

    وقد سرَّت هذه الموشحة البهية الدكتور دشين وسرّْه أن ينوب بركات عنهم في تهنئة الأستاذ الهادي آدم بصدور ديوانه ( نوافذ العدم ) فكتب إليه :

    بركات نُبْتَ عن البلاد محـبراً شعراً أرقّ من النسيم إذا سرى
    هذي الموشحة البهيَّة رشَّحت دُرّاً يسرُّ الناظرين وجــوهرا

    إلى أن يخاطبه بقوله :

    يكسو محيَّاك التواضع والتُقى والبشر يلمع في الجبين منّورا
    فلقد تنظّرت النوافذ فعل من خَبَب الركاب الموقرات تنـظرا

    قال بركات معلقاً على البيت الثاني : يريد بهذا البيت قول أبي تمَّام في لاميته التي يمدح بها الحسن بن رجاء :

    وتنظري خبب الرّكاب ينصُّها محيي القريض إلى مميت المال

    ومطلعها :

    كفُيِّ وغاكِ فإنني لــك قالِ ليست هوادي عزمتي بتـوالِ

    ثم يواصل دشين قائلاً :

    وافتك ترفل في حليّ بيانـــها في بشرها فلقيتها مستبـشرا
    فقرأتها ووعيت ما أوحت بــه أسرارها ولأنت أوعـى من قرا
    لا زلت بحراً في العلوم ولم تزل في الشعر فينا الألمعيَّّ الأشعرا

    كان بركات – رحمه الله – إبَّان شبابه ولعاً بأدب العقاد وشعر بدر شاكر السيَّاب ، منحازاً لهما وقد سمَّى أحد ولديه ( عبَّاس ) والآخر ( بدر ) ولا عجب فقد كانت الدَّعوة إلى تجديد الأدب والنهوض به من ربقة التقليد هي السمة الغالبة على الساحة الأدبية آنذاك ولكن يبدو أنَّ شطحات الحداثة ، وما بعد الحداثة ، وكثرة مطالعاته في الأدب العربي القديم ، وتقدَّم العمر ، قد أزهده في دعوى التجديد ، ورجال التجديد ، فعاد يلتمس المتعة في أشعار القدماء ، وإن كان قد ظل وفياً للعقاد الأديب الكاتب المفكر . كان بركات وظل إلى زمان غير يسير يعدُّ أبا الطيب المتنبي شاعر العربيَّة إلاّ أنَّه عدل عن هذا الرأي ، فقد وصلتني منه رسالة عام 1998م مع مجموعة من قصائده ذكر لي فيها أنَّه يفضَّل أبا تمَّام على أبي الطيب ، ( ففضلت أن أُرسل معها – أي الرَّسالة – هذه الأبيات من النظم ولا أقول من الشعر، لأنَّها قد تخلو من حيويَّة الشعر وقوَّته وقد يكون حظها من الشعر العبوديَّة له والرَّسف في قيوده وأصفاده ، ولكن عزائي أنَّها تسعى لخدمة شدَّة الأسر وسلامة نواحي الَّلغة ، والنأي عن الإقواء ، والسِّناد ، وهنَّات القافية ، ويشرفني أن يكون ما أكتب عبداً طيِّعاً للُّغة . وما قيمة الشعر إِنْ لم يحفظ للعربيّة قلائدها ومجوهراتها الثمينة ؟ ! ومن أجل هذا كنت ممن يعدَّ شاعر العربيّة أبا تمَّام لا المتنبي ، لأن الفصحى في شعره غادة ذات عقود على نهود ، لا بدوية عطل من الحلي ، وَلَخَنَتْ كما تلخن المعاطن والأرقاع ، ولئن نلت من ذلك نصيباً فإنّه يكفيني) أ . هـ . كلامه .

    أيّ حيويّة وأيّ قوّة يريدهما لشعره أكثر مما فيه ؟ ! ولكن هذا بركات وهذا طبعه ينصف كلّ الناس إلاّ نفسه .

    وشدّة عناية الشاعر بركات بلغته والأسر لها والسعي لحفظ قلائدها ومجوهراتها الثمينة – كما يقول – لم يمنعه من التناول الشعري لاهتمامات المواطن العادي فالشعر عنده ليس حبيس الأغراض التي تناولها القدماء ولا محجوراً عليها بل يتسع لكل تجارب الحياة وجزئياتها ، سواء أكانت – كما يصفها القدماء – شريفة أم خسيسة ؟ أو قلْ : سواء أكانت مهمة أم تافهة ؟ فالشاعر المطبوع يستطيع بتفاعله مع هذه التجارب الخسيسة أو التافهة أن يحيلها بإحساسه وأخيلته وتصوراته شعراً بديعاً على نسق الشعر الذي ألفناه ونطرب له .

    ولعل تناول بركات لهذه الموضوعات غير الشعرية في نظر القدماء ، متأثر بشعراء مدرسة الديوان ولا سيما الأستاذ عباس محمود العقاد ، وقد ذكرت لك من قبل أنه كان كلفاً به أيام شبابه .

    والعقاد يُعدّ من أول الدعاة إلى فكرة التناول الشعري لموضوعات الحياة اليومية فقد دافع عنها فكراً في مقالاته وطبقها عملاً في أشعاره ، وهو في ذلك متأثر بشعراء الفرنجة ونُقادهم . قال العقاد في مقدمة ديوانه " عابر سبيل " موضحاً هذه الفكرة : ( ... وموضوعات الشعر تشتمل على كل ما تراه العيون وتمسه الأذواق ... وعلى هذا الوجه يرى " عابر السبيل " شعراً في كل مكان إذا أراد : يراه في البيت الذي يسكنه ، وفي الطريق الذي يعبره كل يوم ، وفي الدكاكين المعروضة ، وفي السيارة التي تحسب من أدوات المعيشة اليومية ، ولا تحسب من دواعي الفن والتخيل ، لأنها كلها تمتزج بالحياة الإنسانية ، وكل ما يمتزج بالحياة الإنسانية فهو ممتزج بالشعور ، صالحٌ للتعبير ، واجد عند التعبير عنه صدى محبباً في خواطر الناس " أ . هـ .

    ومن هذا الضرب – الشعر الذي يتناول جزئيات الحياة اليومية– كتب بركات قصيدته ( الكوب الرَّوي ) فقد ذكر في مقدّمتها أنها مستوحاة من ثلاجة "آيس كريم" على الشارع العام بالغزّة في مكّة المكرّمة . وما أكثر ما يردها الحجاج والمعتمرون ، وتزداد أعدادهم في صباح يوم عيد الأضحى بعد منصرفهم من المسجد الحرام وقد طافوا طواف الإفاضة ، وسعى منهم من سعى ، والنَّاظم من بينهم ينعم بهذا الوِرد المطيَّب ، ويتغنى مشيداً به فيقول :


    واهاً لِدَنْدُرْمَةٍ فاقت بنعشتـــها شهدَ الثُّغور هَمَى من أفلــجٍ شَبِمِ
    سليلةِ المَنِّ والسَّلوى التي ذُكِرت في محكم الذّكر والأسفارِ في القِدمِ
    لو ذاقها الشَّاعر الرّومي لانبجست عيون أشعاره نضاخة الكــــلمِ
    دندرمةٌ من خدود "المانجو"مخلصةٌ موشوجةٌ بحليبٍ خالـــصٍ دَسِمِ
    دندرمةٌ يستطيب الصدر نكهتــها ويستقيد بها صدري من الســأمِ

    إلى أن يقول :

    لا لا يشابهها ما راع من قُبَــلٍ ولا يماثلها ما ماعَ من دِيَـــمِ
    وكيف وهي التي أُشفي بها غُللي ولستُ بالجائر الموصومِ والأَثِمِ
    إذا تمززتها اِبْتَلَّتْ بها كبـــدي واستروحت بنداها أعظمي ودمي
    جلَّت عن النِّدِ في كوبٍ لها أنقٍ يُصبي الشبيعَ ويُربي شِرة النِهَّمِ

    ثم ينتقل ليصف زبائنها من الحجاج فيقول :

    وجمعت من جموع لا يجمــعها إلا تقى الله في الأوطان والحــرم
    فتلك واحتها تأتمها زُمـــــرٌ من عالم العرُبِ أو من عالم العجم
    من محُرمٍ ممسكٍ بالكأس في شُغُلٍ ومن مِحلِّ حليق الرأس لــم يَرِم
    ولاغبٍ مشـرئبٍ ساغبٍ بـــدمٍ وواقفٍ مثل موقوفٍ علــى ضَرَم
    أنضاءُ نُسْكٍ أعانتهم علـى نُسُكٍ ونعمةٌ شاء الرحمـــن من نِعَم

    واسمعه يخاطب زميله الأستاذ عبد الله آل يحيى وكان قد أعرب له عن حاجته لسيارة أمريكيّة ، وعبد الله رجل ذو خبرة ومعرفة ببيع السيارات وشرائها ، ولكّنه لم يلبّ طلبه ، واعتذر بالنسيان ، وكثرة الشواغل ، فكتب إليه هذه الرسالة نظماً يستعجله بإجابة سؤله قائلاً :

    من لـــي بأمريكيّة جبَّارة ليست من اللاَّتي تهشّ وتقلِـصُ
    أنفاسُها أنفـاس هِرّ مُتْرَف ورياشها من سندس مستخلـصُ
    ولها نطاق من عيون حولها عينٍ تزل بها وعينٍ تشخـــصُ
    تنسَحّ بي جُرد السباسب ثَرَّة وتلي الشواهق وهي جذلى ترقُصُ
    وتقُدُّ بي ثوب الدُّجنةِ كوكباً والجنّ منها تستعيذ وتنكُـــصُ
    وأخالها غبَّ السَّفار وديـعةً لا تشتكي أيَناً ولا تتــــنغَّصُ

    والقصيدتان من عيون الشعر ، وهما حجّة على من زعم أنَّ الشعر الفصيح المقفّى قيد على الشاعر ولا يصلح لوصف الحياة اليوميّة للمواطن العادي بل هو للغزل والمديح وللرثاء وما شابه ذلك من أغراض الشعر .

    وفي فن الرثاء يبدع بركات ويبلغ قمة الإبداع وصدق العاطفة كعادة الشعراء العرب ، لأن الرثاء يتأتى في ساعة تجللَّها رهبة الموت فيسقط قناع التكلَّف وتنتفي الأغراض . فهذه قصيدته ( شهيد الدّين والوطن ) التي رثى بها ابن أخته الشهيد – بإذن الله تعالى – عبد المجيد عبد الواحد تفيض حزناً يقرَّح الكبد وينتزع الدَّمع العصي ، استمع إليه يقول :

    نَعَوْه فما نَعَوْا غير الصَّباح لأحداقي وآمالي المــــــلاحِ
    نَعَوْه نَعيّ بستانٍ بهيــجٍ ذَوَتْ فيه الزَّنابق والأقاحــــي
    نَعَوْه نَعيّ أفق قد تهـاوت كواكبه وآضت لانســــــياح

    إلى قوله :

    توارى مثل طيفٍ لم يـلبَّث سوى ساعٍ وصار إلى امتــزاح
    توارى لم أُملِّي منه عينـي ولم أغسله بالماء القـــــراح
    وما درجته في الأكفان كفيّ وما نديت بطيبٍ منه راحـــي
    جراحي لن تؤول إلى اندمال إذا اندملت نوازفُ من جـــراحِ
    ودمعي لن تجفَّ له مـآق ولو لاحت – على دمعي– اللواحي
    قدوم المرءِ للدّنيا دليـــل على أنَّ القدومَ أخو الـــرَّواحِ

    هذه وقفات مع سيرة الأستاذ الشاعر بركات جمعة وشعره ، ما أردت بها أن أستقصي سيرته أو أُحلَّل شعره ، فذلك عمل يقتضي اطلاعاً جاداً وعميقاً على شعره ، وما عندي إلا قليل منه ، ولكنّي أردت أن أنبه أبناءه وأصدقاءه لجمع ديوانه وطبعه ، كما أردت أن أستنهض همم النُّقاد ليوفوا هذا الشاعر العظيم حقه ، فقد غمط حقَّ نفسه في حياته تواضعاً للنَّاس ، فهل يغمطه






                  

01-07-2005, 00:27 AM

Hassan Elhassan

تاريخ التسجيل: 12-14-2004
مجموع المشاركات: 487

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الشاعر السوداني بركات جمعة سيرته ونماذج من أشعاره (Re: Hassan Elhassan)

    ----------------------------------------------


    وماتركت "زودنيش " المهاة لأترابها الغيد من مفخر


    روت عن " نفرتي " وكلتهماأرق وأبرق من جؤزر


    ---------------------------------------------
                  

01-07-2005, 01:46 AM

Elmosley
<aElmosley
تاريخ التسجيل: 03-14-2002
مجموع المشاركات: 34683

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الشاعر السوداني بركات جمعة سيرته ونماذج من أشعاره (Re: Hassan Elhassan)

    شكرا ياحسن لهذه البركات من بركات
    وشكرا اكثر لتعريفنا به وما اجهلنا
                  

01-07-2005, 02:25 AM

Hassan Elhassan

تاريخ التسجيل: 12-14-2004
مجموع المشاركات: 487

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الشاعر السوداني بركات جمعة سيرته ونماذج من أشعاره (Re: Elmosley)

    عزيزنا الموصلي

    الشكر لك يافناننا الراقي نحاول وأنت العالم المتواضع تحياتي نأمل لقياك في زيارة

    خاطفة
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de